الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / عن الفصام (3) عن القشرة والفطرة والتعدد والواحدية!

عن الفصام (3) عن القشرة والفطرة والتعدد والواحدية!

“يوميا” الإنسان والتطور

26-11-2007

عن الفصام (3)

عن القشرة والفطرة والتعدد والواحدية!

أثارت يومية أمس تساؤلات واحتجاجات كثيرة، لغموض فكرة التعدد فى واحد، وعلاقة ذلك بالقشرة والفطرة، التى ذكرناها فى حالة عصام يومية 4-11-2007 ، ثم علاقة هذا وذاك بحركية النمو، وهذا الغموض هو بعض ما أعلنت تخوفى منه أمس.

وجدت اليوم أنه من المناسب أن أقوم بتحديث بعض أول مقال (رقم  1) فى سلسلة مقالات الصحيفة السرية التى كانت بعنوان “أنا واحد ولا كتير”، وهو المقال الذى يوضح أساس هذا المفهوم (التعددية والواحدية) ثم أقوم بربط محدود لفكرة “القشرة” و”الفطرة” مع “حركية النمو” و”تعدد الذوات”.

نبدأ أولا بما انتهينا إليه فى الحالتين عصام ثم علاء.

أولاً: الفرض: فى حالة عصام(1)

الفرض الذى أنهينا به عرض حالة عصام كان كالتالى:

شاب (23سنة) نشأ فى أسرة مزدحمة شكلا، مُفرغة موضوعاً، تفتقد إلى أى دفء حقيقى يضم أفرادها إلى بعضهم البعض، لايوجد بها تاريخ عائلى إيجابى لمرض نفسى أو عقلى خطير، الوالد حاضر حضوراً جافا ملتويا، يعلمّ الأقرب إليه من الأولاد التجسس على الباقين، “عصام” ثم لاحقا “أخته الأصغر”.

 الأم ضعيفة سلبية متنحية مقهورة، جافة “متلصمة”.

عصام –مثل أى واحد- له داخل طبيعى سليم هو الفطرة (كما خلقنا الله) لكن أحداً لم يتعهدها، لا الأهل ولا المجتمع، هذه الفطرة تغطت بقشرة تربوية لامعة، لكنها –الفطرة- ظلت تتعامل من وراء القشرة مع مايصلها من برمجة بطريقتها البسيطة الصحيحة.

القشرة تنجح وتتمم صفقاتها مع الوالد

والفطرة “تعرف” وتدرك، وتتعامل مع المعلومات باستيعاب سليم

 تتصادم الفطرة مع القشرة فى مرحلة باكرة (الابتدائية)

 يظهر الصداع، ثم يختفى ربما بالبعد بينهما (بين القشرة والفطرة) مع استمرار نشاط كل منهما.

تستمر القشرة فى النجاح الظاهر، والصفقات الداعمة الخبيثة (بين الابن و الأب: التمييز والتجسس) وتستمر الفطرة فى النشاط والتماسك والمعرفة السليمة والادراك الداخلى.

تنجح الفطرة حتى فى برمجة المعلومات والإسهام فى أداء الامتحانات، فيفسرها الابن حامدا فضل الله، لكن يبدو أن الداخل تجاوز هذا المستوى سرا، وفى نفس الوقت أجّل إعلانه.

حادث دال خطير (صفعة مهينة من شخص عزيز أمام غرباء) يحدث بالصدفة يهز هذه التركيبة برمتها،

 يفسد الصفقة الخبيثة الجارية،

 فتختل صورة الأب ليظهر على حقيقته بلا رجعه

 فتفسد الصفقة،

فيحدث التباعد بين الإبن والأب (الزعل: سنة) دون ظهور الأعراض بعد،

 يجتنب الابن أباه، لكن الكسرة قد حدثت فى الداخل ، فطالت الفطرة التى انفصلت، وارتدت، وانطلقت لحسابها البدائى مخترقة القشرة المنفصلة..

 الفطرة وحدها لايمكن أن تواصل إنجازاً واقعياً ظاهراً إلا إذا تكاملت مع أجهزة الأداء السلوكى (القشرة المتصلة) .

لكن الرسالة تصل أن القوة الفطرية الداخلية قد انطلقت من بين شقوق الكسرة (المنفصلة)

تتعملق قوة الدفع ولا تتوقف عند حد استعادة تلقائية الفطرة وأحقيتها، بل تتفاقم حتى تنقلب الفطرة إلى تسليم قدرى أعمى،

ومن ثَمَّ تفقد الذات أبعادها،

 يتضاعف التمادى فى الانفصال وتتجلى سلبية مطلقة لقوى لم تعد هى القوى الضامة المساعدة، ولكنها أصبحت قوى شكلية هابطة من المجهول، وإن لم تفقد فى شكلها الظاهرى معالم الوصلة وتظل فى نفس الوقت تتعامل بنفس الألفاظ “الأذان، واللغة الدينية المسطحة”

تشوهت الفطرة على أنقاض القشرة وظهر الفصام.

ثانياً: خلاصة حالة علاء

جاءت خلاصة حالة علاء (2) أمس هكذا:

إن ما يَجْمَعُ الكثيرين (الكتير) داخلنا هو تماسك ما هو خارجنا وانتظام إيقاعه وسلامة رسائله، “خارجنا”

هذا ما ينغبى أن يبدأ بالأسرة: بالأم والأب،

 علاء هنا لم يصله طفلاً إلا فراغ الأب، ودوران الأم حول نفسها لنفسها فى المحل،

 كيف إذن يمكن أن تتناغم مستويات وعى علاء (شخوصه) على درب النمو.

 إن ذلك النشاز من حولنا لا يسمح لأى منا أن يؤلف لحنه الخاص المنساب إلى اللحن الأكبر يتناغم مع الوجود البسيط الحقيقى.

 إن التغطية الخارجية  للهشاشة المتراكمة، بالضبط والربط والعمل والإنجاز فقط،  قد تؤجل التناثر، ولكنها قد تخمد الحركية الداخلية حتى يتوقف النمو برغم ظاهر السلامة.

إن مثل هذا الجنون الذى يشتهر باسم “الفصام” إنما يعلن خيبتنا فى استيعاب “الكثير فينا”،

 كما أن التغطية بأثقال الكبت والدفاعات طول الوقت إنما تعلن خيبتنا فى استيعاب الحركة داخلنا.

لا مفر من اتاحة الفرصة للحركة المتنامية بين الداخل والخارج طول الوقت على كل المستويات الممتدة.

قبل الحديث عن ماهية الفصام

ونحن على وشك تقديم نظرى عن ماهية الفصام الذى تتفكك فيه كل الروابط، ويتعدد التوجه، كما يتشتت أو ينعكس مسار النمو، وجدنا أنه من الأنسب أن نتعرف على أصل فكرة الوحدة والتعدد فى الكيان البشرى، والتى هى تختلف عن الشائع عن مفهوم “الشعور واللاشعور”و “الهو والأنا” … الخ.

وفيما يلى مقتطف من أول حلقة فى هذه السلسلة (أنا واحد ولاّ كتير) لشرح الفكرة:

الوحدة والتعدد فى الكيان البشرى

.. أنا واحد؟  ولاّ “كتير” ؟!؟

أغلب النظريات القائمة، حتى نظرية التحليل النفسى الفرويدى، تتعامل مع الإنسان باعتباره وحدة متكاملة قائمة لها معالم وحدود، قد يكتفى اتجاه علم النفس  السلوكى بظاهر التصرف المعلن، بل ويرفض ما دون ذلك بحسم مسئول، وقد تمتد الرؤية إلى اعتبار أن الظاهر ليس إلا الشعور (الأنا) الذى يحمل بداخله ما سمى اللاشعور، بتقسيماته وغرائزه ومكبوت أحداثه إلخ، وأن الأخير (اللاشعور) يعبر عن نفسه من خلال ميكانزمات تتجلى فى الشعور بطريقة ملتوية.

لكن نظريات أخرى انتبهت إلى أن ما بالداخل ليس مجرد قوى خفية، وغرائز متحفزة، وذكريات ونوازع مكبوته، بل هى شخوص متكاملة بديلة، وإن كانت كامنة فى لحظة بذاتها، لكنها قادرة على الظهور بالتبادل، أو فى الحلم، أو بطرق غير مباشرة، وإن كانت ليست بالضرورة ملتوية (ميكانزمات) .

توضيح من العلاج الجمعى   

فى العلاج الجمعى بالذات نضع هذا الاحتمال (أن كل واحد منا، بما فى ذلك المعالج) هو أكثر من واحد، ومن خلال ما يسمى “الألعاب”، وأيضا المينى دراما (السيكودراما شديدة الإيجاز) يقوم المريض (أو المعالج) بممارسة الدور المفترض لذواته المتعددة، مثلا:

حين يحكى أحدهم عن طيبته ومثاليته وموفور عطائه، فنفترض أن به أيضا “شخص” عكْسُ ذلك، وأن هذا لا يعيبه، فينكر هذا الاحتمال من حيث المبدأ، فنعرض عليه – مثلما نعرض على بقية المجموعة – أن يمارس دور الأنانى الحقود مثلا، فينكر أكثر، فنصر أن هذا مجرد تمثيل، وقد يقبل بتردد عادة، فنجعله يتحاور مع نفسه (الطيب مع الحقود)، أو يقوم أحد أفراد المجوعة، أو المعالج ، بدور أحد هذه الذوات، ولنفترض ان اسمه محمود، فيكون هناك محمود الطيب ومحمود الحقود، ويدور حوار تمثيلى يؤلف فيه كل “محمود” ما يعن له من نص تلقائى، ثم نطلب من الممثلين، سواء كان المريض يحاور نفسه أو كان أحد افراد المجموعة (أو المعالج) يمثل أمامه، نطلب من كل منهما أن يتبادلا الأدورا، بمعنى أن الذى كان يلعب دور الطيب، يأخذ دور الحقود، والذى يلعب  دور الحقود يأخذ دور الطيب، وتحدث مقاومة متوقعة (عادة أقل من الأولى)، وتستمر الدراما (دقيقة أو بضع دقائق) ثم نطلب من “محمود” أن يرى نتيجتها، وعادة يعترف بصدق أنه اكتشف فعلا ذلك الشخص الآخر، وأنه فى المتناول، وأنه لا يخجل منه، ولا يخاف من طغيانه… الخ يتكرر مثل ذلك –وغيره – فى نفس الاتجاه، حتى تتعود المجموعة عليه، مطمئنة إلى أن هذا التفكيك ليس هو نهاية المطاف، وإنما هو خطوة نحو قبول بقية ما هو “نحن” فيما هو “أنا”، كخطوة نحو التكامل على مستوى أعلى دون إصرار على الاكتفاء بالظاهر الذى هو ليس إلا بعضنا.

الذى حدث فى هذا المثال الذى سوف نضربه حالا أن أحد افراد المجموعة ، وليكن اسمه محمود أيضا، قَبِلَ – بدرجة ما –  حركية تعدد ذواته بعد مرور خمسة أشهر من بداية المجموعة (مرة كل أسبوع)، حتى تصالح مع نفسه جزئيا، وانتظم فى عمله، إلخ. لكنه فجأة، حضر الجلسة الأخيرة (منذ أسبوع) وهو ينكر هذا الاحتمال (التعدد) من أصله ، ينكره جملة وتفصيلا. هذه الخطوة متوقعة وتدل على مقاومة، تدل بدورها على جدية وصدق مسار العلاج (النمو النفسى)، وفيما يلى مقتطفات من نص موقف المقاومة هذا كما سجل بالصوت والصورة (بإذن المرضى وإقرارهم طبعا مع تغيير الأسماء)

النص

الدكتور (المعالج الرئيسى: كاتب المقال) كان قد عرض على محمود تفسيراً لبعض جوانب حالته، ومن ضمنها احتمال التعدد العشوائى (والمتنافر أحياناً)، فراح فى هذا المقطع من المقابلة يذكّره بذلك، وسوف يشار إليه بـ”,,,” تجنبا لتكرار الاسم):

الدكتور “،،،” :

إنت عملت حاجة يا محمود تشككنى فى الست شهور اللى فاتت، رغم الحمد لله استمرار التحسن الظاهرى، زى ما تكون لغيت حاجة حصلتْ، وبإصرار

محمود :

 دى أفكار غلط

الدكتور “,,,”:

 إيه هيّه إللى غلط؟

محمود:

أنا مش شايف غيرمحمود واحد، محمود إللى مش

عايز يروح الشغل، محمود المريض، محمود التعبان.

الدكتور “,,,”:

 يا محمود أنا مش جى من بيتنا عشان  أسمّع لك نظرية حافظها، دا كلام حاصل قصاد عنينا، مش فاكر؟ كان فيه حاجات تانية أثناء التمثيل، إنت شُفْتها بنفسك فينا وفْ نفسك ، واحنا بنتخانق مع بعضينا، مع نفسنا، واحنا بنلعب الألعاب (أنظر بعد) ، حد يشوف ده كله ، وبعد خمس شهور ، يروح شاطب عليه مرة واحدة؟ وقايل أنا واحد وخلاص؟

محمود:

 لأ مش عملية واحد، أنا فعلا واحد

الدكتور “,,,”:

 طيب واللى ظهروا قبل كده فى الجروب (المجموعة) ؟ سرّبتهم؟

محمود:

أنا مقتنع إن محمود ده محمود واحد

الدكتور “,,,”:

 هوا أنا رفضته؟ بس اللى انت شفته جنب ده راح فين؟

محمود:

 دى كانت أفكار بس

الدكتور “,,,”:

 يعنى ، ما احنا ساعات بنعامل الأفكار كإنها أشخاص، مش كده؟

…….

محمود:

لا ما ينفعشى

الدكتور “,,,”:

ما هى نفعت، ياللا نرجع ناخد الفكرة ونعملها شخص ونشوف: محمود إللى عايز يروح الشغل، ومحمود اللى مش عايز يروح الشغل، نرجع تانى للتمثيل، أنا معاك وزيك..

محمود:

حضرتك أستاذ الطب النفسى، وأدرى منى..

الدكتور “,,,”:

 مش مسألة استاذ، إحنا بنلعب، واللى يسرى عليك يسرى علىّ، لو قلت لى طلع يحيى اللى عايز يروح الجروب ويحيى إللى مش عاوز ييجى الجروب، وبيقول ما فيش فايدة، حاحاول بجد..

محمود:

يعنى أنا كام محمود؟ عشرين محمود يعنى ؟

الدكتور “,,,”:

نبتدى بتلاتة يا شيخ، باسمالله

محمود:

 لا ألفين أحسن

الدكتور “,,,”:

 يا راجل بلاش هرب، ماتصعبهاش وتتريق، النظريات بتقول تلاتة أربعة، إنما إحنا شفنا كتير من واقع إللى احنا عشناه سوا

محمود:

خليهم خمسة

الدكتور “,,,”:

يا صلاة النبى، إيه الكرم ده؟ طب يالله عدّهم

محمود:

 فيه محمود إللى عايز يبقى كويس، ومحمود العيان نفسيا، والوسخ ، والسليم، والكَانن.

الدكتور “,,,”:

كتر خيرك، إوعى تخاف أو ترجع ، طيب إيه رأيك نشوف بقية زملاءنا فى المجموعة بتشوف الخمسة دول، ولا أكتر؟ ولا أقل؟ كل واحد يقول هو بيستقبل مين فى محمود؟ أنهو محمود؟

(يعرض على أفراد المجموعة أن يقول كل واحد أنا شايف محمود الـ”كذا”.

آنسة (م) 24 سنة :

مش فاكرة

سيدة (ص) 45 سنة :

محمود الضعيف

شاب (ح) 25 سنة:

 محمود الطيب

شاب (ن) 28 سنة :

 محمود إللى بيسأل على طول

شاب (ع) 22 سنة:

 محمود اللى مش منتظم فى الجروب

رجل (س) 36 سنة :

محمود المغرور

محمود (مقاطعا) ممكن أقول للأنسة (م) (الأولى 24) تقول إيه ما دام هيه “مش فاكرة”.

الدكتور “,,,”:

طبعا ممكن

محمود :

 محمود إللى ما عندوش إقبال على الحياة

الدكتور “,,,”:

 شفت ابتديت بخمسة، وزودت السادس على لسان زميلتك، بقوا كلهم حداشر، وكنت ناكر ده كله، كنت حاتوديهم فين ؟

محمود :

كفاية كده يا دكتور؟

الدكتور “,,,”:

ليه بقى ؟ المهم الحكاية طلعت أفكار وصفات، ولاّ بنى آدمين همه انت؟

محمود:

هم قالوا محمودات

الدكتور “,,,”:

 مش مهم هم قالوا إيه، إيه اللى وصلّك إنت ؟

محمود:

 أنا عايز أبقى محمود واحد

الدكتور “,,,”:

طبعا، حد قال حاجة، إللى عايزه شىء، واللى موجود شىء، عندك حق، ما انا برضه عايز أبقى يحيى واحد فى لحظة معينة، إمال حاعالجك إزاى، أو حانتفاهم ازاى؟

محمود:

 أصل يا دكتور..، أنا حافضل كده

الدكتور “,,,”:

 ماشى بس نقبل الموجود، ونشوف حانتصرف ازاى. فى لحظة معينة لازم تبقى واحد،وأنا أبقى واحد، لكن حقيقة الأمر كل واحد منا الظاهر إنه كتير، يبقى علينا نتحمل مسئوليه ده، مش كده ولا إيه ؟

عبد الغنى (مريض 24 سنة) :

على فكرة، أنا برضه بيحصل لى نفس الموضوع، فى لحظة أبقى كويس وفى لحظة أتغير

الدكتور “,,,”:

 إنت يا عبد الغنى  بتتكلم عن صفات، عن تغير فى الشكل، فى التصرف، فى الشعور، إحنا دلوقت عايشين “أشخاص” كتير، أشخاص بحق وحقيق

عبد الغنى :

        يمكن، مش عارف، يجوز

الدكتور “,,,”:

 جرب كده يمكن يطلعوا أكتر من عبد الغنى

عبد الغنى :

ممكن

الدكتور “,,,”:

بس من حقك زى محمود وزيى تبقى عبد الغنى واحد فى لحظة بذاتها حسب الظروف، معاك حق، وإلا حانعيش ازاى لو مَتْفَرْكِشّين كده على طول؟

الملاحظات:

والآن دعونا نلاحظ معا ما يلى:

1- إنه فى خلال أقل من نصف ساعة، استطاع التفاعل فى المجموعة أن يتحسس الطريق إلى كشف احتمال التعدد من واقع المعايشة، وليس من باب التنظير والتلقين، إن المسألة ليست إيحاء كما تبدو لأول وهلة، فلو لم تكن المجموعة العلاجية قد حرّكت هذه الشخوص داخل أفرادها، لبدت الصعوبة أكبر بكثير لمقاومة قبول هذا الوعى والتحريك.

2- إن إنكار محمود الفجائى لهذه الفكرة بعدما حدث خلال أكثر من خمس شهور، هو فى حقيقة الأمر بمثابه إعلان أنها وصلته، ليست كفكرةُ تقبل أو تُرفض، وإنما كمعايشة حركت كيانات حقيقية (بيولوجية حسب فكر الكاتب)، أراد بهذا الإنكار أن يلغيها (أو يتنكر لها) مقاوِماً لجدية حضورها.

3- إن هذه المقاومة لم تكن بالقوة التى تمنع ظهور حقيقة ما وراءها، بل لقد بدا من الحوار والتفاعل أنها كانت السبيل إلى كشف التغير الحقيقى الذى كان، والذى ثبت من التفاعل معه أنه ليس مرفوضا تماما من محمود، ولا هو مرعب يستأهل كل هذه المقاومة، وكأن المقاومة خطوة نحو مزيد من دعم هذه الحقيقة الجديدة معايشةً، فقبولاً، فتمَثُّلاً، ما أمكن ذلك.

4- إن قبول التعدد ليس استبطانا ذاتيا يقوم به الشخص نفسه بالنظر فى نفسه، بغض النظر عما يراه الآخرون، بل إن استقبال باقى المجموعة لفكرة التعدد كان مفيدا فى دعم التحريك فالقبول، ليس فقط لحالة محمود لكن للباقين كذلك، فالتعدد موجود حتى لو أنكره صاحبه، جزئيا، أو مرحليا، أو تماما.

5- إن مثل هذا التفكيك ليس هدفا فى ذاته، ولا ينبغى أن يكون كذلك، فالموقف العلاجى يختلف عن المواقف فى الحياة العامة. ما لم يكن التفكيك خطوة مسئولة نحو التكامل، فالمسألة تبدو لعبة خطرة (مع أنها تحدث فى الحلم بنفس الصورة)

6- إن التوجه نحو الواحدية (عايز أبقى واحد) هو توجه مشروع وضرورى، لكنه لا ينبغى أن نخلط بين “التوجه نحو” الواحدية، و”الثبات عند” الواحد الساكن

وبعـد

هذا الاحتمال الذى عرض فى المجموعة العلاجية‘ برغم ظاهر بساطته، هو احتمال مخاطرة معرفية هامة.

 يبدو أن قبول هذه الحقيقة –مرفوضه ابتداء، إذ كيف يمكن  أن يتقبل أى واحد منا أن يرى نفسه بهذه الكثرة إلا كنكتة عابرة أو مجازا؟

لقد اعتدنا أن نتكلم عن صفات مختلفة للشخص الواحد، أو عن مزاج فلان المتقلب، أو عن أحوال فلانة المتناقضة، لكننا لا نتصور أن تكون المسألة قاعدة لنا كلنا، ويا ليتها قاعدة لقبول تغير الأحوال، أو تغير المزاج وإنما هى قاعدة لقبول تعدّد وجودنا الخلاّّق فى حركية ذواتنا المتعددة.

إن سوء فهم هذا الاحتمال (التعدد) على المستوى العام وصل إلى درجة أن كثيرا من الناس تصف أى تغير، حتى فى المزاج بأنه، “ازدواج فى الشخصية”، ويصل الأمر أن يصف هذا السلوك آخرون بأنه “فصام”، بل قد يصل الحال إلى ما نقرأه أو نسمعه من بعض المعلقين السياسيين (أو الأطباء) حين يصفون زعيما متضاربا فى آرائه بأن عنده شيزوفرينيا، أو حتى وهم يصفون شعبا بأكلمله (الشعب المصرى مثلا) بأنه مصاب أيضا بالفصام.

مؤخراً أدّى مثل هذا الخلط بين تقلب المزاج، أو تغير الطباع (بما فى ذلك منظومة القيم) فى مراحل مختلفة من العمر وبين الفصام، إلى وصم الملك فاروق بالفصام من مؤرخين على أعلى درجة من العلم، نقرأ فى عدد “وجهات نظر” الأخير (نوفمبر 2007) ما جاء بالحرف الواحد عن أستاذنا الكريم أ.د. يونان لبيب رزق تقديما للدراسة التى قامت بها الأستاذة الدكتورة لطيفة محمد سالم  عن الملك فاروق ما يلى :

“إن ما توصلت إليه الدراسة (3)التى بين أيدينا من وصم الملك المخلوع “بانفصام الشخصية” كان صحيحا، لأنه الأمر الذى شهد عليه كثيرون من أكثر المقربين للملك المخلوع، وهى الشهادة التى أدلى بها المرحوم حسن باشا يوسف وكيل الديوان الملكى خلال الفترة بين عامى (1942 و1952) لكاتب هذه السطور شخصيا!!

ومن سوء حظ الملك المخلوع أن شخصيته السيكوباتية قد غلبت عليه خلال النصف الثانى من عهده، مما تشكلت معه اللقطة الأخيرة من صورته، وكانت سلبية بكل المقاييس.”

مثل هذا وغيره، هو ما دعانى لأن أقدم ابتداءً وبهذا الوضوح فكرة “الوحدة والتعدد فى الكيان البشرى” قبل تقديم التنظير عن ماهية الفصام.

الخوف من الفكرة ومقاومتها

من حيث المبدأ أغلبنا لا يقبل فكرة تعدد الذوات إلا كظاهرة مرضية تستأهل الشجب أو السخرية أو الحذر. إن ما ندعو له هنا حتى نفهم مفهوم التعدد بشقيه المرضى والنمائى، هو أن نضع هذا الاحتمال الجديد (الذى هو أقدم كل الاحتمالات) احتمال “تعدد الذوات فى الكيان الواحد” على أنه أمر طبيعى من حيث المبدأ، أما كيفية تجلى هذه الذوات فى الحياة العادية (فى التعامل، والحلم والإبداع والأساطير) فهو أمر  يحتاج إلى تناول  الشروط التى تجعل قبول هذه الفكرة وتطبيقها مأمونا.

تمهيد للحديث عن الفصام

والآن، وتمهيداً للحديث عن الفصام بوجه خاص، دعونا نتساءل:

1) ما هى علاقة التعدد بالشعور واللاشعور، ومقولات فرويد عن “تشريح الشخصية” ؟

2) كيف يتداخل التعدد مع حركية النمو ؟

3) ما علاقة التعدد بمفهوم القشرة فى مقابل الفطرة ؟

4) وهل يمكن أن نقرأ حالة عصام بلغة حالة علاء، وحالة علاء بلغة حالة عصام؟

5) وأين الفصام فى كل هذا؟

لايمكن الرد على أى من ذلك حالا، فهى قضيتنا الممتدة طول الوقت، وربما مدى الحياة)، فنكتفى الآن بأن نقول:

  • الفطرة –كما سبق أن ذكرنا- ليست كيانا، أو صفة (أو مكانا) ، ونستطيع أن نحددها الآن فى ألفاظ أدق قائلين : الفطرة هى  تفعيل قوانين حركية الوجود،
  •  وبالتالى تصبح القشرة الساكنة الجاثمة المنفصلة المستْبعِدَةْ لهذا القانون والمانعة للحركة، هى الغطاء الخارجى للذات
  • إلا أن نفس هذه القشرة إذا كانت مرنة ومسامية ومتغيرة فإنها تصبح جزءاً لا يتجزأ من الفطرة، بل ومكملة لها (فهى أحد أوجه نفس القانون  تكمل حركيتة وتدعم نظامه).

فأين تقع الذوات المتعددة من هذا وذاك؟

v   حركية الوجود: (قانون الحياة)، لا تتم فى فراغ

v   هى تجرى بإيقاع تناوبى تكاملى جدلى ينظم ويوجه  منظومات الوجود البشرى المتعددة (فى واحد)

v   ممتدا إلى منظومات الوجود الكونى المتصاعدة.

v  وبالتالى يصبح تعدد الذوات ليس مجرد حضور متبادل، أو متناوب، أو متنافس، أو متصارع، أو حتى متعاون، وإنما هو وحدات عِمالة الحركية الإيقاعية المتمادية لغايتها بإيقاعها الحيوى طول الوقت.

v   إذا ما طغى الكيان الظاهر (فى اليقظة عادة، فهو لايستطيع أن يظل طاغيا أثناء النوم) على كل تعدد مستويات الوجود، كبتاً، أو محواً، أو إزاحة، أو كل ذلك وغيره، فهو هو القشرة بشكل أو بآخر.

v  يتم التناوب بين الكيانات فسيولوجيا (فى النوم والحلم) وهو أمر من المستحيل إيقافه، ومع ذلك فنتائجه، لو لم تستوعب الجدل النمائى، ليست عادة إيجابية.

v إن الوعى النسبى بتفعيل قوانين حركية الوجود بقانونها الحيوى والاستعداد لتلقيها، فالاسهام فى حفزها إلى ما تعد به، هو الإبداع فى مختلف تجلياته، بما فى ذلك إبداع الذات على مسار النمو.

v  إن انفصال القشرة بعيدا عن  حركية  قوانين الوجود لدرجة إخفائها، ومحو آثارها (حتى الفسيولوجية)  أولا بأول  هو الذى يجعل القشرة تبدو نقيض الفطرة وكأنها حلت محلها تماما.

v  إن شرخ القشرة المنفصلة، أو تشققها أو انهيارها، هو الذى يطلق الذوات المتعددة بشكل عشوائى ، مع غلبة التوجه الناكص، ومن ثـَـمَّ الفصام .

المنطلقات الأساسية لفهم الفصام :

فيما يلى نقدم بعض الافتراضات الأساسية التى تمهد لما سيأتى حين نتناول الفصام:

أولاً: الإقرار بالقانون الأصلى  للوجود البشرى تاريخا وحاضرا بكل مفرداته القادرة على النمو والتطور بقوانينها الطبيعية.

ثانياً: الإقرارا بأن هذه المفردات هى “ذوات متعددة”، مرتبة هيراركيا (وعرضيا)، وأن الذى يمنعها من التصادم  الحاد حتى الإعاقة، أو التشتت حتى الشلل،  هو تفعيل قوانين حركية النمو (الفطرة) .

ثالثاً: إن حركية تنظيم، وإعادة تنظيم الذوات، إيقاعا وتبادلا وتشكيلا وجدلا، هى القادرة على استيعاب هذا التعدد فى واحدية قادرة فى لحظة بذاتها على تسيير الحياة والاستجابة للمتطلبات الموقفية الممتدة إلى غاياتها.

رابعاً: إن الفصام هو فشل كل ، أو أغلب، ذلك .

خامساً: إن الأمراض الأخرى هى مراحل متوسطة – مرضية – للحيلولة المؤقتة أو الدائمة دون ذلك

……

وإلى أن يحين شرح ذلك، نأمل أن نتحمل المغامرة بالوعى –نسبيا وتدريجيا- بما هو نحن:

 فروضاً محتملة.

[1] – برجاء الرجوع إلى إلى حالة عصام أولاً لمن لم يقرأها أو نسيها، مع أن المقال يمكن أن يقرأ مستقلا

[2] – أيضا ننصح بقراءة حالة علاء أولاً:

[3] – فاروق من الميلاد إلى الرحيل، د.لطيفة محمد سالم، دار الشروق 2005، 850 صفحة.

– فاروق الأول وعرش مصر: بزوغ واعد .. وأفول حزين (1920 – 1965)، دار الشروق، 2007 ، 260 صفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *