الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / غسيل المخ … والوعى البشرى الجماعى الجديد

غسيل المخ … والوعى البشرى الجماعى الجديد

نشرة “الإنسان والتطور”

الثلاثاء: 28-7-2015

السنة الثامنة

العدد: 2888

 

غسيل المخ … والوعى البشرى الجماعى الجديد(1)

الحديث عما يسمى (أو كان يسمى) “غسيل المخ” أصبح فى حاجة إلى تحديث جذرى، فالمخ ليس وعاءًا  يمكن أن يتسخ فيُغسل مما فيه، ولا هو مخزن للذكريات والمعلومات والمعارف، يحتا ج إلى أمين مخزن يحافظ على ما به من السرقة أو التلف أو الاستبدال ببدائل مزيفة، المخ البشرى – جنبا إلى جنب مع الجسد والحس وما بعدهما – هو كيان حيوى نابض دائم التفكك والتشكّل بشكل منتظم، المفروض أنه هادف وإيجابى.

عَمَى حكام العالم (الحقيقيين)

إن الذى يحكم – ويتحكم – فى الناس!!، فى عصرنا هذا، فى وقتنا هذا، ليست هى الحكومات الرسمية المعلنة، وبالتالى فهى ليست الشعوب حتى لو  أوهموها أنها انتخبت حكوماتها،  لم يعد غسيل المخ قاصرا على تغيير معتقد فرد متهم أو جماعة  متحمسة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار أو العكس، بل أصبح لعبة الحكام الحقيقيين للعالم، وسبيلهم الأضمن للتأثير على توجُّهات وأيديولوجيات بل وعواطف، وربما أديان  مليارات البشر لصالح أغراضهم المعلنة والخفية (الاستهلاك- الثروة – السلطة، وبالعكس)،

المخ البشرى كيان حيوى مرن، الحلم هو “التفكيك الطبيعى لإعادة التشكيل”، وهو صمام الأمن ضد التفكيك العشوائى (الجنون)، أما الإبداع فهو التفكيك فالتشكيل فى وعىٍ فائق.

غسيل المخ يستغل هذه القابلية  للمخ – أى الحاجة الحتمية إلى التفكيك – يُحْدِثها قصداً ثم ينحرف بها إلى أغراضه، وبدلا من أن يساعد التفكيك على إعادة التشكيل أو يمهد له – كما يحدث فى الحلم  والإبداع – فإن  التفكيك المُقْحَمْ  يُسَخَّرُ لخدمة أغراضه  الخبيثة.

غسيل المخ يفتعل التفكيك، ثم يتقدم إلى إعادة التشكيل المنحرف – اقتحاما من الفاعل وليس إبداعا من المفعول به–  لصالح أغراض الفاعل المغرض تماما.

حتى العلماء فى مراكز البحث الملحقة بهذه المؤسسات العملاقة، أو الممولة من جانبها، أصبحوا يستحقون اسم بروليتاريا العصر الأحدث” اللهم إلا إذا كانوا قبلوا أن يستعملوهم لأغراضهم بوعى وإرادة، فأصبحوا شركاء فى القهر والغسيل.

الغسيل الجماعى بالإعلام

يقوم فيضان الإعلام الأحدث بشكل مباشر أو غير مباشر بغسيل مخ جماعى طول الوقت وهو يتبع فى ذلك أساليب متنوعة من أهمها الإغراق حين يغمرنا بفيضان من الضوضاء السياسية والحوارات شبه الاقتصادية، بحيث تصير أمخاخنا ليس فقط إلى حالة تفكيك خامل، بل إلى شلل كامل، ومن ثَمّ َنصبح جاهزين لزرع الأفكار المغرضة الخبيثة لصالحهم.

أما التشتيت فهو العملية التى يتم بها إفشال أى متابعة للإدراك المنظم، حتى يمنع المستمع أو المشاهد أو أى أحد من أن  تتكون لديه “جملة مفيدة ومن ثم تتم إزاحة أية قضية جوهرية من بؤرة الوعى، بما يلهى عنها، ثم يتم التهميش، فالإحلال بأن تحل، بعد التفكيك والإشلال، عمليات إحلالٍِ مبرمجة: فيحل الجزء محل الكل، وتحل المواثيق المكتوبة محل الواقع الحى، كما تحل الكلمات محل الممارسة الفعلية، وقد يحل اتهام شائع معلن محل البحث الجاد عن فاعل أصلى حقيقى،

الوعى البشرى الجماعى الجديد

 على الرغم من كل ذلك، فإنه  يبدو  على ساحة العالم أجمع أن ثمة إرهاصات  لبزوغ فجر جديد،

دعونا نسمى هذا القادم الواعد باسم:  “الوعى البشرى الجماعى الجديد“، فى مقابل ” النظام العالمى السلطوى الجديد“،

 هذا الوعى البشرى الجماعى – مهما بدا ضعيفا فى البداية، يمكن أن يكون الوجه الإيجابى لاستعمال التفكيك الذى تقوم به مغاسل المخ السلطوية، كما يمكن أن يحول دون نجاح  هذا الانحراف السلبى إلى التدهور فالانقراض.

إن  لامركزية الإعلام المتمادية بين البشر وبعضهم البعض، متجاوزين الوصاية والرقابة، ترسل إشارات تقول:

إن بالإمكان أن يوقف مدّ التدهور، وأن تتحول الموجة لصالح تطور البشر لتحول  دون الانقراض

إن هذا التواصل الواعد الجديد قادر على أن  يعيد للشخص العادى بعض معالم فطرته التى شوهتها وتشوهها عمليات غسيل المخ الجماعى المهددة للنوع البشرى برمته ، فنستعيد بذلك:

   “حلاوة المعرفة”، و”فرحة التساؤل”، و”مسئولية الحزن الموقِظْ “، و”دهشة الحكمة الفطرية”، و”فخر التاريخ الحيوى”، و”تواصل البشر الحقيقى”، و”إمكانيات الشخص العادى فى المشاركة فى النقد والإبداع”.

فيعود الإنسان قادرا على أن يسيِّر أموره  من حسن إلى أحسن برغم بطء الخطى ووعورة الطريق.

لا … ليس حلماً.

لأنه لا يوجد حل آخر.

وبعد (28/7/2015)

هل نستطيع بعد كل ما جرى أن نحافظ على هذا الحلم برغم كل شىء.

برغم كل شىء.

كل شىء!!

أجيب عن نفسى أن:

“نعم” أستطيع فليس لى خيار

ما رأيكم أنتم؟

[1] – نشر المقال فى جريدة الدستور بتاريخ 5-12-2007

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *