الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / عن العلم والعقل والتاريخ والمعرفة

عن العلم والعقل والتاريخ والمعرفة

“يوميا” الإنسان والتطور

 20-5-2008

العدد: 263

مقتطف وموقف

مرة أخرى:

عن العلم والعقل والتاريخ والمعرفة

وصلتنى رسالة من صديق من أصدقاء “الميل” يختلف معى اختلافا هائلا فى هذه المنطقة بالذات (ظاِهر موقفى من العلم والعقل). هو يرسل لى أغلب ما يصله على النت مما يؤكد وجهة نظره، أو يعدّل وجهة نظرى، لكن يبدو أن حوارا آخر كان يدور أيضا بما يسمح له أن يرشدنى إلى ما يؤيد ما يخالفنى فيه، ذلك أن هذه الرسالة التى وصلتنى منه  مؤخرا كانت مقتطقات من موقع مجهول لى وله، مقتطفات تحوى 17 موقفا معرفيا، ورؤية ثاقبة، عثر عليها مصادفة أثناء بحثه عن أمر آخر، الموقع هو “موقع محمد أسليم”، أنا لم أسمع عنه، وغالبا (صاحب الموقع) لم يسمع عن موقعى أيضا، لكن الملاحظات، أو الإشراقات، التى وصلتنى كرما وإضافة من هذا الصديق، فاجأتنى حتى اضطرتنى إلى العودة إلى ما سبق نشره هنا فى نشرة 1-10-2007 مستويات الوعى وأساطير المتصوفة، وفى نشرة 2-1-2008 أنواع العقول.

هل ياترى أكتفى بأن أوصى أن يرجع إليهما القارئ/الزائر معا بعد أن مضت كل تلك الشهور؟

هل اقتطف منهما المناسب لقراءة هذا المقتطف الذى وصلنى، مع الاعتذار عن التكرار؟

قبل أن أجيب على هذه الأسئلة قلت أدخل إلى هذا الموقع الذى وصلتنى عنه المقتطفات الـ 17، لأتعرف على صاحبه، وإذا به لعربى فى منتصف العمر، مغربى مبدع، قاص، ناقد، مترجم، ممتلئ بالحيوية والحركة والاتصال بالحركة الفكرية الأحدث فى أوروبا (ربما اسبانيا بالذات)

 قلت لا، وَجَبَ التأجيل، المسألة تحتاج إلى هدوء وتعرف أشمل، قبل أن أناقش ما وصلنى عنه تفصيلا، لكننى فضلت أن أبدأ نشرة اليوم بهذه العينات من كلامه كما يلى:

  • مأزق العقـل:

“…… ما كان بوسع الأركيولوجيا وكتب التاريخ أن تكون لو فعل الإنسان شيئا واحدا: أن يكون في مستوى الطريق التى نهجها والسمة التي انماز بها عن باقي الحيوانات، ألا وهي العقل. إن تاريخ النوع مودَعُ بداخلنا، لكننا لم نُجِدْ حتى اليوم قراءته، بل لم نقم بهذه القراءة ….

“…… الخلاصة أن الإنسان يعرِّف نفسه بأنه كائن عاقل، والحال أنه لازال واقفا في عتبة اللاعقل. يغادر بالكاد منطقة اللاعقل ليدخل إلى طور العقل.

  • معنى الاتصاف بالعقل

“….. لِوَصْفِ الإنسان لنفسه بـ «العاقل» معنى مزدوج: الأول افتتان من الإنسان، الذي لازال غارقا في قرارة اللاعقل، بقسط زهيد من استخدام العقل، فظن أن هذا هو العقل، وقال: «إنما أنا كائن عاقل». الثاني أن الإنسان سدَّ باب العقل وهو لم يلج دار العقل بعد……

(انتهت “العينة” من رؤى وآراء “محمد أسليم”)

وبعد

خلاصة  ما وصلنى، ليس فقط من هذه الشذرات، ولكن من مجمل المقتطفات: أن العقل لا يكون عقلا بشريا جديرا بهذا الاسم إلا إذا احتوى كل عقوله ولم يستبعد ماضى إنجازاته الناجحة التى أوصلته إلى بشريته، فما شاع عن العقل الآن .. ليس هو ما يجدر أن نسميه عقلا … الخ.

ولنا عودة.

تذكرة

قليل من التواضع يصحح المسار

كثير من الحيرة، يشتت التماسك

بقدر مناسب من الدهشة، مع قدر مناسب من النقد، تتكشف المعرفة المفتوحة النهاية.

كلما اقتربتُ من كلمة “العلم” أو “العقل” وهممت بأن أفتح فمى، أعنى أطلق قلمى نقدا، انقضت علىّ الاحتجاجات والاعتراضات قبل أن اكمل جملتى، أحاول التوضيح والتنبيه إلى أننى قلت “كلمة” العلم و”كلمة” العقل، ولم أقل مفهوم العلم ولا منظومة العقل، لكن الانقضاض يتواصل إلى درجة التكفير (الطرد من حظيرة العلم والاتهام بالهرطقة ضد سيدنا العلم أو ربنا العقل)

ما العمل؟

أبدأ بالتأكيد على ما يلى:

“العلم” بما وصل إليه حتى الآن، صحيحُهُ ومُتَجاوِزُه، ضعيفُهُ وقويُّهْ، هو أعظم إنجازات الإنسان وأجْهَزُها لخدمته،

 و”العقل” وهو يتربع على قمة التطور الواعى للكائن البشرى هو تاج تطوره،

 هذا كلامى أنا وليس مقتطفا من “أسليم”.

إذن ماذا؟

o   لكن هذا العلم نفسه، إذا ما اغتر وغَلُظ واستكبر حتى انفصل عن تاريخ المعرفة وحاضرها أصبح مثل السكين الذى يمسك بها صاحبها من حدها، فهو لا يعود علما بالمعنى التطورى الأرقى.

o   كذلك العقل إذا ما استقل عن الوجدان، والجسد، والوعى الآنى والتاريخى، والامتداد من جذور كل خلايا الجسد ومناهج المعرفة قبله، أصبح مثل القلنسوة الفولاذية التى تمتد حتى تغطى البصر والبصيرة، تحت زعم حماية مرتديها من هجمة شظايا الخرافة.

نقد العلم إذن لا يعنى الاستهانة به، ولا التهوين من شأنه، ولا تهميش دوره، وإنما يعنى الدعوة إلى ضرورة التحامه بالتاريخ الذى أنشأه، وإلى الحاضر الكلى الذى ينميه.

نقد العقل أيضاً لا يعنى فتح الباب للخرافة، ولا للبدائية، وإنما هو تنبيه إلى أنه لا يوجد عقل واحد يسيّرنا ويهدينا، وأن العقل الشامل، الجدير بمرحلة تطور الإنسان، هو الذى يستوعب كل العقول السابقة وأحيانا يتناوب معها (فى الحلمخاصة) ثم إنه يشتمل بها إلى الإبداع.

إذا لم نفعل ذلك طول الوقت انقلب العلم دينا سلطويا مغلقا مهما أنجز،

 ثم هو يصبح عرضة للاستغلال والاستعمال، لغير ما هو، وبالذات لخدمة الاغتراب والتكاثر فى الأموال، والأملاك، والهلاك الشامل.

هذا هو ما حدث للإيمان حين استولت عليه السلطات الدينية وخنقته داخل خزانتها التى أسمتها الدين، وليس الدين الذى أنزله الله.

 إن هذا التقديس والتسليم لما يسمى العلم دون نقد أو تمحيص قد أصبح سمةَ التلقى لمعلوماتٍ توصف بالعلمية، أو بالعقل أحيانا.

يسرى هذا على الشخص العادى، وعلى طالب العلم، وممارس المهنة التى تستند إلى علم مثل “الطب” ….الخ.

تساؤل:

ماذا يصلك حين تقرأ أن “العلم يقول كذا” أو أن “العلم الحديث اكتشف كيت” ….الخ. كيف نقرأ أخبار العلم ومعلومات نتائجه بمختلف أشكال نشرها على العامة وعلى الخاصة فى بلدنا هذا فى عصرنا هذا؟

مثال:

حين تقرأ خبراً علميا جدا يقول:

أثبت العلم الحديث أن “الأرجح” أن العقار الفلانى يقلل “فى معظم الحالات” نسبة المادة العلانية فى موقع ما من الجهاز الحرفى  limbic system ولهذا فإن “الفرض الجديد” لفاعلية هذا العقار فى المرض الفلانى هو أن هذا المرض “يمكن إرجاعه” إلى زيادة فى هذه المادة التى يقللها هذا العقار…الخ

أقول: حاول أن تتذكر كيف تقرأ مثل هذه المعلومة فى صحيفة يومية إذا وردت، أو فى مجلة علمية، أو فى مرجع معتمد.

جملة اعتراضية:

إن طريقة التلقى للمستسلمين منّا تضاعف أزمة العلم المؤسسى، ذلك أنه فى بلادنا العزيزة بوجه خاص يسارع أغلبنا، بما فى ذلك طالبى العلم، بإلغاء الكلمات التالية من هذه الفقرة (دون أى قصد طبعا)، سوف يلغون كلمات:

الأرجح“، “فى معظم الحالات“،

الفرض الجديد“، “يمكن إرجاعه

ثم تضاف الكلمات الوصلية البديلة

هيا نقرا الجملة بعد هذا الحذف الانتقائى

أثبت العلم الحديث أن العقار الفلانى يقلل نسبة المادة العلانية فى موقع ما من الجهاز الحرفى  limbic systemولهذا فإن فاعلية هذا العقار فى المرض الفلانى تثبت أن سبب هذا المرض هو زيادة فى هذه المادة التى يقللها هذا العقار…الخ

خبر آخر

دع هذه الجملة الاعتراضية جانبا وتعال نقرا خبرا آخر.

“…. تأكد العلماء حديثا أن ثقب الأزون يتسع وأن درجة حرارة الكرة الأرضية فى ازدياد وبالتالى سترتفع مياه البحار ويغرق العالم سنة كذا وسوف يأكل البحر المتوسط دلتا النيل…. الخ .

عندى شقة على كورنيش الاسكندرية مباشرة، وكلما قرأت مثل هذا الخبر، نزلت بكل أِّمّيتىِ، وكأنى فلاح قدم لأول مرة إلى المدينة، ورحت أقيس عرض الرمل على الشاطئ (أعمل ذلك منذ مايو 1967) ولم تنقص المساحة سنتميتراً واحدا حتى الآن، منتهى السذاجة والجهل! أليس كذلك؟ لكننى أفرح بجهلى وأحيانا أفخر به، حتى وصلنى من نفس صديقى هذا مؤخرا دراسات تنفى هذه الإشاعة العلمية عن ثقب الأوزون، ولم أصدقها هى الأخرى إلا قليلا!!

كذلك كان حالى وأنا أتابع أخبار أبحاث رسم خريطة الجينوم البشرى التى أسالت لعاب شركات الدواء …  ولكن…

 مارأيك؟

“العلم الحديث؟” يعنى ماذا؟

مرة أخرى: حين تقرأ أية معلومة توصف بأنها من العلم الحديث، أو الحديث جداً، يقفز إلى ذهنك غالبا أنك عثرت أخيرا على ما هو فصل الخطاب، وأتصور أن أغلبنا أو كلنا يفصِل ما يصله عن جذوره التاريخية – التى لم تكن تسمى علماً عادة – وأيضا عن حركته القادمة التى لا نعرف عنها إلا إرهاصات محدودة.

كذلك حين تسمع كلمة “العقل”:

لقد أفضنا فى سطحية استعمال كلمة “عقل” فى يومية “أنواع العقول. مما سوف أكرره هنا – على الأقل: تحية لمحمد أسليم –

أوردنا فى تلك اليومية التنبيه التالى فى صورة النفى المبدئى هكذا:

1- العقل ليس هو “فقط” ما يرد فى تعريف كلمة “عقل” فى المعاجم

2- العقل ليس هو “فقط” القطب الآخر الذى يقع على أقصى الطرف النقيض لما يسمى عاطفة: (العقل) < === > (العاطفة)

3- العقل ليس هو “فقط”  ما يستعمل فى ما يصح وما لا يصح (بالمنطق الأرسطى مثلا)

4- العقل ليس هو “فقط” ما نطمئن إليه بعد حل تمرين هندسة بتطبيق نظريات هندسية محكمة، ونحن نتنهد قائلين “وهو المطلوب إثباته”

5- العقل ليس هو “فقط”  ما نستعمله جاهزا ونحن نتحدث عن نتائج تجربة علمية ثبتت صحتها المرة تلو المرة

6- العقل ليس هو “فقط” ما يقابل ما يقوم به حاسوبٌ مهما بلغت دقته

الماضى الحاضر المستقبل:

إذا انفصل العقل الحديث عن تاريخه وحل محل كل العقول السابقة، أصبح قشرة لامعة قابلة للجفاف فالتشقق، فالتشظى.

كذلك إذا انفصل العلم الأحدث والحديث عن تاريخ المعرفة، ليس فقط الإنسانية، وإنما المعرفة الحيوية، أصبح برنامجا  لامعا مغتربا، كلما ازداد نموه لذاته فى ذاته، ازداد اغتراب الإنسان عن بقيته وتاريخه .

ماذا أفعل لتوصيل هذا كله إلى المتلقى، خاصة هذا الذى يعمل فى حرفتنا “فن اللأم” (المشهور باسم الطب)، هذا الفن الذى يتعامل مع الإنسان الحى أساساً بكل تاريخه الحيوى والشخصى فى خلاياه ومستويات وعيه فى حالة الصحة والمرض؟

وبصفة عامة، ماذا يفعل الإنسان البسيط الطيب الذى يريد أن يواصل حواره مع الطبيعة فالكون نابعاً من جذوره ممتدا فى تاريخه إلى ما بعده ؟

إذا أردنا أن نكرم إنسانيتنا، وأن نحترم عقولنا الحقيقية التى لم تكتمل بعد (حسب رؤية أسليم أيضا) بعد كل هذا التاريخ التطورى الرائع، علينا ألا نستقبل أية معلومة إلا فى سياقها الممتد عبر التاريخ إلى ما يعد به،

وإليكم هذه التجربة الأخيرة:

أدعو القارئ مرة أخرى ليست أخيرة أن يختبر بنفسه من جديد وهو يقرأ منبهراً أية معلومة متعلقة بالمسألة (أية مسألة)، يقرأها كما اعتاد، وهى منفصلة فى ذاتها.

ثم أدعوه أن يعيد قراءتها  ووراءها خلفيتها التاريخية التى سأوردها فى الجدول التالى:

الخلفية: أرقام من التاريخ (بالتقريب طبعا)

1- عمر الكون حوالى 9- 20 بليون سنة

2- عمر الأرض حوالى  4-6 بليون سنة

3- عمر الحياة على الأرض حوالى  1-2 بليون سنة

4- عمر الإنسان حوالى 600 ألف سنة

5- جذور السلوك التدينى أمكن إرجاعها فرضا إلى 300000 سنة

6- نشأة اللغة 100000

7- الأديان  السماوية + 4000 سنة

8- العلوم الحديثة  200 سنة

9- العلم الأحدث خمسون سنة

إقرأ هذه الأرقام مرة أخرى بهدوء من فضلك ثم تساءل معنا:

o  هل يجوز أن يعتمد الانسان فى قراءتة لمعلومة من العلم الحديث –عمرها 80سنة مثلا- لاغيا كل ما قبل ذلك؟

o  هل يمكن إعادة النظر فى هذه المعلومة بعد أن يتمعن النظر فى هذه الأرقام؟

o  هل يجوز أن تتصور أن الأديان السماوية نشأت بلا جذور لها فى الفطرة البشرية، وحين أكرمنا خالقنا سبحانه وتعالى بإنزالها على بعض عباده من رسله عليهم السلام، أنزلها المرة تلو الأخرى بمعالمها النقية مؤخراً من حوالى “4000 سنة فقط” لتؤكد لنا تاريخنا وطبيعتنا وطريقنا إليه قبل أن نشوهها بالترميز، ونخنقها بالتفسير، هل يجوز أن نفرض ما فهمناه بقصورنا عبر هذه الأربعة آلاف سنة –استبعادا- على كل ما قبلها وما بعدها؟

o  هل يجوز أن يكون العقل العلمى المنطقى الحسابى الحاسوبى هو السبيل الأوحد لاستيعاب كل ما حدث على طول هذا المسار؟

o  …… الخ.

الخلاصة:

أكتفى بهذا القدر وأختم نشرة اليوم بخلاصة عرضتها فى شريحتين من محاضرة ألقيتها فى المجلس الأعلى للثقافة عن العلم المعرفى والثقافة العلمية، المحاضرة كاملة فى شكل شرائحPP موجودة بالموقع .

الشريحة الأولى :

التفكير العلمى والمعرفة

v        المعرفة بدأت من التمييز قبل ظهور الجهاز العصبى والدماغ

v        الأميبا تميز بين ماهو صالح للغذاء مما هو غير ذلك

v        تاريخ الإنسان ليس تاريخ التفكير, هو تاريخ التلاؤم مع البيئة  

v        المعرفة ليست قاصرة على عمل المخ (الدماغ) , كذلك التفكير.

v        المعرفة تـُوَسِّع الوعى وتعمِّقُهُ .

v        المعرفة الموضوعية تغذى التفكير العلمى, وبالعكس.

v       التفكير العلمى يضيف إلى المعرفة ولا يحتكرها.

الشريحة الثانية:

مخاطر ومحاذير

 لا يعنى فتح باب المعرفة لروافد  أخرى, أننا نريد لهذه المصادر التكاملية أن  تحل محل المعرفة العلمية أو أنها تفوقها.

  لا ينبغى الخلط بين لغات ومناهج كل منظومة مع الأخرى لمجرد أنهما مصدران للمعرفة (خاصة الخلط بين منظومة الدين ومنظومة العلم)

 إن مبدأ: النقد, والنهاية المفتوحة، هما العامل المشترك فى كل الروافد دون استثناء.

v   إن  تجربة التطبيق العملى لنفع  الناس وتطورهم هو مقياس المصداقية لكل الروافد

مع العلم أن مقاييس “نفع الناس” و”تطورهم” حولها خلاف فظيع.!!!

هيا نستمر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *