الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / “فقه العلاقات البشرية” عبر ديوان “أغوار النفس” الكتاب الرابع: ”قراءة فى نقد النص البشرى للمُعـَالِج” الفصل الرابع: “عن “ماهية الحياة” لدى المعالج، فالمتعالج (1)

“فقه العلاقات البشرية” عبر ديوان “أغوار النفس” الكتاب الرابع: ”قراءة فى نقد النص البشرى للمُعـَالِج” الفصل الرابع: “عن “ماهية الحياة” لدى المعالج، فالمتعالج (1)

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 9-12-2023

السنة السابعة عشر

العدد: 5943

مقتطفات من: “فقه العلاقات البشرية”(4) [1] 

عبر ديوان “أغوار النفس”

الكتاب الرابع:

“قراءة فى نقد النص البشرى.. للمُعـَالِج”

الفصل الرابع

عن “ماهية الحياة” لدى المعالج، فالمتعالج (1)

  مقدمة:

يبدو هذا الفصل أقل ارتباطا بالنص البشرى للمعالج، مع أن المتن ورد ضمنا فى نفس الديوان الأصل “أغوار النفس”، وقد كدت أرحـِّـل هذا الجزء إلى عمل آخر لكننى انتبهت فجأة إلى أن “النص البشرى” للمعالج والمتعالج على حد سواء لا يـُقرأ ولا يـُنقد منفصلا عن موقفه الأعمق فالأعمق بالحياة عامة، ثم إنى لاحظت أن قصائد هذا الفصل تكاد تشارك فى التنبيه إلى رفض فكرة أن العلاج النفسى هو نشاط معقلن أو علاج بالكلام، فهو حوار جدلى بين مستويات الوعى معا كما أشرنا إليه فى الفصول السابقة.

هذا وقد تذكرت كتابا أعجبت به يوما وهو كتاب “علاج القبول والالتزام” Acceptance and Commitment Therapy (ACT) سنة 2009   لمؤلفهSteven C. Hayes   وهو يمثل الموجة الثالثة من تطويرات “العلاج المعرفى” وله عنوان فرعى هو “اخرج من عقلك إلى حياتك”، فوصلنى دعمٌ لفكرة أن العلاج النفسى كما أحاول تقديمه هو “خروج إلى الحياة”، وهذا عندى يبدأ بالتنبيه إلى التخفيف من غلبة نشاط ما أسميته “عضلة العقل”، وإلى مزيد من رفض “مـَكـْلمة التفسير النفسى والتأويل التحليلى”، الأمر الذى شجعنى أن أُبـِقىِ هذا الفصل ضمن محاولة الكشف عن موقفى “الشخصى” من هذه القضية، و”ماذا تعنى الحياة عندى” – فهى هكذا تصل إلى مرضاى طوعا أو ضمنا –وهكذا تكتمل صورتى أمامهم بشكل أو بآخر وهو هدف هذا العمل!!.

حين بدأتُ تقييم موقفى العلاجى من واقع معايشتى لمرضاى كان التحدى الأساسى الذى وجدت نفسى فى مواجهته هو دعم الحياة ضد الموت (السلبى الثنائى النهاية)، فمررت بمراحل التعرف على “ما هو حياة”، مما يمكن أن يكون فى تقديمه ما يوصل رسالة الحركة والمراجعة والتى كانت خطوطها العريضة كما يلى:

1– رأيت فى البداية أن الحياة تمثل “التقدم/الاقتحام”، فى حين يمثل الموت التقهقر “التراجع/النكوص” فكنت أرى الفصام يمثل الموت مثلا من حيث إنه نكوص فـَتـَحـُّلل، فيكون علاجه هو استرجاع التماسك للتقدم.

2– ثم انتبهت إلى أن الحياة هي النبض الحركة فى مقابل أن الموت هو السكون، فانتقلت من الاقتصار على التركيز فى الدفع إلى الحياة، إلى الاهتمام بمحاولة التحريك (استعادة زخم الحركة) مطمئنا إلى أن الحركة لها تلقائيتها النابضة الكافية لإعلان الحياة ودفعها، وبالمقابل يكون الموت هو السكون، ومن ثم الضمور فالعدم .

3– ثم تصالحت مع الموت، ووصلنى كيف يمكن أن يكون نقلةٌ من الوعى الشخصى إلى الوعى الكونى، وأنه “إعادة ولادة”، وأنه “أزمة نمو”، فوجدت أن هذه الرؤية الجديدة تنفى عن الموت سكونه وعدميته بشكل أو بآخر، فبدأت تحفظاتى تجاه الاطمئنان إلى أن الحياة هى الحركة الطبيعية فى ذاتها باعتبار أن الموت قد يكون كذلك.

4– وحين تيقنت أن الحركة وحدها قد لا تعنى الحياة، رحت أحاول رصد خداعات الحركة اللاحياة: فثم حركة فى المحل، وثم حركة دائرية مغلقة تنتهى حيث بدأت، فهى حركة زائفة فى النهاية، وثم حركة هى “إعادة النص” وهى تتدخل فى بعضها البعض، وأفادتنى هذه الرؤية فى أن أنتبه إلى أن الحركة إنما تمثل الحياة من خلال شرط ارتباطها بالإيقاع الحيوى النابض، الذى تكون محصلته إيجابية حين يكون البسط تشكيلا للامتلاء، وليس مجرد تفريغ لما امتلأ به.

5– ثم أضيف إلى ذلك بُعد متداخل، هو حتمية “برنامج الدخول والخروج” in – and – out program باعتباره حركية مكمـِّلة لدفع زخم الحياة، شريطة أن يكون ذراع الخروج أرحب وأكثر امتدادا من الدخول (ولو قليلا) مع كل دورة، أو على الأقل مع محصلة الدورات.

6– ثم امتدت رؤيتى لمدارات متمادية الاتساع حتى ترابطت حركية الحياة البشرية مع كل حركة حياة فى دوائر تتولد من بعضها البعض إلى ما بعدها: حياة الطبيعة، فحياة الكون، فوصلنى معنى ما هو كدح إلى وجه الحق تعالى، فأصبحت الحركة عندى بين الوحدات (البشر) لا تمثل أعماق ما هو حياة إلا إذا تواصلت مع الحركة نحو المطلق إلى الغيب المفتوح النهاية.

7– وهكذا انتهيت إلى التعرف على ما تيسر من برامج النمو مثل:

(أ) التقدم <==> التقهقر

(ب) التعتعة <==> السكون

(ج) البسط <==> الامتلاء

(د) الخروج <==> الدخول

 شريطة أن يتواصل كل ذلك إلى:

 الامتداد فى، ومع:

* إيقاع نبض دوائر الحياة فى اتساعها المتمادى، وإبداعها المتجدد.

وبعد

ما هى علاقة كل هذا بالمعالج ونصه البشرى الجارى نقده طول الوقت؟

أعتقد أن هذا الفصل يحدد بشكل تقريبىّ ما وصلتُ إليه من خطوط عامة – ليست نظرية خاصة أو إيديولوجيا محكمة- وإنما هي محاولة الكشف عن “مسيرة حياتى” وربما علاقتها بما هى “مسيرة الحياة” وأن هذا – إن صدق – يستحسن أن يصل إلى من يهمه الأمر مرضى ومتدربين وغيرهم ضمن ما هو قراءة “نصّى البشرى”

 ما أمكن ذلك!

استهلال:

كانت هذه القصيدة هى مقدمة الجزء الثالث فى الديوان وكان عنوانه “غنيوتين” ولكننى فضلت أن أجعلها فصلا مستقلا، كما ذكرت وعلاقتها بالنص البشرى للمعالج هى أنها تكاد تمثل ما انتهيت إليه – تقريبا- عن معنى الحياة (والموت أحيانا)، استلهاما من مهنتى أساسا (وغير ذلك).

***

نبدأ بقراءة المتن:

‏- 1 -‏

الحياة‏ ‏هى ‏الحياة‏.‏

أغلى ‏حاجة‏ ‏فيها‏ ‏هى: ‏إنى ‏عايش‏.‏

باترجف‏ ‏من‏ ‏خطوتى ‏الجايـّةْ‏، ‏ولكن‏:‏

باترعب‏ ‏أكتر‏ ‏لو‏ ‏انى ‏فضلت‏ ‏ساكن

كل‏ ‏ما‏ ‏أشك‏ ‏ف‏ ‏خطاى، ‏

ألتفت‏ ‏ما‏ ‏لقاش‏ ‏وراى ‏

إلا‏ ‏إنى،‏

‏ ‏وسط‏ ‏كل‏ ‏الناس‏ ‏باغنى

يعنى ‏بابنى، ‏

‏ ‏أنا‏ ‏وابـني‏.‏

واللى ‏مش‏ ‏ممكن‏ ‏حايخلص‏ ‏بــيه‏ ‏وبـيّـا‏.‏

يبقى ‏غيرنا‏ ‏يكمله‏.‏

***

 شرح على المتن

بصراحة، مازالت عندى مقاومة شديدة لكتابة شرح على متن هذه القصيدة بشكل خاص، ومع ذلك فأنا مضطر، مادامت الورطة مستمرة، فلتتم بما يمكن، والسلام.

إذا وصَـلـَـنا أن الحياة هى الحياة، فهى لا تحتاج إلى مزيد من شرح، لكن ما دمنا فى مجال استغلال المتن، للدخول إلى بعض ما يعيننا فى مهنتنا، وبالذات فى موقف العلاج النفسى، فلتستمر المحاولة ضد كل مقاومة.

المرض النفسى، كما كررنا مرارا، هو توقف مؤلم، أو منسحب، أو متجمد، وكل هذا هو “ضد الحياة”، كما بينا، إذن يمكن أن نتصور أن العلاج، والعلاج النفسى ضمنا هو “إحياء” بكل معنى الكلمة، “..ومن أحياها، فكأنما أحيا الناس جميعا”، إذن قد يجدر بالطبيب النفسى، والمعالج النفسى، أن تكون عنده بعض ملامح عن ماذا يعنى بالحياة، ما دامت وظيفته هى الإحياء، شريطة ألا ينسى أن لديه شخصياً نفس الفرصة لتنشيط الحياة فى نفسه من جديد، حتى وإن كانت نشطة، أو يتصور أنها نشطة  بشكل ما، إلى درجة ما (ما دام نصه البشرى يشارك إيجابيا فى عملية النقد البينشخصى!)

الحياه هىّ الحياهْ

أغلى حاجه فيها هيَّا:

 “إنى عايشْ”

لا يوجد تفسير للحياة إلا أنها الحياة.

كثيرا ما طرح علىّ مريض هذا السؤال: ماذا علىّ أن أقرر الآن؟ فأجدنى أطرح نفس السؤال على نفسى دون أن أدرى، وقد كنت أرد على كثير من مرضاى، دون تجاوز الأمور الحياتية اليومية التى علينا أن نقررها سويا، أو يقررها هو مؤتنسا بعلاقتنا (حتى لا يزعل الخواجات)، كثيرا ما كنت أجد نفسى أقول له (ولنفسى):

عليك أن تقرر: “إما أن تحيا، وإما لا”، ولم أكن أقول عادة “إما أن تحيا وإما أن تموت([2])“، خشية أن أثير عنده هذا الاحتمال وكأنه بديل حقيقى، أو بصراحة: لأننا عادة ما يكون انطلاقنا – ونحن لا ندرى – هو من أن عمق مهنتنا هى أنها تسهم فى فن الإحياء، حتى إحياء الموتى، (بفضل الله، والفن العلاجى/العلم/النقد).

أغلى شىء فى الحياة هو أن نعيشها:

“أغلى حاجة فيها هيَّا: إنى عايش”.

لا تُقَيَّم الحياة بما يملؤها من مكاسب، أو ملذات، أو أملاك، أو حتى قيم، وربما إنتاج، “الحياة حياة” قبل كل هذا وبعد كل هذا، واسألوا كل من قبلنا من أجدادنا الأحياء الأخرى!

نتعلم من أجدادنا من ملايين السنين أن هدف الأحياء الأدنى (التى كثيرا ما أشعر بالخجل حين نصفها أنها أدنى) هو “أن تبقى”، بلا أى سبب لاحق فى حدود دوائر وعيها، العصفور لا يبقى فى عشه حيا، لأنه عش جميل، أو ملجأ من المخاطر تحديدا، ولا يبقى الأسد حيًّا، لأنه ينتظر من السيدة حرمه اللبؤة أن تقوم بتمشيط شعر لبدته قبل اللقاء السعيد، العصفور والأسد يعيشان الحياة أولا، ثم تُملأ الحياة بما تستحق أن تُملأ به، فيبقى النوع، ويقاوم الانقراض جيلا بعد جيل([3]). فإن فشل أى نوع منها فى تلك المهمة فقد اختار الانقراض وليس فقط الموت فرداً.

حين تنحرف المسيرة، وتصبح الحياة مضمون ما تحوى“، وليست “توجـُّـه وحركية ما تُفرز بما هى ليتخلق الآتى”، حين يحدث ذلك: يصبح التهديد بالانقراض أقرب!

منذ اكتسب الإنسان الوعى بالوعى، أصبح يقيس الحياة، ويخطط لها، ويحسب مبررات استمرارها، بمقاييس منحازة إلى مَنـْطـِقـِه الظاهر، وليس إلى كلية وجوده طولا وعرضا، وأيضا راح يقيسها بمقاييس من خارجها، بعضها من صنعه، ليست كلها لصالحه.

الحياة يلزمها بداهة نسيج متيِن من البنية الأساسية كى تنبض، لكن لا ينبغى أبدا أن يحل هذا النسيج التحتى مهما كان ضروريا محلها برغم أنه من أساسياتها، أو من شروطها، أو من ضروراتها… إلخ.

تظل مجرد حقيقة “أنى أحيا”، هى الحقيقة البادئة التى لو امتلأنا بها، وأمكن أن نبعثها فى مريضنا، لأصبحت نقطة انطلاق واعدة منفتحة.

 يبدو أن حياتنا المعاصرة قد أنستنا هذا تماما، أو غالبا، أو إلى حد كبير، لو أحسنتَ الإنصات إلى صوت عصفور الكناريا على فرع شجرة، لوجدته يردد نفس هذين البيتين:

الحياة هى الحياة

أحلى حاجة فيها، هيَّا:

“إنى عايش”

ما رأيك لو نتوقف عند هذا المقطع، ونحاول أن نردده لعلنا نصدّقه بما هو، دون إبداء أسباب (يمكن أن تفعل ذلك وأنت تسمع غناء هذا العصفور بعد أن تنزل صوت غنائه من جوجل!! أو اليوتيوب (لست متأكدا) الصوت موجود فعلا: حاوِلْ).

هيا نجرب:

…….

الحياة هى الحياة

أحلى حاجة فيها، هيَّا:

إنى عايش

…….

الحياة هى الحياة

أحلى حاجة فيها، هيَّا:

إنى عايش

…….

وهكذا..!

ثم هيا:

 لكى يكون الإنسان بشراً عليه أن يعيش جدل الوعى مع وعى آخر، وعى بشرى أيضا، بل أكثر من وعى فى كل فرد، ومع عموم الناس. يبدو أن القصيدة التى نحن بصددها تنبهنا إلى ذلك بشكل سريع قبل أن ننسى، فبمجرد اختيار الحياة نجدنا بين الناس هكذا:

الحياه هيّا الحياهْ

أغلى حاجه فيها هيَّا:

 “إنى عايشْ”

وِسْط ناسْنا الطيبين

حتى ناسنا النُصْ نُصْ

همّا برضه أحلى ناسْ: طيبين

ما انا منهمْ،

يبقى لازم زيُّـهمْ،

حلو خالصْ

بس انا برضه بَلاقينِى ساعات كدا نُصْ نُـصْ،

قلت أتعلم، وابُص

إذن: لا تكون الحياة حياة بشرية إلا بين الناس.

فى العلاج النفسى الفردى الصحيح، يعتبر المعالج ممثلا لمن هو “آخر” بالأصالة عن نفسه والنيابة عن الناس، هذا مفهوم آخر غير المفهوم الذى يؤكد عليه التحليل النفسى التقليدى، حين يهتم أساسا بالتركيز على “الطرح” والتداعى الحر والتنفيث. إن لم يتم من خلال العلاج تهيئة وتنمية العلاقة مع جماعة صغيرة، (أسرة مثلا)، ثم مع بعض الناس ثم مع كل الناس، فهو علاج تنفيثى محدود غالبا. هكذا يعلن المتن من البداية أن الحياة لاتكون حياة إلا وسط ناسنا الطيبين.

من خبرة العلاج الجمعى:

أتاحت لى خبرتى فى قصر العينى مع مرضى العلاج الجمعى خاصة، أن أعرف، وأتعرّف على عينات من ممثلى الشعب المصرى الحقيقى عاماً بعد عام، أعنى الشعب المصرى: التاريخ، الشعب المصرى الطبيعى، الشعب المصرى “هنا والآن”.

أنا أمارس العلاج الجمعى المجانى فى قصر العينى منذ سنة 1971 مع مرضى من الشريحة الأقل قدرة من الطبقة الوسطى والدنيا، من الطبقات الأفقر والأكـْدح، تعلمت من هؤلاء البشر معنى الطيبة المصرية الحقيقية “وسط ناسنا الطيبين”، وهم يعطون الموافقة الطيبة بكل ترحيب أن يجلس معنا فى نفس قاعة العلاج، فى دائرة أوسع، كل من يرغب فى التعلم والتدريب لمشاهدة الجلسة العلاجية بشروط شديدة اليسر، كما يقبل أفراد المجموعة الطيبون التصوير بالصوت والصورة، خدمة للعلم والمتعلمين قصريـًّـا، الطريقة التى أمارس بها هذا العلاج علانية مع إمكانية التدريب ودوام التسجيل استمرت حتى الآن أكثر من أربعين عاما ومازالت مستمرة:

تجتمع عينة ناسنا الطيبون (من 8–14 فرد) بشكل منتظم كل أسبوع فى يوم محدد (الأربعاء الآن) الساعة 7.30 صباحا ولمدة ساعة ونصف، ولا نحدد اختياراً معينا للسن أو التشخيص أو الشخصية، اكتشفت وأنا أكتب هذا الشرح الآن أن الذى شجعنى على الاستمرار طوال هذه السنين هو أن: “ناسنا طيبون” بالمعنى البسيط العميق، وليس بمعنى الاستسهال أو السطحية أو التفويت، يبدو أن هذه الطيبة مـُـعدية، ومهما كان ظاهر الأعراض، ومهما كان اسم التشخيص، ومهما كان نوع الشخصية، فإن وعياً جمعياً يتكون فيما بيننا من أول جلسة وينمو باضطراد حتى نهاية العام (مدة التعاقد للعلاج هى عام كامل: اثنا عشر شهرا).

قلت حالا إن هذه الطيبة معدية، لكن التعبير الأصح هو أن أقول إنها “قادرة على أن تستخرج ما يقابلها” “خلقة ربنا” من كل فرد من أفراد المجموعة، فهى ليست سمة أو صفة تنتقل من فرد إلى فرد (معالج أو مريض) بقدر ما هى حقيقة بادئة تتحرك منا بمثير صدق التقائنا، فيتحرك فينا ما هو “نحن” ثم نتجمع وسط دائرتنا إذ يتخلّـق منا وعى جماعـِىّ جاهز للتواصل مع “الوعى الجمعى” Collective Consciousness([4]).

ربما الذى يجعل العلاج الجمعى ذا فاعلية فى ثقافتنا المتواضعة هو أن هذا الجزء الطيب (العام المشترك) يتحرك من داخل المعالجين مثلما هو من داخل المتعالجين: ليساهم فى تكوين الوعى الجمعى (الخاص) المشترك المشارِك.

ليس فى الأمر خصوصية للشعب المصرى، فهذه الطيبة التى أتحدث عنها تصلنى من ناسى لأننى منهم، وهى أقرب إلى ما أسميناه “الفطرة”، فالأرجح أنها هى أصل ما هو “ربى كما خلقتنى” ونلاحظ أن المتن ينبهنا أن هذه الطيبة موجودة فى الطيبين ظاهرا، وحتى فى الذين أخفتها دفاعاتهم وكأنهم غير ذلك، أو حتى أنهم “نصف نصف”.

فى خبرتى مع طول عمر الممارسة مع المجموعات المتتالية التى لا يزيد عمر الواحدة منها عن عام واحد: وجدت أن هذا “العامل المشترك” “الذى نسميه طيبة “المصرى” (ومثله) هو هو “الحلاوة” التى نصف بها الحياة طول القصيدة، هذه الحلاوة بدت فى وصف ناسنا الطيبين حتى “النص نص” منهم بأنهم:

أحلى ناسْ: طيبين.

بنفس الآلية تتم تعتعة نفس هذه المنطقة عند المعالج، “عندى” مثلا، فأنا أعلن من البداية، مع تمام مسئوليتى “أن ما يسرى على المرضى يسرى علىّ”، فتنشط عندى – فى الأغلب – نفس المنطقة “الطيبة الجماعية المسئولة” (لاحظ أضفنا لفظ “المسئولة” هنا).

انتماء المعالج هكذا إلى هذه المنطقة المشتركة بنفس الشروط لايتصف بأى قدر من التواضع أو التنازل، بل إنه يعطى للمعالج قيمة أخرى: أنه واحد من الناس مع اختلاف جرعة الخبرة والمسئولية.

يمكن أن يقيس المعالج مدى لياقته لهذا النوع من العلاج بمدى تلقائية أدائه أثناء العلاج من جهة، وبعدم إرهاقه منه بأى درجة من جهة أخرى، لأن العامل العلاجى الأهم هو تخليق هذا الوعى الجمعى المشترك الذى يجمع أفراد المجموعة إلى بعضهم، فينتمون إليه، فيرتد إليهم يعالجهم، كما خلقهم ربهم، فهم “أحْلى ناس”، وليسو “أحلى الناس”، وما يخرج بشكل طبيعي، هو طبيعىّ، فمن أين يأتى الإرهاق؟

فإذا كان تحريك هذه المنطقة تجعلنا نرى أنفسنا “أحلى ناس” فإن المعالج حين يرى نفسه أحد هؤلاء الـ “أحلى ناس” يكتشف أنه أيضا “حلو خالص”..

إذن فصفة المبالغة “أحلى، والإطلاق “خالص” لا تشير إلى تفضيل فوقىّ لأنها تقر أن سمة أو صفة الحلاوة هى أيضا صفة ناسنا العاديين جدا حتى ناسنا “النص النص”، كذلك المعالج ليس إلا شخصا من هذا النسيج نفسه الذى: “أحيانا يكون نص نص”، وذلك لا ينقص من حلاوته، كما لا ينقص من حلاوة الناس.

بس انا برضه بَلاقينِى ساعات كدا: نُصْ نُـصْ

تكرار وصف الحياة فى هذه القصيدة بالحلاوة “الحياة الحلوة حلوة” ثم ما تكرر هنا “أحلى ناس” و”حلو خالص”، هو وصف قريب مما أريد توصيله لمعنى “خلقة ربنا”، التى هى الأقرب لما يتخلق بنا معا،  وربما هو ما نطلق عليه: “الوعى الجمعي”.

 اللفظ الآخر الذى يوصل بعض ما يجرى هو لفظ “الفرحة”، وكل من لفظ “الحلاوة” ولفظ الفرحة هو الأقرب إلىّ جدا من ألفاظ “السعادة” و”الراحة” وحتى “الطمأنينة” وهى الألفاظ التى يصر أغلب المرضى على طلبهما أو على الأقل السؤال عنهما، كما يصر أغلب النفسيين على تسويقهما، وسوف نعود إلى ذلك.

هذه البداية هى المدخل فى العلاج الجمعى الذى هو ليس إلا “نموذجا” “للحياة البشرية معاً”، وهى المدرسة التى تعلمت وأتعلم فيها ومنها جوهر الحياة:

قلت أتعلم، وابُص.

حركية الحياة، وحتم التواصل للاستمرار

حركية الحياة تمتد إلى حركية الموت، حتى الموت الحقيقى هو بعض مراحل حركية الحياة من بـُعـْدَ معين. قد يسكن السطح فيخدعنا الركود، لكن تظل الحياة تتحرك داخلنا تحت هذا السطح الراكد رغما عنا. الموت، كما وصلنى مؤخرا، كنقلة من الوعى الشخصى إلى الوعى الكونى، وهو أزمة نمو، فهو حركة، فهو حياة. هذه الحركية ليست خطـِّـية، وليست دائرية، وليست لولبية، وليست أمامية، وليست خلفية، هى كل ذلك فى تكامل وتناوب وإيقاع حيوى متصل.

………….

………….

ونواصل الأسبوع القادم استكمال قراءة الفصل الرابع: عن “ماهية الحياة”

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] – يحيى الرخاوى: (2018) سلسلة “فقه العلاقات البشرية” (4) (عبر ديوان: “أغوار النفس”) قراءة فى نقد النص البشرى  للمُعـَالِج، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى – القاهرة.

[2] – وطبعا أكون ساعتها حذر أن يصله السؤال “إما أن تحيا أو تنتحر” وأنا أتذكر أغنية  ثريا حلمى فى الأربعينيات “ياللى الحالة تعباك: الدنيا لسه بخيرها، وان كانت ماهيش عاجباك ما تسيبها و تشوف غيرها مادام بتنكر خيرها

[3] – مرة أخرى واحد فى الألف من كل الأحياء هو الذى نجح فى هذا الامتحان.

[4]- وليس فقط “اللاشعور الجمعى” الذى قال به يونج Collective Unconsciousness.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *