يحيى الرخاوى طبيب نفسى
عدد أبريل 1986
نظرية للمناقشة
نظرية التحليل التفاعلاتى
Transactional Analysis Theory
د. عماد حمدى
رأينا أن العلة المرجحة لاختيار هذه النظرية كموضوع لهذا المقال هى أن هذه النظرية غير مطروقة بدرجة كافية فى مجتمعنا العلمى والعام فى مجال علم النفس، وقد كانت مبررات الاختيار كما يلى:
أولا: شدة ارتباطها بنظرية التحليل النفسى، وخروجها من عباءتها مثل نظريات محدثة كثيرة.
ثانيا: حداثتها، وانتشارها وتعدد مجالات تطبيقها فى مجتمعات أسبق، وخاصة فى الولايات المتحدة فى الستينات والسبعينات بشكل أكثر تحديدا.
ثالثا: بساطتها (الظاهرية) وما يترتب على ذلك من سهولة تطبيقها فى مجال علم النفس التطبيقى الإكلينيكى وفى مجال العلاج النفسى الجمعى، وبعض مجالات الحياة العامة.
رابعا: آثارها على فهمنا للإنسان عامة، ولفكرة التعدد الذواتى بشكل أكثر تخصيصا، وما قد يترتب على ذلك من تغيير فى فهمنا للنمو البشرى وللظاهرة البشرية ككل فى السواء والمرض، وذلك من منطق تنظيمى تركيبى، وخاصة فيما يقابل ذلك من بعد بيولوجى.
نبذة تاريخية:
منشيء هذه النظرية هو اريك بيرن Eric Berne وهو أمريكى الجنسية، طبيب نفسى أساسا، ذو اهتمام خاص بالتحليل النفسى، وقد بدأت الفكرة فى مجال عملى بعيد عن التنظير، وذلك أن هذا الطبيب كان يحاول أن يختبر حدسه الإكلينيكى فى معرفة مهنة المجند القادم للاستشارة (حيث كان ‘بيرن’ يعمل فى الجيش حينذاك)، وإذا به يكتشف فى نفسه هذه القدرة المميزة، ثم يكتشف كيف يمكن تدريبها عمليا وبنظام محدد، ثم يكتشف من خلالها التكوين التركيبى للنفس الإنسانية من عدة حالات للذات Ego State وليس من عدة أجزاء مكونة لما هو ذات واحدة، وفى تطبيقاته العملية فى مجال الإكلينيكى وفى العلاج خاصة بدأ يحدد خطوتى هذه النظرية وهما:
أولا: التحليل التركيبي Structural Analysis والذى يعنى به تحديد قوى وشحن كل من حالات الذات ومجالات نشاطها بالنسبة لبعضها البعض وبالنسبة للحالة الواعية للإنسان.
وثانيا: التحليل التفاعلاتى Transactional Analysis ، ويعنى به طريقة التفاعل المتداخلة بين حالات الأنا لفرد ما وحالات الأنا للآخر موضوع التفاعل، وقد سميت النظرية باسم هذه المرحلة الثانية رغم أهمية المرحلة الأولى وأصالتها.
وقد بدأت تطبيقات معطيات هذه النظرية فى مجال الطب النفسى وخاصة مجال العلاج النفسى الفردى الجمعى، الا أن تطبيقها انتشر فى مجالات عديدة أخرى أهمها مجالى التربية والإدارة، وقد بولغ فى انتشارها بسبب لغتها البسيطة المباشرة حتى تسطحت وأصبحت تهدد بفهم الإنسان باعتباره كائنا منشقا بالطبيعة وليس كائنا متعددا بالضروة (Rakhawy. 1981)
المفاهيم الأساسية:
ترتبط المفاهيم الأساسية لهذه النظرية بايضاح ماهية التركيب البشرى وكيفية تفاعلات وحداته المتداخلة بعضها عن بعض. ويمكن ايجاز المفاهيم الأساسية (Berne، 1961، 1966، 1967، 1979) كالتالى:
1-ان الإنسان انما يتكون من تنظيمات كلية مختلفة نوعيا بعضها عن بعض، ولها مظاهر سلوكية ووجود فينومينولوجى فى نفس الوقت، وتسمى هذه الأنماط التنظيمية حالات الأنا Ego states
2- ان حالة الأنا تعنى ما يظهر به تنظيم نيورونى معين فى المخ، ويظهر على مستوى السلوك فى موقف ملائم appropriate situation، اذ يطلقه فى العادة مثير مناسب releaser.
3- وقد وصف اريك بيرن ثلاث حالات للأنا اعتبرت هى الحالات الرئيسية ولكنه أكد مرارا أنها ليست أبدا كل حالات الأنا المحتملة والموجودة فعلا، وهذه الحالات الثلاث هى:
(1) حالة الأنا الطفلية (وتسمى أحيانا الطفل..) وهى تشير الى حالة الشخص إذ يظهر سلوكا طفليا من حيث: أ- التلقائية الفطرية، والبساطة، والابداعية، كذلك من حيث: ب- الذاتوية egoism، والخيالية، وضعف العلاقة بالواقع والعناد، أى أن ما هو طفلى له جانبان يبدوان متناقضين رغم أنهما يمثلان نفس حالة الأنا، ويمكن التعرف على ظهور حالة الأنا هذه فى السلوك بتذكر السلوك العادى للطفل العادى، وباكتشاف السلوك الطفلى والروح الطفلية، والغاية الطفلية فى سلوك ما، نتبين أننا أمام حالة الأنا الطفلية، كما أن طريقة التعرف الأخرى انما تتم من خلال الحدس الاكلينيكى المباشر الأمر الذى يحتاج الى تدريب خاص واستعداد خاص، وقد يتضمن ذلك شعور الفاحص بمشاعر أبوية تجاه المفحوص حتى لو كان الأخير أكبر منه سنا. وتظهر حالة الأنا الطفلية فى الأحوال العادية فى مناسبات العطلات ، والنشاط الحر فى أوقات الفراغ، وفى أوضاع التلقى فى ممارسة الحب وجزئيا فى بعض أوجه النوم، وفى الأحوال غير العادية تغلب حالة الأنا الطفلية على التركيب البشرى وتحتل الوساد الشعورى بشكل طاغ فى بعض حالات الهوس الخفيف، وفى أى حالة نكوص ذهانى سواء كان فصاميا أو هوسيا، وفى بعض حالات الشخصيات غير الناضجة مثل الشخصية الهستيرية وغيرها.
(2) حالة الأنا الوالدية (وتسمى أحيانا للاختصار الوالد) وتشير الى النمط الذى يظهر فى السلوك فى شكل صفات والديه سواء كانت:
(أ) صفات الرعاية والمحبة والهدهدة وتقبل الاعتماد عليه.
(ب) صفات القمع والعقاب واملاء القواعد السلفية القاطعة وما شابه، وكما ذكرنا فى حالة الأنا الطفلية فان التعرف على هذه الحالة يتم أيضا من خلال اكتشاف هذا السلوك أو ذاك بشكل غالب على الشخص فى موقف بذاته، كما يتم بالحدس الاكلينيكى لفاحص مدرب.
ويظهر ذلك فى الأحوال العادية فى المواقف الوالدية مثل التدريس والقيادة والارشاد وما إليها، كما تطغى هذه الحالة الوالدية على الوساد الشعورى فى الحالات المرضية فى اضطراب الشخصية الشيزويدى وفى حالات الاكتئاب كأمثله.
(3) حالة الأنا الناضجة (تسمى أحيانا الناضج أو اليافع أو الفتى) وهذه الحالة بالذات لم تأخذ حقها فى الشرح والتحديد عند اريك بيرن مثلما هو الحال مع سابقتيها، ويبدو ذلك لأن التنظيم المسئول عن هذا الكيان (السلوك) هو كما يقول اريك بيرن (Berne، 1961) تنظيم الأحدث تطوريا. على حال فهذا التنظيم هو المسئول عن السلوك الواقعى المحسوب الهادف لتأكيد العلاقة بالواقع والنفع والاستمرار فى التوازن المتعادل، لذلك فهو تنظيم يبدو كجهاز حاسب (كمبيوتر) يمكن أن يستعمله أى تنظيم آخر لخدمة نوعية وجوده وأهدافه (Hamdi، 1982) أى أنه لا يعمل تلقائيا لحسابه من حيث المبدأ، وان كان اريك بيرن قد أشار دون تفصيل إلى أنه مع استمرار النضج والممارسة ينمو هذا التنظيم بالذات على حساب ما سواه من تنظيمات حتى يصبح تلقائيا وقادرا على القيادة وهذاما أسماه (اريك بيرن) الناضج المتكامل Integrated Adult ويبدو أن بيرن قد تعمد قصدا أن يتجنب الافاضة فى مميزات هذا التنظيم تحديدا فقد اعتبرها حالة فائقة نادرة من النضج يتضاءل معها التركيب التعدد نتيجة لاحتواء الناضج على ما سواه من حالات الأنا، تدريجيا فى عملية نمو ولافى معقد لم يدخل بيرن فى تفاصيلها.
علاقة هذه المفاهيم الأساسية
بتركيب الشخصية عند فرويد:
قد يبدو هذا التقسيم الثلاثى لأول وهلة الشبه بتقسيم فرويد للنفس الانسانية إلى الهو Id (بما يقابل حالة الذات الطفلية) والأنا Ego (بما يقابل حالة الذات الناضجة) والأنا الأعلى Super ego (بما يقابل حالة الذات الوالدية)، ولا يمكن تصور أن ينبع فكر بيرن دون تأثر مباشر بهذا التثليث التركيبى الفرويدى، إلا النظرة التالية لابد أن ترينا فروقا جوهرية تكاد تؤكد وتعمق التباين بين النظريتين بشكل مميز الأبعاد تماما.
ويمكن ايجاز هذه الفروق كالتالى:
أولا: يمثل الأنا عند فرويد تركيبا واحد هو النفس الواعية أو الجزء الواعى من النفس ذو العلاقة المباشرة مع الواقع، ولا يستطيع أى من الهو أو الأنا أن يعبر عن وجوده أو رغائبه الا من خلال الأنا، أما عند بيرن فان أيا من حالات الأنا الثلاث تجد لها طريقا للتعبير المباشر، بل ولازاحة ما دونها فى الوعى مباشرة، وهذا يعنى أننا نستطيع – فى لحظة بذاتها – أن نتكلم مع الطفل مباشرة أو نصافحه أو نربت عليه دون مترجم أو وسيط.
ثانيا: لا يعنى الهو عند فرويد الا مجموعة من القوى الفجة المشتتة رغم قوتها التى لا تمثل تركيبا بذاته وانما طاقة عنيفة غريزية فى العادة ومغذاة بالمادة المكبوتة ولو أن هذا المفهوم قد تعدل بشروح بنيوية مثل ما قدمه لاكان Lacan فى هذا الشأن ، أما عند بيرن فمفهوم حالة الأنا الطفلية هو دال على تركيب متماسك منتظم له صفات وأهداف ولغة وحضور فينومينولوجى ومٍهر سلوكى مستقل ومتبادل مع حالات الأنا الأخرى.
ثالثا: يعتبر الأنا الأعلى عند فرويد فى الجزء الأكبر منه تأثيرا لاشعوريا، يغلب عليه القمع واشعار الأنا بالذنب أما عند بيرن فنجد الحالة الوالدية كيانا شعوريا متبادلا مع الكيانات الأخرى ، كما أنه ذو صفات حانية وراعية، تتبادل مع ما هو رادع مانع حسب الظروف القائمة وتركيب الشخصية.
رابعا: تتحد العلاقة بين حالات الأنا وبعضها فى تركيب متوازن (فى حالة السواء) يمكن تحليله بالنسبة للشخص وهو ما أسماه بيرن التحليل التركيبى كما تأخذ العلاقة ببين الفرد والآخرين شكلا مربكا تساهم فيه كل حالات الأنا بتفاعلات متداخلة يمكن أيضا فهمها عن طريق ما أسماه بيرن التحليل التفاعلاتى، أما فى التحليل النفسى فيمثل الأنا المصب الأهم لكل تفاعلات اللاشعور وتأثيراته الدينامية الشاملة، وتأثير هذا المحتوى اللاشعورى فى العلاقات البينشخصية (وخاصة من خلال الحيل النفسية) لاينكر، الا انه لا يتم بين كيانات متعددة وانما من خلال الأنا الشعورى الواحد فحسب.
حالات الأنا وأصلها البيولوجى:
أكد اريك بيرن أن مفهوم حالات الأنا ليس مفهوما رمزيا أو تجريدا لغويا وانما هو يعنى به وجودا فينومينولوجيا وتنظيماً سلوكيا لنشاط تركيبي محدد فى المخ البشرى، وقد استند فى ذلك الى تجارب بنفيلد Penfield 1952 جراح الأعصاب الذى أظهر امكانية استرجاع نمط وجود كامل خلال اثارة أجزاء محددة من المخ تحت تخدير موضعى لمتطوعين، وأن كان بنفيلد لم يستعمل تعبير حالات الأنا الا أن ما وصفه بيرن كان مطابقا بشكل أو بآخر لما وصفه بينفيلد مع اختلاف الأسماء، وقد ترجم بيرن نتائج بينفيلد الى لغة حالات الأنا مباشرة، فأعاد وصفها فى صورة تنظيمات نفسية مخية فى نفس الوقت وقد وصف بيرن حالة الأنا الطفلية باعتبارها تنظيما قديما وسماها النفس الأثرية Archeopsyche، كما وصف حالة الأنا الناضجة باعتبارها التنظيم الأحدث وأسماها النفس الحديثة Neo psyche أما الأنا الوالدية فهو لم يحدد حداثتها من قدمها، وانما أكد على علاقتها بالعالم الخارجى اذ تستمد أساسا مما ينطبع من العالم الخارجى على تنظيم بدائى داخلى لذلك فقد أسماها النفس الخارجية Extero psyche . على أن هناك اشارات غير مباشرة توضح أن هذا التنظيم هو قديم أيضا ولكنه أقل قدما من الذات الطفلية.
ويبدو أن ما ينطبع على الذات الوالدية هو تنظيمات كلية تنطبع بواسطة التوحيد أو التعيين الذاتى introjections identification (من مفهوم فرويدى) كما أن لها علاقة بظاهرة البصم imprinting عند علماء الحيوان والانثولوجى Rakhawy 1979 على أن محاولة الاشارة الى أين يمكن أن يقع التنظيم المقابل لهذه الذات أو تلك لا يعنى أبدا التوصل إلى تحديد موضعى وانما هو يشبر فحسب إلى وجود مستويات متكاملة من السلوك داخل المخ من جهة، كما يشير فى نفس الوقت الى العلاقة الوثيقة بين ما هو نفسى وما هو بيولوجى بالمعنى الأشمل لكلمة بيولوجى.
التفاعل الطبيعى بين حالات الأنا
ان رؤية الانسان ككيان متعدد من خلال منظور هذه النظرية هو مخاطرة لا يمكن قبولها ببساطة، والواقع ان هذا التعدد هو امكانية وليس واقعا طول الوقت، ولابد من تحديد نوع العلاقة بين هذه الكيانات المتبادلة فى حالة السواء خاصة، وقد ذهب اريك بيرن الى ايضاح ذلك فى خطوط عامة كالتالى:
1- انه لا يمكن للانسان الفرد أن يكون الا وحدة واحدة فى أى لحظة بذاتها، وذلك بالنسبة للمنظور السلوكى.
2- انه فى اللحظة الواحدة يصعب تصور تفاعلات متعددة (تصدر من ذوات متعددة فى شخص واحد) تحدث فى نفس الوقت ولكن يبدو أن الفاصل الزمنى ضئيل جدا لدرجة تبدو معها التفاعلات المختلفة آنية ومتلازمة.
3-من منظور فينومينولوجى فان التعدد يمكن قبوله وتصوره ومعايشته ولكن هذا التعدد يتوحد فى وحدة كلية فى الأحوال العادية فى لحظة بذاتها بشكل أو بآخر.
وقد حدد اريك بيرن عدة مواصفات للتفاعل السوى بين هذه التنظيمات وبعضها على الوجه التالى:
1-التناسب Appropriateness: حتى يقال أن نشاط حالة من حالات الأنا يقع فى حدود الطبيعى فان هذا النشاط ينبغى أن يتناسب مع الموقف الذى يظهر فيه، فمن المناسب مثلا أن تطغى حالة الأنا الطفلية على شاطيء البحر فى أجازة منطلقة أو حفل راقص، ومن المناسب أيضا أن تطغى الحالة الوالدية لمدرس يحاول أن يضبط الفصل بشل حازم… وهكذا.
2-التعاون Cooperativeness: ان نشاط حالة من حالات الأنا انما يتم باتفاق ما مع الحالات الأخرى، بمعنى أن الحالات الأخرى تتنحى جزئيا فتتيح الفرصة الأكبر لهذه الحالة المناسبة حتى اذا تغير الموقف والمثير فان حالة أخرى قد تحل محل الحالة الأولى التى تتنحى مؤقتا وهكذا، وهذا التعاون بين حالات الأنا يعطى فرصة لتناوب مثمر فى الحياة العادية، يحقق الوحدة اللحظية من جانب كما يؤكد التعدد من جانب اخر ، وتشمل هذه الخاصية صفة أخرى وهى المرونة Maliability التى تشير الى القدرة على الحركة المنطلقة من حالة إلى أخرى.
3- التوليف Synthesis: لعل هذه العلاقة هى من أصعب العلاقات فهما بين التنظيمات الأنوية، ولم يشر اريك بيرن اليها تفصيلا فى الحياة اليومية وان كان يمكن استنتاجها من مفهوم الذات الناضجة المتكاملة Integrated adult، فإن طريقة خروج هذه الوحدة الأكبر من واقع تمثلها واحتوائها لوحدة أصغر ظاهرة التناقض هو فى واقع الأمر نضج ولافى مباشر، فالتوليف بين حالات الأنا هو علاقة سوية ولكنها بطيئة وليست ظاهرة يومية يمكن كشفها فى كل حين.
4- المواجهة Confrontation: وصفت هذه الظاهرة من خلال تطبيقات النظرية وليس فى أصولها، وتعنى أن احدى حالات الأنا اذ تواجه حالة أنا أخرى لا تتنحى لها ولا تتصارع معها ولكنها تواجهها، فى محاولة اثبات وجود من نوع جديد، وقد تكون هذه المواجهة المؤلمة الا انها تبدو خطوة لازمة نحو التوليف السابق ذكره.
التركيب المرضى لحالات الأنا:
يقع هذا الموضوع فى اطار الجزء الأول من هذه النظرية وهو المعرف باسم التحليل التركيبى Structural analysis وقد اتضحت المعالم من خلال التطبيق العملى فى المجال الاكلينيكى ويمكن وصف نوع العلاقات بين حالات الأنا كما أشار اليها بيرن وكما ظهرت فى التطبيق الاكلينيكى على الوجه التالى:
1-الاستبعاد Exclusion ويعنى ذلك أن حالة من حالات الأنا تحتل الشعور أغلب الوقت، وهذا يصحبه ما يسمى عادة بتليف حدود الذات ego boundary sclerosis وهى تشير أيضا الى الافتقار إلى المرونة، وتعنى هذه الخاصية أحادية التواجد وقد تظهر فى شكل عادى إذ تبدو وكأنها نوع من ثبات الشخصية، ومن حيث المبدأ فاننا قد نعتبر النوم نوعا من الوعى يتم فيه الاستبعاد ، كما يبلغ الاستبعاد فى الأحوال المرضية درجة معطلة للنمو والتكيف معا، ومثال ذلك فى حالات اضطراب الشخصية الشيزويدي، حيث تستبعد الأنا الطفلية أساسا وان كان هذا الاستبعاد – فى الواقع – ظاهريا وناقصا لأن الصفات الطفلية تظهر بشكل مغلف، ربما من خلال عملية أخرى غالبة فى كل حالات اضطراب الشخصية هى عملية التلوث contamination . ويظهر الاستبعاد فى بعض حالات الهوس حيث يحتل الطفل الوساد الشعورى مستبعدا كلا من الوالد والناضج فيصبح السلوك غير منطقى وغير متفق مع العرف أو التقاليد فى آن واحد.
2- التلوث Contamination يشير اريك بيرن الى دور التلوث بين حالات الأنا فى تكوين الضلال والهلاوس وفى حالات التعصب فى الحياة العادية ينشأ التلوث نتيجة لوجود بعض نشاط حالة أنا أخرى مع الحالة الأساسية التى تحتل الوساد الشعوري، فحين يحكم الناضج على أمر ما بأنه مفيد وطبيعى ولكن يأتى حكم من مصدر آخر (الوالد مثلا) بأن فى الأمر اضطهادا أو نوايا شريرة فان هذا يعد تلوثا من وجهة نظر بيرن. أما فى الاستعمالات اللاحقة فقد اقتصر استعمال لفظ التلوث على الاختلاط الامتزاجى بين حالتين من حالات الأنا بحيث تبدوان واحدا دون امكانية فصل بذاته، وبينما سمى النوع الأول من التلوث باسم: س، ففى التلوث الامتزاجى يصعب فى ظاهر الأمر تمييز حالتين من حالات الأنا، وان كان يمكن تفسير كثير من أنواع السلوك من خلال وحدة الهدف رغم ظاهر تنوع الصفات، ففى الشخصية السيكوباتية مثلا يتحد الطفل مع الوالد على حساب الناضج، فتتأكد الأنانية والتوجس وأحيانا العدوانية والاعتمادية (وكلها صفات مختلطة من الوالد والطفل) على حساب الواقعية والمسئولية وطول النفس والتعلم من الخبرة.
وهذا التلوث يعوق النمو لأنه يمنع التبادل بين حالات الأنا كما يمنع أكثر وأكثر التوليف لأنهما ما عادا الا واحدا.
وفض التلوث Decontamination هو العملية العكسية للتلوث وهو أمر شديد، ويحدث تلقائيا فى الذهان المبكر وأثناء العلاج النفسى وبوجه خاص فى العلاج الجمعى النشط ( )
3- المواجهة Confrontation: ذكرنا أن المواجهة فى الظروف الصحية والعادية هى الخطوة الأساسية فى عملية التوليف، ولكن إذا كانت المواجهة بين حالات الأنا صعبة وحاسمة ومعطلة لكلا الطرفين فانها تعتبر احدى العمليات المرضية وينشأ عنها نوع من الاكتئاب النشط والأصيل، وعلى الرغم من أن الغالب فى التفكير التحليلى ثم التفاعلاتى هو أن الاكتئاب أساسا هو الكبت والقمع والاهماد وهى جميعا من صفات الوالد التى قد توحى أن الوالدهو حالة الأنا الطفلية المحتلة للشعور تماما ( ) الا أنه يبدو أن الاكتئاب، على عكس اضطراب الشخصية الشيزويدى مثلا يتميز بأن حالة الأنا الوالدية تظهر فى صورة تأثير أكثر منها وجودا سلوكيا، بينما يمثل الطفل المقهور الوساد الشعورى معظم الوقت خاصة فى فترات الحزن والبكاء.
ويظهر التماثل فى قوة نشاط حالتى الأنا (الطفل والوالد) اكلينيكيا فى صورة التبادل بين الهوس والاكتئاب فى جنون الهوس والاكتئاب الدورى حيث يطغى الوالد فى الاكتئاب فى مواجهة الطفل، ويطغى الطفل فى الهوس فى مواجهة الوالد حتى يقول اريك بيرن على هذه الظاهرة انها حوار بين الوالد والطفل أى أن أحدهما يقول فيستمع الآخر ثم يقول الآخر فيستمع الأول ( ).
4- الخلط Confusion هذه العملية تعنى أن احدى حالات الأنا تشوش على حالة أخرى بحيث تبدو الأمور فى خلط عشوائى لا تتميز فيه الابعاد أو المواجهة أؤ حتى التلوث، وحسب ما يشير اليه اريك بيرن فان الخلط يظهر فى الفصام حيث يحتل الطفل المرتبك الوساد الشعورى ولكن لا فاعلية مواجهية أو ابعادية كما هو الحال فى الهوس أو الاكتئاب المختلط، ويمكن القول أنه فى الفصام يكون الناضج أيضا مشوشا أكثر فأكثر بل وعاجزا تماما نتيجة لهذا التشويش أو نتيجة للشلل والاستبعاد الجزئى.
اضطرابات حدود حالات الأنا:
ان حالات الأنا هذه يمكن تصورها ذات حدود تفصلها عن غيرها وتميز نشاطها وتلم معالمها، وهذا التحديد هو الذى يسمح بالتحليل التركيبى كما أنه يسمح بوصف التفاعلات بين الحالات وبعضها وبديهى أن كلمة حدود الأنا Ego boundary لا تعنى بحال من الأحوال فصلا كاملا أو كيانا تشريحيا ولكنها تعنى تميز هذا التنظيم الوظيفى أو التركيبى عما سواه بتحديد فاصل، وقد وصف اريك بيرن بعض ما يصيب هذه الحدود واستعمل لذلك لغة تشريحية توضيحية بحيث أكدت المنطلق التركيبى لهذه النظرية، كما أضيفت بعض المشاهدات الاكلينيكية إلى ما سبق أن وصفه بيرن، وفيما يلى بعض هذه التغيرات التى تظهر فى حالات المرض:
1- تليف الحدود Boundary Sclerosis ، وتعنى هذه الظاهرة أن الحدود شديدة الكثافة بحيث لا تسمح بالتداخل من ناحية، ولا بالنمو من ناحية أخري، كما أنها تمنع المرونة والتبادل ولذلك فانه إذا تليفت حدود الأنا المحتل للوساد الشعورى فان المنتظر ألا تتبادل حالات الأنا مع بعضها مع اختلاف المواقف، ويظهر ذلك مثلا فى حالات اضطراب الشخصية الشيزويدى مع الاستبعاد الذى سبق ذكره، وعموما فان هذا التليف هو المصاحب الأول والمسئول عن اعاقة المرونة ومن ثم اعاقة النضج، وقد يمتد التليف إلى سائر التركيب الملوث فيسمى تخلل التليف Sclerosis infiltration وهو يعنى أن الجمود لم يعد قاصرا على الحدود فقط ولكنه تخلل كل الكيان التركيبى وخاصة الكيان المكون من حالتين من حالات الأنا.
2- الثقب Perforation وتشير هذه العملية إلى أن نقطة ضعف توجد فى جدار الذات وأحيانا ما يشار إلى هذه النقطة باعتبارها تسربا Leakage ، وهذا الثقب فى جدار احدى الذوات يسمح بأن تطل من خلاله نشاطات وصفات أنا أخرى (دون تلوث) ويعتبر اريك بيرن أنه فى بعض حالات اضطرابات الشخصية السيكوباتية نجد أن الوالد الحقيقى للشخص المضطرب لم تكن تعنيه – مثلا – القيم الأخلاقية السائدة، وبالتالى فان ذاته المنطبعة على ابنه لم تكن ذاتا والديه تماما بل كانت مختلطة بصفات طفلية نسبيا، وبهذا يفتقد الابن فى ذاته الوالدية هذا التماسك والتجانس وتطل عليه – من ذاته الوالدية – صفات طفلية تعتبر مسئولة بدورها عن هذا السلوك السيكوبائي، وهكذا، ويفهم مما تقدم أن الفرق بين الثقب والتلوث والاقحام هو فرق نسبى من ناحية ويرجع أيضا إلى وقتية السلوك وسهولة ظهوره، ففى الثقب يظهر سلوك الذات الأخرى بسهولة مفرطة ويظهر فى الأغلب فى أوقات بذاتها دون تداخل ثابت طول الوقت.
3- نفاذية حدود الذات Boundary permeability وهذه الخاصية عكس التليف تماما، ومعناها السماح بالتلوث المؤقت، أو الاقحام المؤقت، وقد تسمح حتى بنفاذ العالم الخارجى إلى حدود الذات لدرجة الخلط بينهما فى بعض حالات الفصام، كما أنها تفسر بعض أعراض اقحام الأفكار أو نزعها.
4- شفافية حدود الذات Boundary Transparency ، وتعنى أن ما بداخلها أصبح فى متناول الخارج دون مساس بصلابة الحدود وتميزها، وهذه الخاصية قد اكتشفت مؤخرا من خلال التطبيقات الاكلينيكية، وهى تبدو حلا وسطا ضد ضياع حدود أو ضد النفاذية، لأنه اذا كان ما بداخل الحدود في متناول الرؤية، فان الضغط لخروجه أو خلطه بالذوات الأخرى يقل مؤقتا أو تماما، وقد تفسر هذه الظاهرة بعض الأعراض الذهانية مثل قراءة الأفكار، وإذاعة الأفكار وحيث يعتقد المريض أن آفكاره فى متناول الآخرين (كنتيجة للشفافية التى تساوى التعرى كتعبير شائع).
5 ـ فقد حدود الـذات Boundary loss ويرجع هذا الوصف الى نظرية التحليل النفسى أساسا، ،يختص بمرضى الفصام بالذات حين يختلط ما هو ذات بما هو ” لا ذات”، ويختلط الواقع بالخيال، ولكن عند اريك بيرن نجد أن فقد حدود الذات إنما يصف أى حالة آنا فقدت معالمها الواضحة التى تميزها عن حالات الأنا الأخري، وتوجد أحيانا درجة قصوى من النفاذية قد تظهر فى أوائل المرض فى شكل عرض فقد الانيهdepersonnalization.
مفاهيم أساسية أخرى:
لم تكتف نظرية التحليل التفاعلاتى بالوصف التركيبى لحالات الأنا أو لوصف علاقاتها ببعضها البعض فى حالات السواء والمرض بل أرست قواعد مفاهيم أساسية أخرى: جوهرية وتطبيقية Berene,1967، ومن ذلك:
1 ـ اللعبة (الدور(Game، وترجمة هذا المفهوم صعب نسبيا لأن كلمة لعبة بالعربية لا تعنى تماما ما يريده اريك بيرن، بصفة عامة تحقيق نوع ما من التكيف، وتكرار هذه الخطوات نفسها فى نفس الموقف المماثل هو ما دعا بيرن أن يسمى هذا المفهوم اللعبة لأن لكل لعبة قواعد وخطوات وبداية ونهاية تميزها وتتكرر فى كل دور،هذا المفهوم قريب جدا من بعض الحيل النفسية كما تستعملها مدرسة التحليل النفسي، وبذلك فان اللعبة ليست أبدا مفهوما مرضيا، لأنه من خلال هذا التكرار يتم التكيف فى العادة، ولنتصور حياة بلا ألعاب من هذا النوع; اذن لأصبحت حياة ثقيلة رهيبة معجزة، أو قاسية عارية مولمة مدمرة( ) فالألعاب ـمثل الحيل ـ تتم عادة بعيدا عن دائرة الوعى نسبياً على الاقل، والافراط فى هذه الألعاب هو الذى يعتبر معجزا، لأنه قد ينتهى إلى أن تصبح حياة الفرد تكرارا مملا بلا نمو او تغير أو ابداع، وقد كان الانتشار هذا المفهوم عند الشخص العام آثاره الحسنة والسيئة معا على نظرية التحليل التفاعلاتى، وقد كان كتاب اريك بيرن المسمى “ألعاب الناس” أو “الأدوار التى يلعبها الناس” Games people play أكثر الكتب مبيعا عدة سنوات متتالية فى الولايات المتحدة الأمريكية، كان لهذا الكتاب اكبر الأثر فى تعريف عامة الناس بهذه النظرية، كما كان له أكبر الخطر فى الافراط فى سوء استعمالها على حد سواء ( ).
2- المخطوط script يعنى هذا المفهوم سلوكا أطول من الدور فى اللعبة قد يستغرق أسابيع أو شهورا أو حتى سنين عددا، وهو متكرر متتابع الخطوات أيضا، وقد يمهد له وراثيا ثم يتشكل بالتعليم البيئى، ولأنه أطول من دور اللعبة فتأثيره أبقى ودلالاته أشمل، والمثال الذى يضربه بيرن للمخطوط هو تلك المرأة المخلصة التى تحب فتتزوج (Berne 1979) مدمنا كحوليا حتى يكف عن تعاطى الكحول من خلال حبها ورعايتها وتتطور الأمور من الحب الى التعود إلى الضجر إلى الشك إلى الغيرة فالعدوان فالطلاق وحين تستقر فترة وتعاود المحاولة إذا بها تتزوج كحوليا آخر بنفس التبريرات والنوايا مقنعة نفسها بأنها تغيرت وتعلمت ولكن المخطوط يتكرر بنفس التواتر: الحب الزواج محاولة العلاج بالحب: الحب، التعود، الضجر، الشك، الغيرة، العدوان، الطلاق، ثم الثالثة وهكذا ما أتاحت الظروف أن يتكرر المخطوط، وبنفس المنطق فان المخطوط هام جدا وقد يفيد فى تتابع مسيرة الحياة بشكل تلقائى دون امتحان صعب للارادة، ولكن استمراره يدل على العجز عن التعلم كما يعلن التوقف عن النضج، وإذا شبهنا خطوات “الدور فى اللعبة” هكذا 1، 2 ، 3 ، 4.. قف، ثم أعد 1 ، 2، 3، 4.. قف ثم أعد وهكذا، فإن المخطوط يمكن أن يمثل هكذا 1 ، 2 ، 3، 4 ، 5 ، 6،…… 12 ، 13 ، 14، 15.. أو 35 ، قف ثم أعد.
3 ـ السلوي (تمضية الوقت) Pastime يشير هذا المفهوم الى النشاطات التى تؤدى لمجرد ملء الوقت، قد يسوق صاحبها كثيرا من التبريرات بشأنها لكن التأمل فى داخلها وهدفها وجدواها يثبت أن ما يؤدى ليس سوى ملء للوقت، وهذا الهدف فى ذاته هام فى الحياة العادية ومفيد فى استمرار التكيف وبيرن لم يدمغه الا أنه يجدر الاشارة الى أن الافراط فيه لابد وأن يقلل من فرص النضج والارادة والابداع.
4 ـ النشاط Activity يشير هذا المفهوم الى النشاط المنتج الهادف الذى يتصف بأقل درجة من اللعب أو السلوك، ويبو أن النشاط ليكون صحيا تماما فأنه بهذه الصورة سوف يتصف بدرجة أو بأخرى بما هو ابداع واستمرار للنمو.
الأوضاع:
وصفت هذه النظرية بالأضافة للتحليل التركيبى والتحليل التفاعلاتى والمفاهيم الأساسية لتشكيل الوقت، وصفت عدة أوضاع فى علاقة الفرد بالعالم(أو بالأخر) وجعل أنواع هذه العلاقات المحتملة تندرج تحت أربعة احتمالات:
الوضع الأول: أنا صح وأنت لست صحا بارانوي
الوضع الثانى: أنت صح وأنا لست صح اكتئابي
الوضع الثالث: أنا لست صحا وأنت لست صحا شيزويدي
الوضع الرابع: أنا صح وأنت صح سوى
وواقع الأمر أن هذا التبسيط هو من أسباب سوء استعمال هذه النظرية بعد شيوعها عند غير المختصين حتى أصبح النداء’ أنا صح وأنت صح’ عنوانا لها فى بعض المجالات، وخرج أحد تلاميذ بيرن بكتاب مسهب بهذا العنوان Harris 1973 كما أن الوضع السوى بالذات ليس بهذا التسطيح وانما ينبغى – كما اقترح من الممارسة الاكلينيكية – أن يحتمل الوضع السوى أن يكون الواحد والآخر كلاهما على صواب وعلى خطأ فى نفس الوقت (Rakhawy,1981) وتحمل هذا الوضع هو من قبيل النضج وما يسمى بتحمل الغموض، والتفاعل بين الأفراد هو تفاعل معقد يشمل هذه الأبعاد الأربعة ومن خلال ذلك يتم التقارب الصحيح ومن ثم النمو.
التطبيقات العملية:
طبقت مبادئ هذه النظرية فى عديد من المجالات، وأهمها مجالات الادارة والمعاملات والعلاج، وينبنى التطبيق على أساس موحد وهو معرفة(تشخيص) الأنا الممثلة للشعور فى وقت بذاته مع عدم اهمال التفاعلات الأخرى بين الحالات المتشابكة، ومن خلال ذلك تتضح أعماق التعامل فتسهل الادارة اذ تتحقق الاحتياجات الأعمق غير مكتفين بظاهر التفاعل.
وفى المجال الاكينيكي، قد يكون من المفيد عرض التطبيقات المحتملة للافادة من التحليل التركيبى والتفاعلاتى فى الموقف التشخيصى والعلاجى على حد سواء.
التشخيص التركيبى:
فعلى مستوى السيكوباثولوجى يمكن باستعمال هذه النظرية للوصول الى تشخيص تركيبى وتشريح تركيبى مباشر فى قطاع مستعرض دون الغوص إلى أعماق صعبة أو استقصاء تاريخ طولى مسهب، فقد ثبت فائدة التشخيص التركيبى من خلال الاجابة على اسئلة مثل: (أ) أى حالات الأنا تحتل الوساد الشعورى أساسا فتمثل الجزء الطاغى على الصورة الاكلينيكية المريض ما.(ب) وما هى علاقة هذه الحالة الأنوية بسائر حالات الأنا الأخرى وهل هى علاقة استبعاد أم تعاون أو مواجهة أم ولاف.. الخ؟ (جـ) وهل يمكن التعقيب على حدود الذات بلغة التليف، والنفاذ والشفافية.. الخ؟
والأمثلة على هذا التطبيق كثير نورد بعضا منها للايضاح أيضا:
1 ـ فى الهوس الخفيف Hippomania: ‘طفل’ طاغ، ملوث نسبيا مع الوالد، لكن ‘ الوالد’ والناضج(الفتي) عموما مستبعدين بدرجة شديدة.
2 ـ وفى الهوس:’طفل’ منتصر جامح، و’ والد’ مستبعد تماما و’ناضج’ أزبج من الفاعلية ووساد الوعى أو قد يستعمله ‘الطفل’ لأغراضه الجامحة.
3 ـ وفى الهوس النكوصى:( والذهان النكوصى بصفة عامة بما يشمل الفصام النكوصى قليل الأعراض): ‘طفل’ نشط، و’ والد’ مزاح و’ ناضج’ مشلول.
4 ـ فى الاكتئاب يمكن تمييز نوعين يختلف التحليل التركيبى فيهما تماما:
(أ) ففى الاكتئاب البيولوجى النشط: يطغى نشاط’ الوالد’ فى مواجهة ‘الطفل’ الذى أو لا يظهر على المستوى السلوكى ؤانما يقاوم بعنف وقوة فى كل وقت على المستوى التركيبى وهذا ما يعطى الاكتئاب حدته كما سبق ذكره، ويستمر اليافع فى نشاطه بدرجة متوسطة.
(ب) أما فى الاكتئاب المزمن التعاب:(عادة مجسدن) فان ‘الوالد’ يبدو طاغيا نسبيا لكن التلوث مع’ الطفل’ يبدو هو الأهم لأن هذا النوع من الاكتئاب هو أقرب الى اضطراب الشخصية، ويكون نشاط ‘الناضج’ معمى نسبيا.
5 ـ أما فى الفصام فيختلف الوضع حسب النوع ومرحلة تطور العملية الفصامية:
(أ) ففى الفصام المبتدئ ( الذى يشارك الذهان المبتدئ عامة) يوجد أكثر من حالة ذات نشطة تعمل فى نفس الوقت ويشغل نفس الوساد الشعورى، وأن كان المريض عادة يميز أثنين فى المقام الأول احداهما هى من كانت ‘طاغية’ طوال الفترة قبل المرض، وهذا النشاط المواكب لا يكون بالضرورة مواجهة أو صراعا بل هو أقرب الى المنافسة فالاعاقة المتسببة عن ذلك وقد يتبع ذلك التردد ظهور ثنائية الوجدان وثنائية الميول وثنائية التفكيرAmbivalence، Ambitendey Ambithoughts .
(ب) وفى الفصام المستتب: نجد أن ‘الطفل’ مختلط عليه، يحدث ذلك عادة لتشويش صادر من التعدد والتنافس، أما الناضج فيبدو متناثرا عاجزا وكذلك يظهر نشاط الوالد فيجزر متناثرة بشكل طاغ نسبيا كما يختفى تماما فى جزر أخرى من التنافس.
6 ـ العصاب: نجد فى العصاب، وبصفة خاصة النوع المزمن – أن الغالب على التركيب المرضى هو التوث ( ) غير المستقر، والتلوث يصبغ نشاط ‘ الناضج’ أساسا بخليط شبه متجانس من نشاط كل من ‘الوالد’ و’ الطفل’.
7 ـ اضطرابات الشخصية: وخاصة النوع النمطى Personality patterrn Disorder يبدو فى هذا النوع من الاضطراب أن التوث أعمق وأكثر تغلغلا وأثبت مقاما، وقد يظهر النشاط الطفلى فى بعض الأنواع المحددة مثل النوع غير الناضج والنوع الهستيرى، ويقال أن الطفل يبقى فى حالة اضطراب الشخصية الشيزويدى وأن كنا قد أشرنا سابقا كيف يكون التلوث غالبا رغم ظاهر الابعاد.
8- حالات البارانويا المزمنة: ويمثل هذا النوع درجة قصوى من التلوث الثابت والاقحام المستقر معا بين حالات الأنا وبعضها البعض.
أمثلة للتحليل التفاعلاتى:
وننتقل الآن إلى عرض أنواع ممثلة للتحليل التفاعلاتى كما صوره اريك بيرن، فقد شرح كلا مما يلى:
1- التفاعلاتى المتتامة: Complementary Transactions ، ويعنى هذا النوع أن التفاعل يتم بين نفس حالة الأنا من الجانبين، أى أن الطفل – مثلا – يتفاعل مع الطفل، هكذا مباشرة والناضج مع الناضج… الخ ، ومثال ذلك هو: موظف البنك (ناضج) يعطى رقم الحساب لعميلة (ناضج) أو راكب (ناضج) يسأل ناظر المحطة عن ميعاد القطار (ناضج) أو زوج (طفل) يسابق زوجته (طفل) على الشاطئ فى صباح يوم من أجازة الصيف…. أو رجل (والد) يقرأ فاتحة خطبة ابنته مع أم خطيبته (والد)… الخ.
2- التفاعلات التقاطعية Crossed transactions ويعنى هذا النوع ان احدى حالات الأنا ترسل الرسالة ظاهريا إلى أخرى مقابلة فى حين يأتى الرد من حالة أنا غير مقابلة، ومثال ذلك حين تطلب زوجة (طفل) من زوجها اصطحابها إلى التقديم لعملها الجديد فيعطيها زوجها (ناضج) وصفا واضحا لعنوان هذا العمل…الخ
3- التفاعلات (الخلفية) الثنائية Ulterior transactions وهنا يحدث التفاعل الظاهرى على مستوى يبدو من النوع التام أى بين ذات والذات المقابلة (ناضج – ناضج مثلا) فى حين يحدث تفاعل أخر بين ذاتين متقابلتين ولكن على مستوى أخر بعيد خلفى عن المستوى رحلة نهاية الأسبوع (ناضج – ناضج) ويؤكد الزوج بأنه لم ينس ، ويكون التفاعل الأقصى بين طفل وطفل يصيحان: هيا نلعب؟
علاقة هذه النظرية بالنظريات الأخرى
بديهى أن هذه النظرية لم تنشأ من فراغ ، وأن اضافاتها تكمن أساسا على محورين رئيسيين: الأول هو آلتعدد التركيبى والثانى هو التفاعلات المواكبة معا وبالنسبة للمحور الأول فاننا نستطيع تتبعه فى أكثر من نظرية سابقة ومعاصرة، ونورد أهمها فيما يلى:
1- نظرية التحليل النفسى (الفرويدي): أوردنا فيما سبق الفروق بين نظرية التحليل النفسى عند فرويد وبين التحليل التفاعلاتي، الا أننا نستطيع أن نتتبع بعض أفكار فرويد فنكشف التعدد التركيبى لا كأجزاء فحسب وانما ككيانات كلية فاعلة فعلا، ومن ذلك موافقته صديقه طبيب الأنف والأذن فلايس Freud 1954 أنه ما من جماع جنسى الا ويتم بين أربعة باعتبار الازدواجية الجنسية فى الوجود البشرى عند الذكر والأنثي، وهذا ما أشار اليه فيما بعد يونج، وبالنسبة لمفهوم الألعاب والأدوار فان الحيل النفسية التى وصفها فرويد كانت أقرب ما يكون إلى مفهوم الألعاب.
2- نظرية ساندور رادو Senescu 1975
تعتبر النظرية الدينامية النفسية التكيفية adaptational psychodynamics من التطورات التى خرجت من عباءة التحليل النفسي، وقد وصف رادو عدة مستويات للتكيف تتصاعد من البدائى الى الناضج كما وصف ما أسماه النفس الفاعلة Action self وهى التى تجمع هذه المستويات حولها لتحقيق الفاعلية والتوافق معا، وهذا التصعيد فى المستويات الكلية يذكرنا بالكليات التنظيمية المعبرة عن حالات الأنا عند بيرن.
3- علم النفس التحليلى ويونج Dorr, 1974
لعل يونج هو أعمق من وصل إلى تركيب الذات البشرية، وهو الذى أشار إلى ظاهرة الشخصية والقناع Shadow والشبح باعتباره النقيض للظاهر وكذلك الثنائية الجنسية فضلا عن الأنماط الموروثة من اللاشعور الجمعى ، وكل هذه المفاهيم تشير إلى تعدد مستويات الوجود البشرى وكلية التنظيم التركيبى فى آن واحد.
4- كارين هورنى Karen Horney 1970
وحين تتحدث نظرية كارين هورنى عن الذات الحقيقة والذات المثالية والذات العصابية انما تشير إلى ذوات متعددة وهو الأمر المشترك مع فكرة اريك بيرن عن حالات الذات المتعددة على أن كارين هورنى كانت تؤكد أكثر فأكثر على تحقيق الذات الحقيقية بما يقابل الناضج المتكامل عند اريك بيرن، وفى الوقت الذى أكدت فيه على الجدل الولافى فى عملية النمو لم يذهب اريك بيرن نفس المذهب لأى درجة واضحة.
5- نظرية العلاقة بالموضوع Object relations therory
وهذه النظرية التى غلبت على المدرسة الانجليزية الحديثة بدأت تتضح بأعمال ميلانى كلاين Melanie Klein 1952 وأكملت بأعمال فيربيرن وجانترب Guntrip 1969 , 1977 على وجه الخصوص ، وقد رفضت فكرة الغزائز والتجزيء العزيزية واستبدلته بعلم نفس للكينونة والكيان وعلاقته بالآخر، وفى حديث فيربيرن عن الانشقاق الأولى إلى ذات ليبيديه Libidinal ego وذات مضادة لليبيدو Anti-libidinal ego وأخرى مركزية ضامة وكابتة Central egoوكذلك عن انشقاق ثانوى فى الذات الليبيديه الى ذات ليبيديه أصلية Libidinal ego وذات ناكصة Regressed ego نجد جذور تعدد الذوات فى النفس البشرية.
6- بنفيلد والتركيب البيولوجى: أشرنا فيما سبق إلى اعتماد اريك بيرن على تجارب بنفيلد لتأكيد فكرته عن حالات الذات، وبنفيلد ذات نفسه أشار إلى هذه الكلية والتعدد فى تجاربه باثارة كهربية لفصوص المخ بقطب ميكروسكوبي.
نقد النظرية وبعض مميزاتها:
لابد ونحن نختم الحديث عن هذه النظرية أن نشير إلى بعض المآخذ التى يمكن أن تؤخذ عليها، وما تميزت به من معالم أضافت إلى المعرفة المتعمقة عن النفس البشرية:
مآخذ ومحاذير:
1- البساطة وخطورة سرعة الانتشار وسوء الاستعمال:
تبدو هذه النظرية شديدة البساطة برغم عمقها المتناهي، ويلام اريك بيرن فى ذلك جزئيا فقد لجأ إلى مخاطبة الشخص العادى مباشرة أكثر من المحافل العلمية، وهو ذات نفسه الذى اعتبر نظريته بمثابة قطع العقدة بدلا من حلها (ضاربا مثالا بقصة عن عقدة جوردون Berne, 1976
2- شرعية التعدد وتسهيل الانشطار:
وعلى ذلك فقد أساء استعمالها العامة حتى كاد التعدد يعفى الواحد من مسئوليته نتيجة لأن حالة ذات هى التى فعلت كذا وليس أنا… وبالتالى فان أفعال الارادة والتكامل فى واحد لم تعد واضحة فى أذهان التبريريين مما يفتح الأبواب لنوع من التلاعب القدرى بشكل أو بآخر.
3-العلاج اللفظى التعليمى:
اتجه اريك بيرن فى تطبيقه لهذه النظرية إلى طريقة المدرس معتمدا على التفسير على سبورة وشرح التفاعلات حتى انقلبت المسألة إلى فصل للتدريس وليس بصيرة للمواجهة.
4- ترجيح أحد الذوات على غيرها:
قد يبدو للدارس السطحى أؤ الممارس المبتديء أن الذات الطفلية أولى بالتدريب والرعاية فى المجال العلاجى مما قد يشجع النكوص دون التكيف مع خطورة انتاج أنواع محورة من اضطرابات الشخصية باعتبارها شخصيات متكاملة.
المميزات الخاصة:
نكرر هنا ما سبق أن ذكرناه فى العرض التفصيلى من أن هذه النظرية تمثل المباشرة والبساطة وسهولة التطبيق وبساطة التدريب من خلال مفاهيمها، وفى الوقت الذى حددت فيه تركيب الشخصية بشكل معين فى حالات السواد فانها أشارت إلى تشريحات ممكنة وآنية تجاه كل مرض من الأمراض، كما أسهمت فى اعطاء مفاتيح تشخيصية لحالات الأنا اذ تظهر فى المجال السلوكى ووجهت الممارسين إلى ضرورة تدريب الحدس الاكلينيكى الذى يكمل التشخيص السلوكي، وكأنها بذلك قد أعطت بعدا تشخيصيا تركيبيا يكمل التشخيص التقسيمى الشائع إلى زملات مرضية معينة، وهذا البعد التشخيصى له فائدة علاجية مباشرة فى مجال العلاج النفسي، وكذلك فى مجال العلاج العضوى حيث بدأت محاولات لفهم العلاجات العضوية باعتبارها فاعلة على مستويات انتقائية مختلفة. مما قد يسهل مهمة المعالج فى اناره هذا المستوى (حالة الأنا) وتثبيط ذلك.
الموقف الحالى:
بعد انتشار هذه النظرية تطبيقيا وعمليا فى الستينات وخاصة فى مجالات العلاج النفسى الجمعى بالاشتراك مع العلاج الجيشتالتى أو مستقلة عنه بدأت تغزو مجالات غير طبية بشكل متزايد ونجحت فى تحسين الادارة والمعاملات فى بعض النشاطات الجماعية، الا أنه ما آن حلت أواخر السبعينات حتى بدى أنها تنحسر عن المجال الطبى والاكلينيكى بشكل يدعو للتساؤل حول طبيعة النمو والانتشار اللذان حازتهما، فاما لن يكون انحسارها هو موجة انحسار العلاجات النفسية عامة والتحليلية خاصة لصالح العلاجات العضوية، وأما أن نعزو ذلك إلى أن ما انتشر من هذه النظرية ليس سوى سطحها دون عمقها ، وأن المآخذ التى أشرنا إليها هى المسئولة عن انحسارها الظاهر، على أن أثر هذه النظرية وخاصة من حيث التحليل التركيبى وكذلك من حيث التأكيد على تعدد الذوات قد يمثل نواة لفكر تركيبى ولغة تركيبية تستطيع أن تحافظ على ايجابيات هذه النظرية الأصيلة دون سلبياتها.
المراجع
1) Berne، E (1961) Transactional Analysis in Psychotherapy. New York: Grove Press Inc.
2) Berne، E (1966) Principles of Group Treatment. New York Grove Press، Inc
3)Berne، E (1967) Games People Play. New York: Grove press Inc.
4)Berne، E (1976) Beyond Games and Scripts. New Yorw: Grove Press Inc.
5)Berne، E (1979) What Do you say After you Say Hello? London: Transworld Publishers Ltd.
6) Freud، S. (1954) The origins of Psychoanalysis (Letters to Flless) London: The Hogarth Press.
7) Guntrip، H. (1969) Schizoid Phenomena، Object Relations، and the Self. London: The Hogarth Press.
8) Guntrip، H. (1977) Personality Structure and Human Interaction london: The Hogarth Press.
9)Harris، T.A. (1973) Iصm Ok youصre Ok. New York: Aron Books.
10)Karen Horney (1970) Neurosis and Human Growth. New York: Nortan W.W.Cie
11)Melanie Klein (1952) Some theortical conclusions regarding the emotional life of the infant. In Developments in Psychoanalysis London: The Hogarth Press.
12) Penfield، W. (1952)) Memory mechanisms. Archives of neurology and psychiatry 67: 178 -.198
13) Rakhawy (1981) Selected Lectures in Psychiatry Cairo: (Unpublished document).
14) Senescu، R.A. (1975) Sandor Rado. In Freedman A.M.، Kaplan، H.I and Sadock، B.Z. (eds). Comprehensive Text Book of Psychiatry. Baltimore The Williams and Wilkins Company.
15) Storr، A (1974) Jung. Great Britain Fontanna / Collins.
المراجع العربية
1- زكريا ابراهيم (1978) البنيوية. القاهرة. مكتبة النهضة المصرية.
2- يحيى الرخاوى (1978) مقدمة فى العلاج الجمعى: عن البحث فى النفس والحياة. القاهرة. دار الغد.
3- يحيى الرخاوى (1978) دراسة فى علم السيكوباثولوجى. القاهرة دار الغد.