“يوميا” الإنسان والتطور
18-12-2007
العدد: 109
عن الدين العالمى الجديد
مقدمة:
هذه تعتعات ثلاث، الأولى، والثانية نشرتا فى الدستور والثالثة على وشك النشر الأسبوع القادم، وحين راجعتهم معاً وجدت أن زوار الموقع أولى بهم وقد تواصلوا حول موضوع واحد هكذا:
الجزء الأول: وعىٌ وسلوكٌ ومعتقد
طلب منى صديقى عمر (حفيدى جداً، أعنى صديقى جدا) أن يتحاور معى حول موضوع يعده لتقديمه ضمن واجبات دراسته فى قسم ما فى الجامعة الأمريكية (يقول إنه قسم الاجتماع، لكنه يعد نفسه فى قسم الفلسفة!!) سألته: يحاًورنى بصفتى من؟ لم يُجِبْ، فهو يحاورنى منذ ولد، بكلام وبغير كلام. وافقت طبعا، فنادرا ما لا أوافق، بالذات بالنسبة للشباب والشابات.
الموضوع حول “تدريس الدين فى المدارس المصرية”، لماذا يا عمر اخترت هذا الموضوع بالذات؟ الله يسامحك!! قال: لست أنا الذى اخترته، أنا كُلِّفتُ به،
أنا أعلم أن موضوع “ربنا” و”الدين” يشغله من قديم، مثلنا كلنا ونحن فى سنه، قبل أن نُمْنَعُ فنكف عن التفكير نهائيا، وكان يكثر من فتحه معى، ويتعجب من تحملى له، وسماحى بأسئلته، وحيرتى .. مع حيرته، حتى وصل الأمر به أنه كان –حين يحتد به النقاش مع زملائه ، يدعوهم لمقابلتى، أو ربما يهددهم بمقابلتى، بدليل أنهم لم يحضروا إلىّ أبداً برغم تكرار الوعد وتكرار القبول من ناحيتى.
نرجع إلى حواره المكلف به من مدرسه أو أستاذه فى الجامعة، سألنى عن “تعريف الدين”!! يا خبر يا عمر!! هكذا خبط لزق، أجبته إنه “وعى“، و”سلوك“، و”معتقد“، معاً، بحيث لايمكن أن ينفصل أى من هذا الثالوث عن بعضه البعض، الوعى فقط قد يكون إيمانا وليس دينا، والسلوك فقط، ربما فى ذلك العبادات، قد يكون تقليدا أو عادة، والمعتقد فقط قد يكون أيديولوجيا، العجيب أنه فهم ما لم أكن أنا شخصيا واثق أننى فاهمه.
سألنى: ما رأيك فيما يدرس بمدارسنا فى حصص الدين، قلت له: إيش عرفنى ماذا يدرسون حتى أحكم؟ ثم من هو الذى يدرِّس حتى أبدى رأيى فيه، ولم أقل له ما وقعت فيه من خطأ ذات يوم منذ أكثر من ربع قرن:
كان ذلك حين استدرجنى قلمى لكتابة مقال صغير، أو ربما ردا على أحمد بهجت فى صندوق الدنيا اقترحت فيه التوصية بتدريس آيات التراحم والمودة والسماح للأطفال، بدلا من البدء بآيات الترهيب والترغيب والتعذيب، مقترحاً أن تؤجل إلى سن لاحقة، وأذكر أننى أشرت إلى أن للقرآن ظاهرا وباطنا ومنقلبا وحدَّا …الخ، وعينك لا ترى إلا النور: فى زيارتى اللاحقة لأستاذى الأول المرحوم المحقق الجليل محمود محمد شاكر، صافحنى بيده القوية الواثقة، حتى كاد يخلع كتفى، كان مكفهرا، وما إن جلست حتى صاح بى، وكان صوته جهورياً يخرج واضحا جليا حتى وهو يهمس، فما بالك حين يصيح. كنت وحدى والحمد لله، حتى لايشهد تقريعى أىٌّ من زواره الأفاضل، صاح بى: ما هذا الذى كتبته يا دكتور؟ (وكان نادرا ما يلقبنى) قلت لنفسى: ربنا يستر، ولم أجب، ولم أستوضح، مد أستاذى يده وتناول المصحف الشريف، ولوح به فى وجهى سائلا بوضوح: “أليس هذا هو كتابك؟” تلفت أبحث عن كتاب آخر غير كتاب الله فلم أجد، فعلمت أنه يعنى القرآن الكريم، قلت على الفور: بلى، وهل فى ذلك شك؟ قال: فكيف وهذا كتابك تكتب ما كتبت؟ ثم عادت أبوته الحانية تطل من عينيه فتحيط بى وتطمئننى، وتجعلنى أكتفى بالصمت، ولا أسأل عن خطأ ما كتبت أصلاً، كان يعلـّمنا بالأسئلة والرفض المحب أكثر مما يعلمنا بالنصيحة المباشرة والتصحيح المُلاحِق.
حين رجعت إلى منزلى رحت أعيد قراءة ما كتبت، وأسأل نفسى: أى خطأ أثار أستاذى إلى هذه الدرجة؟ ولم أجد إجابة واضحة.
لم أعرف خطئى المبدئى بوضوح إلا بعد حوالى عشرين عاما، لأتأكد منه منذ أيام وأنا أحاور صديقى “عمر” وأجيبه عن تساؤلات “الإدارة الأمريكية” للأديان، أقصد “الجامعة الأمريكية” أقصد، مدّرسته فى الجامعة الأمريكية.
اضافة:
كان أستاذى المرحوم شاكر تقليديا ملتزما قويا وواضحا أبدا، كان شديد التحفظ ضد تفضيل أية عن آية: فكل كلام ربنا هو كلام ربنا، كما كان شديد الحذر من طرح فكرة مستويات التلقى (ظاهرا وباطنا..الخ) كما كان يعلمنا أن كل آية لا تؤخذ إلا فى سياقها، وكل سياق لايؤخذ إلا فى مجمل التنزيل، وحين شممت من عمر أنهم يريدون، تنقية الدين (وربما القرآن) إلا مما يريدون فهمت اعتراض أستاذى منذ ثلاثين سنة، مع أنه أصبح لى اعتراض على اعتراضه لا مجال لتفصيله هنا الآن.
الجزء الثانى: تمييع خبيث، أم احترام متبادل؟!
قال عمر (حفيدى/صديقى): لم تقل لى حتى الآن: ما رأى حضرتك كيف يدرّس الدين فى المدارس؟. ووددت لو أنى قلت له: وماذا يفيد أن أبدى لك رأيى فى تدريس أى شئ: الدين أم الجغرافيا أم حساب المثلثات؟ لا أحد يأخذ برأى أحد، وهل هم أخذوا رأى أحد فى الابتدائى “أبو خمس سنوات” ثم “أبو ستة” وبالعكس، أو فى عك الثانوية العامة (رايح – جى)، ماذا يفيد رأى أى أحد فى تدريس أى حاجة، أو فى أى حاجة، نحن ننتظر رأى المشايخ فى الدين لا رأى ربنا، وتوجيهات الرئيس فى السياسة لا توجيهات الناس واحتياجاتهم، ولا حتى الوزراء، قال لى عمر ينبهنى، لم تجبنى يا جدّى، كيف يدرّس الدين؟ انتبهت أن أكثر من نصف الرد لا يخرج ألفاظاً. قلت: ماذا تعنى؟ قال: هل الأفضل أن يفصلوا المسلمين عن المسيحين فى حصص الدين؟ قلت له: لا طبعا، وإلا نحن لن ندرس الدين وإنما سنعلم الأولاد مزيدا من الكذب والنفاق؟ ماذا سيقول مدرس مسلم لتلاميذ مسيحيين عن دينهم؟ وماذا سيقول مدرس مسيحى لتلاميذ المسلمين، ماذا سيدرّسون؟ قال: يدرسون الأسس العامة للدين، المناطق المشتركة فى كل الأديان، قلت له من قال لك أن هذا هو الدين؟ هذه إما فلسفة الأديان، أو مبادئ الأخلاق التى يباركها ربنا أو لا يباركها، على كل فريق أن يعرف أفضل ما فى دينه، ثم يتعلم كيف يتحمل مسئولية اختلافه مع الآخر، وقواعد العيش معه باحترام، أما أن يختزل الدين إلى تلك الشائعات الدمثة الجوفاء مثل: “مادمت لا أضر الناس”، فأنا متدين، مادمت حلو وطيب، فأنا متدين”، إننا بهذا الهرب المستورد، نترك تدريس الدين لمن “لا نعرفه”، وربما لمن “لا يعرفه”، سواء فى البيوت أو دور العبادة، ثم سرحت: بعيدا عن عمر وأنا أتذكر موقفى مع إحدى بناتى – زميلاتى تلميذاتى – مسيحية هى، ونحن الاثنان مهتمان بمريض صعب جدا جدا، وكأننا بما نفعل نحيى ميتا، أسألها: أبعد كل هذا يا فلانة ترضين أن تدخلينى النار؟ فتقول بلا تردد: “مستحيل”، فأقول لها : لا يا شيخه؟. وماذا يقول لك أبونا فى الكنيسة، فتخجل أن ترد، وتبتسم وتفضل أن تعتبرنى أمزح، فأواصل: أليس من الصعب ونحن نعمل هذا العمل المشترك الذى لا يعلم حقيقته إلا الله، ونحن نحيى هذا الذى أضاع نفسه حتى مات أو كاد، هل من المعقول أن نجد أنفسنا أنت وأنا، -هناك- كل واحد فى ناحية ؟ ألن أصعب عليك؟ فتقول: “أنا متأكدة أن حضرتك ..”، وتتوقف، يخيل إلىّ أنها منعت نفسها عن الكذب أو الفتوى أو الشفاعة وأظن أنها خجلت أن تسألنى، “وهل حضرتك سوف تتركنى أذهب إلى النار لأنى على غير دينك برغم ما نفعله معا الآن؟..
أفيق على سؤال عمر: أين ذهبتَ ياجدى أجبنى؟ أقول له يا عمر يا صديقى أنا أخشى أن يكون وراء هذا البحث دعوة خفية ليتنازل كل صاحب دين عن دينه، وهو يمارس بعض الأسس العامة المائعة فى العلن، بينما يخطط لقتل وإبادة وتطهير عرقى لكل من يخالف دينه، فى داخل نفسه، أو خارجها سواء أسماها جهادا، أو حربا استباقية، هل تعرف يا عمر من يحكم أمريكا الآن؟ إنهم الأصوليون القتلة خدام الشركات والمال؟ قال عمر سرحتَ ثانية يا جدى، لم تجبْنى، قلت: أعتقد أنهم يروّجون هذه الدعاوى المشتركة ليتنازل كل صاحب دين عن دينه، ثم يمارس الأقوى أسوأ ما فى دينه تحت اسم آخر، يقتل به الناس، ويسمم البيئة، يسخر المال لمزيد من المال، قال عمر كأنه يوقظنى: لم تجبْنى: قلت: يذكرنى ما يفعلونه الآن بمثل هذا البحث، وهذه الأسئلة، بالتحكيم بين على ومعاوية رضى الله عنهما بواسطة عمرو بن العاص وأبى موسى الأشعرى، قال ما هذا يا جدى؟ ما علاقة هذا بذاك؟ قلت: حاضر حاضر.
الجزء الثالث: هيه..!! وضحكت عليك…!!
قال لى حفيدى/ صديقى عمر (أو كأنه قال): لم تقل لى ياجدى ما دخل هذا التحكيم الذى تحدثت عنه بما أسألك فيه حول تدريس الدين؟ قلت له: أعترف لك ابتداء أن علاقتى بالتاريخ ضعيفة جدَّا، أنا لا أكاد أصدق الحاضر إلا بالعافية، فما بالك بالماضى، رأيى الشخصى أن التاريخ عموما هو، على أحسن الفروض، “وجهة نظر”، قال عمر يا خبر يا جدى! فما هذا الذى ندرسه فى حصص التاريخ؟ قلت: لا تشغل بالك، أنت تدرسها لكى تُسَمِّعُها لكى تنجح، أما ما حدث فعلاًُ، فلابد أنه أمر لا يعرفه أحد بالصورة التى تدرسونها، ولا حتى التى تحتويها كتب التاريخ، قال عمر: ليس هكذا يا جدى، واحدة واحدة!! خلنا فى حكاية التحكيم بين على ومعاوية لماذ تنكرها، أو تشكك فيها، قلت: يا أخى بالله عليك، لو أن عندكم فى المدرسة مباراة كرة أو تقسيمه/تدريب واتفق مدربا الفريقين، أمام كل الناس والحكام والجمهور أن يقوموا بتجربة لمعرفة كفاءة خط الدفاع بطريقة بمتكرة، اتفقوا على لعب مباراة قصيرة بدون حارس مرمى، وكلف الفريق الأحمر “كابتنه” ليمثله، كما كلف الفريق الأخضر كابتنه بنفس الشئ واتفق الجميع علانية، فراح كابتن الفريق الأحمر ونفّذ ما اتفق عليه، وأخلى المرمى إلا من الثلاث خشبات، فأسرع كابتن الفريق الأخضر ورجع فى كلامه وأبقى حارس المرمى، وكأنه يقول “هيه وضحكت عليكم” هل تعتقد أن الحكم أو المدربان أو الجمهور سيتقبلون ذلك؟ وهل ستقام المباراة، أو تقسيمة التدريب أصلا؟ قال عمر فوراً: طبعا لا، هل هو لعب عيال، طبعا لا، قلت هذا ما يقولون أنه حدث فى التحكيم الذى جرى بين على ومعاوية، هذا ما يقولون أنه حدث، أبو موسى الأشعرى خلع الأمام على، فانبرى عمرو بن العاص وثبت معاوية، فهل تصدق هذا؟ قال: طبعا لا؟ قلت: أنا مثلك، لا أصدقه، قال: والذين كتبوا التاريخ؟ قلت: هم مسئولون أمام الله والناس عما كتبوه، قال: ولكن ما علاقة هذا بالذى نحن فيه الآن بشأن البحث الذى سأقدمه للأستاذة، قلت له: إن كل هذه التمحكات لتهميش الأديان هى عبث ضد الطبيعة، دعك من حكاية الدين والسياسة والحكم وهذا الكلام الفارغ، هذا لعب أخطر دعنا نرى الأمور أعمق وأهم، هم يقولون اخلعوا دينكم بعيداً عن كل شئ، عن تدريسه للصغار، وعن الرجوع إليه، وعن التمسك به علانية، وعن معرفة أصوله، وعن التطور من خلاله، وحتى عن الاجتهاد فيه إلا فى حدود ما يرسمونه لنا، سواء هم أو سلطاتنا الدينية، وهم يوهمونا أنهم يفعلون ذلك، حتى نستطيع بذلك أن نتعايش معاً، ثم معهم، ثم يوصنا أن يمارس كل واحد دينه الخصوصى سرا، وعليه أن يحصل على المعلومات اللازمة بشأنه فى الظلام، فى حجرات مغلقة، أما ما نتداوله ونعلنه فتكفى القبلات وادعاء السماح والاستعباط، هم يسوقون لنا أن يكون الدين بمثابة الهواية الشخصية، تمارس شعائره حسب وقت الفراغ والمزاج الشخصى، أو كاحتفالية اجتماعية، وبعضنا يصدقهم، وإذا بنا نفاجأ أنهم هم أنفسهم يعملون عكس ذلك تماما، ويقسمون العالم إلى محور الشر ومحور الخير، ويحتكرون خير الدنيا، وجنات الآخرة، سرا وعلانية، وهم فى نفس الوقت يتسوقون أصوات الانتخابات من دور العبادة، قل لى يا عمر: من الذى يحكم أمريكا اليوم؟ قال: عمنا دبليو بوش قلت: يا عمر هذا ممثل خائب، لا يصلح كومبارسا، الذى يحكم أمريكا هو اليمين الأصولى المتعصب دينيا ومن ورائه تحالفات المال والغطرسة، إنهم يثبتون بشكل راسخ كل ما يدعوننا لخلعه، قال: تعنى أن دبليو بوش هو عمرو بن العاص الحديث، قلت : يا ليت، ولكن كيف؟.
انتبه عمر إلى بحثه ونظر فى الورق وسأل متعجلا: جدى: آخر سؤال: هل يمكن أن يحل تدريس الفلسفة محل تدريس الدين؟ وبالتالى ندرسها معاً وفى فصل واحد؟ قلت له: فلسفة ماذا يا عمر؟ هل أوحوا إليك بهذا أيضا. الفلسفة الحقة تعمّق جذور معرفة الله أساسا، وهى ليست بديلا أذا استعملت من الظاهر، لكن الدين شئ تالِ، قال: أعمل ماذا يا جدى؟ أخشى أن أقول لهم أيا مما قلنا، لن يفهموا شيئا، قلت: ايش عرفك، لاتسارع بالحكم قال: يعنى أعمل ماذا؟ قلت: ذاكر، وسمّع، وجاوب، وانجح، وانَس، ثم تعالى نكمل حديثنا، على أن نتحمل مسئوليتنا ومسئوليتهم طول الوقت.
قال: وهم هل سيتحملون مسئوليتنا.
قلت: كل واحد سيتحمل مسئولية كل الناس
قال: يعنى ماذا، لاتلخبطتنى
…..
والتفتِّ فوجدت أننى فى هذه الفقرة الأخيرة، كما فى معظم الجزء الثالث، كنت أكلم نفسى.