الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / عودة إلى: قراءة فى كراسات التدريب : نجيب محفوظ إعادة من (1 – 5)

عودة إلى: قراءة فى كراسات التدريب : نجيب محفوظ إعادة من (1 – 5)

نشرة “الإنسان والتطور”
28-4-2011
السنة الرابعة
العدد: 1336
عودة إلى:
 Mafouz & Yehia (1)

إعادة (1 – 5)

قبل المقدمة:

أخيرا استقل هذا العمل بنفسه بعد أن توقف فى النشرة 21-4-2011 ، عن تضمينه مع تداعياتى فى صحبته بعنوان “فى شرف صحبة نجيب محفوظ” والتى استغرقت (72 حلقة، “586” صفحة) .

هذه المقدمة تبدأ بمقتطفات من نشرات سابقة عن طبيعة هذا العمل، ومنهج قراءته كما سبق أن وردت فى تلك النشرات السابقة، بالإضافة إلى مقتطف من مقال ظهر فى العدد الأول من دورية نجيب محفوظ  ديسمبر 2008 (المجلس الأعلى للثقافة).

صدر من هذه القراءات ثلاث وعشرون حلقة (فى إثنى عشر نشرة) كان آخرها 1-4-2010، وبالتالى فقد مضى أكثر من عام.

اليوم: بعد المقدمة سوف أعيد نشر الخمس نشرات الأولى، ليلحقها كل أسبوع خمس أخرى، مع أقل قدر من التحديث وذلك أملا فى المتابعة المتواصلة.

ثم نواصل بعد ذلك بدءًا من الصفحة 24 من الكراسة الأولى

 ونحن ندعو له ولنا بما نستحق، ويطمئنه علينا وعلى مصر،

فكم أحَبَّها ويحبها.

شكراً.

* * *

المقدمة: (مقتطفات من مقدمات سابقة)

أولاً: من دروية نجيب محفوظ العدد الأول ديسمبر 2008

……..

……..

… حين جرى ما كان، وشرفتُ بصحبته ردحًا من الزمن، أتيح لى أن أرصد بداية من بداياته الجديدة القديمة، بداية معاودته الكتابة ضد كل التوقعات والحسابات العلمية والعملية، تعلمت ما لم أكن أتصوره، علما وواقعا. عايشته وهو يعيد تأهيل نفسه ليبدأ الكتابة من جديد حتى انتصر‏ ‏على ‏الإعاقة‏ ‏بتدريب‏ ‏يومى ‏طوال‏ ‏خمس‏ سنوات‏، حتى استطاع أن يكتب بنفسه ما كتب لا يوجد طبيب أعصاب فى الدنيا يمكن أن يتصور أن العطب الذى لحق بالعصب المسئول عن حركة يد بعد الحادث الغادر كانت يده أعجز من أن تمسك أى شىء بأى درجة من الاتزان، ناهيك عن أن تمسك بقلم يتحرك سنه على ورقة، لكنه فعلها: كل يوم، كل ضحى، كل يوم، كل يوم تال، كل يوم .. كل يوم .. راح يدرب نفسه على التحريك الطليق (شخبطة)، ثم على التحريك البطىء، ثم راح يتصور أنه يكتب شيئا ما، واكتفينا بملء صفحة واحدة فى كراسة تلو الكراسة، كانت الصفحة تأخذ فى البداية سطرين أو ثلاثة على الأكثر، ثم أربعة، لم أكن أتبين فيها حرفا واحداً يمكن قراءته، وكنت أتابع تقدمه ساعة بساعة، وأسأله عن “عمل الواجب” يوميا تقريبا (هو الذى اقترح هذه التسمية، وهو يقدم كراسة الواجب صباح كل يوم)، فيبتسم مداعباً وينبهنى إلى أنه تلميذ حريص على التقدم، فأفرح بشطارته وأداعبه بما يناسب، وأنا أتعلم منه كيف يكون حب الحياة مثابرة وإصراراً، راح يتدرب يومياً، حتى بعد أن نجح أن يكتب ما يمكن قراءته.

 فى ‏السنة‏ ‏الأولى ‏كنت‏ ‏أفرح‏ ‏فرحا‏ ‏لا‏ ‏يخفى ‏حين‏ ‏أنجح‏ ‏أن‏ ‏أقرأ‏ ‏حرفا‏ ‏واحدا‏ ‏بين‏ ‏كل‏ ‏ما‏ “‏شخبط‏”، ‏بدأت‏ ‏الحروف‏ ‏تتميز‏ ‏فى ‏شكل‏ ‏هلامى ‏أسفل‏ ‏يسار‏ ‏كل‏ ‏صفحة‏. ‏لم‏ ‏أسأله‏، ‏تبينت‏ ‏بعد‏ ‏شهور‏ ‏طويلة‏ ‏أنه‏ ‏توقيعه‏، ‏اسمه‏، ‏لكن‏ ‏ماذا‏ ‏تحت‏ ‏ما‏ ‏يشبه‏ ‏التوقيع‏، ‏أشكال‏ ‏أخرى ‏ليست‏ ‏حروفا‏، ‏وبعد‏ ‏شهور‏ ‏تبينت‏ ‏أنها‏ ‏أرقام. ‏ثم‏ ‏بعد‏ ‏عام‏ ‏وبعض‏ ‏عام‏ ‏عرفت‏ ‏أنه‏ تاريخ اليوم الذى كتب فيه “الواجب”‏. ‏وكان‏ ‏يشاركنى ‏فرحتى ‏وأنا‏ ‏أبلغه‏ ‏بعض‏ ‏ما‏ ‏نجحتُ‏ ‏فى ‏قراءته‏، ‏أعنى ‏كنت‏ ‏أشاركه‏ ‏فرحته‏، ‏وحين‏ ‏استطاع‏ ‏بعد‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏عامين‏ ‏أن‏ ‏يكتب‏ ‏جملة‏ ‏على ‏بعضها‏ ‏كان‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏عيدنا‏ ‏الكبير‏، ‏ورحت‏ ‏أميز‏ ‏فى ‏بعض‏ ‏الصفحات‏ “‏رب‏ ‏اشرح‏ ‏لى ‏صدرى‏”، “إن الله مع الصابرين”، “سبحان الملك الوهاب”، وكذلك: “سالمة يا سلامة”، “خفيف الروح بيتعاجب”، ثم لمحت اسمه أيضا ليس فى أسفل الصفحة، ما هذا؟ إنه يسبقه اسم آخر، آه!! هذا هو: إنها فاطمة نجيب محفوظ، أم كلثوم نجيب محفوظ، فأدعو لهما وله.

ثم أُفلح أن أقرأ تعليقا فى نصف سطر على حدث سياسى آنىً… إلى آخر ما احتفظت به وسلمته للأستاذ الدكتور جابر عصفور المسئول الأول عن جمع تراثه فى اللجنة المكلفة بذلك،

….هذه الخبرة الفريدة أكدت لدىّ يقيناً – كان فرضاً – بقدرات وتحديات هذا الجهاز الرائع، نعمة البشرية عبر التطور بفضل الله، الجهاز المسمى “المخ البشرى” نشأ الفرض أصلاً وأنا أتابع أستاذى وصديقى المرحوم أ.د. أبو شادى الروبى بعد أن فقد النطق نتيجة لجلطة فى شريان الدماغ المغذى لمركز الكلام فى النصف الطاغى من المخ، لكنه استطاع أن يتحدى ليستعيد أبجدية الكلام، كلمة كلمة، كان ذلك عن طريق اكتشافه مصادفة حقيقة علمية لم يكن يعرف هو شخصيا، لعدم التخصص، عنها شيئا:  وهى أن النصف الآخر (غير الطاغى) مختص بحفظ الصور الكلية والأنغام. أكتشف د. أبو شادى ذلك بالصدفة فعلا. ذلك أنه بعد أن فقد النطق تماما، اكتشف أنه يميز إحدى السيمفونيات التى يحبها، لكنه لا يعرف أن يسميها، فأخذ يعيدها مئات المرات وهو يستعيد الاستمتاع بكل مقطع فيها دون اسمها، حتى نجح فجأة فى تسميتها، فعرف الطريق وراح يواصل العناد وهو يواصل حب الحياة بطريقته التى يمكن أسميها الآن: الطريقة المحفوظية، راح صديقى أ.د. أبو شادى الروبى يقلب فى مكتبته الموسيقية، وهو يتعرف على الأنغام دون الأسماء، هذه هى السيمفونية، التى .. وذاك هو هو الكونشرتو الذى أعرفه فعلا.. فقط لو .. وتلك هى السوناتا هى فعلا ولكن .. وسيمفونية أخرى، فسوناتا أخرى، فكونشرتو آخر، فلست أدرى ماذا، ثم إنه بعد أن جمع أبجدية مناسبة من الألفاظ، راح يكمل معجمه الجديد بحل الكلمات المتقاطعة بمثابرة منقطعة النظير، حتى استعاد كل أبجديته وأغلب ذاكرته، قال لى يوماً إنه حين نجح أن ينطق الرقم ثمانية “8” بعد أن ظل يرسمه عشرات المرات، كان يعرف معناه وترتيبه ودلالته، والرقم الذى قبله والذى بعده، دون أن يعرف نطقه تحديدا، نطق الرقم “ثمانية” راح يحاول كل يوم، كلما صادفه، راح يكتبه مئات المرات، والرقم يتأبى ويراوغ، وحين نجح فجأة أن ينطقه شعر أن ولد من جديد “أى والله عرفت الولادة من جديد، هل تصدقنى يا يحيى”؟ هكذا كانت ألفاظه حرفيا يرحمه الله، ولم أحتج أن أقول إننى ولدت معه وهو يحكى، فكيف لا أصدقه!.

رحت أعيش مع شيخى نجيب محفوظ مثل هذه الاحتفالات بولادة أى حرف جديدة وسط “الشخبطة” العنيدة المتكررة، كنا نتهته على الورق، هو كتابة وأنا قراءة، ومع ذلك لم يكن الحمل عسيراً، ولم تتوقف فرحتنا بالولادات المتلاحقة الراقصة العابثة: الأولاد الحروف، والبنات الكلمات، كنت أحاورها وهى تلعب شقية غامضة على الورق، وخيل إلى أنها كانت أحيانا تخرج لى لسانها لتثبت لى أنها انتصرت على زعم العجز الدائم حسب تكهنات العلم التقليدى.

حين تمت ولادة الحروف فالكلمات، بدت الأحوال جاهزة للتقارب معا لتصنع إبداعا جديدا، تيقنت من متابعتى ما يكتب فى تدريباته اليومية أنه أصبح قادراً على أن يصيغ أفكاره هو، وليس فقط أن يخط اسمه أو اسم إحدى كريمتيه أو آية قرآنية كريمة، تأكدت أنه على وشك أن “يعملها”، تجرأت فسألته، هل ثم شىء فى الطريق؟ أجابنى مبتسما وهو يشير إلى دماغه أنه يشعر “بنغبشة” ربما يتمخض منها شىء ما، وقد كان، فكانت “أحلام فترة النقاهة”.

هذه الذرية الجميلة لم يكن يمكن حبسها فى حجرته أو أدراج مكتبه، فجاءت حفلة السبوع الجماعية ضاخبة جميلة حين ظهرت أولى “أحلام فترة النقاهة” للناس فى مجلة أسبوعية “نصف الدنيا”.

……….

……….

* * *

ثانياً: فى النشرة العدد 846 بتاريخ 24/12/2009 جاء ما يلى:

…. التقيته شخصيا منذ أيام ليس فى المنام: مال علىّ كما كان يفعل حين يريد أن يبلغنى أمرا خاصا، أو أن يسمع ما يهمه، ووضع يده على كتفى وهو يقول: “إفعل ما تريد يا يحيى بيه، فأنا أعرف أين أنا منك، مهما حدث” خجلت ولم أعقّـب، وانحنيت على يده أقبـّلها، وإذا به يسارع ويقبلنى فى خدى وهو ينتزع يده منى”، اعتذرت له فرفض، وكاد يعاتبنى على الاعتذار، وليس على التجاوز.

……….

(كان ذلك هو إعلان رضاه عن المنهج الذى أتبعه، وحيرنى)

* * *

ثالثاً: القراءة فى كراسات التدريب :

ص 1 من الكراسة الأولى

1

بسم الله الرحمن الرحيم

ــــــــ

نحيب محفوظ

أم كلثوم

فاطمة

ــــــ

الله مع الصابرين

سبحان الملك الوهاب

يهب الرزق لمن يشاء

من قد ايه كنا هنا

سلمى يا سلامة

خفيف الروح بيتعاجب

نجيب محفوظ

25-1-1995

 

نلاحظ:                              

1- أنه بدأ بالبسملة، وهذا ما كان تقريبا طوال فترة التدريب.

2- أن البداية كانت مبكرة جدا، وكان ذلك بتلقائية من جانبه، وليس بتوصية طبية من العلاج الطبيعى ولا من جانبى.

3- أنه بدأ باستجلاب الصبر بعون الله “إن الله مع الصابرين” وهل كان أمامنا إلا مثل هذا الصبر الجميل. ونحن نعايش آثار العدوان بهذه الإفاقة وهذا الحجم

4- وبعد تسبيحه للملك الوهاب يدعو الله ضمنا ويسلم بعدله، وأنه يهب الرزق لمن يشاء

5- ثم تحضره مباشرة خفة ظله، حبه للطرب “من قد إيه كنا هنا!!”

6- ثم أغنية أخرى، هى فى نفس الوقت تعلن يقظة وعيه وفرحته بالعودة إلى بيته “سلمى يا سلامة”.

7- ليختم قبل التوقيع بأغنية تعلن رضاه وحالته الجميلة.

* * *

ص 2 من الكراسة الأولى

2

نجيب محفوظ

أم كلثوم نجيب محفوظ

فاطمة نجيب محفوظ

ـــــ

اللهم احفظهم وباركهم

ليت الشباب يعود يوما

ودار ندامى غادروها

الصبر جميل

إن الله مع الصابرين

نجيب محفوظ

26/1/1995

 نلاحظ:

1- يتكرر هذا التسلسل فى معظم تدريباته، يبدأ باسمه، ثم اسم كريميته فى أغلب ما كتب (أقوم بمحاولة احصائية فى الكراسة الأولى)

2- ثم ها هو يدعو لهم بكل رقة (وقد ناقشته بحذر شديد فى رقته المفرطة هذه، ودماثه كريميته البالغة، أكرمهما الله)

3- ثم أنه “ليت الشباب يعود يوما” (علما بأنه كان أكثر شبابا).

4- لم يصلنى أبدا (تقريبا) أنه عاش الندامة بالمعنى الشائع، فقد كان يحب الحياة، كما يحب الناس، كما يحب الموت، وورود هذا النص مثل كثير مما سيأتى بعد ذلك، قد لا يعنى شيئا بذاته فى هذه اللحظة، لأنه التدريب يكتب ما يحضر القلم، وليس بالضرورة ما يحضر فى الوعى، بدلالات خاصة، وسوف نكرر هذا التنويه رفضا للتعقيب.

ما وصلنى هنا من تلاحق الأسطر الثلاثة:

“ودار ندامى غادروها” ثم “الصبر جميل” ثم “إن الله مع الصابرين”.

وكل ذلك متسقا تماما مع موقف هذا العظيم الواعى جدا، بربط الموقف الذى نحن فيه، بأن له نهاية، كما أن لهذه الدار نفسها نهاية، وأن من يتعلق بها هو يندم عليها (أو لا يندم) يغادرها حتما، فلا أفضل من الصبر، والصبر هنا له صفة عشتها معه بكل فرحة هى صفة الجمال فعلاً.

للصبر مرارة

وللصبر جمال

وأنا لم أشاهد مرارة الصبر معه أبدا، حتى فى أزمات مرضه قبل الأخير (إذ لم تتح لى فرصة معايشة مرضه الأخير)

والذى يجعل الصبر جميلا، هو ما أنهى به يوميته هذه

“إن الله مع الصابرين”

* * *

ص 3 من الكراسة الأولى

3

نجيب محفوظ

أم كلثوم نجيب محفوظ

فاطمة نجيب محفوظ

نجيب محفوظ

ألا أيها النوام ويحكموا هبوا

نجيب محفوظ

نجيب محفوظ

أراك عصى الدمع

نجيب محفوظ

أنت المنى والطلب 

نجيب محفوظ

7-1-1995

 

نلاحظ

نفس البداية، ، خطر لى الآن أن  كتابة اسمه فى كل بداية ليست دليلا على أى تركيز على ذاته، لكنها بمثابة “فتح كلام”، أو تليين الحركة، لأن اسمه الذى وقّع به آلاف المرات، هو الأقرب إلى البداية به “لفك الزيت”، فهو يتحايل على البداية، كما يجوز أنه دأب أن يلحق باسمه اسمىْ كريمتيه،  وكأنه يكرر ما اعتاد عليه من كتابة اسمه، فضلا عن قربهما الشديد من قلبه، وحضورهما الدائم فى وعيه،  وربما أيضا لأن بكل اسم منهما كلمتى “نجيب محفوظ” اللتان تسهلان البداية، ربما.

ثم نلاحظ أنه كرر اسمه هنا بعد الخط، فى منتصف الصفحة فى كل فقرة تالية، ربما لنفس السبب، للتأكيد على نسبة ما تحويه كل جملة لاحقة من انها تمثل رأيه جدا، مثل:

يا أيها النوّام ويحكموا هبوا

نجيب محفوظ أكثر من يعرف، أو من أكثر من يعرف ما صرنا إليه من كسل، أو نوم فى العسل أو فى الطين، وهو ينبهنا أنه آن الآوان أن نفيق. نجيب ليس خطابيا أبدا، لا فى إبداعه، ولا حتى فى زاويته فى الأهرام، فلم تصلنى هذه الصيحة الإيقاظية على أنها خطابة، خاصة وأن أصل البيت الذى قاله جميل بثينة هو فى الحب

ألا إيها النوّام ويحكمو هبوا / اسألكم هل يقتل الرجلَ الحبَ

لا أستطيع أن أجزم، وإن كنت أرجح المعنيين معا: الحب، ونفير الإفاقة والدعوة للصحوة

المعنى العاطفى فى شطر البيت يغلب ترجيحه إذا نظرنا إلى مزاج الكاتب لحظتها وهو يلحقه بـ أبى فراس الحمدانى ، وأم كلثوم معا

“أراك عصى الدمع”

أما أم كلثوم، فنحن نعرف من هى عنده، وأين هى فى قلبه ، ووجدانه، ووعيه، واسم كريمته،  ومع ذلك فقد أطل علىّ من خلال إثباته هذا الشطر، كل البيتين الأولين من قصيدة أبى فراس الحمدانى،

أراكَ عصيَّ الدَّمْعِ شيمَتُكَ الصَّبْرُ

أما لِلْهَوى نَهْيٌ عليكَ و لا أمْرُ؟

بَلى، أنا مُشْتاقٌ وعنديَ لَوْعَةٌ

ولكنَّ مِثْلي لا يُذاعُ لهُ سِرُّ!

لم يغب عنى أبدا أن نجيب محفوظ هو المشتاق الدائم إلى كل ما هو جميل فى الحياة، بل إلى كل ما هو حياة، أما أن “مثله لا يذاع له سر”، فهذا ما لا يعرفه أحد عن هذا الرجل، عاصرته سنين عددا، وكنت أعلم دائما أن وراء كل ما عرفنا، هناك سر لا يذاع، وآمل أن يكون قد أذاعه إلى صاحبه حين التقاه سبحانه وتعالى، وهو لا يحتاج إلى أن يذاع له سر أيا من كان.

أما الجزء من الشطر الأخير الذى اختتم به محفوظ هذه الصفحة فهو: “أنت المنى والطلب”، وهو من القصيدة الجميلة للإمام الشبراوى، التى لحنها لأم كلثوم الشيخ أبو العلا محمد سنة 1926 

وحقـك أنـت المنــى والطلـب

وأنـت الـمـــراد وأنـت الأرب

ولي فيـك يـا هاجـري صبـوة

تحيـر فـي وصفـهـا كلُّ صـب

* * *

ص 4 من الكراسة الأولى


4نجيب محفوظ

نجيب محفوظ

نجيب محفوظ

…………

الله هو الحى القيوم

ألا ليت الشباب يعود يوما

صنت نفسى عما يدنس نفسى

نجيب محفوظ

أم كلثوم

فاطمة

نجيب محفوظ

29/1/1995

 

نلاحظ:

لم أوصه بأن يجرب تدريب يده بالرسم، لكنه هكذا فعلها وحده تلقائيا فى بدايات التدريب، ما زلنا على بعد أقل من ثلاثة أشهر من الحادث، وقد بد خط شيخنا يتحسن جدا (وإن كان قد ساء بعد ذلك أحيانا، كما لاحظنا ف كتابته للأحلام، ولهذ تفسير قد أعود إليه).

خاب رأيى الذى ذكرته فى قراءتى الصفحة الماضية، فهو هذه المرة لم يبدأ بكتابة نجيب محفوظ ليفك الزيت، ولا كتب أسماء كريمتيه لمجرد أن أباهما اسمه نجيب محفوظ، كنت أستطيع أن أتراجع عن هذا التفسير بأن أشطبه الآن، لكننى فضلت أن أتركه حتى يشاركنى القارئ احتمالات خطإ التأويل أولا بأول.

بدأ هذه المرة بنجيب محفوظ ، لينتهى بنفسه وكريمتيه، مما قد لا يحتاج إلى الإشارة بعد ذلك.

أما المحتوى هذه المرة فهو شديد الإيجاز شديد الدلالة (مثل كل حرف خَطَّهُ)، “الله الحى القيوم”، هو القادر على أن يعيد الشباب، وأنا لم أره أبدا إلا شابا. 

أما “صنت نفسى عما يدنس نفسى” فبرغم من أنه فعلا صان نفسه عما يدنس نفسه، وقليل ما هم، إلا أننى رجحت أن البيت الثانى هو الذى استدعى هذا البيت دون أن يظهر، وهو البيت الذى يقول فيه البحترى :

وَتَماسَكْتُ حَينُ زَعزَعني الدّهْــرُ التماساً منهُ لتَعسِي، وَنُكسي

هذا الرجل-محفوظ- تماسك حين زعزعه الدهر، تماسك تماسكا لا أعتقد ان له مثيل بالدرجة التى وصلتنى، فإن كان له مثيل فأنا أحب ذلك، لا أميل فى رؤيتى له أن أعتبره استثناء للقاعدة، هو لم يكن يعتبر نفسه استثناء، لم يكن يحب الاستثناء، وكان يفرح حين أقول له إن مصر قادرة على إفراز عشرات “نجيب محفوظ”، ويدعو لى،

رجعة إلى البيت الأول قبل  وتماسكت… يقول:

صُنْتُ نَفْسِي عَمّا يُدَنّس نفسي، وَتَرَفّعتُ عن جَدا كلّ جِبْسِ

أما الجـَدَا، فهو العطيّة :  منحه عطيَّةً؛ جداه مبلغاً من المال مكافأة على جهوده

وجدا عليه: أعطاه الجدوى.- وجداه: سأله عطيّة، أو سأله حاجة

ما تزال بلدان العالَم الثالث تجدو البلدان المصنَّعة.

وأما الجِبس فقد اخترت المعنى الذى ترفع عنه محفوظ وهو: الفاسِقُ والرَّدِيءُ والجَبانُ واللَّئيمُ

محفوظ لم يترفع عن نوبل، برغم الشبهات التى تدور حولها، فهو قد رفع من شأنها، واستعجلوا التمادى فى تلوثها، وهو لم يترفع لا عن جوائز الدولة،  ولا عن أى تقرير طيب كريم، من أول جائزة قوت القلوب الدمرداشية، لكن ، دون أن يحكى لى: هو قد ترفع عن عطية كل لئيم، وكثير ما هم (بما فى ذلك بعض دور النشر).

تنوية: (لا يحسبن أحد أن حضور الاستشهادات والاستطرادات هى دليل على موسوعية أو ما شابه، الفضل فى أى من ذلك هو لما اتحفنا به سيدنا جوجل – جزاه الله خيرا – من ذاكرة عامة، جعلت الأمّين أمثالى لا يحتاجون لذاكرة خاصة مثل تلك التى كانت عند المرحوم “حسن الكرمى” فى إذاعة لندن العربية لسنوات: برنامج قول على قول حتى الستينيات).

* * *

ص 5 من الكراسة الأولى

5نجيب محفوظ

…..

…..

نجيب محفوظ

يعجبنى الصدق فى القول

والإخلاص فى العمل

وأن تقوم المودة بين الناس

مقام القانون

نجيب محفوظ

29-1-1995

 

القراءة

لا أظن أن أحدا يمكن أن يمثل ” الصدق فى القول، والإخلاص فى العمل مثل هذا الرجل”، ما وصلنى أنه كان يجسد هذا القول فى حياته، سلوكا معيشا، وليس حكمة أخلاقية وعظية، الصدق والعمل يعطيان للوجود معنى، ما وصلنى هو أنه هو شخصيا تجسيد لهما،

كنت أكتب هذا الأسبوع (1/1/2010) دراسة نقدية عن مقارنة بين سيميائى كويلهو ورحلة ابن فطومة لمحفوظ، وتكررت طرح هذه القضية (الصدق/العمل) فى كل الدور التى زارها قنديل (المشرق، والحيرة، والحلبة، والأمان والغروب)، الصدق فى القول والإخلاص فى العمل. اقتصرت دراستى النقدية البادئة على التفرقة بين “البحث عن الذات”، لتأكيد روعة وجواهر الذات الداخلية الكنز” عند كويلهو، فى مقابل “تخليق الذات” متكاملة حالة كونها تكدح كدحا نحو “دار الجبل” لرؤية وجهه فيما وراء الأفق، أى الفرق بين تأكيد الذات، (كويلهو بخلفيته الثقافته)، وبين تخليق الذات (محفوظ بخلفيته الثقافيه، وليس بالضرورة ثقافة ناسه الآن). المهم هو أن هاتين القيمتين “الصدق” و”العمل” قد تأكدت قيمتهما طوال رحلة ابن فطومة، وإن كنت لم أتناولهما بشكل خاص (مثل قيم أخرى كثيرة سوف أعود إليها) فقد اكتفيت بمقارنة “غاية”، و”توجه”، و”نهاية”، كل من العملين، مما سوف ينشر فى العدد الثانى من دورية نقد نجيب محفوظ قريبا.

أما “أن تقوم المودة بين الناس مكان القانون”، فهذه قضية جوهرية أخرى شغلتنى طول حياتى، وقد ناقشته فيها كثيرا كثيرا، حين يدافع (حتى التقديس تقريبا) عن الديمقراطية، وحقوق الإنسان، فأنا أتخذ موقفا ناقدا (رافضا فى كثير من الأحيان) أن تكون الكلمات المكتوبة، والرأى الظاهر، والمواثيق المعلنة المدعمة بالقانون هى غاية ما نرجو، أو كل ما يمكن، لتنظيم تواجدنا معا، وكان يكرمنى الأستاذ مبدئيا بقبول تحفظاتى، لكنه يبادر بقرص أذنى حين أعجز عن طرح بديل أفضل، وينبهنى أن أفضل الأسوأ هو الأفضل، وأنتبه بعد ذلك أن هذا قد يصح على مستوى تنظيم المجتمع، وتشكيلات السياسة، أما فى المجال الفردى، والشخصى، والحميمى بين الناس، فها هو يأمل “أن تقوم المودة بين الناس مكان القانون”، ياه !! يا شيخى الجليل، لم لم تقل لى ذلك أثناء حدة نقاشنا، كم دافعتُ أنا عن العرف ومجالس التحكيم الأفضل من دور القضاء، وعلاقة الطبيب بمريضه الأقوى من أى تنظيم قانونى أو تأمينى أو حقوق إنسانى، لكن يبدو أن هذا مستوى، وذاك مستوى. البشر لا يكونون بشرا بالاحترام المطلق للقانون على حساب علاقاتهم الأعمق والأرقى، وإنما يكونون كذلك “حين تقوم المودة بين الناس مقام القانون” ، لاحظ أنه لم يقل: حين تحل المودة بين الناس محل القانون!!!!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *