عن المنهج وهذه اللغة: القادِرَةُ الحضارة: ” والظلمُ مِـنْ شِيَمِ النفوسِ……” ( 8 من ؟؟؟ )
نشرة “الإنسان والتطور”
27-4-2011
السنة الرابعة
العدد: 1335
عن المنهج وهذه اللغة: القادِرَةُ الحضارة:
” والظلمُ مِـنْ شِيَمِ النفوسِ……” ( 8 من ؟؟؟ )
مقدمة:
يبدو أننى تورطت فعلا، تورطت شاكرا حامدا،
هؤلاء الأصدقاء جدا من المرضى والزملاء الأصغر المتدربين، ثم من أصدقاء الموقع المشاركين قد فتحوا علىّ، علينا، فيضا من المعرفة، طريقا إلى المعرفة، يبدو أنه كان لا بد أن يفتح، وإن لم يقع أبدا فى أولوياتى، لندرس معا، ومن واقع التجريب بمنهج آخر، فى ثقافتنا الخاصة جدا، ما ينبغى أن ندرسه.
نبهت قبل ذلك بوضوح، ومرارا أن اللغة هى كائن حى، وهى وعاء الوعى، وفى نفس الوقت هى نسيج الوعى، كما أعلنت أننا إذا كنا نريد أن نضيف إبداعا بشكل عام، أدبيا أو نفسيا (علم نفس أو طب نفسى أو ما إلى ذلك)، فلا بديل عن البداية من لغتنا التى هى تاريخ بقدر ما هى حاضر، وأيضا بقدر ما هى حضارة، وفى نفس الوقت رفضت باكرا تماما تعبيرات ومفاهيم مثل “تعريب الطب النفسى”، بل رفضت أن تكون بداياتنا هى الترجمة، حيث وصلنى أننا ربما بذلك سوف نضطر أن نستعير نبض ثقافة أخرى، ونحشر فيها وعى ثقافتنا حشرا، (مع الاعتراف بضرورة الترجمة، للحوار وليس للبحث عن مرادف يستحيل أن يترادف)،
وقد طرحت هذه الأطروحة فى أكثر من موقع، وأكثر من مجال، وأكثر من مرة، محاولا أن أبين من خلالها اختلافى الشديد حول نقطة البدء، وأن علينا أن نبدأ من ثقافتنا، تاريخا وحاضرا، ثم نبحث بعد ذلك (وليس قبل ذلك) فى النظر فى لغات أخرى، جميلة أيضا وعزيزة على أهلها، لنلتقى أو لا نلتقى، آملين طول الوقت أن يثرى بعضنا بعضا إذا أحسنـَّا الحوار وصدقنا الاحترام المتبادل.
استشهدت فى أطروحتى الباكرة مخاطر الترجمة (مسؤولية الترجمة بين تسطيح الوعى واختزال المعرفة) هذه بـظاهرة “الحزن” أساسا، رافضا تسميتها بالاكتئاب، مع تناول أقل لظاهرة “الهم” بدءا من لغتى وثقافتى أيضا، لكن لم يخطر فى بالى أبدا – تقريبا أبدا – أن أستشهد بما هو “ظلم”، ربما لأنه أقل تواترا كعرض مرضى، اللهم إلا ما يتصل بضلالات الاضطهاد والمطاردة، مع أننى لاحظت أن تناول الظلم، والحديث عن الظلم، هو أكثر تواترا عند عامة الناس (الأسوياء أو العاديين) وخاصة فى مجتمعاتنا التى يعتبر حكامنا أن حقهم فى ظلم شعوبهم، هو حق إلهى أو شبه إلهى ، حفاظا على مصلحتهم (مصلحة شعوبهم!! ولا مؤاخذة !!!)
ما علينا.
ظل الأمر كذلك بالنسبة لأولويات اهتمامى بثقافتنا والبدء من وجداننا الخاص جدا، حتى تخلّقت “لعبة الظلم” هذه التى انبثقت فى إحدى جلسات العلاج الجمعى كما ذكرنا 5-4-2011، ثم وجدنا أنفسنا، من خلال هذه اللعبة نستدرج إلى ما وصلنا إليه حالا.
كان الأوان قد آن، كما وعدت أمس، أن أبدأ فى دراسة المادة المتاحة خلال سبعة نشرات متتالية (من 5-4-2011 // 6-4-2011 // 12-4-2011 // 13-4-2011 // 19-4-2011 // 20-4-2011 إلى 26-4-2011) وإذا بى أستدرج – بفضل سيدنا جوجل جزاه الله خيرا – إلى هذه الإضافة الأساسية التى أشعر أنها قد تمتد لتحتل مساحة أكبر مما أتصوره لها حالا.
بدأت بالمعلقات، ولم أكمل، فقد توقفت عند زهير بن أبى سلمى وهو يقول:
وَمَنْ لَمْ يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بسلاحه يُهَـدَّمْ وَمَنْ لا يَظْلِمْ النَّاسَ يُظْلَـمِ
ولم أتوقف عند طرفة بن العبد وهو يعانى المضاضة من ظلم ذوى القربى، بل لعلنى كنت أقرب إلى رفض تمييز ظلم “ذوى القربى” عن ظلم “ذوى السلطة”، فظلم ذوى القربى قد يكون نقدا، أو تنبيها، أو عدلا خفيا، أما ظلم ذوى السلطة فخذ عندك.
ثم قفز إلىّ أبو الطيب المتنبى بإصرار طموحه، فنقلنى بضعة قرون وهو يقول:
والظلم من شيم النفوس، فإن تجد ذا عفـّةٍ فلعلـّةٍ لا يظلمُ
وإذا بزميل فاضل من السعودية هو أ.د. إبراهيم حسن الخضير استشارى الطب النفسى، قد تناول هذه القضية بذكاء وإحاطة فى مقاله المنشور بصحيفة الرياض بتاريخ 2 ديسمبر 2005 ، يعرض لنا من تاريخنا ليس فقط ما يؤكد هذه الطبيعة البشرية، وإنما يبين بتواضع رائع كيف ينقلب الإنسان من مثالى طيب، إلى مستبد طاغ شديد القسوة، فنتبه إلى أن هذه النقلة يمكن أن تفسر لنا بعض ما يجرى منا وبنا وحولنا هذه الأيام ونحن نكتشف حجم القتل والسحق والقهر الذى كان (وما زال) يمارسه حكامنا حتى اضطرونا إلى أن نزيحهم هكذا، دون أن نكون متأكدين من أن من سيأتى بعدهم، لن ينقلب مثلهم (فالظاهر أن التحول وارد ما دامت آليته جاهزة) وأعتقد أن الباحث ما فى تاريخ أغلبهم ربما يكتشف بدايات مثاليه ثوريه أخلاقية لا جدال حولها.
إن لم يكن هناك نظام داخلى وخارجى، بمعنى القانون العادل المطبق فعلا من ناحية، وفى نفس الوقت الردع الدينى والسعى الإيمانى من ناحية أخرى، ليحول كل ذلك دون ذلك، فالأغلب أن “أى واحد طيب جدا”، قد يتحول إلى “حاكم قاتل جدا”
ولنستمع أولا – شاكرين – إلى الزميل أ.د. إبراهيم حسن الخضيرمنذ ست سنوات،
ثم على من يريد أن يطبق الدروس المستلهمة من مداخلته على حكامنا الحاليين المخلوعين، أو الذين سوف يخلعون، فليفعل، شريطة أن يحصل على تاريخهم المثالى (غالبا) قبل أن يتولوا القهر (أعنى أن يتولوا الحكم)
يقول الزميل الفاضل فى مقاله:
الأمثال في التاريخ كثيرة، فقد فوجئ الكثيرون بتغير شخصيات تغيراً، جذرياً..! فمن شخص طيب القلب، هادئ الطباع، مسالم لا يحب سفك دم الحيوانات، تحول بعض الأشخاص إلى النقيض عند تسلمهم السلطة وأصبحوا في مراكز الحكم!
الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، كان قبل توليه الخلافة، شخصاً، هادئ الطباع، لطيف المعشر، يخالط الفقهاء والعلماء حتى أطلق عليه بعض من يسخرون منه لقب «الفقيه» نظراً لبعده عن الظلم والانخراط في ما كان يقوم به الخليفة الأول أبو العباس السفاح، من جبروت، وتقتيل الناس، مستعيناً بذلك بقائد جيوشه أبو مسلم الخرساني، الذي كان أحد دعائم قيام الدولة العباسية، وله المثل الشهير (ليس لعدوك مكان أكثر أماناً من القبر..!) وهو الذي قتل بي امية شر قتلة.
كان أبو جعفر المنصور رجلاً متواضعاً، لا تهمه المظاهر، حتى عندما خرج إلي الحج وكان هو أمير الحج ذلك العام، وكان ولياً للعهد، خرج في عدد لا يزيد على الخمسمائة رجل، وكان يسافر ويتنقل بهدوء، ولا يعلم عنه أحد، بينما كان أبومسلم الخرساني قد خرج للحج ومعه ما يقارب عشرة آلاف من المرافقين، وكان عندما ينزل ينحر الإبل والأغنام ويحفر الآبار ويطعم الناس.، ويعطي العطايا! فكان شتان بين أمير الحج الخجول، الذي يسير ولا أحد يعرف عنه شيئاً! فلا هو بالذي يعطي العطايا ولا بالذي ينحر الابل والغنم، ولا يسير معه سوى خمسمائة شخص فقط، رغم انه أمير الحج وولي العهد!
كان الناس يخشون ان يضيع ملك بني العباس على يد هذا «الفقيه» فالحكم لا يراد له – في ذلك الوقت – شخصاً، بهذه الصفقات، وإنما يراد له شخصاً كأبي العباس السفاح، الذي يقتل أعداءه، بأبشع الطرق، ولا يتورع في سبيل تثبيت حكمه من قتل كل من له علاقة بالأمويين!
عندما تولى الخلافة أبو جعفر المنصور، استخف به الكثيرون – من أهل العراق – العارفون ببواطن الأمور، خاصة قائد الجيوش، الفارسي، الذي كان يحارب لإنهاء الدولة الأموية طمعاً في إحياء الدولة الفارسية، وكثر القول عن ان نهاية دولة بني العباس سوف تكون على يد هذا الفقيه الخجول، العادل، المسالم، الذي لا يظلم أحداً!
لكن ما ان آلت الأمور إلى أبو جعفر المنصور، حتى تغير تغيراً كاملاً! وأصبح أكثر جبروتاً من الخليفة الذي سبقه.. حتى أنه ذبح أبو مسلم الخرساني بيده، بعد ان أحكم خطة قوية لقتل هذا الخرساني الذي كان الناس يعتقدون بأن من الصعب على العباسيين التخلص من هذا القائد والذي تحت لوائه الجند المواليون له من بلاد الفرس وغيرهم من غير العرب، الذين كان لبعضهم نقمة على العرب فحاربوا مع أبي مسلم الخراساني رغبة تكوين دولة غير عربية بعد ان قضى أبو جعفر المنصور، والذي كان الناس يستضعفون على على أبو مسلم الخرساني أرسل الجيوش وقضى على عمه عيسى بن موسى، ثم سير جيوشاً للقضاء على العلويين في الحجاز وفي كل مكان كانوا يتواجدون فيه. وبعض المؤرخين يرون ان هو المؤسس الحقيقي للدولة العباسية، كذلك هو الذي بني بغداد وجعلها عاصمة للخلافة الإسلامية.. هذا التغير لم يكن يطرأ على فكر أي شخص ممن عرفوا أبو جعفر المنصور، لكن دائماً لا يجب الحكم على الشخص، وهو في موقف مختلف، خاصة في ما يتعلق بالسلطة.
ثم إن الزميل الفاضل أضاف ما يدعم رأيه بعرض موجز لبحث طريف أجرته جامعة ستانفورد كاليفورنيا موجزه أن جماعة الباحثين فى هذه القضية:
“….. قامت بإنشاء سجن وهمي، لدراسة نفوس الطلاب عندما يكونون سجانين وعندما يكونون سجناء : فاختاروا أربعة وعشرين طالباً وطالبة من المتطوعين، وقسموهم إلى فئتين: “حراس”، وهم فتيان وفتيات يتمتعون بأخلاق عالية، رفيعة. وسجناء (الباقون) وبعد أسبوع واحد، اضطروا إلى ايقاف التجربة.
الحراس والذي كانوا يتمتعون بأخلاق رفيعة وعالية، تحولوا إلى وحوش حقيقيين، بات استخدامهم للتعذيب واهانة زملائهم أمراً روتينياً، بل إنهم كانوا يقومون بتعذيب زملائهم تعذيباً جنسياً، ولا يرون غضاضة في ذلك،
بعد ايقاف التجربة كان على الطلبة الذين شاركوا في هذا العلاج ان يتلقوا العلاج النفسي لفترة غير قصيرة للتخلص مما علق بأنفسهم من صفات لم يكن أحد يصدق بأن هذه الصفات سوف تصبح جزءاً من طبيعة شخصيةالمتطوعين. فرغم الاختيار التطوعى وانتقاء الأشخاص على أنهم من ذوى الأخلاق الرفيعة الحميدة، إلاّ ان الوضع جعلهم يصبحون جلادين بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة.. فرغم أنها تجربة، وان السجناء زملاء لهم فى الجامعة إلاّ ان ذلك لم يمنعهم من ارتكاب أبشع أنواع التعذيب ضد زملائهم، رغم أنهم كانوا ضمن تجربة دراسية فى علم النفس.
تعقيب:
مع احترامى الشديد لاستشهاد الزميل بالتاريخ (برغم أن علاقتى بالتاريخ واهية كما تعلمون) إلا أنى تحفظت لأقصى درجة على هذا البحث ونتائجه هكذا، ربما لأنه ليس عندى تفاصيل التجربة، ووقتها القصير هكذا (فالكاتب لم يثبت المرجع تحديدا، وهذا قد لا يعيبه لأن المقال للشخص العادى فى صحيفة سيارة)
ثم يختم الزميل الفاضل مقاله الجيد بأنه:
لعل تجربة جامعة ستانفورد تكون درساً، لمن يعتقد بأن الأخلاق والمبادئ لا تتغير.. فهؤلاء الطلبة، تم تقسيمهم عشوائياً، وبعد أسبوع فقط تم ايقاف التجربة نظراً لما ارتكبه الزملاء في حق زملائهم الذين كانوا يمثلون دور السجناء.
عن المنهج:
الأن نجد بين أيدينا ثلاث مناهج تعرض لتناول نفس الظاهرة تقريبا:
الأول: المنهج التاريخى، وهو جيد مع التحفظ والتحذير من التعميم.
الثانى: المنهج التجريبى، مع رفضى له تماما فى حدود ما وصلنى هكذا.
الثالث: المنهج الذى اتبعناه باستعمال الألعاب ونسميه مؤقتا “منهج استثارة الكشف التلقائى”.
هذا وقد عدت إلى هذه الثروة التى بين أيدينا الآن والتى نشرت تباعا على عشر نشرات متتالية عن ماهية الظلم وعلاقتنا – بشرا– به، وهى التجربة التى نبعت من واقع ممارسة متواضعة، مع زملاء مبتدئين، ومرضى من عامة الناس جدا، وأصدقاء طيبين، ورأينا – حتى قبل التفسير– كيف يمكن أن تثرى هذه التجربة، بمنهج آخر، فى ثقافة أخرى، مفهومنا عن النفس الإنسانية فيما يتعلق بهذه الظاهرة (كمثال)
وللموضوع بقية وبقايا، وخاصة بعد استشارتى القرآن الكريم فى هذه المسألة (دون أية شبهة للعبث المسمى: التفسير العلمى للقرآن)
وبعـد
أنا لست متأكدا كيف سنواصل الأسبوع القادم
أعينونى افادكم الله.
2011-04-27