إعادة قراءة مصطلح قديم
الإدراك: بوابة الدراية بين مستويات الوجود
الإدراك بالعربية لفظ شامل جامع, لكن يبدو أنه ليس مانعا, وخاصة حين يستعمل ترجمة لكلمةPerception بالإنجليزية.
فإذا جئنا إلى الاستعمال النفسى أو النفسفسيولوجى ازداد الإشكال وتعقد
ذلك أن الأصل فى هذا الاستعمال هو معنى مرتبط بالحواس أساسا.
ولكن دعونا نبدأبالمعاجم الشائعة من الإنجليزية إلى العربية, ثم بالعربية ثم بالإنجليزية ثم نري, فقد ورد فى معجم المورد ترجمة لكلمة Perception ماهو:
الإدراك الحسي
نفاذ اليصيرة
القدرة على الفهم
كما ورد فى المعجم العصرى ترجمة لنفس الكلمة Perception ماهو:
إدراك المحسوسات
الإدراك الحسي
شعور, بصيرة ,تمييز
فنلاحظ فى كلا المعجمين أن هناك إشارة إلى صفة “الحسي”, لكنه يتجاوزها ليس فقط إلى الفهم والتمييز, وإنما إلى البصيرة, بل وبالذات نفاذ البصيرة, وهذا يمثل طيفا عريضا من أول التقاط المخ لمعنى المؤثر الحسى حتى نصل إلى نفاذ البصيرة بكل ما تعنيه كلمتا نفاذ وبصيرة.
وهكذا يبدو الحرج من استعمال هذا اللفظ فى المجال العلمى وهو بكل هذا الاتساع فى المجال اللغوي.
ونحن نقابل المعنى الأعمق للكلمة, معنى النضج, والبلوغ, واللحاق وأقصى المدي, لمعنى كلمة “الإدراك” فيما تقوله المعاجم العربية, ففى المعجم الوسيط:
أدرك الشيء: بلغ وقته
أدرك الثمر: نضج
أدرك الصبي: بلغ الحلم
أدرك فلان: بلغ علمه أقصى الشيء
أدرك ماء البئر: وصل إلى دركها
أدرك الشيء: لحقه
أدرك المعنى بعقله: فهمه
أما فى القرآن الكريم فإن استعمال لفظ الإدراك ومشتقاته تجاوز بإصرار المعنى الحسي, فهو يكاد يؤكد أن الإدراك هو أقصى المعرفة من حيث أنه ارتبط كثيرا بما لا يمكن إحساسه أو معاينته “حالا” مثل اليوم الآخر, وجهنم
“الحاقة ما الحاقة وماأدراك ما الحاقة” الحاقة 1-3
“وما أدراك ما سقر” المدثر 27
“وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين ” الإنفطار 16 – 17
ثم بالفهم المستقبلى والتوقعي:
“ومايدريك لعل الساعة قريب” الشورى 17
“وما يدريك لعله يزكي” عبس 3
بل إنه كاد يؤكد على أن الإدراك متجاوز الحواس هو الأرقي:
“لاتدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار” الأنعام 103
فإذا انتقلنا للاستعمال العلمى (نفسي) الوارد بالإنجليزية أساسا, فسوف نجد أن الإدراك يعرف بأنه
(1) العملية التى نتعرف بها على البيئة من حولنا, أو
(2)أنه العملية التى تعطى للإحساسات معني.
كذلك ثمة تعريف أضيق يقول:
(3) هو العملية التى تقارن فيها الأحاسيس التى نستقبلها بما سبق أن حصلناه من معلومات.
وكما هو ظاهر فإن هذه التعريفات ليست متماثلة تماما, إلا أنها تتفق فيما يلي:
ا) إن عملية الإدراك تعنى أساسا بالتعرف على البيئة من حولنا (ملحوظة: الحول هو فى الداخل كم هو فى الخارج)
(ب) إنها تهتم ابتداء, وأحيانا انتهاء بالمعلومات “الحسية”
(جـ) إنها عملية معرفية مباشرة أكثر منها تجريدية أو رمزية
(د) إنها العملية التى نفهم بها المثيرات من خلال مقارنتها بسابق معرفتنا, بما فى ذلك تداخلها مع التذكر
(هـ) ويمكن إذا اتسع مفهوم الإدراك بالقدرالكافى أن يشمل العملية التى نتعرف بها على البيئة الداخلية (العين الداخلية: أنظر شكل 1/2 والشرح المصاحب له)
إلا أن الإدراك -علميا- يبدو الخطوة الأساسية (اللحظية والمباشرة) فى العملية المعرفية بما فى ذلك الدراية((1)). فهو يعتبر البوابة الأولية التى توصل مستويات الوجود بعضها ببعض,مع درجة متنوعة من الدراية.
ومن هذا المنطلق يتسع مفهوم الإدراك ليشمل إدراك ما بعد الحواس, وكذلك ليشمل إدراك البيئة الداخلية للذات, وإدراك صورة, ومخطط الذات, وأيضا إدراك صورة ((2) الجسد ومخطط الجسد (أنظر بعد) ويسمح هذا الاتساع لمدى الإدراك أن يشمل ظواهر خارقة للعادة, وليست مرضية أصلا, وهى الظواهر المسماة الإدراك خارج نطاق الحواس باعتبارها ظواهر نشاط نفسفسيولوجى يقع فى نطاق مفهوم الإدراك, وأيضا نجد أن هذاالاتساع مفيد وخاصة فيما يتصل بممارسة التطبيب النفسى حين نضع إدراك داخل النفس ضمن نشاط العملية الإدراكية.
وعلاقة الإدراك بالتفكير والتخيل علاقة دقيقة وعميقة. ففى حين يعتبر الإدراك أساسيا ولحظيا وبدئيا لكثير من أشكال عملية التفكير,نجد أنه ليس كذلك فيما يتعلق بالتخيل, ذلك أن الإدراك يتضمن بصورة شبه دائمة قدرا وافرا من الشعور بواقع ماثل (سواء كان من البيئة الداخلية أو الخارجية) فى حين أن التخيل يتجاوز الواقع عادة.
والتفكير أيضا شديد الارتباط بما هو ذاكرة وإدراك, كما يمكن أن يتحدد الإدراك -جزئيا على الأقل- بالإرادة.
فالإدراك يمثل أساسا جوهريا لكل هذه الوظائف النفسية. فهو الخطوة الأولى فى أى عملية تتصل بالمعرفة أوالدراية.
وهكذا نجد أن التوسع فى مدى مفهوم الإدراك بكل هذه العمليات النفسية يؤكد ضرورة اعتباره أول خطوة فى السلوك المرتبط بعمليات الفعلنة أو التنشيط أو التعرف (ذات التوجه الغائي).
على أن الدراية المباشرة بالحياة الداخلية (إدراك الداخل) ليست مرادفة لما يسمى الاستبطان أو التأمل الداخلي, فهذه الطريقة الأخيرة يغلب عليها النشاط المعقلن المترجم إلى رموز كلامية, وألفاظ راصدة وشارحة لعالم الداخل, وقد يمثل إدراك البيئة الداخلية أول خطوة فى هذه العملية, لكن يظل الاستبطان ليس تعرفا مباشرا على البيئة الداخلية,وإنما هو وصف معقلن لما يمكن أن ترصده الملاحظة العقلية للسلوك الذاتى خارجيا وداخليا.
ويختلف ناتج تنشيط العين الداخلية من شخص لآخر بحسب استثمار ما التقطته هذه العين.
فهذة “العين الداخلية” إما أن تستعمل ما وصلها فى إعادة تنظيم إبداعي
وإما أن تعلن العين الداخلية رؤيتها هذه بشكل مباشر كأنها تراه رأى العين, وهذا ما سوف نسميه الهلوسة البصيرية (وليس البصرية)
كما أن البيئة الداخلية ليست مرادفة بالضرورة لما يسمى اللاشعور, بل إنها تشمل الموضوعات الداخلية -كحقيقة وليست مجرد رموز أو شواش دافعي- كما تشمل أفكارا, وصورا, وذكريات وأحاسيس.
ومن خلال هذا المفهوم الأوسع عن “العين الخارجية”, و “العين الداخلية” يمكن أن نعتبر فعل الإدراك بمثابة: بوابة للدراية المباشرة بين مستوات الوجود (أنظرالشكل)
وهذا الفرض يفتح الآفاق لبدايات واعدة قد تفسر لنا بعض أنواع الحدس الإبداعي.
وأيضا قد يكون حافزا لتفسير الأسس الإدراكية للإيمان من حيث إمكان أن تكون له علاقة مع احتمال تنشيط بوابة دراية مفترضة ما بين منظومة الوجود الفردى ومنظومة الوجود الكونى الأعظم. وقد لا يتضح هذا الفرض إلا من خلال إعادة قراءة قادمة فى أعداد تالية عن الإدراك خارج نطاق الحواس Extrasensory perception وعن اضطرابات الإدراك وخاصة “الهلوسة”Hallucinations وعلاقتها بالثــورة التخيلية.
1- سوف تستعمل كلمة الدراية ترجمة للفظawareness حتى نقصر استعمال كلمة الوعى لتخص لفظ consciousness وتظل كلمة الإدراك لما هو Perception، وإن كان هذا لا يحل الإشكال تماما إذ تظل ألفاظ مثل الشعور واللاشعور تشير إلى الوعى وما تحته، ونأمل رويدا رويدا أن يختص كل لفظ بحدود متفق عليها.
[2] – ثمة فرق بين صورة Image الجسم ومخططschema الجسم، وكذلك الذات، مما لا مجال لتفصيله هنا، وباختصار شديد فالصورة كيان تجريدى تخيلى، أما المخطط فهو تمثيل نفسفسيولوجى عيانى.