عدد أبريل 1986
مثل وموال
زواية (زوايا) أخرى للجذب والصد فى الصداقة والهجر
الصاحب اللى يفوتك يقن أنه مات[1]
أترك سبيله ولا تندم على اللى فات
الصقر بيطير وبيعلى وله همات
يقعد فى الجو عام ولا اتنين
يموت من الجوع ولا يجود على الرمات[2]
هذه الصورة تجسد نوعا من الآباء الشديد فى التعامل مع (حاجة) الانسان للصديق، وعدم تحمل الهجر بوجه خاص، والتفسير الخلقى لأول وهله يوحى بأن هذا الموقف هو موقف كريم رائع ينبغى أن يتصف به كل ذى كرامة وشمم، ولكن يبدو أن الآمر ليس كذلك تماما، فهذا أمر قد يدل – أيضا – على الصلف وشدة التأثر بالهجر، نتيجة للحاجة الخفية الشديدة للاعتماد بشكل ما على صحبة هذا الهاجر، وبالتالي، فأن صاحب مثل هذه الشخصية [3] يشعر أن هذا الهجر هو رفض وليس مجرد ترك، وهو لشدة حاجته للآخر – دون اعلان خشية اظهار الضعف (الموقف البارنوي) يحتج على هذا الرفض برفض زشد، يتمثل فى هذا التصعيد الى هذا العلو الشاهق الذى يتصف به الصقر [4] (عند العرب خاصة) وهو الظاهر علوا، ولكنه فى الواقع وحدة ما بعدها وحدة، وكأنه بدلا من أن يتفاعل للهجر بالألم والتفهم واحترام الخلاف والانتظار والاستمرار على مسافة وكل هذا ليس فيه مذلة أو خنوع، بدلا من ذلك سيطير الى أعلى متخذا موقفا فوقيا حاكما على هذا التارك أنه (رمة)[5] ويعتبر هذا السلوك الصقرى هو الهمة العالية مصدر الفخر ودليل العزة، وكل ذلك مقبول كدفاع طبيعى ضد اظهار الضعف والحاجة وهو مستوى جيد من الخلق، خلق الاستغناء وعدم الأخذ.
خلقت عيوفا لا أرى لابن حرة على يدا أغضى لها حين يغضب
ولكننا ينبغى آن ننتبه الى أن عدم الأخذ هو (عجز عن الأخذ) (أيضا) وهو دليل وحدة صعبة ليست هى الفضيلة الوحيدة، أو الفضلية الأولى فى العلاقة بين البشر، ورغم أن مثلا عاميا يؤكد نفس الاتجاه:
(الصقر صقر ولا همه، يموت من الجوع ولا يحود على رمه)
فأن أمثالا أخرى تفتح آبوابا أخرى لكيفية التعامل مع الصداقة والهجر محترمة حاجة الانسان للانسان بأى صورة وبصفة دائمة:
1- فلنبدأ المسألة (بالموافقة) وما يحدث يحدث:
اللى ترافقه وافقه
وليست الموافقة هى النفاق دائما، ولكنها تحمل معانى كثيرة من بينها آن تبحث عن مناطق الاتفاق (أيضا) ولا تتوقف عند الخلاف (دائما) وكذا مناطق التوفيق أو التلازم، والاتفاق قد يأتى من المشاركة فى بعض الطباع أو الأهداف، لمكنها الت،فيق فهو يأتى من الاختلاف حبث يكمل الصديق صديقه كالمفتاح والقفل (أو التعبير العامى المستعمل فى (النجارة) والمستمد من الصداقة والحب أصلبا (عاشق ومعشوق).
وقد اختلفت الآراء حول أيهما أفضل لاستمرار الصداقة وتأكيد التكيف، أن يكون صديقك مثلك أم أن يكون مكملا لك وأنت مكمل له؟، وفى كل خير – أما عن الاحتمال الأول وهو (التماثل) – فهو المعنى الموجود فى (أن الطيور على أشكالها تقع) وكذلك (كل شئ له يشبه اللى له) (تنطق بالعامية كل شيله يشبهله بتشديد اللام وضمها) – كل شيله يشبهله حتى الحمار واللى آنيه ([6])- أما التكامل فقد يكون فى جمع الخاضع مع الطاغي،
زى القط ما يحبش الا خناقه
2 – لكن الصداقة أمر صعب، وهى امتحان متجدد، وقولهم:
الصاحب عله
ليس سبا (فقط) فى الصداقة لما تلزمنا به من تحمل الاعتمادية، ولكنه أيضا أعلان أنها انتحان عسير يحتاج الى الصبر والتفويت:
اذا كنت فى كل الأمور معاتبا صديقك لم تلق الذى لا تعاتبه
ومن لا يتحمل التفويت، فليدفع الثمن وهو الوحدة الجليدية
فعش واحدا أوصل أخاك فآنه مقارف ذنبا مرة ومجانبه
وفى المثل:
“التعبان من رغيفه يوسع له”
3- وعملية الصداقة عملية ذات اتجاهين: ذهابا وايابا، فأنت تطرق الباب فى محاولة تلقائية مثابرة ولا تكتفى بالانتظار:
”استودوا تستحبوا”
ثم أنك تفتح بابك لمن يطرقه للصداقة مرحبا متجاوبا:
”مين زق بابنا يأكل لبابنا)”
فأهلا وسهلا بالطارق، وأن لم يحضر فلنذهب اليه:
عدى يا المحبوب وتعالي
ؤزن ما جيتش لاجيلك أنا
4- ثم يبدأ تبين الاختلاف، ولكن هل بالضرورة يكون الاختلاف هو بداية الخلاف؟ ذكرنا حالا أن اختلاف الطباع قد يكون سببا فى الحفاظ على الصداقة، بل أن تشابه الطباع قد يكون سبئا اذا كان باعثا للتنافس فقط حتى تصبح العلاقة عقيمة غير مثمرة.
زى نخل أبو قير، دكر قدام دكر
ثم زن ثمة أخرى لتحمل الاختلاف: هى أن تعرف صاحبك وتقبله دون محاولة تشكيله فورا بحيث يصبح نسخة منك لتجنب الاختلاف. وهذا ما فهمته من قولهم.
أعرف صاحبك وأتركه
فأنا لم أستقبل هذ المثل باعتباره تركا بمعنى آنهاء الصداقة أو الانصراف عن الصديق، وأنما استقبلته بمعنى (اتركه فى حاله) ولا تفرض عليه – فورا – ما تتصوره أصوب، وبأستمرار صداقتكما سوف بتطور التفاعل الى ما يثمر ما يتطور بكما، وهذا الاستمرار مع المعرفة هو من أعظم ما يعلن النضج، وهو ما يسمى بتحمل الغموض Tolerance of ambiguity(أو التناقض)- وهو أفضل من ألا ترى فى صاحبك الا ما هو حسن، بل ترى فيسه (حسنا ما ليس بالحسن).
أكما ينعتنى تبصرننى حسبكن الله أو لا يقتصد[7]
فتضاحكن وقد قلن لها حسن فى كل عين ما تود
لأ هذه صداقة عمرها قصير، اذ، ماذا سيكون الحال حين (تعرف) فى صاحبك الجانب الآخر؟
5- فبعد المباداة والتفويت وحسن التلقي، والمعرفة لابد من الرضا بالقليل من الصاحب حتى لا يتزايد الطلب فالاتهام فيزداد الطلب فالالتهام كشارب الماء المالح.
”أذ قد التهم الواحد منكم تلو الآخر دون شبع”
” من فرط الجوع التهم الطفل الطفل “[8]
فالتركيز على القليل والرضا به، ينميه ويبارك فيه:
” الحر من راعى وداد لحظة”
يظهر ذلك جليا عند الاختلاف: فالخلاف، حيث لا يتذكر الانسان الكريم (الحر) القسوة والأخطاء فحسب، بل هو يستدعى أيضا، وقبلا، لحظات الوداد والكرم والعطاء والتفاهم: فلا يفرط فى العشرة بسهولة:
العشرة ماتهونش الا على ابن الحرام
6- وقد يكون من باب الضمان آن تتعدد الصداقات حتى لا تصبح احتياجات الواحد منا مطلوبة من مصدر واحد فقط، وكآنه المنبع لماء الحياة، فاذا غاض بالهجر، هاج بنا الاباء وهات يا صعود صقورا متعالين حتى الموت!!، فالهجر يخف ويأخذ حجمه الموضوعي، ووقتع المحدود اذا كان ثمة بديل جاهز للتعويض والتخفيف، وهذا ليس ضد الوفاء والاخلاص كما يدعى والأخلاقيون المثاليون المسطحون الذين يعتبرون الصداقة ملكية خاصة، وأنه كلما ضاق نطاقها، تعتقت نكهتها، نعم، على الانسان أن يعمق ويتحمل ويستمر، ولكن عليه أيضا أن ينمى قدرته على المصادقة بلا تردد ومن كل مصدر
خداك من كل بلد صاحب
7- ولا بأس من بعض الصفقات الصغيرة، بل والكبيرة مما لا يعيب الصداقة، فــ:
الرغيف المقمر للصاحب اللى يدور
وما المانع أن من يبحث عنى ويسأل ويترقب، ما المانع أن أختصه بأطيب العطاء فى مقابل ذلك.
بل أن المضطر يركب الصعب فهو اذا ما تيقن من انعدام الحنان فى علاقة الصداقة القائمة، وظل فى نفس الوقت مصرا على ضرورة الصداقة اذ لا بديل:
وكيف نعيش بغير حنان وصفو حديث حبيب لخل [9]
نعم كيف نعيش بغير حنان؟ فلنصطنعه اصطناعا ولو من غير مصدره ولو من عدو، من يدري:
من قلة الحنية بتنا على جفا
وخدنا من بيت العدو حبيب
وهى مغامرة محسوبة، أفضل ألف مرة من العزلة والصقرية ذات الاستعلاء المتكبر، ثم من يدري، ألا يجوز أنه باتخاذ الحبيب من الأعداء نكتشف فيه الجانب الآخر، فننصح بمسئولية أروع، أم أننا سنظل ملتحقين بحاجتنا الى توظيف العدو كمسقط لعدواننا حتى ولو لم يكن هو المسئول عن اثارته؟ أن القول بأنه (نهار العدو ما يصفى يخفى) أنما يعنى أيضا أنه بذلك قد فقد مهمته لى كعدو، فلم يعد بى حاجة اليه، وكأنى منت أحافظ على كيانى باستمرار عدادوته، أو لعل ثمة عمقا آخر قد يشير الى الى أن (يخفي) تعنى تنتهى عداوته فلا يصبح الا يديقا، أستبعد هذا الاحتمال فالألفاظ والتركيب لا يحتملانومهما يكن من أمر، فان الحرص على العلاقة مع الآخر، بالعداء أو بالصداقة هو حرص واجب ورائع فيما هو انسان وهو أفضل ألف مرة مرة من العزلة والانسحاب المتعالي، وقد يكون اتخاذ العدو حبيبا هو من باب الانتظار الفرج حتى يظهر صديق جديد يلبى صديق جديد يلبى الحاجة فى الوقت المناسب أى أنه:
تجمز بالجميز [10] حتى يأتيك التين
ليكنهذا زو ذاك، لكن كلا الاحتمالين هو صراع ضد احتمال الهرب إلى أعلي، مهما أغرتنا لمعة القمة، فهى لمعة الجليد الأملس المجمد.
9- فاذا لم ينفع كل ذلك، وظل سيف الهجر مسلطا حاسما مهددا، فلا بزس من انسحاب اختيارى (مؤقت بالضرورة)، ما دام الاصرار على رفض العزلة قائم بهذا الموضوع وما دامت البدائل بهده الوفرة، فأنه فى النهاية:
من سابك سيبه، من فاتك فوته
حتى اذا وصل الى الهجر غير الجميل، فان حسبت أن الرد بالمثل، مهما بلغت قذارته، هو أفضل من حيث المساواة واستمرار الحوار، أفضل من تلك العزلة الاستعلائية فليكن حتى لو:
من شخ عليك شخ عليه وأهى كلها نجاسة
والمسألة هنا ليست تصعيدا للموقف، وأن كان ذلك محتملا، لكنها أيضا معاملة الأنداد، وهذا أرحم من الحكم الفوقى بأن الخصم (رمة) لا يستاهل، وبديهى أنه لا تعميم فى مسألة ( كلها نجاسة) ،لكنى جئت بهذا المثل على قبح ما فيه لأعلن احتمال قبوله بقذارته اذا لم يكن هناك بديل الا الاستعلاء والعزلة ودمع الآخر بلا رحمة أنه ليس الا “رمة”.
أليس كذلك
-[1] الأصل الوارد فى كتاب الأغنية الشعبية للدكتور أحمد على مرسى (دار المعارف، 1983) ص 183 مكتوب فيها القاف جيما غير معطشة (باللهجة الصعيدية) فقلبناها للتسهيل قافا ونطقها الأصح ألف مهموزة فى معظم اللهجات العامية الأخرى وذلك فى (يقن) وفى (الصقر) وفى يقعد، وأصلها يجن، الصجر، سجعد (فعدرا).
[2]– الميم فى (همات) عليها شدة وفتحة كذلك الميم فى (رمات).
[3] – يقال لها عادة البارنوية وهى ليست مرضا ورحم الله أستاذنا العقاد.
[4] – وربما النورس عند الغرب، مع الافتقار الى قوة الانقضاض ومهارة الصيد والاتفاق فى العلو والوحدة.
[5] الرمة: العظام البالية (بالعربية) – لكن المقصوة هنا فى الأغلب هو الجثة النتنة بالعامية.
[6] آنيه: أى مقتنيه أى من يملكه ويعوله، وهو تغيير شائع فى العامية ويطلق على المرأة فى السباب معايرة لزوجها بأنه يتحملها أو أن ذوقه انتقاها فى قولهم (زوحى كتك داهية فيكى وفى اللى آنيكي).
[7]– عمر بن أبى ربيعة طبعا.
[8] – سرا اللعبة دراسة فى علم السيكوباثولوجى للكاتب.
[9] – من شعر الكاتب القديم جدا .
[10] الجميز نوع رخيص من التين، أقل حلاوة وأمسخ طمعا وثمره كان متاحا بالمجان للغالبية فى الريف المصرى حتى لو لم يكونوا مالكيه مثل التوت أحيانا.