الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / “فقه العلاقات البشرية” عبر ديوان “أغوار النفس” الكتاب الرابع: “”قراءة فى نقد النص البشرى للمُعـَالِج”” اللوحة (16) “المِعــلـِّم “(3)

“فقه العلاقات البشرية” عبر ديوان “أغوار النفس” الكتاب الرابع: “”قراءة فى نقد النص البشرى للمُعـَالِج”” اللوحة (16) “المِعــلـِّم “(3)

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 21-10-2023

السنة السابعة عشر

العدد: 5894

مقتطفات من: “فقه العلاقات البشرية”(4) [1] 

عبر ديوان “أغوار النفس”

الكتاب الرابع:

“قراءة فى نقد النص البشرى.. للمُعـَالِج”

الفصل الأول:  

 اللوحة السادسة عشر: قراءة فى عيون:

المِعــلـِّم (3)

…………………..

…………………..

قبول ورفض واحترام ومراجعة:

أقر وأعترف مرة أخرى أن هذه الموجات من‏ ‏ ‏النقد‏ حتى الشجب كانت ‏مُوقِظـَة‏ ‏لى ‏فى ‏كل‏ ‏حين‏، ‏فكنت‏ ‏أحب‏ ‏أن‏ ‏أعتبرها آراء‏ ‏صحيحة ‏ما‏ ‏أمكن ذلك، ‏حتى ‏أظل‏ ‏منتبها‏ ‏إلى ‏احتمال انحرافى‏،

يمكن‏ ‏أكون‏ ‏أنا‏ ‏كل‏ ‏ده‏.‏

‏لكنى ‏أبدا‏ ‏مش‏ ‏كده‏. ‏

 ‏فأشكرهم‏ ‏فى ‏قرارة‏ ‏نفسى ‏على ‏هذه‏ ‏الرؤية‏ – ‏رغم‏ ‏عنف‏ ‏الألم‏  –  وقد استمرت‏ ‏معى ‏هذه‏ ‏المعاناه‏ ‏مدة‏ ‏طويلة، ‏فلا‏ ‏أنا‏ ‏أرفض‏ ‏رؤيتهم‏، ‏ولا‏ ‏أنا‏ ‏أستسلم‏ ‏لها‏، ‏ومع حرصى طول الوقت ألا ‏تعوقنى هذه الرؤى ‏متحملا نصيبى من‏ ‏المعاناة‏ ‏الخفية‏، ‏‏كان‏ ‏علىّ ‏أن‏ ‏أستمر‏ ‏فى ‏الحصول‏ ‏على ‏مقاليد‏ ‏القدرة‏ ‏تساعدنى ‏على ‏تحقيق‏ ‏رؤيتى ‏التى ‏أُلقـِـيـَـتْ‏ ‏على ‏وجدانى ‏وفكرى ‏قولا‏ ‏ثقيلا‏، ‏وما‏ ‏أصعب‏ ‏كل‏ ‏هذا‏!

‏كنت – وما زلت – على يقين من أن ‏من‏ ‏يريد‏ ‏أن‏ ‏يعرف‏ ‏نفسه‏ عليه ‏ألا‏ ‏يرفض‏ ‏رؤية‏ ‏غيره‏ ‏له‏ ‏مهما‏ ‏كانت‏ ‏دوافعها‏، ‏ومهما‏ ‏بدت بعيدة عن الحقيقة‏، ‏ومهما‏ ‏كان‏ ‏الألم‏ ‏المترتب‏ ‏على ‏تبنى ‏هذه‏ ‏الرؤى ‏المشوهة‏ ‏والمزعجة‏، ‏فإن‏ ‏وظيفة‏ ‏وجهات‏ ‏نظر‏ ‏الآخرين‏ ‏لا‏ ‏بديل‏ ‏لها‏ ‏إلا‏ ‏أوهام‏ ‏الوجود‏ ‏المعصوم‏،‏ وهكذا فإن الذى حدث – غالبا– هو أنه فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏الذى ‏كنت‏ ‏أتقبل‏‏ ‏هذه‏ ‏الرؤية‏ ‏تماما‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏رفضتها‏ ‏ظاهريا، كنت ‏أعلم‏ ‏فى ‏آخر‏ ‏طبقات‏ ‏وجودى ‏أننى ‏لست‏ ‏مجرد ما يظهر منى لهم، لكننى أيضا هو ما يصلهم، ‏فالرؤية‏ ‏الجزئية‏ ‏المنحازة‏ ‏هى – ‏فى ‏النهاية‏ – ‏ورغم‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏أفيد‏ ‏منها‏ – هى ‏رؤية‏ ‏جزئية‏ ‏منحازة، لكنها فى نفس الوقت رؤية محتملة، إذن ‏لا يجوز التوقف عند اتهامهم أنهم لا‏ ‏يرون‏ ‏إلا‏ ‏ما‏ ‏يحتاجون‏، ‏أو أنهم‏ ‏لا‏ ‏يريدون‏ ‏أن‏ ‏يروا‏ ‏بقية‏ ‏ما هو أنا، فأعود أتقمصهم وألتمس لهم العذر، وأرفضه فى نفس الوقت، حتى أنى عدت أراجع مواقفهم لأفهم أكثر ما وراءها مما قد يفسرلى بعض ما حيرنى وآلمنى (بينى وبين نفسى غالبا) كما يلى:

شوفوا‏ ‏كويس‏ ‏يا‏ ‏جماعة‏

(1) واحد‏ ‏يقول‏: ‏خايف‏ ‏أشوفك‏ ‏لسـَّـه‏ ‏حـَـبـَّـه‏

‏أحدهم‏ ‏يؤجل‏ ‏الرؤية‏ ‏باستمرار، ‏ويساورنى ‏الشك‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏التأجيل‏ ‏هو‏ مجرد عجز عن الاتهام، وفى نفس الوقت هو خوف من التبعية، وقد يستمر هذا الموقف ‏إلى ‏ما لا‏‏ نهاية‏.‏

(2) والتانيهْ ‏بتقول‏: ‏يا‏ ‏حرامْ‏!! ‏طبْ‏ ‏حبـَّـه‏ ‏ حبـَّـه

هذه الثانية‏ ‏تشفق‏ ‏(‏على ‏نفسها‏ ‏فى ‏الأغلب‏) من‏ ‏الرؤية  ‏وتعلل‏ ‏ذلك‏ ‏بأنها‏ ‏ترى ‏بقدر ما تستطيع، وقد كنت أرعب من هذه الشفقة بقدر ما أرفضها دون أن أنكر على نفسى حاجتى إليها.

(3) والتالت‏ ‏إلمسطول‏ ‏لو‏ ‏الكرباج‏ ‏يطرقع‏ ‏جوا‏ ‏مخه يشوف‏ ‏دقيقة‏،

بس‏ ‏فينه‏ ‏من‏ ‏الحقيقة‏

هذا الثالث الغائص فى‏ ‏ذاته‏ ‏قد‏ ‏يرى ‏عقليا‏ ‏فقط‏، ‏لكنه‏ ‏لا‏ ‏يجرؤ أن يواصل الرؤية ، ويختبرها، هذا الثالث بالذات كانت رؤيته مخترقة فعلاً: مرة اتهمنى بأنى أكبر “شيزيدى” (انطوائى منغلق على ذاته) فى الجماعة، ففزعت لأننى كنت تصورت ذلك عن نفسى فى لحظات سابقة، أما أننى كذلك طول الوقت فهذا ما اكتشفت خطأه بالتدريج: “بس فينه من الحقيقة”.

(4) والرابع‏ ‏اللى ‏خوفه‏ ‏عازلــه‏ ‏جوا‏ ‏سجن‏ ‏المزه‏، ‏أو‏ ‏جبل‏ ‏الجيوشى،

‏ الوِدّ ‏وِدّهُ‏ ‏يشوف‏ ‏ضلام‏ ‏القبر‏، ولا‏ ‏إنه‏ ‏يدوق‏ ‏الصبر،

الصبر‏ ‏مـر‏ ‏والشوف‏ ‏يضر‏.‏

هذا الرابع‏: كان يرفض‏ ‏أن‏ ‏يخرج‏ ‏من‏ ‏قوقعته‏ ‏التى ‏تحميه‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏رؤية‏ ‏عادلة‏، ‏فيها‏ ‏أدنى ‏تفاعل‏ ‏موضوعى ‏يحمل‏ ‏تهديد‏ ‏الخروج‏ ‏إلى ‏مواجهة‏ ‏الحياة‏، ‏وتـَـحـَـمـُّـل‏ ‏مسئوليتها‏، وعلينا أن نتذكر تلك الحقيقة البسيطة التى تـُنـَبـِّهنـُا إلى أنه:

 أن ترى الآخر كما هو، إنما يعرضك أنت أيضا أن ترى نفسك،

ثم الأخطر: هو أنه يعرضك أن تغامر بعلاقة حقيقية معه… إلخ.

 عودة إلى محاولة قراءة تالية:

حين تيقنت أن سعيى أن أرى نفسى من خلال رؤية الآخرين لى – على الأقل فى هذه الخبرة المعيشة – هو بلا طائل يرضينى عبرت إلى مستويات وعيى شخصيا أقرأ ما يصلنى عنها، بأقل قدر من الاستبطان كما نبهت.

 وسجلت المحاولات كالتالى:

أولاً: ‏ليسوا‏ ‏هم‏ ‏فقط‏ ‏الذين ‏يرونى ‏شاطرا‏ ‏وحاذقا أو دكتاتورا أو نصابا، ‏إلخ‏ ‏ولكنى ‏أنا‏ ‏أيضا‏ ‏كثيرا‏ ‏ما‏ ‏كنت‏ ‏أتفرج، ‏على ‏هذا‏ ‏الشخص‏ ‏الظاهر ‏الشاطر‏ ‏الحاذق‏ – الذى هو “أنا” – ‏وكأنه ‏لا‏ ‏يـُـجـَـارى ‏فى ‏مجالات‏ ‏النجاح‏، ‏والجمع،‏ ‏والصعود، حتى أن بعض من انبهر بى، وصدق مبادئى، أو صدق ما أعلنه من مبادئ على الأقل، قال لى ذات مرة أنه من غير المعقول أن أحقق هذا النجاح بوسائل نظيفة، معتقداً أنه لا أحد يستطيع أن يحقق مثل ذلك فى بلد مثل هذا، فى عصر مثل هذا، إلا لو استعمل وسائل النجاح الشائعة المتاحة، وهى ليست دائما، ولاغالبا، وسائل نظيفة، مرة أخرى: لم أكن أرفض ذلك بشكل متشنج أو مباشر، حتى أستطيع أن أعود لنفسى، وأبحث فى وسائلى، وليس فقط فى نتائجى، كان هذا الهاجس يدفعنى دائما – كما ذكرت – أن أعيد النظر هكذا:

‏… ‏وساعات‏ ‏أبص‏ ‏لإيدى ‏وانا‏ ‏بالعب‏ ‏ببيضتين‏ ‏والحجر‏،‏

أو‏ ‏لما‏ ‏باقـلـب‏ ‏فى ‏التلات‏ ‏ورقات‏ ‏واخـَـبـِّــى ‏فى ‏الولد‏.‏

وأقول‏ ‏يا‏ ‏ناس‏ : ‏بقى ‏دول‏ ‏إيدىّ ‏اللى ‏بصحيح‏ ‏؟

‏‏بقى ‏ده‏ ‏أنا‏ ‏؟‏ ‏

أعرف أن التكرار أصبح أكثر مما ينبغى، لكننى أريد أن أقتطف من جديد جزءا محدودا مما ورد من شعرى بالفصحى، بالذات ديوان “سر اللعبة” مكرر:

“هذبت‏ُ ‏أظافر‏ ‏جشعى، ‏

ولبست‏ ‏الثوب‏ ‏الأسمر‏،

ولصقت‏ ‏اللافتة‏ ‏الفخمة‏‏،

وتحايلت‏ ‏على ‏الصنعة،

وتخايلت‏ ‏طويلا‏ ‏كالسادة‏ ‏وسط‏ ‏الأروقة‏ ‏المزدانة‏ برموز‏ ‏الطبقة.‏..، …‏،

هأنذا‏ ‏أتقنت‏ ‏اللغة‏ ‏الأخرى، 

حتى ‏يُسمع‏ ‏لى، ‏فى ‏سوق‏ ‏الأعداد‏ ‏وعند‏ ‏ولى ‏الأمر”

لا أعتقد أنه قد سُمِع لى، فى سوق الأعداد وعند ولى الأمر، وحين سُمِعَ لى، لم يكن ذلك بسبب ما أنجزت، أو ما حققت من نجاح أفخر أنا به بينى وبين نفسى، ولكن كان إما بالمصادفة، وإما لأسباب لا أعرفها.

 حصلت على جائزة الدولة التشجيعية فى الأدب بمحض الصدفة، وها هى ذى تفاصيل تلك الصدفة:

 المرحوم أ.د. إبراهيم توفيق، أستاذ أمراض القلب فى جامعة الإسكندرية، أصبح صديقى لظروف خاصة، عرَّفنى د. إبراهيم على بعض أصدقائه (ثلته)، وكان من بينهم الناقد الطيب الحاذق “يوسف الشارونى”، (والكاتب والشاعر – أركان حرب!! – محمد الحديدى وغيرهم)، فى مناسبة بالصدفة حضر مع أ.د. إبراهيم الأستاذ يوسف الشارونى وقدمنى صديقى د.إبراهيم على أنى كاتب وكذا، وعرفه بكتابى الأول “عندما يتعرى الإنسان، طلقات من عيادة نفسية”، وهو كتاب لم أتحمس له كما ذكرت من قبل [2] ، فانتهزتها فرصة، وأخبرت الأستاذ يوسف الشارونى أن لى رواية من جزأين طبعتها على حسابى الخاص، فرحب ترحيبا شديدا بطيبة فائقة أن يطلع على هذا وذاك.

فهى المصادفة..

 نفس هذه الرواية كنت قد كتبتها ونشرتها بمحض الصدفة أيضا هكذا:

الحكاية أننى كنت أكتب فى “مجلة الصحة” التى كانت تصدرها وزارة الصحة وترأس تحريرها د. نوال السعداوى فى السبعينات، سلسلة من المقالات تحت عنوان “يوميات مريض نفسى”، أناقش فيها – ساخرا – كيف يشخص المريضُ الطبيَب مثلما يشخص الطبيب المريض، وكيف يلف المريض النفسى على التخصصات المختلفة وهو يبدى رأيه فى كل منها، حتى يصل إلى تشكيلات الطب النفسى بأنواعها، فينقدها – المريض – الواحد تلو الآخر أيضا، وكلام من هذا، ثم توقفت المجلة، وحين أتيحت الفرصة لى أن أرجع إلى ما كتبت وجدته يصلح مخططا لمسودة رواية ما، فكتبت الجزء الأول باسم “الواقعة”، وكنت أود أن أشير من خلالها إلى أن خبرة الجنون هى أقرب إلى “قيام القيامة” “إذا زلزلت النفس زلزالها، وأخرجت الذات أثقالها، يومئذ تحدث أخبارها، فإذا ما أكمل صاحب مثل هذه الخبرة المزَلْزِلة الطريق إلى وجه الحق تعالى، فقد نجح فى المشى على الصراط بالسلامة، ثم إنى بعد ذلك دخلت هذه الخبرة الجماعية التى هى أصل ومصدر الهام ديوانى “أغوار النفس”، ثم انتظمت فى ممارسة العلاج الجمعى مما أغرانى بكتابة الجزء الثانى من الثلاثية الذى أسميته “مدرسة العراة” [3] . فكادت تكون الخبرة الروائية الموازية التى أفرزت ديوان “أغوار النفس”.

وقد جاءت طباعة هذين الجزأين بعد مصادفة أخرى أحكيها كالتالى:

كنت أطبع بالاشتراك مع زميلى المرحوم أ.د. عمر شاهين كتابا دراسيا فى الأمراض النفسية بهدف ترقيته أستاذا أو شيئا من هذا القبيل، وانتهينا من طباعته فى مكتبة ابن المرحوم كامل الكيلانى بعابدين، وكان يملكها ويديرها “رشاد” ابنه (على ما أذكر)، وبعد انتهاء الطباعة حين كنت أودع الأستاذ “رشاد الكيلانى” شاكرا، سألنى إن كان لدى كتاب جاهز للطباعة، لأن المطبعة لا تجد ما تطبعه هذه الأيام، فقلت له نعم، وأخذت المسودة، وأعطيتها له فخرج الجزءان، على ورق صحف قبيح أسمر لضيق ذات اليد، وعلى حسابى الخاص، ثم جاءت مقابلتى مع الناقد الكريم يوسف الشارونى السالفة الذكر.

بعد أقل من أسبوعين حضر إلى فى العيادة الأستاذ يوسف الشارونى بنفسه يستأذن أن يقدم الرواية إلى لجنة الجوائز، وتصورت أنه يجاملنى من أجل خاطر صديقنا أ.د.إبراهيم توفيق، لكنه كان جادا، ثم إنه بعد شهور، حضر متفضلا قبل إعلان الجوائز رسميا وأخطرنى بنيل الجائزة، وفى اجتماع لاحق بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، أخطرنى المرحوم الأستاذ الدكتور محمد أحمد خليفة بأن الرواية نالت الجائزة بالإجماع… إلخ، بعد إعلان حصولى على الجائزة ثارت ثائرة كثير من الأدباء وبعض النقاد، واتهمنى بعضهم مباشرة أننى حصلت على الجائزة لأننى وافقت (أو شاركت) فى التطبيع مع إسرائيل، وكلام كثير من هذا،  بعد أن خلطوا بينى وبين حماس المرحوم أ.د.شعلان ليس للتطبيع وإنما لقبول تحدى “السلام”.

هذه جائزة تشجيعية لم أنل غيرها طوال حياتى، (حتى الآن)،[4] 

هذا الاستطراد – كجزء من السيرة الذاتية – ربما يبين كيف أنه لم

“يُسمع‏ ‏لى، ‏فى ‏سوق‏ ‏الأعداد‏ ‏وعند‏ ‏ولى ‏الأمر”

 إلا مصادفة!!

 لكن فى مرة أخرى، جاء التقييم عفوا من جهة غير رسمية، وذلك حين اتصل بى أ.د. أحمد مجاهد ثم أ.د. أحمد نوار، وأخبرانى أن جماعة الأدباء قد اختارونى رئيسا لمؤتمر أدباء مصر الذى عقد فى سوهاج (12–14 ديسمبر 2006)، بصراحة فرحت بهذا الاختيار أكثر من فرحتى بالجائزة السالفة الذكر، كان اختيارا من ذى صفة، ودون أن أتقدم إليه، وقد ذهبت، وتعجبت، وشكرت، ورأست، كما كانت فرصة رائعة لأن أتعرف على هذا الإنسان الفارس المبدع النادر د. أحمد نوار، وأيضا على نقاد وأدباء من أكرم وأشرف من يمكن أن أتعرف عليهم، هل حقيقة أن كل هؤلاء الكرام قد تفضلوا فأكرمونى برئاسة مؤتمرهم، لماذا؟ ومن أنا؟ كان هذا، ومازال أكثر كثيرا مما أستحق، ولا أظن أنه قد حدث لأنى شاطر، أو لأنى أحذق اللعبة ببيضتين والحجر، لكننى، وقبل انتهاء المؤتمر، وقد كنت قد ألقيت كلمة الافتتاح مع المحافظ وغيره، وكان المفروض أن ألقى كلمة الختام، وجدت نفسى أنسحب، وبدون أدنى سبب حقيقى، اعتذرت عن اليوم الأخير وسافرت فجأة قائدا سيارتى من سوهاج إلى القاهرة، ولم أعرف حتى هذه اللحظة، لماذا اعتذرت ولماذا سافرت هكذا فجأة، ولم يتصل بى أحد بعد ذلك يسأل أو يعاتب، أو يتساءل، لكننى أحسست – ومازلت – أن بى شيئا خطأ فعلا يحتاج إلى تفسير لم أعثر عليه حتى الآن، شيئا لعله مرتبط بأننى رفضت ما لا أفهم طبيعته وآلياته حتى لو كان حقى.

فهل يصح بعد ذلك أن يرانى زملاء هذه الخبرة التى حكيتها شعراً فى ديوانى “أغوار النفس” وروايتى فى الجزء الثانى من ثلاثيتى “مدرسة العراة” هل يصح أن يرونى أو أرى نفسى ممثلا لهذه الشطارة الغامضة؟

هذا، وقد رأيت أنه من المناسب أن أثبت هنا ما كتبته فى تعتعة الدستور (20/12/2006) بعد المؤتمر مباشرة وهو كما يلى بالنص:

سوهاج، وأدباء مصر، والعلماء البروليتاريا

بتشريف طيب، حظيت بالمشاركة (رئيسا) فى مؤتمر أدباء مصر فى سوهاج، (12/2006) ولظروف قاهرة لم أكمل لليوم الأخير، الرسالة التى وصلتنى من معظم مداخلات المؤتمر، كانت بنفس قوة ودلالة الرسالة التى وصلتنى من انتهازى فرصة وجودى فى جوف الصعيد، لأقوم بزيارة منازل بعض أصدقائى: من العاملين معى بالقاهرة فى دورهم المتواضعة جدا، الجميلة – بهم – جدا، فى “كوم يعقوب” مركز أبو طشت.

 الصعيد هو الصعيد، لا أحد يعرفه إلا إذا اختبر مذاقه مثل مذاق الويكة (البامية المهروسة المشططة)، وصلتنى حركية الناس “بلا لوحات حكومية” مثل حركية التُّكتُـك، كما بدت لى بهلوانية السيارات على الطريق الزراعى كموتسيكلات تجرى رأسيا على جدار دائرى أملس فى سيرك أسطورى مـِـلـْـك “أولاد الحاج أبيدوس”.

 من المؤتمر والناس تضاعفتْ آلام تفاؤلى المزمن، حتى قلت للمحافظ اللواء محسن النعمانى، وللدكتور أحمد نوار: “الله يسامحكم، هل أنا ناقص؟ سأعود لأبدأ من جديد، بأمل جديد، وألم جديد، برغم كل شىء”. ردّا ردا طيبا نبّهنى إلى بعض ما أحاوله هنا وهناك. الدكتور أحمد مجاهد لا يهمد، والشاعر مسعود شومان لا ينطفئ، والجميع فرحون بشىء ما، شىء طيب قادم لامحالة، لعله هو ما لاح لنا فى فيلم سيرة محمد عفيفى الذى عرض ذات مساء، مع أمسيات المؤتمر لتؤكده أمسية سيد حجاب الشعرية الحيوية المزلزِلة.

المؤتمر كان عن “مراجعة الدور المصرى فى معظم المجالات” (أو كل المجالات) وليس فقط فى مجال الأدب، تساءلت: هل هذا من حق الأدباء؟ أجبت نفسى: نعم، بل هو واجبهم. استقبلت العنوان باعتبار أن المقصود هو: مراجعة دور “الإنسان المصرى”، وليس بالضرورة دور مصر “الوطن، أو مصر الدولة”. لم يعد الإنسان المصرى مثله مثل كل إنسان الآن عبر العالم يعمل لنفسه فقط، ولا حتى لبلده، هو يعمل بالأصالة عن نفسه والنيابة عن كل الناس. إنقاذ البشرية أصبح “فرض عين” على كل فرد حيثما كان، إذا قام به البعض لا يسقط عن الباقى. الأديب المصرى المبدع الحقيقى هو ممثل شرعى للإنسان، بدءا بالإنسان المصرى حين يستوعب وعى ناسه بلحمه ودمه، ليس للزيف فيه نصيب، ليفرزه إبداعا قابلا للتواصل العالمى، بعد أن أتيحت الفرصة بثورة المشتبكات المتلاحمة أمميا دون حدود أو وصاية أو رقابة، الرقم الذى أعلنه الدكتور مصطفى الضبع فى المؤتمر عن عدد “مواقع” الإنترنت الخاصة عبر العالم والذى يربو على ثلاثين مليونا موقعا أدهشنى بقدر ما أسعدنى، كما فرحت حتى الخجل من تقصيرى حين سمعت الأرقام التى أعلنها د. أحمد نوار عن نشاط قصور الثقافة ومساحة حركية قوافلها خلال عام وبعض عام. أليس من الطبيعى أن أنوء تفاؤلا مؤلما وأنا أستلهم روح الكفاح اليومى لأهل كوم يعقوب مركز أبو طشت، جنبا إلى جنب مع حيوية المحافظ الذى شعرت بطزاجة دهشته المتجددة وهى لا تقل بهرا عن مسئولية الإدارة وحفاوة الكرم اللذين عشناهما فى ضيافته، ليصلنى كل ذلك وسط دفق معلومات نشاط د. نوار ومعاونيه؟

من موقعى المهنى والأكاديمى تأكد لى ما آل إليه حال أغلب العلماء فى علاقتهم بشركات الدواء كعينة لما يجرى فى مجالات أخرى، العلم “باهظ التكلفة” لم يعد تقدر عليه إلا الشركات العابرة بالغة العـَمـْلـَقـَة، التى تدير العالم لحسابها بواسطة الحكومات الذاهلة أو الشريكة، هذه الشركات لا تستطيع أن تشترى أديبا أو شاعرا ولا بجائزة نوبل، لكنها تشترى العلماء (دون وعى منهم غالبا). قلت فى كلمتى فى المؤتمر:

لقد أصبح العلم المؤسسى كنيسة فى خدمة كهنة السيطرة وباباوات التحكم فى مصائر البشر، لصالح الشركات العملاقة المتحالفة مع المافيا والأصوليين عبر العالم، لم يعد الخطر يقتصر على الخوف من سوء استعمال ناتج العلم للتدمير والإبادة، دون التعمير والتقدم، وإنما تمادى إلى الخوف من الاستمرار فى تسخير العلماء لخدمة المال، دون البشر، حتى وصل الأمر إلى استخدام العلم والمعلومات والعلماء لبرمجة الناس لصالح الاستهلاك لا الإبداع، وإلهاء الكافة عن أولويات ما يحفظ بقاءهم ويحفز تطورهم.

العلماء أصبحوا بروليتاريا العصر الحديث، تستغلهم الشركات العملاقة بطرق أبشع وأخبث.

العلماء يستنقذون بكم معشر الأدباء والشعراء والتشكيليين وسائر المبدعين الأحرار والنقاد.

قرب الختام قلت:

الإبداع فى كل مجال، دون استثناء هو الحل: انطلاقا من تعديل مناهج التعليم (بما يشمل تثوير دور المعلم) وحتى التضفُّـر والجدل البنّاء بين كل منظومات المعرفة.

إن نقد المؤسسة العلمية الاحتكارية لا يقل إبداعا وضرورة عن نقد المؤسسة الدينية التقليدية الفوقية، كما أن نقد المؤسسة التعليمية الرخوة القشرية الآسنة، لا بد أن يتواكب مع نقد المؤسسة الثقافية الأعلى.

……..

(انتهى المقال تقريبا)

وبعد

أشعر أن هذا الحديث عن مؤتمر الأدباء، الذى كنت رئيسا له، لا أدرى كيف، وعن موقفى منه قد يكون ردا مناسبا على هذه الاتهامات لشخصى والظنون التى خطرت لهم بشأن دورى الظاهر، وهى أيضا الطنون التى سجلتها على نفسى، تبينت وأنا أعيد قراءة هذا الشرح على هذا الجزء من المتن أنه بمثابة تبرير للحديث عن شخصى الذى طال، حيث امتدت الاستطرادات على هذه القصيدة “المعلم”، حتى كادت تصبح سيرة ذاتية مستقلة، أكثر منها شرحا على متن بهدف دراسة “فقه العلاقات البشرية”، وخاصة فى العلاج النفسى (نقد النص البشرى)، إذن ماذا؟

أشعر أننى مدين بالاعتذار، وليكن هذا الفصل مكملا بشكل أو بآخر لترحالاتى الثلاثة  [5] ، العلاقة بين هذه الجزئية المحدودة وهذا العمل الحالى هى أنها جديرة بأن تطرح عدة تساؤلات، هاكم بعضها:

(1) إلى أى مدى تؤثر صورة الطبيب النفسى أمام نفسه، ومن مصادر أخرى غير العلاقة العلاجية، على ممارسته العلاج النفسى (أو الطب النفسى عموما)، وعلى علاقاته بمرضاه أثناء العلاج النفسى؟

(2) إلى أى مدى يؤثر نجاح الطبيب النفسى فى الحياة العملية على أرض الواقع (بقياس المال والسلطة والشهرة… إلخ) على مهنته، وما علاقة ذلك بمثالية بعض الأطباء والمعالجين حقيقة أو تصورا؟

(3) ما هى علاقة أدوار الطبيب النفسى المختلفة، كما تصل إلى الناس من مصادر مختلفة، بدوره كمعالج، وكطبيب؟

(4) ما هى الصورة الأكثر صدقا؟ رؤية الطبيب النفسى لنفسه؟ أم رؤية الناس له؟ أم رؤية مرضاه له؟ (على اختلافهم)، وكيف يوفق بين هذا الأدوار وغيرها؟

هيا نواصل ونرى كيف يرى نفسه:

…………………..

…………………..

ونواصل الأسبوع القادم لاستكمال قراءة اللوحة السادسة عشر “المعلم”

ــــــــــــــــــــ

[1] – يحيى الرخاوى: (2018) سلسلة “فقه العلاقات البشرية” (4) (عبر ديوان: “أغوار النفس”) قراءة فى نقد النص البشرى  للمُعـَالِج، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى – القاهرة.

[2] – وقد صدرت طبعته الثالثة مؤخرا، ومازال هو الكتاب الأكثر قبولا من معظم الناس ربما لسلاسته ومباشرته

[3] – بعد ربع قرن كتبت الجزء الثالث من ثلاثية المشى على الصراط بعنوان “ملحمة الرحيل والعود” ونشر فى طبعة أولى عام 2007 الهيئة العامة للكتاب، ثم الطبعة الثانية 2017 منشورات جميعة الطب النفسى التطورى.

[4] – وقد اضطررت إلى سرد كل ذلك لأنها من ناحية جزء من سيرتى الشخصية، ومن ناحية أخرى قد تكشف عن موقفى مما يسمى جوائز الدولة، حتى أننى كدت أصدق المرحوم بهجت عثمان (أحد حرافيش نجييب محفوظ، عرفته مؤخرا)، أنه سوف يكتب فى تاريخ إنجازاته فخرا أنه لم ينل جائزة قط.

[5] – يحيى الرخاوى (2000): الترحال الأول: “الناس والطريق” – الترحال الثانى:” الموت والحنين” – الترحال الثالث: “ذكر ما لا ينقال” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى  – القاهرة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *