يومياً” الإنسان والتطور
1-10-2007
الصوفية والفطرة والتركيب البشرى (2)
مستويات الوعى وأساطير المتصوفة
(مولانا الخضر العصر الحديث: ألمانى الجنسية)
إشكالة الإنسان المعاصر أنه اكتفى أن يعيش بما يستطيع إثباته، تماما مثل حل تمرين الهندسة الذى ينتهى من خلال تطبيق نظريات محددة إلى الختام بتعبير: “وهو المطلوب إثباته”.
سبيل المعرفة الحقيقية لا تعرف أصلا “ما هو المطلوب إثباته.
الصوفية، وهم من أهم أهل المعرفة الحقيقية، وقفوا من هذه المسألة موقفا عميقا ، لك للأسف لم تسعفهم اللغة ليصلوا إلى عامة الناس (ناهيك عن العلماء القساوسة) بما ينفعهم فى حياتهم اليومية، وفى طريقهم إلى الحق تعالى.
الصوفية حذقوا الرؤية، وصدقوا المحاولة، لكنهم لم يمتلكوا المنهج العام، ولا حذقوا استعمال أدوات التطبيق التى تمكنهم من منافسة المعرفة الفوقية الرمزية المختزلة، لا لتحل محلها، وإنما لتتكامل معها وبها.
العلم المؤسساتى التقليدى، هو المسئول جزئيا عن اختزال الإنسان إلى المطلوب إثباته
الدين السلطوى المعقلن الذى يتمسح بهذا العلم اختزل الله أيضا (أستغفره سبحانه) إلى “المطلوب إثباته”!!
العلم المؤسساتى لا تتعدى إنجازاته خدمة العقل المنطقى الحاسب، ومجتمع الرفاهية، والحريات المكتوبة، وحقوق الإنسان المثبتة فى المواثيق.
حين ظهر العلم المعرفى الحديث منذ بضعة عقود، ثم العلم المعرفى الأحدث منذ عقدين من الزمان اختلف الحال.
العلم المعرفى جاء يعلن لنا مستويات أخرى نفكر بها، ونقرر بها، ونؤمن بها، ونحب بها، ونبدع بها، يفعل ذلك إذ يؤكد أن عندنا أدوات أخرى غير الرمز، وإشارات أخرى غير الإشارات المبرمجة الثابتة، وأن كل هذه المناهل الأخرى هى الأقدر على توصيلنا إلى أنفسنا، نحو المطلق سعيا إلى وجه الحق سبحانه تعالى.
ما أن أعلن هذا العلم الجديد جدا أن التفكير ليس بالرمز فقط، حتى سارعت الكنيسة الحاسوبية الكبرى high-church computationally (العلم المؤسساتى السلطوى) بتكفيره، تماما كما كفرت كنيسة القرون الوسطى كوبرنيكس، ولما تقدم خطوة أخرى ليعلن هذا العلم الجديد الرصين أن المعرفة ليست فقط بالمخ ، حتى تأكد كفره (هرطقته) وطردوه فعلا من كنيسة الدين العلمى السلطوى التقليدى.
أين تقع المعرفة الصوفية المبدعة من كل هذا؟
المتصوفون عامة، والمتصوفون الإسلاميون خاصة توصلوا إلى هذه الحقائق من قديم، وقد سبقت الإشارة فى (يومية 30/9″الصوفية والفطرة والتركيب البشرى”) إلى المحاولات الأحدث لربط التصوف بالرياضة الحديثة والطبيعة الحديثة.
نحن تركنا وراءنا كل هذا، واعتبرنا أنه ليس عندنا فلاسفة بالمعنى الأشمل
كما اعتبرنا التصوف الإبداعى غامض ومن أحوال الخاصة،
وأن التصوف الشعبى ليس إلا موالد وسرادقات ورقص وتهريج،
فعلنا ذلك وفى نفس الوقت لم نحذق فيه استعمال أدوات وقدرات العلم المؤسساتى المعلوماتى، فلم يتبق لدينا سوى الخرافة على ناحية، حتى تعاملنا مع الأسطورة للأسف : على أنها خرافة أيضا، وامتد الاختزال إلى نظم التعليم ، فاكتفينا بالتعليم التلقينى الذى يحل محله أحيانا – بل غالبا- الغش الجماعى والغش الرسمى، ثم رحنا نغير على خيال أطفالنا وفطرتهم ونحن نقدم لهم قصص مكارم الأخلاق (كما نتصورها) فنقفل عليهم أبواب الخيال ورحابة الفطرة.
فى نفس الوقت عجزنا عن أن نحصل على، أو نستعمل بكفاءة: أدوات العلم السلطوى الأحدث‘ واكتفينا بالتقليد السطحى الأعمى.
كل ذلك كان مرتبطا بقصر الاهتمام والبحث على مستوى واحد مما أسميناه “العقل”، وأحيانا نسميه “الوعى” ونحن نقصد به “الشعور” أو المنطق الظاهر. فنحرم أنفسنا من عقولنا الأخرى، ومستويات وعينا الباقية، مع أن كلا من التاريخ والاتجاه الأحدث يصران أن هذه المستويات المهملة هى أكثر فاعلية, وأنشط حركة، وأعمق إيمانا وإنسانية
هذاالاختزال الذى اختزل إليه الإنسان ترتبت عليه مصائب كبرى، ليس أقلها سيطرة المال على الحياة، وسيطرة الاستهلاك على الاستمتاع، وسيطرة الشركات على الحكومات، وسيطرة السلاح على مصائر البشر فى كل مكان.
(ليس هذا وقت تفصيل ذلك، لكن لا بد أن هذه الزاوية اليومية سوف ترجع إلى بعض ذلك مرارا وتكرارا.)
مارى شيمل ومولانا الخضر
راحت “مارى شيمل فى كتابها الذى ذكرناه أمس عن تاريخ التصوف الإسلامى تبنى جدارا فوق كنوزنا المدفونة – مثلما فعل مولانا الخضر بجدار الصغار- لعلنا ننمو فنجده،
وهذه اليومية هى محاولة للكشف عن بعض جواهر هذا الكنز.
حين يصل الأمر بالمتصوفة إلى سب العقل سبا علنيا، فهم لا يتنازلون عن المنطق العقلى ولكنهم يدعوننا لوضع ما نسميه العقل فى مكانه المتواضع
وحين يتكلم المتصوفة عن مستويات المعرفة، فهم يعرفوننا بمستويات وجودنا
وحين يتكلم دانييل دينيت عن أنواع العقول Kinds of Minds Daniel C. Dennet 1996، لا يرشو المتصوفة ولا يجاملهم، وحين تؤيد الطبيعة الحديثة مايسمى شطحات المتصوفة، تفعل شيئا آخر، مناقضا تماما لما يجرى من عبث وتسطيح مزدوج فيما يسمى”التفسير العلمى للقرآن” مثلا،
صحيح أن المتصوفة لهم لغتهم الخاصة، ولكنها كما أشرنا أمس لغة موازية.
حين تقتطف مارى شيمل فى كتابها عن التصوف الإسلامى مقتطفا تسميه “أسطورة دينية”، فهى تدعونا –ضمنا- لاستلهام حدس هؤلاء العارفين الأوائل، دون التوقف عند المعنى الشائع لألفاظهم، فلا السبعة آلاف سنة هى سبعة آلاف سنة (فى المقتطف الذى سنعرض له حالا)، ولا العقل الذى تضعه بعض المتصوفة فى أدنى مراتب أدوات المعرفة هو عقل برتراند رسل أو عقل أينشتاين أو عقل نجيب محفوظ، أو حتى عقلى وعقلك،
الأسطورة هى أيضا كنز من كنوز المعرفة الجماعية التارخية ، علينا نقرأها دون أن نربطها بالدجل أو الخرافة كما فعل الصديق الذى رددنا عليه فى بريد الجمعة السابق.
الأسطورة أقرب إلى خيال الأطفال كما يتجلى فى حكايات هانز كريسيان أندرسون وليس كما يتشوه ويوصى عليه فى مجلة علاء الدين وبرامج الأطفال فى تليفزيوننا الساذج.
حين يبتدع المتصوف لغته الخاصة، ويؤلف أساطيره، فهو أقرب إلى الطبيعة الحديثة والعلم المعرفى
بعد كل هذه المقدمة التى بلغت نصف اليومية دعونا نقرأ بعض المقتطفات من كتاب مارى شيمل الذى أشرنا إليه
كل المطلوب – من فضلك- هو التقاط
(1) تنوع أشكال المعرفة
(2) تعدد مستوياتها
(3)تصعيد الترتيب
(4) اختلاف اللغات – لا أكثر (على الأقل فى المرحلة الحالية):
المقتطف الأول ص 220
استخرج “أبصر النورانى” أبرع اتجاهات معرفية “من القرآن” بطريقة عبقرية (هكذا وصفته مارى)
- الصدر وهو مرتبط بالإسلام
- والقلب وهو محل الإيمان
- والفؤاد وهو مرتبط بالمعرفة
- واللب وهو مقر التوحيد
(أرجوك لا تحاول أن تشير إلى قفصك الصدرى وأنت تقرأ كلمة الصدر،
ولا تنتبه إلى ضربات قلبك وأنت تقرا “القلب”،
ولا تحاول أن تفرق بين القلب والفؤاد
إنتظر بعد الباقى من فضلك)
المقتطف الثانى ص221
لخّص “عمرو المكى” أسطورة دينية: (هكذا سمتها المؤلفة) بعض أفكار الصوفية المتقدمة قائلا:
” إن الله تعالى:
o خلق القلوب قبل الأجساد بسبعة آلاف عام، وحفظهاا فى مقام خلقه
o وخلق الأرواح قبل القلوب بسبعة آلاف عام، وحفظها فى جنة الأنس به
o وخلق الألباب قبل الأرواح، بسبعة آلاف عام وحفظها فى مقام الوصل به
ثم حَبَسَ
- اللب فى الروح
- والروح فى القلب
- والقلب فى الجسد
ثم اختبرها وأرسل الرسل، فبدأ كل منها بالبحث عن مقامه الخاص:
¨ فانشغل الجسد بالصلاة
¨ ووصل القلب إلى الحب
¨ وبلغت الروح القرب من الرب
¨ ووجد القلب استقراره فى الوصل بالله
(كما اتفقنا : أرجوك لا تقرأ السبعة على أنها سبعة، ولا الألف على أنها ألف،.. إلخ)
ثم تقول المؤلفة ما وصلها مقابل ذلك عن مستويات الوعى:
“..وبنفس المستوى تم تنظيم أنواع الكشف المختلفة التى قد يتعاطاها الصوفية “تبعا لمستويات الوعى”المتباينة التى تسير عليها…وانطلاقا من المصطلحات التقليدية قّسّم أحد اللاحقين أنواع الكشف كالأتى:
كشف كونى …وهو يتجلى فى الرؤى والكهانة
وكشف إلهى .وينتج عنه معرفة عالم الأرواح والمعرفة القلبية،…..يقرأ مستور الأفكار
وكشف عقلى وهو أصلا أحط أنواع المعرفة
وكشف إيمانى وهو ثمرة الإيمان الكامل
لا مجال هنا لمناقشة أى من ذلك تفصيلا
فقط : لاحظ أين وضع التقسيم هذا الكشف العقلى باعتباره “أحط أنواع المعرفة“، وهذا ليس استهانة بالعقل أو تحقيرا له، ولكنه تنبيه إلى أنه لايمثل إلا جزءا يسيرا من أدوات المعرفة (ربما يقابل الهرطقة الثانية للعلم المعرفى التى أعلنت أن: “التفكير ليس فقط بالمخ)
ما وصلنى من معنى “أحط” هنا ليس سبّـا أو تحقيرا، ولكنه بمعنى: أنه أدنى أو أسفل فى المرتبة لا أكثر، لأنه وصف هذا المستوى بأنه : “قد يصل إليه أيضا الفلاسفة” بالمعنى الذى شاع عن الفلسفة أيامها، وليس بالمعنى الأحدث الأشمل الذى ربما يفخر بأن يضم المتصوفة إليه كفلاسفة عارفين.
التعقيب (مؤقتا)
- إن مولانا الخضر الحديث ألمانى الجنسية وهو حين بنى لنا الجدار على كنوزنا لم يفعل ذلك ليظل الجدار قائما إلى الابد، ولكنه يحفظ لنا كنزنا حتى إذا بلغنا الرشد بحثنا تحت الجدار لنستخرجه، فهل آن الأوان؟
- إن كل المطلوب هو قبول فكرة (حقيقة) مستويات الوعى، بدلا من التوقف عند الاستسلام لعقل ظاهر، أو الاستقطاب الفرويدى بين ما هو “شعور” و”لا شعور”.
- إن مستويات الوعى هذه تقابل بشكل أو بآخر: مستويات تعدد الكيانات داخلنا، ومستويات حالات العقل، فى العلم المعرفى، وأنواع العقول على مسار التطور)
- ليس معنى تحجيم دور العقل هكذا أن نتنازل عنه، بل أن نتكامل به
- إن الباب مفتوح لاستخراج كل كنوزنا هذه وغيرها لنترجمها إلى لغة العلوم الأحدث، ليس بمعنى التفسير العلمى لها، ولكن بمعنى الإضافة المعرفية الموازية التى أشرنا إليها أمس
- إن مناهل المعرفة متعددة بشكل ينبغى أن يسمح لنا بتجاوز ما يسجنوننا فيه لصالح أفكارهم ومصالحهم، مرة تحت اسم العولمة، ومرة تحت اسم الديمقراطية المشبوهة، ومرة تحت اسم حقوق الإنسان، كل هذه قوانين منظــِّـمة أو ملطـِّـفة ، قد تكون ضرورية للجماعة ، لكنها لا تتعامل إلا مع قشرة الوجود البشرى
- علينا أن نرفض وبشدة أن نعرف الله عن طريق العلم المؤسساتى (كما أمـِل نجيب محفوظ وهو ينهى أولاد حارتنا- الأمر الذى رفضتُـه تماما وناقشته فيه طويلا) بقدر ما نرفض وصاية العلم على النص الإلهى، حتى ولو تصورنا فرحين أن هذا سبق علمى من حقنا أن نفخر به، وكأننا نرشوا المتدينين على حرف بصفة علمية حديثة تافهة، وأيضا نرفض اختزال الإسلام على أنه “دين العقل” ، فهو – مثل كل دين حقيقى– دين كل المستويات وقنوات المعرفة “معا“.
نهاية مؤقتة:
أنهى كلمة اليوم بعرض شكل متواضع يذكرنا بخطورة ما حبسنا أنفسنا فيه ونحن نتصور أننا علماء محدثين،
وأيضا قد ينبهنا إلى خطورة ما اختزلنا تراثنا فيه متصورين أننا نحيى التراث بتذكرنا إياه والفخر الخائب بأسبقيتنا فى ما لم نتعهده وننميه باللغة الأحدث حالا ، ونتذكر أن حاملي أمانة الوعى والمعرفة يقومون بالفحر تحت الجدار الذى بناه لنا مولانا الخضر الأحدث (ممثلا فى صاحبة الفضل مارى شيمل وآخرين) ، وهم لا شك ينتظرون من أصحاب الكنزالإسهام بما تيسر، ولو شاؤوا لاتخذوا علىكل ذلك أجرا.
وحين نسترد الكنز إذا كنا بلغنا الرشد، علينا أن نرد الجميل بأن نستمثره لصالح المالك الحقيقى وهو عامة البشر، ليتقبلنا صاحب الملك الأصلى ذو الجلال والإكرام، آمين.