الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد ابريل 1986 / عدد ابريل 1986- الناس والطريق الفصل السابع: تداعيات الرحيل الأخير

عدد ابريل 1986- الناس والطريق الفصل السابع: تداعيات الرحيل الأخير

عدد ابريل 1986

تداعيات الرحيل الأخير ...،[1]

ثم يوم “هناك” ويوم “هنا”

يحيى الرخاوى

الأربعاء : 29 يناير 1986 – الساعة الخامسة وعشر دقائق:

استأذن صديقى، والد ابنتى رفيقتى رحلتنا هذه (مع الناس على الطريق)، صديقى، استأذن أن يكمل رحلته وحده، بعد صراع وعناد وآلام ورؤى وحوار أغلبه صامت، وكل هذا لا أستطيع – الآن – إهماله أو نسيانه أو إزاحته كما لا أجد عندى الشجاعة أو الأمانة لحكاية كل تفاصيله التى استغرقت أكثر من سبعة أشهر .. جمعنا فيها – هو وأنا – خلاصة عمرنا قولا وتذكرة، ثم عبدا ورؤية.

فمنذ سافرت معه، ورجعنا كما سافرنا، وأعجز، ونحن نجتر أيامنا بهدوء شائك، هو: تعتصره الآلام، وأنا : يخيفنى العجز، حتى قرر .. فذهب فوجدتنى أعيش معه / فيه / به ، بتقمص يحتد فيه وعيى فيهزنى حتى النخاع، وأنا أخطو بجواره مرتحلا إلى ما لم أحتسب، مختبرا – من جديد – ما كنت أتصور أنى عرفته ظهرا لبطن، ألا وهو ما كنت أسميه – مثل الناس – “الناس”، فإذا بى لا أعرف منه، أو عنه إلا أقل القليل.

حين رحل صديقى، وما رحل، وجدت نفسى أحاول أن أواصل بدونه، بعيدا عنه، بالرغم منه، لكنى اكتشف أنى أفتعل الأشياء إفتعالا، وكأنى أزيحه بعيدا بما ل أعتده معه، ولم يعتده معى، فأخذت أواجه اختبارا صعبا: فأما أن أتوقف كثيرا أو قليلا عن كتابة هذا العمل المنطلق، حتى ألملم نفسى، فأنسى أو أتناسى، وأما أن أغامر بنقل الفصول، فأقدم هنا “فصل” رحلتى مع صديقى هذا التى وعدت أن تأتى قرب نهاية هذا العمل، أنقلها إلى هذا الفصل، فما دام الأصل فى هذه الكتابة هو حضورى مع القلم، لا حكايتى عن الحدث، فليقدنى القلم حيث شاء، أفليست هى أنا: رحلة الداخل والخارج؟

وبدون تلؤ، أمسكت بالقلم حتى لا أتراجع، وللقارئ العتبى حتى يرضى، أليس عذرا مقبولا أن أتقدم إلى رحابة وعيه بأقل قدر من الزيف والصناعة؟

إذن : فهو “الموت”، الرحلة الأخيرة، والحقيقة الأولى، أو الوحيدة، فقد كنت أردد دائما، ومن قبل هذه المحنة – وهو “يسمعنى أحيانا” – أنه كان من الجائز إلا أولد أصلا، ولكنى متى ولدت – وقد كان – فليس ثمة احتمال إلا أموت …، ومع ذلك، فإن الجارى يكاد يعلن غير ذلك، إذ يبدو أنها حقيقة نقولها، .. لا نعيشها، ولا نعايشها، إذ لا نتعلم منها .. بدليل أننا لا نتغير بها، وبعد أن رحل صاحبى، ونحن فى بؤرة الموعظة والإفاقة (هكذا بدا) قلت لصديق آخر، بمثابة تلميذى وابنى، وهو حكيم صغير، قلت له “لو أن واحدا بالمائة من حقيقة هذه بقى معنا .. لكنى” فرد التلميذ / إسنادى / ردا صعبا “.. بل واحد فى الألف”-

واحد فى المائة، أو واحد فى الألف من ماذا؟

وأعود فأقول: من “هذا”.

السبت 25 يناير 1986 :

قال لى صديقى الراحل هامسا وأنا أجلس بجوار سريره، وكان قد أعتدل إلا قليلا “…. لا أحد يفهم، قل لهم “كفى”، دعهم يدركون” – وكأنى رددت عليه أن “حاضر” أو ما شابه، فقد كان يكفى أن نقول بلا كلمات، فنتفاهم، ولم يكن جديدا على أو عليه هذا الحديث الذى بدأناه منذ عرف أحدنا الآخر فى عز الشباب، إن كان لشبابنا عز كما يعرفه الناس، كان دائما يذكر نفسه أمامى – فيذكرنى[2] – أنه أخذ أكثر مما حلم، وكسب أكثر مما تصور، وترفه أكثر مما يحتمل، وأمن ذويه بالمسكن والدخل المعقول بقدر ما ينبغى، وعلم كل ما تعلم، وأضاف إليه ما أبدع، لم يحبس حرفا، ولم يرد طالبا، ولم يقمع فكرا، ولم يعق منطلقا، فهو تارك حتما ما يفخر به أى عابر سبيل هذه الحياة المحدودة بطبيعتها، فلماذا الاستزادة من الأيام؟ – ثم يستطرد على لسانى “أنه تارك وراءه ما هو أم، تارك موقفا من هذه الحياة: من قرشها، وبحثها، وناسها، وأخلاقها .. وهو موقف جدير بأن يهدى ويضئ” كلام واضح صريح، وحقيقى يعلم الله، إلا أنه لم يكن يكفى، وكيف يكفى وصاحبنا – الموت – يزحف فى غير صمت ولا مسالمة؟

ذات مرة من المرات الأخيرة، كان يعيد على هذا الحديث، وكان مضطجعا على السرير فى الحجرة المشتركة فى فندق “هوليداى ان” على يعد خطوات من المستشفى (ماس جنرال) فى بوسطن، قال مثل ذلك وهو يهيئ نفسه للرحيل راضيا مرضيا، فأصدقه – كالعادة – علنى أصدق نفسى، وما إن إنتهى (حتى قبل أن ينتهى) حتى هجم عليه الألم الوقح، فتكاد تدمع عيناه فى صمت قابضا على وجهه فى صبر، فأشيخ بوجهى عبر النافذة حتى لا يرى ما يتهمنى به “أنه خرع”، وأرجح أنه يشفق على من تألمى لألمه، لا أنه يلومنى على خراعتى، واضطراب من واقع فشلى فى أن كما ينبغى، وماذا ينبغى؟ ماذا يمكن أن أفعل؟ هل أحاول تهوين ما لا يهون؟ هل أتصنع التماسك بجوار من يحق له أن يضعف وهو ليس بضعيف؟ هل أستطيع أن أقسم جرعة الألم فيما بيننا؟ ولا أجد إلا الصمت المحاور .. فيصمت بدوره شاكرا .. وكأن الاعتراف بحجم العجز، مع استمرار صدق المحاولة، كان هو غاية ما طلب فى تلك اللحظة المكثفة، وفى صمتنا الناطق: نراجع – كلانا – مقولته السابقة لنتسائل:

“الحسابات صادقة ودقيقة، والحمد حقيقى، والرسالة اكتملت أو كادت، فلماذا الجزع؟ ولكن يبدو أن ثمة فرقا بين أن نتحدث عن الموت “من حيث المبدأ” وأن نعيشه من حيث الواقع المتمثل، فرق بين أن نتكلم عن الموت، وبين أن نموت[3].

وأتصور أننا حين كنا نتحدث عن الموت كنا نتحدث عن “مفهوم”، عن “اسم”، عن “صفقة”، أما نحن ا لآن فنحن فى مواجهة “فعل” الموت، حال الموت (حالة كونه: يموت!)، ويبدو أن فعل الموت هذا هو هو، سواء فاجأنا من خلف ظهورنا، أم تسحب أمامنا علانية بكل ثقته وثقله، ونحن فى قمة الاستعداد له، بلا جدوى، وانظر فى عين صديقى فأرى بجوار الحكمة والتسليم والرضا والصدق، أرى … الحياة تطل مصرة دون اعتبار للجارى، وأتذكره وهو لا يكاد يقدر يخطو خارج سلم الطائرة فى مطار جون فوستر كيندى (نيويورك)، ونحن نحاول ن نحلق بطائرة “بان ام” إلى بوسطن حتى لا نغير المطار – وهو فى هذه الحال من الوهن والألم .. لكنه يقول – منكرا – بفضل دفع الحياة الآمل: “والله يا يحيى ما عندى حاجة” وكان الوحيد الذى ينطق اسمى صحيحا بفتح الياء الأولى، كذلك كان ينطق لفظ “جدى” بفتح الجيم، وكان شديد التعاق بهذا الجد الذى حفظه القرآن تلاوة وفهما وإلتزاما وهو بعد طفلا، فبكر فى حكمته، إذ ساهم فى سرقة طفولته، كان يحكى لى كل ذلك ليبرر كيف أنه: “كهل بالقوة”، “وكله بالفعل”، “وكهل بالضرورة”، ولكن ذلك كله لم يقنعنى، وأتعجب لمحاولته إنكار كل ما عنده من آلام، حتى على نفسه، إن استطاع، وراح يتمادى قائلا “يا خجلك من الأمريكان حين يثبتون لك أن كل هذا ليس إلا اضطرابا نفسيا، وأنك عجزت عن تشخيصى فضلا عن تطبيبى، فتواجه خيبتك مرتين” وأبتسم متمنيا هذه الخيبة كما لم أتمنها أبدا، وإن كنت قد رفضت تماما أن أتصور أن صديقى هذا – كما أعرفه – يمكن أن يبالغ فى آلامه (نفسيا؟!)، وهو الذى صاحب الألم النفسى والجسدى من أقدم القدم، منذ كان هو وأخته يمرضان أمهما، وهو بعد صبيا وهى بعد غضة لم تتفتح، وأمهما تمضى الليلة تلو الليلة تلهث جالسة بلا نوم من عجز القلب أن يدفع الدم من الرئتين، لا .. ليس هذا هو الرجل الذى يمكن أن يتأوه إلا إذا ضغط المرض على (أو أنقض يلتهم) نسيج عصب حسى بكل القحة والتحدى، ومع ذلك فإنى حين سمعته ينكر المرض هكذا فى مطار كنيدى، حمدت الله مبتهلا أن “من يدرى”؟ لكنى كنت أدرى، وهو – فى الأغلب – كان يدرى ويريد ألا يدرى، أقول أنه رغم الحكمة والحمد والرضا والتسليم، كانت قفزات الحياة وطموحاتها تطل من عينيه مزيحة كابوس الموت الجاثم، وحين أخذ المسكن الفعال لأول مرة، عادت إليه شهيته، وحدة تعليقاته، وحسم قراراته، وبعض ضحكته، ثم تظهر نتيجة تحليل العينة، ونتيقن أن المسألة أخطر من كل حساب، فعدونا ليس إلا الخبيث النامى الملتهم المتوحش، ورغم ذلك فهو مجهول الأصل، وأحاول أن أحفز الأستاذ الدكتور الجراح المسئول أن نبحث عن اصل هذا الورم المفترس، ذلك لأنه كان قد أخذ العينة من بعض إنتشاراته السطحية، فيمط شفتيه فى يأس أنه “وما الفائدة؟”، وأحاول أن أخفى بعض الحقيقة عن صديقى، فيحاول أن يصدقنى علنى أصدق نفسى، لكن الحوار الصامت الصريح كان يجرى بيننا من وراءنا، حتى أعاننى فجأة، كأنه ينفخ فى نفير نوبة الإنصراف أنه “أزفت الآزفة” فقلت له “أكمل يا رجل” – قال فى تلكؤ مقصود “ليس لها من دون الله كاشفة” – قلت “الحمد لله أن عندنا – ديونهم – صمام أمن نتنفس من خلاله بعد أن يغلق الطب والعلم حساباتهما، فالله سبحانه قادر أن يكشف عنا الضر بفضله، فيشير برأسه، كأنه يوافق، ولا يرد، وحين أختلى بنفسى تلاحقنى جملة / آية “ازفت الآزفة” فى تصعيد مدو حتى تملأ الحجرة، فالفندق، فالمدينة، فالأرض، فالكون جميعا، فأكاد أجرى فى كل إتجاه، وحين لا أستطيع يهيج بى الشعر قبل أوانه، فأكتب بعض رثائه، ولا أتورع أن أقرأه له، مسودة فجة، – كانت علاقتنا تسمح بهذا العمق وأكثر – وكأنى بإعلانه هذا قد قرأت له نعيه وهو ما زال حيا يبتسم فى تقشف، ويقول لى مشجعا وهو مازال يبتسم.

“أنها ستكون سابقة مميزة لرحيلى حين أساهم فى نقد رثائى وأنا بعد ” مازلت”، قرأت له:

يختل مجرى العمر والأمل

(لماذا يا صديقى؟؟)

دائرة ملتاثة

(عجلت بالنهاية؟)

تقضم فى المجهول والمعلوم أنياب الظلام الجائعة

(هل ضقت ذرعا باللجاج والجشع؟)

ثارت أجنة الخلايا تصطرع

…..

…..

فتدمع عيناه، ولا أستطيع أن أكمل القراءة بعد أن غاب صوتى، لكنه يصر أن أواصل:

……

…..

تعملقت فطرتك الأبية

لم ترع عهدا، لا، ولما تنتظر

…..

…..

لم نقو بعد يا صديقى

(فيم العجالة والسام؟)

تقفز خلف الحد، بعد العد، تقتحم

ترجع نحو عشها اليمامة

بوسطن/ماس جنرال

30/7/1985

****

ولا أجرؤأن أنظر فى شعرى المسودة هذا ثانية أبدا، حتى أنى نسيته تماما إلى أن عثرت عليه بالصدفة وأنا أكتب هذا الفصل، فأتذكر أنسى الحاج ومعركته مع فكرة السرطان والإشعاع النووى، فأرتعد من فكرة خالدة سعيد وهى تجسد رعب “الحاج” من هذا الزحف المرعب، ما أشد عجز الإنسان ووحدته، حتى جسده يسلمه ويخونه، الجسد يخون، نعم هذه خيانة، وخيانة نذلة، من سمح له أن يأخذ القيادة؟ من سمح للخلايا أن تجن؟ للحدود أن تنهار؟ خيانة!!، ولكن من يخون من؟ من يخون ماذا؟ ماذا يخون من؟ آه.

إذن … فهو الموت قادم بخطى واثقة، وإن كنت لا أعرف تحديدا كيف، ومن أين سيقطع شريان الحياة فى نهاية النهاية، ودعوت الله أن يلطف بنا فلا يثقل جدسه، ولا يهين صورته، ولا يختبرنا وأهله بما لا نقدر عليه، ويستجيب ربنا، ورغم لطفه وعفوه.. فقد كانت الخطى ثقيلة، والمرارة غائرة، والوعى شائكا، كما كان العجز أمام المرض الزاحف والألم الضاغط مخجلا طوال هذه الشهور السبعة، وحتى هذا الأسبوع الأخير المريع، ولكنه قبل هذا الأسبوع كان قد تماسك بعناد محبى الحياة ممن يواصلون العطاء والتجلد فى كل حال، ويتقبل الود والدعاء من مرضاه المعترفين بفضله، وحين مررت عليه فى العيادة أدعم خطوته تلك بلقاء وحديث بعيدا عن شلل السرير وعجز القربة الساخنة: جعل يتعجب – حامدا – من موقفه الطبى المعالج، وهو لا يجد سبيلا إلى علاج نفسه، وأحاول أن أنتقل بالحديث بعيدا عن مواجهة العجز.

****

فرحنا نتذكر تلك الليلة التى قضيناها فى بيت صديق لنا فى نيوارك وهى بلدة بجوار نيويورك، لكنها ليست هى، حيث كان صديقنا هذا يعيش وحده بعد أن هجرته زوجته الإيطالية الأصل مصطحبة ولديه، ذلك أنه حين تكون فى أمريكا، أفعل كما الأمريكان، فما بالك وقد أصبح مضيفنا أمريكيا بالتجنس والتعود، إذن فقد فعلها بالأمريكانى وأكثر فراح يدفع ثمن مزاعم الحرية والغربة والرفاهية: انفصالا أسريا، فطلاقا موقوفا حتى يتفقا على قسمة شقاء العمر وعرق الغربة بينه وبين هذه المرأة (زوجته) التى يبغضها رغم أنها أم ولديه الذين يقيمان معها – كل هذا وضحكته لا زالت تجلجل – كما اعتدناها من ثلاثين عاما – تجلجل فى المنزل الخالى حتى من الأمل، وكان زميلنا هذا قد أبلغ اثنين من الزملاء (المتأمركين أيضا) بالحكاية، لنلتقى عنده هذا اليوم، فحضرا من أطراف القارة لنعيش ليلة من ليالى منزل نواب المنيل (58/1959). نعيشها سرقة من وراء الموت الزاحف ورغما من الألم المروض مؤقتا بالمسكنات والذكريات.

السبت 3/8/1985:

كنا خمسة، صديقى والمضيف، وزميلنا القادم من شكاغو حاملا معه كل ريح ساقيه أبو شعرة، وصديق رابع (لم يكن من زملاء بيت النواب، حيث حيل بينه وبين مواصلة الدراسة معنا عاما بعام، حين منح أجازة إجبارية (إخوانية) فى معتقل ناصرى لمدة عشر سنوات خرج بعدها يعدو إلى أى مكان فى العالم إلا مصر .. حتى صار أمريكيا معمما، حيث ما زال لا ينادى أيا منا إلا بـ “يا مولانا”.

وجعلت أنا وصديقى الراحل نتذكر تلك الليلة وأنا فى زيارته فى عيادته، فأطيل الحديث علنى أنسيه فراغ عيادته بعد أن كانت تعج بالمرضى، فهم لم يعلموا بعودته بعد، ويقول لى أن أحدا من زملائنا هؤلاء لم يتغير، وأقول له أنهم لابد يقولون عنا مثل ذلك،

ويذكرنى كيف كان صديقنا “الجلدى” الجراح”[4] يحكى لنا ذكرياته فى فريته، ذكريات حية نابضة، وكأنه يعيشها، ذكريات أثار بعضها أننا جلسنا معا فى تلك الليلة، فى بيت مضيفنا، نأكل على الأرض، نغمس من طبق واحد، فجعل يحكى لنا منطلقا بلهجته الحلوة ذات الرائحة الريفية الأصيلة، وكأنه لم يسمع عن أمريكا أو بلاد بره، أو كأنه لم يغادر قريته إلى المركز فضلا عن القاهرة، فنراه فى ساقية أبو شعره وقد اجتمع مع أولاد عم له حول طبلية محدودة المحتوى، وابن عمه الأكبر يوصى أخاه هامسا أنه “ما تخفش يا دسوقى”، ربما إكراما للضيف أو توفيرا للطعام حتى يكفى الجميع، ثم يكرر مغيظا “ما تخفش يا دسوقى” ثم يعلو صوته مؤكدا أنه “ماتخفش يا دسوقى”، ودسوقى ولا كأنه هنا أصلا، فيهيج ابن العم الناصح المجامل، ويهجم على البيض المقلى مشمرا ساعده ممسكا بلقمة طرية تكاد تزيد عن نصف رغيف بالتمام حالفا أنه “طب على الطلاق لنا حافف”، ويتسوح صديقنا الضيف بعد أن أصبح سباقا ثنائيا بين الأخوين لا يستطيع أن يلاحقه، كان يحكيها لنا وكأنه يعيشها الآن حتى كاد المنظر يتجسد أمام أعيننا حيا نابضا، إذن فهو هو، رغم الزوجة الأمريكية والابن الطفل “تيريك”[5] الذى لا يعرف جملة عربية واحدة، وحين قلت له: إذا كان كل هذا كما هو، فلماذا لا تنزل مصر أكثر، فتأخذ جرعات منشطة من هذا الوجدان الأعمق؟ فيضحك ويحكى: أنه حين نزل فى المرة الأخيرة (منذ عدة سنوات) نزل فى بيته، بيت أمه، فى ساقية أبو شعرة (عادى) – وكان قد حضر بجواز السفر الأمريكى، فإذا به يعلم أن عليه أن يبلغ رئيس النقطة (أو شيئا من هذا القبيل) أنه ينزل عند أمه، أى أن على أمه أن تبلغ السلطات بواقعة “إيواء أجنبى”،  ويستمر فى الضحك مشيرا إلى نفسه “… أنا؟ على قبة فرننا؟ أجنبى؟؟!”، ويسوى الأمور مع السلطات حتى لا تنزعج أمه أو .. الخ .. ويظل يحكى ويحكى وكأنه يريد أن يتأكد أنه مازال قادرا على كل هذه الطلاقة بالعربية أو كأنه يفرغ مخزونا طال حبسه وراء أسوار لغة أخرى، ورموز أخرى (“يا” … “يا”… بتثقيل الياء وميل الألف قليلا!!)، وأسأله : “وهل تحلم بالعربية”، أم الإنجليزية؟” فيسكت للمفاجأة، ثم لا يجيب، كأنه يدفعنى بعيدا حتى لا أعرى نومه فى غربته، ويتدخل زميلنا “الإخوانى” إن الإنسان منها مهما طالت غربته “يا مولانا” فهو معجون بماء النيل من تراب مصر، ولهذا فهو يطلب أن نبحث له عن عروس مصرية، وزميلنا الإخوانى فى سننا، (اوائل العقد السادس) – ولم يتزوج بعد، وما أن ينطق بطلب العروسة حتى يضحك الزميلان الأمريكان، فندهش أنا وصديقى، ونتبين بالسؤال أن “مولانا” هذا لا يقابل مصريا يعرفه فى أمريكا، أو قادما من مصر، إلا ويمارس معه هواية أن يوظفه له خاطبة خاصة، ويا ويل من يأخذ المسألة جدا، لأن “مولانا” لا يتعدى مرحلة نية الخطوبة أبدا، وهو لم يذهب حتى لمشاهدة أية عروس رشحت له، وكأنه لم يستطع بعد أن يزيل آثار العدوان الناصرى على وجدانه، وإنتمائه، وأمانه، وآماله، فتقطت حباله من الوطن إلا من زيارة (تخفف عبء ضرائبه بإدعاء المشاركة فى مؤتمر أو القاء محاضرة) وتقطعت حباله مع الأسرة القديمة إلا من مساعدات مادية رمزية، وتقطعت حباله مع الأسرة الجديدة التى لم تتكون إلا من نية الخطوبة، ومع كل الضحك والتذكرة بهروبه المتكرر، فقد أصر أن يعطينى عنوان أخيه فى القاهرة، فضلا عن تليفونه شخصيا فى أمريكا، لأتصل به فور عثورى على العروس، وكأنها فرصة ستستنح لتختفى فورا، فأضحك بدورى بعد أن عرفت اللعبة المكررة، ويضحك صديقى (الراحل) ملء تاريخنا معا، ويبدو كأن هذا اللقاء قد مسح المرض وأوقف زحفه، فضلا عن تخفيف الألم أو محوه، وأتمنى أن يتوقف الزمن عند هذه اللحظة، وألا نسافر من هنا، وألا نعيد الفحص، وألا نعالج، وألا نفكر، وألا نسأل، أتمنى أن نظل فى هذه اللحظة تحت تأثير المسكن، ندور فى ذكرياتنا بلا غد.

ويتطرق الحديث إلى أحوالهم فى أمريكا، وأنكش زميلنا “الجراح الجلدى” أن يحكى لنا بطريقته عن نظام العيادات الجماعية[6] التى يشارك فيها، وكيف قلب الأمريكان كل شئ إلى “أعمال” تجارية (Business) فيقول أن مصر هى أسبق فى حكاية رجل الأعمال بلا منافس، ويذكر لنا مهارة أول رجل أعمال أعجب به وتعمل منه، وهو بائع عند حاتى الحسين، كان يتحايل بذكائه وحسن تسويقه أن يبيعه ما يجعله يحتفظ ببقية البريزة، فمحل “كل كبدة ومخ زين، واقرأ الفاتحة للحسين” كان يبيع سندوتش الكبدة بستة قروش، ولكن رجل الأعمال البائع هذا يظل يستدرج صاحبنا يغريه بإضافة بعض البطاطس المقلية، والحلويات السمينة، ثم حبة الطماطم هذه بالثوم والشطة التى تفتح نفسه وتستأهل فمه، المهم ألا يرد الباقى أبدا، وأنبه صاحبنا الجلدى أنى كنت أسأله عن رجل الأعمال الذى يدير عيادتهم الجماعية بالقرب من شيكاغو فإذا بنا فى سيدنا الحسين، فيضحك حتى يستلقى، فتهتز السلسلة الذهبية حول رقبته وهى تتدلى بشكل ظاهر من قميصه المفتوح حتى تلامس أثر جرح عملية القلب التى أجريت له منذ بضعة سنوات، وأقول له أنى لا أستطيع أن أتصوره – وهو الرائق البال، السهل المعاشرة، المتجلى الضحكة – وقد أصيب بانسداد فى شرايين القلب (ذبحة صدرية!) لدرجة تستدعى هذه العملية، وإلا فماذا أبقى لأمثالنا من المهمومين المكتومين الحائرين، فيوافقنى ناظرا إلى قلبه ضاحكا مخاطبا إياه إن “كسفتنى الل يخيبك”، ويحكى لنا أن المسألة لم تكن إنسدادا معلنا، وآلاما وإعراضا مثل خلق الله المذبوحين صدريا، وإنما الأمر قد اكتشف بالمصادفة أثناء الكشف الروتينى، ذلك أنه بصفته شريكا فى العيادة الجماعية السالفة الذكر، قد اعتبره من رأسمال المؤسسة، فيعمل الفحوصات، والعمليات الجراحية (بالمرة) لزوم التجارة (Business) وأشعر – ويوافقنى – أنهم قد أجروا له هذه العملية من باب أن “الاحتياط واجب”، وأكاد أتصور أنهم قد جددو، مثلما نغير الإطار الداخلى فى إحدى عجلات السيارة قبل أن ينفجر، ما دام قد كاد يستهلك حتى لا ينفجر فى مكان غير مناسب، فيوافقنى صاحبنا على كل ذلك، ورغم ما يبدو فى كل هذه الإحتياط من تقدم علمى وطبى، فإنى أشعر بأن المسألة كلها هى من باب “حسابات الجدوى” لصالح المؤسسة التى يعمل بها أولا وقبل كل شئ، وأن عمليات “الصيانة الآدمية” هذه لا تختلف بأى حال من الأحوال عن عمليات الصيانة لأى جهاز فى نفس المؤسسة، وأكاد أرفض ذلك، وكأنى أفضل الموت وسط ود دافئ على أن أصبح هكذا مجرد جزء من آلة كبيرة يحافظون على حياتى لأن ذلك أرخص من وفاتى، التى ستضطرهم إلى شراء آلة طبية بشرية جديدة تملأ الفراغ الذى سأتركه، وأكاد أضبط نفسى متلبسا بهذه الشاعرية البدائية، وأنا أرفض أن يعتنوا بى كمصدر ربح للمؤسسة، أساسا، أو تماما، كأنى أفضل أن أعيش بالصدفة على أن أصان كقطعة غيار، وقبل أن أصدق نفسى ألتفت بإطلالة سريعة فألمح هذا الوغد الزاحف المتربص يطل من عمق عيون صديقى المترنح من الألم يمتد وسط الضحكة العريضة، فأرتفع كلتا يدى معتذرا مستسلما، وكأنى أعلن قبولى أن أكون -ويكون- قطعة غيار بشرية، نصان كما تصان الآلة “لعل وعسى”، ولكن أى لعل وأى عسى؟ إن مرض صديقى لا ينفع معه احتياط ولا صيانة ولا “لعل”، ولا “عسى”، فالخلايا المغيرة ملتهمة متقدمة لا يوقفها ولا الشديد القوى، ولم يكن بالإمكان عمل أى شئ فى أى وقت كان، قالها صديقى منذ عام وبعض عام حين اكتشف تلك الدائرة الغريبة قابعة فى أيسر كبده، اكتشفها بالموجات الصوتية بمحض الصدف وهو يبحث عن احتمال حصوة ناحية الكلى اليمنى!!، وحينذاك وضع المسألة برمتها فى جملة مفيدة، ظلت للأسف هى الحقيقة الوحيدة فى كل ما جرى بعد ذلك، قالها بشجاعة الفرسان، وحكمة المؤمنين “هذا مكان خطير، وتلك علامة دالة، “فإن كانت حميدة فلا داعى للتدخل، وإن كانت غير ذلك فلا فائدة من التدخل” – وأكاد أسمع الخيام يصفه دو غيره.

فإذا ساقى المنايا أوجبا  شربة غصت ومرت مطعما

فأحس جلدا خمرة الموت الزؤام

ومع ذلك، وما أن عاوده الألم عقب العيد الصغير الأخير، ثم تبين ما تبين، حتى عدنا نهتاج ونقول ونعيد فى ما لا يفيد، وأنه “لو كان كذا.. لكان كيت” كلام فارغ فى فارغ، وتثبت الأيام أن رؤية صديقى الراحل هى الأدق، والأشجع، وأنه بقراره البسيط الشجاع ذلك، قد سرق من الزمن عاما وبعض عام، تهيأ فيه للرحيل، كما أحسن الوداع، لكن الضعف البشرى ينفخ فى العناد أمام عدو متفوق فى العدة والسرعة ووسائل الإبادة، ولا نتعلم من العجز، ولا نتعلم من الموت إلا قليلا، وحتى هذا القليل لا نطمئن إلى مدة بقائه فى وعينا، بما يسمح بتحرير سلوكنا، بما يتضمن هذه الحقيقة الراسخة البسيطة:

“الموت حتم يومى” ……،.

****

وأفيق لأجد نفسى مازلت جالسا معه فى عيادته الخالية، لكن الممرض يدخل معلنا حضور كشف، فأبتسم منصرفا، فيبتسم صديقى فاهما، وأنزل مفضلا ألا أنتظر المصعد، وأن أنزل على السلالم القذرة المظلمة فى عمارة حديثة، ولا أدرى كيف أطل على وأنا نازل وسط الظلمة والقذارة والرائحة القبيحة كل من وجه ريجان الأمريكانى العارى من كل موت لأنه هو الموت، ثم ماركوس الفليبينى تدفعه زوجته الجميلة فوق كرسى هزاز ملطخ بنزف وروث([7])، أى والله، كأنى أهلوس، هؤلاء الناس (ريجان وماركوس وأشباههما): ألم يبلغهم نبأ ما هو الموت، موتهم الآن أو بعد باكر، فإن كان بلغهم، فلماذا هذا؟ وإن كان لم يبلغهم، فكيف؟ أسئلة طفلية، وبديهيات ردودها (على منابر المساجد والكنائس وفى محفوظات المدارس وللدعاية الانتخابية) قد أصبحت ديكورات الحياة الدنيا، وليست الوسيلة الأولى لتغيير الحياة كلها وتطوير الوجود، أى قانون تطورى يحكمنا الآن؟ “البقاء لمن؟”: للأقوى (ذريا)، للأنفع (يهوديا)، للأسبق (استغلالا)؟ – البقاء لمن؟ وها هم: ريجان، وماركوس، وشارون، وديفاليرا يعيشون “جدا”، فى حين أن الموت يقترب من صديقى دون سائر الناس، وأضبط نفسى متلبسا بالنظر فى البديهيات القديمة، مثل طفل يتعرف على الدنيا الماثلة بعيون متجددة أبدا، نفس الآفة القديمة، ويبدو هذا التساؤل “لماذا يعيشون”؟” بالنسبة لأولاد الخنازير هؤلاء معقول، إلا أنى أذكر أنى عشته فى ظروف أخرى، غريبة ومرفوضة:

ذلك أنه مر على حين من الدهر، فى فترة غرور الفتوة وتصور احتمال تحقق الحلم، كنت أسأل نفس هذا السؤال عن الناس العاديين ممن لا أرى لحياتهم معنى أفمه أنا بحساباتى الواضحة (التطورية!!)، وكأنى موكل بدراسة جدوى استمرارهم لصالح أفكارى (هل تذكر راسكولينوف فى الجريمة والعقاب؟) – وكان لى صاحب آنذاك ينبهر لما أقول، رغم أنه يرفضه فى البداية، ويناقشنى فيه بحماس شديد، لكنه غذا ارتد إلى نفسه صدقنى، فراحت أفكارى تتردد فى وعيه بلا استئذان، فيذهب يتساءل بدوره: لماذا يعيش هذا؟ ولماذا لا يموت ذاك؟ وتزداد المصيبة حين يطلق السؤال عشوائيا فيصيب صدفة أحد أقربائه من الوادعين فى الحياة ممن يبدو عليهم أنهم أقفلوا حساباتهم مبكرين، فأخذوا يدورون فى محلهم فى رتابة مستسلمة، وإذا بصاحبى “المقتنع” هذا يراهم بمنظار أفكارى فيكتشف أنهم “مستمرون بلا داع”، وكان يعود إلى ثائرا لاعنا يوم عرفنى، ويوم سمع منى، ويوم صدقنى، فأعتذر له مؤكدا أن تساؤلاتى هذه لا تعنى الرغبة فى التخلص من هؤلاء الذين حسبهم “زيادة عدد”، ولكنها مجرد – تساؤلات خائبة، تعلن عجزى عن فهم قوانين الحياة الأعمق، بدليل – مثلا – نى لا أدرك فائدة دولة النمل المهولة، ولا أعرف أسرار عالم القنافد، وإن كنت كثيرا ما أشعر بالزهو أنى أنتمى إلى نفس الوجود الحيوى الذى ينتمى إليه الفيل والدرفيل – لماذا؟ لست أدرى، إذن فهى تساؤلات عجز وليست تبريرات قتل أو رفض.

وينظر إلى صاحبى “المقنع” فى ريبة، فأرتاب بدورى فى إعتذارى هذا، وقد حدث أن ضبطت نفسى متلبسا وقد أنطلق منى هذا السؤال الذى يحتج على حياة من لا يتطور، كان السؤال يحوم حول خالة لى، هى أمى الثانية، أو الأولى، حملتنى – على كتفها – وهنا على وهن، وقد عاشت وحيدة بلا ولد ولا زوج بعد أن طلقت وأنا فى الرابعة عشر، ولم تقبل أن تواصل حياتها معنا فى بيت أمى رغم أن أمى هى شقيقتها الوحيدة، ذلك أنه “يا دارى يا ستر عارى ما منيمانى للضحى العالى”، وقد تعلمت منها فى مسألة الحياة والموت – فى كبرى – أضعاف ما تعلمت أى شئ من أى أحد فى صغرى، فقد كانت علاقتها بأشيائها – مع عدم وجود هدف مقنع – غاية فى الدلالة: كان عندها “بوريه” (أو “بوفيه”، والفرق ليس واضحا دائما)، وكان موضوعنا فى “طرقة” ضيقة أثناء إقامتها عندنا فى مصر الجديدة بعد طلاقها لبضعة شهور، وكان وجهها يتغير غاضبا إذا لمسنا هذا البوريه أثناء مرورنا، وكأننا بلمسة سننتفس منه شيئا، وكانت تغطيه بملاءة قديمة نظيفة من تأثير مستطيل الشمس الذى يصله قادما من شباك مواجه، ثم تظل تحرك الملاءة مع حركة مستطيل الشمس طول النهار، وكأنها تخشى عليه من ضربة شمس أو ما شابه، وكنت أحيانا أرجح أنها ربما تستعد لبداية جديدة مع رجل جديد، وأن هذا هو رأس مالها، ولكن السنين مرت بعد ذلك بالعشرات، ولم يتحقق شئ من هذا، وهى لم تتغير إلى غير هذا، بل ازدادت تعلقا “بالأشياء” حتى نهاية النهاية، وكنت اتساءل فى كل مرة أزورها: لماذا؟ وحتى متى؟، وحين شغلتنا الدنيا وتباعدت زياراتنا لها إلى كل عدة شهور ظلت هى مستمرة كما هى، وحيدة عنيدة، تعيش صلبة فى دائرة واضحة المعالم بالنسبة لها، أما بالنسبة لى، فهى دائرة كاملة ا لعتامة والانغلاق، فلا تطور، ولا إبداع، ولا ولد، ولا هدف من الأهداف التى حسبت أنها مبررات الحياة، وحين كنت أزورها بعد غيبة، كانت تستقبلنى بنفس البشاشة والسماح، وكل ما تقوله من لوم محب أنه “أخص عليك” فأتصور أنها تعاقبنى على تقصيرى، لكنها تلحق أنه “ما جبتهمش ليه؟ فأعلم أن هذا “الأخص” يعود على عدم اصطحابى لأولادى وليس على تأخرى عنها فأخجل خجلا لا ينفع، إذ سرعان ما يزحف النسيان على وعى الالتزام، ويأكل الطمع الوقت المخصص لصلة الرحم، وهى لا تنفك تدعو لى بالسلامة حتى مع الهجر إذ تهمس لنفسها “قساوتهم ولا خلو بيوتهم”، ورغم ذلك كنت أضبط نفسى وأنا أجلس معها، أو وأنا أتابعها وهى تتحرك بصعوبة مستندة إلى عصا معوجة قديمة قد أثبتت فى أسفلها قطعة من الكاوتشوك البالى تتحرك وثدياها المتضخمان جدا (طول عمرها) قد تدليا يخطبان فى بعضهما البعض حتى يخيل إلى أنهما قد يثنيان جذعها للأمام حتى يعوقا السير أكثر، كنت أتساءل بالرغم منى (ويا لخسة التساؤل) .. “لماذا تعيش خالتى هذه بحسابات “التطور”؟”  ولماذا تبدو وكأنها تحمل رسالة عظيمة معقدة هادفة رغم أنى لا أعرف عن رسالتها تلك شيئا، أى شئ، لكنها فى الأغلب، رسالة كأعظم ما تكون رسائل الوجود، رسالة تضمنها كل بريزة تخبئها فى طيات ثوبها، وكل وعاء طبيخ (حلة) متناهى الصغر تطبخ فيه ما يكفى حاجة شخص واحد، حتى أنى حين كنت آكل منه كنت أتصور أنى عدت طفلا ألعب لعبة البيوت مثل زمان، وكلما ازدادت علاقتها بالحياة توثقا، زاد تساؤلى الخسيس هذا إلحاحا، وأحيانا يختفى وراء خجل مصطنع ثم يعود يلح ، فألتمس له إجابة، أى إجابة، مثل أنها “ربما تعيش لتدعو لى أنا وأولادى” فأضبط نفسى صاحب مصلحة ذاتية فى كل شئ، حتى فى استمرار حياتها … وكأنها تستغل الله تعالى بدعائها لصالحى وأولادى، يا ذا العيب، واكتشف أنى أدور حول نفسى معاقا بهذا المستوى من الفكر، قال ماذا؟ “التطورى!!، ومع ذلك فقد كنت فى غرور الفتوة لا أستطيع كبح جماح هذا الفكر ناسيا عجزى أمام معرفة غاية أبسط الحيوانات، فماذا عن غاية طائر النورس، أو حية الكوبرا، أو دودة البلهارسيا، أو فيروس الإيدز؟ وأحمد الله أن حب خالتى لى، ودعائها لنا لا يتأثر بهذه البلاهة الفكرية التى تدور حول معنى حياتها “التطورى”، وأذكر أن والدى نفسه كان أحيانا – حتى فى شيخوخته – يتساءل مثلى فى هذا، وإن كان تساؤله كان ينعكس على نفسه أكثر مما يصيب غيره، فكان أحيانا يجاذبنى الحديث حتى نصل إلى قوله “وأنا.. لماذا أعيش بعد الآن؟” – وحين أدعو له بطول العمر يعاكسنى مداعبا أنه “حق لك، إذ أن كله مكسب، ألست “خوليا” زراعيا لكم بدون أجر؟” – ولكن ما أن يقترب الموت من أبى حقيقة وفعلا حتى يتشبث بالحياة كما لم أر مثل ذلك من قبل، وحين حجبت مضاعفات مرض السكر مناظر الدنيا عن عينيه، ثم حجب التهاب الأذن الوسطى المزدوج أصواتها عن أذنيه، رحت ألازمه فى محنة عجز تغلغلت آثارها فى كيانى حتى النخاع، ثم تصورت أنها تضاءلت مع مرور السنين، لكنى ضبطتها تعود بحجمها وأنا بجوار صديقى الراحل، فى رحلتنا هذه، فقد جعلت أواكبه نفس مواكبتى لوالدى معايشا العجز والخيبة أمام قهر المرض فى الحالين، لكن والدى كان قد حبسه عجز الحواس عن التواصل مع العالم، مع تمام صحته البدنية فيما عدا ذلك، أما صاحبى فهو تحت وطأة غول ورم زاحف ملتهم، ويكثف المحنة فى الحالين أن كلا منهما ظل ذهنه متوقدا متسائلا، حاضرا، عابدا، شاكرا، رغم العجز الطبى والألم الزاحف، والسجن الحسى جميعا، وأذكر بعد انقطاع المواصلات مع العالم عند والدى بفقد سمعه وبصره أنه حبس صوته عن الكلام ظنا منه أنه ما دام لا يرانا ولا يسمعنا، فنحن كذلك، لكن ذهنه يعمل بنفس الدقة والحدة، فراخ يتفاهم معى بالكتابة بسبابته، وأحيانا بمؤخرة قلم، على بطن يدى، فأشفق أن أذكره أنه ما زال يستطيع أن يتكلم، فأرد عليه كتابة – بالتالى – على بطن يده، حتى كدنا نتفاهم رويدا رويدا باللمس، ثم أجريت له عملية تزيح الصديد المتجمد فى أذنه الوسطى، فعاد يسمعنا فى تلك الليلة ا لأخيرة وهو يكاد يطير فرحا حتى أنه لم ينم طوالها، وظل يحكى لنا، أنا وأخى الأكبر، الحكاية تلو الحكاية، ويتندر على رجل كان بمثابة عم له، يعمل عند العائلة فيبيت بجوار “الحلزونة” ليحرس البائهم بالتناوب مع عامل أصغر، وحين سمعا صوت “شخشخة” بين عيدان الأذرة، راح الأصغر يسأل “سامع يا حاجلعى” (حاج على)، فينكر الرجل فى إصرار أنه لم يسمع شيئا من أصله، لكن “الخشخشة” تعود، فيكرر الأصغر السؤال، ويكرر الحجعلى الإنكار، حتى يفيض بالسائل الغيظ فيصيح “.. ما تقوم تشوف فيه إيه يا حجعلى، ولا مش راجل” – ويبدو أنه فى جوف الليل يمكن للواحد أن يتحلى بشجاعة من نوع خاص، شجاعة إعلان الخوف مثلا، إذ ثار الحجعلى مدافعا عن حقه فى الجبن والدفء معا: أنه “مرة ابن مرة، ولا أنى أتحرك من تحت الدفية، واللى فى قرنك انفضه يابن بهانة” ولا أتبين ما مناسبة أن يحكى لنا والدى هذه الحكاية بالذات فى تلك الليلة بالذات، ولكنى أضحك معه، وأخى، كما لم نضحك أبدا، وأرجح الآن أنه لما سمع أصواتنا بعد طول حبسها عنه وراء حاجز الصديد المتجمد قفزت إلى ذاكرته حكايات الأصوات، بدءا بالخشخشة بين أعواد الأذرة، أو لعله بحكايته تلك كان يبرر شجاعة الاعتراف بالعجز ولا ننام ثلاثتنا من الفرحة منتظرين الغيار الأول بعد العملية كما وعد الجراح، وكنت قد علمت بوصفى طبيبا أن ثمة تمزق قد حدث أثناء العملية، مزق غشاء الأم الغليظة المحيطة بالمخ، وأن ثمة كمادة قد حشرت فيه حتى لا يتسرب السائل النخاعى المحيط بالمخ وأن قرار رفع هذه الكمادة متروك للجراح بعد أن يطمئن إلى التئام التمزق، أو حسب ما يرى، وقد رأى الجراح فى الصباح ابتهاج والدى لاستعادة سمعه، وتعجب حين انبرى والدى يناقشه فى السياسة وهو يعلم علاقته الطيبة بعبد الناصر، وعلاقة المرحوم أخيه من قبله([8]) ويواصل الجراح الحوار فرحا بنجاح العملية معجبا ببداهة والدى وحجته، مستبشرا خيرا بالحوار السياسى مع والدى رغم اختلافهما (!!)، ثم يجرى الغيار فى حجرة العمليات، وما أن تزال الكمادة حتى ينسكب السائل النخاعى فجأة بما لم يتوقع الجراح، فيغفو والدى، فينام، فيغيب، ولا يصحو أبدا، ويمر اليوم فالليلة، فاليوم والليلة وأنا بجواره أتصور فى كل لحظة أن الجرح سيلتئم، وأن السائل النخاعى سوف يتجمع من جديد، وأن صوته سيعود يحكى لنا الحكاية تلو لحكاية، كما بدأ فى تلك الليلة الأخيرة، كنت وأخى ليلتها مثل طفلين يجلسان بجوار أبيهما يسمعهما حدوتة المساء، يسمعانها بشغف متجدد حتى ولو كانت نفس الحدوتة، علما بأن أبى لم يحك لنا أطفالا حواديت أصلا، لكنه كان كثير الحكى لنوادره مع زملائه المدرسين فى المدرسة وخاصة إذا زين النادرة بشعر مرتجل، وما زلت أذكر هجاء زميله الشاعر لزميل آخر معمم علق على استقلال مصر سنة 1936 بأنها (مصر) ليست أهلا للاستقلال بعد، فقال زميل والدى الشاعر فى ذلك الشيخ الساخط على الاستقلال شعرا:

خرف الشيخ فضلا                         رام يعلو فتدلى

ماله وهو ابن مصر                        ساءه أن تستقلا

من لرجلى بقفاه                            أنه يصلح نعلا

ويعجب أبى بالصورة الصارخة فى البيت الأخير، واستنطقه – فى غيبوبته – أن يكمل لنا ما بدأ، ولكن شخيره ينتظم أكثر، فأنظر بتركيز خاص إلى موضع التمزق عله يختشى ويلتحم، فإذا بى ألاحظ شفتيه تتحركان برتابة كما كان حين يستغرق فى عبادته، وكنت أعلم من علمى الطبى أن القشرة المخية قد توقفت عن العمل بعد هذا الارتجاج وسكب السائل النخاعى فجأة، إلا أنى كدت أميز ألفاظا معينة من بين شفتيه رجحت أنها “وامتازوا اليوم أيها المجرمون” فأتيقن من أن ما يمر بشفتيه الآن هى سورة يس، يتلوها بجذع مخه ليس إلا، والمحاليل المعلقة تساقط نقاطها نقطة نقطة كأنها المسبحة تنظم ورده اليومى، وأجد نفسى وحيدا معه فأدعوا الله ألا يفعلها وأنا بجواره وحدى هكذا، لماذا؟ لست أدرى ، ثم أرجح بعد مدة أنى ربما قد خفت شعورا بالذنب، أو أن يتقمصنى لحظة إنصرافه دون اختيارى، أو أنى خفت من مواجهة صائد ماهر مجهول يتربص بنا ولا أريد أن أعرف عنه أكثر من نتاج قنصه (الموت)، وقد حقق الله رجائى، فذات صباح، جاء طبيب باطنى يتابع إفراز الكلى، وبينما هو ينظر إلى كمية البول المتجمعة أسفل السرير ليطمئننى، كنت أنا أنظر إلى حركة نفس والدى وفجأة أقول “لكن نفسه”، فيرفع الطبيب رأسه ليقول لى “البقية فى حياتك”.

أية بقية؟ وبقية ماذا؟

هو الله.

….

….

أتذكر كل ذلك وأنا أجلس بجوار صديقى فى غيبوبته المتوازية، وأنظر فى نفسى فأجدنى أكبر سنا، وأكثر خبرة، وأعرف مصيرا، ولكنى أيضا أكثر طفولة، وأخيب تساؤلا، وأبهر[9] إندهاشا، وأعنف رفضا، وأتساءل:

لماذا لا يستجيب الله لدعائى لصديقى؟ ولدعاء ابنتيه وزوجته؟ ولدعاء مرضاه؟ ولدعاء راعية الغنم العجوز التى تدير شئون بيته وهى لا تزال قطعة من الفطرة لم تتشكل؟ لماذا؟ فإذا كان لا يستجيب لكل هذا الدعاء فكيف نحسبها إذن؟ ما هى المعادلة التى قد تحل لنا اللغز فيما بعد مدى رؤيتنا؟ لماذا لا نعرف تلك الحسابات حتى نسلك الطريق الصحيح إلى اليقين، وإذا كان والدى قد أنهى مهمته فسترنا،  وزوجنا، وقام ليلة، وقرأ ورده، وحكى حكايته، ودعى ربه، ثم مضى، وإذا كانت خالتى قد عاشت بلا ولد ولا هدف (ظاهر لى)، ثم راحت بهدوء كما تمنت تماما، فلماذا يذهب صاحبى “هذا”  الآن ” “هكذا” وهو فى قمة عطائه، وبداية جليه لعائد تعبه ولشقائه، وتمام نضجه، وشدة حاجة الناس والعلم له؟ لماذا الآن؟ ولماذا هكذا؟

وأضبط نفسى وقد ملئت بـ “لماذات” كثيرة، ولا أعرف لمن أوجه التساؤل: للموت؟ أم لخالق الموت والحياة؟ بل أنى ذات مرة ضبطت نفسى وأنا أوجهه لصديقى وهو فى غيبوبته، وكأنى أعاتبه لأنه يتركنا فيقسو علينا – هكذا – بذهابه، وأتذكر رثاء كتبته فى صلاح عبد الصبور، وقد التقيت به صدفة قبيل وفاته بساعات فى برنامج عن “أديب” طه حسين، قلت أعاتبه “.. “وحين تقسو إذ تموت وحدك، تفرقت قوافل الكلام، ماعاد يجمعها حداؤك” – هل حقا أن حزننا على فراقهم هو احتجاج على انسحابهم؟ هل حقا نتمنى أن نغادرها معهم؟ وفى الحالين أليست هى الاعتمادية عليهم هى التى تهول لنا ما سينقصنا بعدهم؟ وما ذنبهم هم يستمرون من أجلنا إذا كانوا رضوا حتى هنا؟ ولكنى أحسب أنها ليست كذلك بالضبط، فهناك جانب يقول أننا نعاب ونحتج ونهم بالرحيل معهم رغبة فى أن نستمر معا بغض النظر عن “من” يعتمد على “من”، أما سؤال

‏(‏لماذا؟‏) ‏فيبدو‏ ‏أنه‏ ‏أصيل‏ ‏فى ‏علاقتنا‏ ‏بالرحيل‏ ‏الأخير‏، ‏نقوله‏ ‏فيما‏ ‏يشبه‏ ‏الفلسفة‏ ‏أو‏ ‏التفلسف‏، ‏ونقوله‏ ‏فيما‏ ‏يؤدى ‏الى ‏مزيد‏ ‏من‏ ‏التسليم‏ ‏للإيمان‏ ‏بالغيب‏، ‏ويقوله‏ ‏عامة‏ ‏الناس‏ ‏بغير‏ ‏التفكير‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏وذاك‏، ‏فحين‏ ‏كنا‏ ‏أطباء‏ ‏مقيمين‏ ‏فى ‏منزل‏ ‏نواب‏ ‏المنيل‏ (59 / 60) (‏صديقى ‏وأنا‏ ‏ومضيفنا‏ ‏فى ‏أمريكا‏ ‏وآخرين‏)، ‏كان‏ ‏المنزل‏ ‏يقع‏ ‏بالقرب‏ ‏من‏ ‏المشرحة‏،( ‏مشرحة‏ ‏قصر‏ ‏العينى ‏الشهيرة‏!!) ‏وكنا‏ ‏نستيقظ‏ ‏على ‏نداء‏ ‏منغم‏ ( ‏ودا‏ ‏كان‏ ‏ليه؟‏ ‏ودا‏ ‏كان‏ ‏ليه‏ ‏؟‏ ‏دا‏ ‏كان‏ ‏ليه؟‏) – ‏يعلو‏ ‏تدريجيا‏ ‏حتى ‏يطغى ‏على ‏أرضية‏ ‏العويل‏ ‏والنحيب‏ ‏والصوات‏، ‏وفرحنا‏ ‏فى ‏البداية‏ ‏نتشاءم‏ ‏أنا‏ ‏وصديقى ‏وآخرون‏، ‏حيث‏ ‏كنا‏ ‏نتوجس‏ ‏منه‏ ‏شرا‏، ‏وخاصة‏ ‏زيام‏ ‏امتحانات‏ ‏الدبلوم‏ ‏ثم‏ ‏أخذنا‏ ‏نعتاده‏، ‏ثم‏ ‏نستأنس‏ ‏به‏، ‏ثم‏ ‏نستعمله‏ ‏فى ‏مداعباتنا‏ ‏موجهين‏ ‏الاشارة‏ ‏والمحتوى ‏الى ‏غير‏ ‏أصله‏،( ‏ودا‏ ‏كان‏ ‏ليه‏: ‏هذا‏ ‏السؤال‏ ‏الصعب‏ ‏فى ‏غير‏ ‏المقرر‏)،(ودا‏ ‏كان‏ ‏ليه‏: ‏ذاك‏ ‏الممتحن‏ ‏السمج‏ ‏المتحيز‏).. ‏ودا‏ ‏كان‏ ‏ليه‏: ‏للزميل‏ ‏الذى ‏أحب‏ ‏ولم‏ ‏ينل‏ ‏الوصال‏ (‏اللى ‏حب‏ ‏ولا‏ ‏طالش‏) ‏وهكذا‏ ‏نألف‏ ‏الموت‏ ‏وأهازيجه‏ ‏حتى ‏ننساه‏، ‏وحتى ‏المشاعر‏ ‏المواكبة‏ ‏لمراسمه‏ ‏لا‏ ‏تعود‏ ‏تؤثر‏ ‏فينا‏، ‏وربما‏ ‏كان‏ ‏لمهنتنا‏ ‏دور‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏التعود‏ (‏أو‏ ‏التبلد‏) ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏فما‏ ‏أن‏ ‏نواجهه‏ ‏شخصيا‏ ‏حتى ‏يبدو‏ ‏لنا‏ ‏حدثا‏ ‏جديدا‏ ‏ليس‏ ‏كمثله‏ ‏شئ‏.‏

وحيرتى ‏للموت‏ ‏والموتى ‏ليست‏ ‏جديدة‏ ‏علي‏، ‏فقد‏ ‏انتقل‏ ‏والدى ‏بنا‏ ‏من‏ ‏منزلنا‏ ‏الكبير‏ ‏ذى ‏الأدوار‏ ‏فى ‏داير‏ ‏الناحية‏ ‏فى ‏قريتنا‏ ‏الى ‏حديقة‏ ‏فى ‏أطرافها‏ ‏أوبعد‏ ‏أطرافها‏ ‏تقابل‏ ‏المقابر‏ ‏مباشرة‏، ‏فكنا‏ ‏لا‏ ‏ندخل‏ ‏ولا‏ ‏نخرج‏ ‏الا‏ ‏ونحن‏ ‏نمر‏ ‏على (‏السالقين‏) ‏الصاميتن‏ ‏دون‏ ‏آن‏ ‏نتذكر‏ ‏كم‏ ‏نحن‏ ‏اللاحقون‏، ‏وظلت‏ ‏هذه‏ ‏المقابر‏ ‏تمثل‏ ‏عندى ‏مصدرا‏ ‏للتخويف‏ ‏من‏ ‏الأوراح‏ ‏حتى ‏أصبحت‏ ‏مصدرا‏ ‏للحصول‏ ‏على ‏عظام‏ ‏للدراسة‏ ‏عليها‏ ‏حين‏ ‏لزم‏ ‏ذلك‏ ‏فى ‏السنتين‏ ‏الأولى ‏والثانية‏ ‏فى ‏كلية‏ ‏الطب‏، ‏وكم‏ ‏أمسكت‏ ‏بجمجمة‏ ‏قديب‏ ‏لى (‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏.. ‏أليست‏ ‏من‏ ‏بلدنا؟‏) ‏أحاورها‏، ‏وألومها‏ ‏على ‏صمتها‏، ‏وأحاول‏ ‏أن‏ ‏أكشف‏ ‏سرها‏، ‏وما‏ ‏يقال‏ ‏بشأنها‏، ‏ثم‏ ‏أنسى ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏لأحفظ‏ ‏ماذا‏ ‏يمر‏ ‏فى ‏الثقوب‏ ‏المرصوصة‏ ‏بقاعها‏ ‏من‏ ‏أعصاب‏ ‏وأوعية‏ (‏لزوم‏ ‏الاستعداد‏ ‏للآمتحان‏).. ‏وتضيع‏ ‏معالم‏ ‏الموت‏ ‏تماما‏ ‏ولا‏ ‏تبقى ‏الا‏ ‏ثقوب‏ ‏وخطوط‏ ‏التشريح‏.‏

‏ ‏ولكن‏ ‏كيف‏ ‏ننسي؟‏ ‏بالتعود‏ ‏فقط؟‏، ‏ولكن‏ ‏هل‏ ‏نحن‏ ‏نتذكر‏ ‏أصلا‏، ‏نتذكر‏ ‏بمعنى ‏أن‏ ‏نربط‏ ‏حقيقة‏ ‏معرفة‏ (‏هذه‏ ‏الحقيقة‏) ‏بالفعل‏ ‏اليومي؟‏ ‏بطعم‏ ‏الحياة؟‏ ‏بنوع‏ ‏العلاقات؟‏ ‏باعادة‏ ‏الحسابات؟‏ ‏بالتغيير‏ ‏الواجب؟‏ ‏هذه‏ ‏وحدها‏ ‏هى (‏الذكرى ‏التى ‏تنفع‏ ‏المؤمنين‏)، ‏فلابد‏ ‏من‏ ‏إيمان‏، ‏ولابد‏ ‏من‏ ‏نفع‏ ‏آن‏ ‏كان‏ ‏للذكرى ‏أن‏ ‏تصبح‏ ‏فعلا‏ ‏يوميا‏ ‏لا‏ ‏اجترارا‏ ‏ولا‏ ‏احتجاجا‏ ‏ولا‏ ‏سخطا‏، ‏وهنا‏ ‏فقط‏ (‏حين‏ ‏تصبح‏ ‏الذكرى ‏فعلا‏) ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الذكرى ‏اختيار‏ (‏فمن‏ ‏شاء‏ ‏ذكره‏) ‏واقف‏ ‏طويلا‏ ‏عند‏ ‏الآية‏ ‏السابقة‏ ‏مباشرة‏، ‏وعند‏ (‏كلا‏) ‏بالذات‏ (‏كلا‏ ‏أنها‏ ‏تذكره‏) ‏وأصر‏ ‏أن‏ ‏الضمير‏ ‏المتصل‏ ‏فى (‏ذكره‏) ‏بعد‏ ‏على ‏الموت‏ ‏وليس‏ ‏على ‏التنزيل‏ (‏القرآن‏ ‏الكريم‏) ‏كما‏ ‏جاء‏ ‏فى ‏بعض‏ ‏التفاسير‏، ‏ثم‏ ‏أنظر‏ ‏فى (‏من‏ ‏شاء‏) ‏وآكتشف‏ ‏أننا‏ ‏حتى ‏نشاء‏: ‏لابد‏ ‏آن‏ ‏نستطيع‏، ‏أو‏ ‏آن‏ ‏نتوهم‏ ‏أننا‏ ‏نستطيع‏، ‏ولكن‏ ‏كيف‏ ‏نستطيع‏ ‏مع‏ ‏استمرار‏ ‏المسيرة‏ ‏هكذا‏ ‏بنفس‏ ‏الزحمة‏  ‏وملاحقة‏ ‏التفاصيل‏، ‏لهذا‏ ‏فنحن‏ ‏لا‏ ‏نشاء‏ ‏الا‏ ‏آن‏ ‏يشاء‏ (‏وما‏ ‏تشاؤون‏ ‏الا‏ ‏أن‏ ‏يشاء‏ ‏الله‏) ‏وهو‏ ‏لا‏ ‏يشاء‏ ‏بالنيابة‏ ‏عنا‏، ‏بل‏ ‏أن‏ ‏اتجاهنا‏ ‏اليه‏ – ‏حقا‏ ‏وصدقا‏ – ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يغير‏ ‏من‏ ‏حسابات‏ ‏هذه‏ ‏الدنيا‏، ‏اذ‏ ‏يبطئ‏ ‏من‏ ‏دورة‏ ‏اللهاث‏، ‏كما‏ ‏يحسن‏ ‏توجيه‏ ‏عائد‏ ‏العمل‏، ‏فهى ‏مشيئتنا‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏اذ‏ ‏تتضفر‏ ‏مع‏ ‏مشيئته، فلا اتكال،و لاغفلة، ولكنها حسابات ابمانية أخرى لو أنها تنعكس على فعلنا اليومى، لكنا الآن نمثل حضارة أخرى، وبشرا آخرين “لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر” فمتى نشاء أن يشاء لنا فنشاء؟ لا أحسب أن هذا ممكن فى خضم حياتنا الغريبة المستوردة هذه، والمغلفة بقشرة دينية اغترابية تجعل من تذكرنا للموت تبريرا للغم، أو ديكورا يقون بتركيبه خطباء الترهيب والترغيب، ويبدو أننا قد وهبنا قدرا من مثلمات الوعى يمكن أن يلغى أى “تذكرة” حقيقية، يحدث ذلك حتى اذا حاولنا أن نعمق التذكر بحضور عيانى – فعلت ذللك خالتى مرة عن كل مرة، ولم يذهب البشاشة حين اكتشفت – أكثر اشراقا وبشاشة عن كل مرة، ولم تذهب البشاشة حين اكتشفت – كالعادة – أنى لم أصطحب الأولاد، فعملت ان ثمة ما يفرحها ويشغلها عن توجيه “الأخص” المعتادة، وفعلا.. أخذت بيدى وهى تتكئ جزئيا على مساعدى وتقول “تعال أطمئنك فى حياتها، سواء حلمت فعلا أم حلمت تكميلا، فأدخلتنى الى الصبوان الذى لا يفتح الا فى المناسبات، وارتنى لفة لم أعرف ما بها وماذا تعنى لأول وهله وجعلت تفكها وترينى: قماشا ثمينا، ومنشفة، وصابونة، وزجاجة رائحة ولفة قطن … و .. و….، “ما هذا ياخالتى” كفنى ياحبيبى” والحمد لله، لم أترك شيئا الا جهزته، حتى أجر المغسلة وضعته فى ثنايها الثوب – أنظر – حتى لا أكلف أحدا شيئا” فينقبض قلبى غما فى حين أن وجهها يزداد اشراقا، فأتعجب: هل أنا الذى أتصور أنى أعرف كل” هذا” يكون تفاعلى “هكذا”، وهى الحريصة على كل اشياء الحياة بلا هدف أو رؤية (بحساباتى) يكون هذا هو موقفها؟ أهذا هو ايمان العجائز؟ يارب لك العتبى حتى ترضى “فمن شاء ذكره” – وكيف اذكره أكثر من هذا وأنا جالس اراقب الصراع الجارى بينه وبين الحياة، ونفس صاحبى يتردد بلا انقطاع ضد كل توقع وحساب.

وكنا قد أوقفنا اية محاولة عابثة بجسد غال ضد ارادته الحرة، أو ضد نصحية العلماء الأطباء، فمنذ أن كنا فى بوسطن قالى لى المتخصص فى العلاج الكيميائى لهذا المرض “لو أنى مكانه ما أخذت الا المسكنات” منذ ذلك الحين وأنا أعتبر أن اى تدخل عشوائى، لمجرد تخفيف الشعور بالذنب – ذنبنا نحن – هو اهانة لا يبررها علم أو خلق، لذلك قررت، ومنذ البداية، ألا أفعل بهذا الشان الا ما يطلب هو، وهو الطبيب الحاذق، وقد رضى أن يأخذ علاجا كيميائيا المرة تلو المرة، على اساس أننى أخفيت عنه – أو هككذا تصورت – تفاصيل التفاصيل، أو على اساس انه فوق كل ذى علم عليم، أو على أساسا ان يندرج الأمر حتى تتحمل عائلته ما سيحدث .. نعم .. ولكن .. للمحاولات الجاهلة حدودا، وحين توقفنا عن امتهان الجسد، تجسد العجز أكثر فأكثر، وتبينت الفرق بين خبرتى هنا، وخبرتى مع والدى حيث كنت اواصل تعليق المحاليل له أملا فى رتق التمزق فى غشاء المخ ليتجمع السائل النخاعى من جديد، ثم من يدرى، أما هنا.. وقد انتشر ما انتشر، وأنسد ما أنسد، والتهم ما التهم .. فالحمد لله رب العالمين، وحين يكون الانتظار هو كل الفعل الممكن .. فلا حول لا قوة الا بالله العلى العظيم.

ويصاحبنى فى داخل حجرة “الانتظار” صديق لكينا، ليس طبيبا والحمد لله: هو رجل فحل الايمان، أبيض القلب، حاضر الوجدان، غامر الوعى، رقيق الحضور، أتعلم منه فى كل ثانية شيئا جديدا شيئا ارجو الا أنساه، هذا “ان شئت أن أذكره”، وكان هذا الرجل الأبيض دائم الدعاء والتلاوة،لا يفتأ يكرر” اللهم سهل أمرك، اللهم طمئن قلبك، اللهم هدئ سرك” يذكر اسم صديقنا بعد كل دعاء، أو يطلقه هكذا دون تحديد فيصيبنى باليقظة والتمنى أن يلحقنى بعض دعائه وكأنى أنا الراحل، وفجاة اسمعه يرد عليه فى غيبوبته أنى “.. حاضر”، وأنا الطبيب الذى أعلم أن قشرة مخ صاحبى المودع للحياة قد سبقت وسافرت الى الجانب الخر منذ أغفى بلا صحوة، وأنه لم يبق نشطا معاندا الا جذع المخ ضابط ايقاع الحياة التنفسية والقلب، لكننى استمع لحوار الرجل الأبيض مع الصديق المعند، فأكاد أصدقه وأتذكر ما سمعته من والدى وهو يتلو الورد فى غيبوبته، وكأنه كان هو ايضا يتكلم هناك بإيقاع الحياة لا برموز قشرة المخ،هذا أن صدق أنى سمعته حقيقة وفعلا، ولكن ها هو صديقنا الأبيض يرد ثانية” حاضر ”  ” ياخويا” ثم يوصيه أن “يطمئن” ثم يقسم عليه، ثم يتجه الى ربه “لبيك اللهم لبيك” لبيك لا شريك  لك لبيك، ثم أنه لا اله الا الله محمد رسول الله حقا وصدقا ويعود يواصل حواره معه، ثم ينفجر باكيا دون استئذان أو انذار، فيخاف أن يسمعنا أهل البيت وكنا قد حلنا بينهم وبين التواجد فى الحجرة – الا قيلا –طوال هذه الأيام الصعبة، فكيف صاحبى الأبيض عن البكاء فجأة ناظرا الى بغضب وكأنى أنا الذى بكيت بصوت مرتفع، وكأنه ينهبانى أن افسد جو الدعاء بالطمانينة بهذا النحيب المزعج للأهل، ألا يكفيهم ما عانوا ويعانون بما لا يمكن وصفه؟ فأتلقى غضبه الصامت حتى يسكت، وكأنى أنا لاذى رضخت فسكت.

****

أذن، فهذا هو الموت، ذلك الشعر الآخر،(هكذا اسماه أدونيس فى رثاء صلاح عبد الصبور)، نخلق منه ما لاندرى اذ يخلق فينا ما لم نحتسب، أحياء كما نعلم،وراحلين كما نتصور، لكن كل هذا لا يجيب على التساؤل الملح الذى عاد كما هو وكأنى لم أحاول الأجابة عليه آلاف المرات “لماذا هو بالذات؟ الآن بالذات؟ هكذا بالذات؟” واحاول أن اعدو – حقيقة – هربا من ملاحقة ما سبق أن لحقتنى بلا طائل، فأعجز، فأرتد طفلا أنظر فى ظهر غلاف الكراسة “كنظام وزارة المعارف العمومية” أم ست مليمات ذات الورق الأسود الذى” يشف” وغلافهما الخلفى القبيح قد قسم الى مثلثين أحدهما يحتوى جدول الصرب الصغير، والأخر جدول الضرب الكبير، وأتذكر كيف أنى كنت اتصالح مع جدول الضرب الصغير رويدا حتى وصلت الى  5 x 5، فيزداد أملى أن أصل يوما – وأن طال الزمن – الى 12 x 12 .. وهذا ليس على الله ببعيد، ألم يقدرنى أن احفظ هجاء كلمتى تمساحcrocodile  وجميلbeautiful  وكل منهما مكون من تسع  حروف بالتمام، لكنى ابدا لم أحلم أن أقترب من جدول الضرب الكبير بدءا من 13x  13 حيث تزدحم الأرقام وتتقارب حتى تسود  صفحة الغلاف وهى بلا لون اصلا، وكنت أتصور أنه يستحيل أن يحفظ هذا الجدول انسان مهما بلغ، حتى والدى، حتى الناظر نفسه، حتى الملك فاروق، وتختفى الصورة لتعود الى الآن فاكتشف أن ثمة جدول صرب أكبر فاكبر فأكبر الى ما لا نعرف، وأن اجابة تلك الاسئلة الملاحقة البادئة معظمها بـ “لماذا؟” لابد أن تقع فى مكان ما فى وسط محيط جدول الضرب الأعظم بلا حدود، وأفهم لم كان الايمان بالغيب ركيزة اساسية فى دينى، وانه (الإيمان بالغيب) هو قمة المعرفة، لأنه حركة متصلة تتجاوز دائرة المعارف المتاحة الى ما بعدها، فلا نكتفى غرورا، ولا نستسلم غباء، ولا نتواكل عماء، وأجد نفسى انطلاقا من هذا الموقع – اقبل التحدى، فأروح أرد على كل الـ “لماذات” التى لاحقتنى مخرجة لسانها لى طول الوقت، ارد عليها من جنسها ايمانا بهذا الغيب: جوهر كل معرفة حقيقية:

س: لماذا “هو”.

جـ: ولماذا غيره (رد حكيمتنا الحكيمة).

س: لماذا الآن؟

جـ: ولماذا بعد؟

س: لماذا هكذا؟

جـ: ولماذا العكس؟

وهكذا انتصرت أخيرا، فالحمد لله، عالم “الغيب” والشهادة، وهو الحكيم الخبير.

وأدعو الله ألا أكون موجودا لحظتها، وكأنى لا أريد أن ألحق هذه اللحظة بلحظة وداع والدى، فقد شعرت فى خبرتى الأخيرة هذه أنه(والدى) قد عاد فاستيقظ بداخلى بحضور ثقيل، منذ انفردت بصديقى هذا فى غيبوبته،ولكن هل ياترى كان صديقى هذا والدى، أم أنى كنت والده؟، أم أننا كنا نتبادل الوالدية فى اتفاق سرى صامت؟. لعل كل الاجابات صحيحة – ولعل هذا هو ما دعانى أن أكرر لزوجتى (وابنتيه ذات مرة أخرى قبل وبعد وفاته) أنه لم يكن صيقى، فربما كنت أعنى أن ما بيننا كان شيئا أعمق من الصداقة، أو متجاوز الصداقة، ربما كان من ضمنه تبادل الوالدية ذاك، نعم لم يكن صديقى، ذاك أنه لم يشترك معى  فى ادة، أو يواكبنى فى نشاط، أو يحرص على قراءة مجلة اصدرها، أويتمتع معى بصحبة لصيقة صريحة طويلة،(اللهم الا فى منزل النواب مثله مثل غيره)، كما أنى لم أستطيع أن أعرى نفسى أمامه “تماما” كما أفعل مع آخرين أقل قربا الى منه ( وكل هذا عندى هو من مقومات الصداقة)، فما هى طبيعة علاقتنا؟ فأرجح أن أهم ما كان يميز علاقتنا هو ذلك القدر الهائل من “الالتزام والسماح” معا، كان يجمعنا موقف موحد تجاه الاغتراب فى حياتنا عامة وحياتنا العلمية الجامعية خاصة، كما كان كل منا يسمح للآخر أن يتحرك بعيدا عنه فيما يعتقد ويعتنق. نعم، لم يكن صديقى بالمعنى الشائع، فتتهمنى زوجتى – كالعادة – أن” هذا” بديهى، وأنها تصدقنى دون خلق الله الذين لا يفسرون كل ما قمت به نحوه ونحو اسرته الا بما هو “صداقة” كما يألفونها – وأنا لم أقم الا ببعض ما ينبغى مما تفرضه بداهات الحياة -،وتواصل اتهلمها لى معلنة أنه ليس لى اصدقاء اصلا لا هو، ولاغيره، وتتحدانى أن أذكر لها اسم واحد فقط استطيع أن اطلق عليه هذه الصفة، فأمتلئ غيظا، واهم بلارد متصورا أنى سأستدعى ألف اسم واسم، وفورا – لعلها تخجل وتعتذر، ولكن اسما واحدا لا يأتينى، يا خبر!!، وما هذه الشروط التى تهجم على الكلمة تحيط بها من كل جانب حتى لا أقدر أن استعملها؟

ماذا اريد من الناس قبل ان اسمح لهم ان يحلوا فى مضمون هذا اللفظ “صداقة”؟ ثم ما هذا الذى أكرره طوال هذا الفصل وغيره؟ صديقى هذا، صديقى ذاك، ثم حين تختبرنى زوجتى هكذا فجأة، لا أستطيع أن أذكر اسما واحدا من الألف اسم الذين تخلتهم جماعة، فألملم نفسى، ويبدو أن زوجتى لم تكن تنتظر اجابة، ولكنها ايضا لا تظهر شماته (رغم انى أحاول أن أتصور شماتتها بالرغم منها) – وأواصل العناد “بل لى أصدقاء وأنت تعلمين” على، أحمد، وهدى، وهالة، ووليد، وهبة، وكل الأأطفال، وسعيد وعوض وجمال ورمضانو عادل وعبد العزيز، وكل الفلاحين، فتبتسم وتود لو لم ترد، لكنها تلمح تحفزى فأواصل “أن هذه صداقة حقيقية، وحين كنت الاعب “على” الورق أمس الأول، لم أكن أتنازل والدا يلاعب ولده، أو جدا يلاعب حفيده، بل كانت مباراة ند لند” فتضطر زوجتى للرد “أنك تصادق الناس ولا تسمح لهم أن يصادقوك، تصادق المجموع لا الأفراد، تصادق الجزء الذى تختار من كل واحد، ولا تصادق الشخص على بعضه، والأطفال والفلاحين فى موقع الأضعف منك، فلا خوف عليك ولا هم يعملون” وحين نصل الى هذه التعرية أرتب للانسحاب المنظم فلا فائدة من الكلام اذا ما أطلت “الحقيقة” هكذا الى هذا المدى، حتى صاداقتى لمرضاى لم أجرؤ أن أستشهد بها، فهى من نوع الأقوى: والاضعف، ياخبر!!! أهكذا؟ ولكن (بينى وبين نفسى) أبدا، أنا أصدقائى بلا حصر، بلا حصر، لذلك لم أستطع أن اختار من بينهم اسما محددا، أختار من؟ أم من؟ مع صديقى هذا فى هذه المساحة المشتركة، ويزداد تأكدى من تلك الوالدية المتبادلة التى تجمعنا، لكنى اصمم على ألا أكون فى موضع الابن داخل حجرة “الانتظار” لحظة الوداع،لا … لا، لا أريد أن ألبس من جديد أباء جددا! اذ يكفينى كل ما أرتدى من أثواب والديه قديمة من كل شكل ولون، ويستجيب الله لى، فما أن أنصرف لغير هدف الساعة الخامسة الا خمس دقائق، يوم الأربعاء الموافق 29 / 1 / 1986، لأرجع بعد نصف ساعة بالتمام، فأجده قد استأذن فى سلام آمن، وتتفرق الطرق، هو يمضى فى رحابه تعالى بلا تفاصيل ظاهرة، وأنا حيث أنا كما ترون، وأذكر الآن حين كنت أسرى عنه فى دعابة مغامرة كان يتصف بها حوارنا الصريح فى كثير من الأحيان، قلت له ” أسمع” كن شهمما كما اتفقنا ولا ننسنا حين تذهب الى الجانب الآخر “بالسلامة”، كن شهما واخطرنى أولا بأول ماذا الحكاية، ربما أعدت حساباتى بسرعة أن أمكن”، فيبتسم طالبا منى أن أخفض صوتى حتى لا يسمعنا أهل البيت، ويعدنى – ضاحكا – أنه سبفعل ما يقدر عليه ما استطاع اليه سبيلا.

……….

استأذن فى سلام، وتفرقت الطرق.

………

وتبدأ مراسم الوداع، واتعلم، وأتعلم، واتعلم،ويجتمع البسطاء معا هناك، فقد كان  قد أوصى بشجاعة فريدة ألا يتعب أحدا بنقله مئات الكيلومترات لمجرد التظاهر والتقاليد، فأوصى زوجتى أن يرقد هنا “بالامام” بجوار المقطم، وكأنه يحمل همنا حتى بعد موته، وهكذا يتجمع هناك معا: حماى الأمى الوديع، وابنة أخى التى رحلت بعد ساعات من قدومها، مختصرة الطريق ما دامت النهاية هى هى، وصديقى هذا الشجاع البسيط، واعجب لاجتماع تلك الصحبة الثلاثية لما لهم فى وجودى من دلالات، وكأنهم لم يجتمعوا “هناك” تحت الثرى، بل استقروا هنا فى أنقى مساحة داخل داخل وعى وجدانى.

ثم تمضى المراسم بكل ما لها وما عليها، وأتعلم – من جديد – كيف أننا ونحن فى بؤرة الحقيقة، لا نتكلم الا عن زيف الزيف، وأدرك بيقين متجدد أن هذا الزيف بلاذات هو من أعظم رحمته تعالى بعباده الضعفاء: هو أهل الرحمة، وأهل المغفرة.

وهكذا، “طارت” فى وداعة البسطاء، وترن فى أذنى بهدوء نابض ومعان متجددة كيف أن:

” حمامة بيضا

طارت يا نينه

……….

ماخدها البلبل

وطار وياها

قصده يا نينه

يعرف لغاها”

……………….

……………….

وكنت أجل مكع ابنتيه قبل الوداع الأخير ببضعة أيام اصارحهما بكل شئ لم تكونا قد أبلغتاه من قبل، وجعلت بداية حديثى عن رحلتنا هذه التى أكتبها هنا (الناس والطريق) فقلت انى أتصور أن الله سبحانه أراد أن يقربهما منى وبالعكس، ليطمئن والدها قبل رحيله، وأنهما – من خلال رحلتنا هذه – قد أصبحنا صديقتين بمعنى يختلف عن علاقتى بوالدهما، وأنى تعجبت لموافقة والدهما أن يصطحبانا، حيث كنت أتصور أنه أكثر تحفظا، وتخوفا، وامتلاكا فاذا بى اكتشف فيه مؤمنا آمنا، وشجاعا، ومبدعا ابدا، حتى فى تربية بنتيه الوحيدتين، فكان السماح، وكانت الصحبة فكانت الرحلة كما وصفت وأكثر، وكان من أهم مكاسبى منها أن اتسعت دائرة صداقاتى برغم رأى زوجتى فى ذلك، قد تعرفت على رفاقى فيها اكثر فأكثر تحفظا، وتخوفا، وامتلاكا فأذا بى أكتشف فيه مؤمنا آمنا، وشجاعا، ومبدعا ابدا، حتى فى تربية بنتيه الوحيدتين، فكان السماح، وكانت الصحبة فكانت الرحلة كما وصفت وأكثر وكان من أهم مكاسبى منها أن اتسعت دائرة صداقاتى برغم رأى زوجتى فى ذلك، فقد تعرفت على رفاقى فيها اكثر فأكثر ومن بينهم بنتاى هاتين وهما همزة الوصل الذى استطيع أن أتكئ عليها وأنا اعبر الآن الى الجانب الآخر، فأروح اجذب الخيط من حجديد الى مواصلة معايشة ما كان “لنا” “معا” “هناك”، وكيف كان.

الخميس 6 سبتمبر1984:

كانت فرصة فى ما بقى لنا من أيام فى باريس أن نفترق اكثر لنلتقى اقل، فاستطعنا من خلال ذلك أن نضبط جرعة “الصحبة” و”الاستقلال” معا، كنت وزوجتى فى فندق الجوبلان (نجمتان بالتمام) لكن الحمام النظيف والتليفزيون الملون يزينانها بما لا حصر له من نجوم، وكان الأولاد فى فندق “الأقامة السعيد”(!!) بنجمة واحدة وكلب كبير ورائحة نفاذة – كما ذكرت – فجعلت دائرتانا تتحركان اقترابا وبعدا فى حرية نسبية، وحين استطعت أن اتحرك داخل دائرتى الخاصة رحت أوقظ باريس فى كيانى بهدوء متنام،لأعود أنبض بريحها كما عشتها، ثم حملتها معى منذ كان ما كان([10])، وأنا لا أتحدث عن باريس البلد بقدر ما أتحدث عن باريس الناس، ثم انهم ليسوا ناس باريس بقدر ما هم ” الناس فى باريس” بمعنى أنهم ليسوا فرنسيين من عاشرتهم آنذاك، لكنهم كل العالم، حتى انى تصورت ان باريس هذه، لا بل “تلك” (68/69) هى” دوار الدنيا” باسرها، وحين كنت أنتظر نزول زوجتى فى مدخل الفندق الضيق جدا، جلس بجوارى هندى وهندية، ولم تكن السيدة جميلة، ولم يكن جسدها رشيقا لكن السارى الذى كانت تلبسه بدا لى اجمل ما فيها، ولم أكن أعلم أنه،مع شموله لكل القوام حت] جزء من الرأس، يمكن ان يكشف عن مساحة لا باس بها من لحم البطن حول الوسط، رغم برودة الجو، ولم يكن اللحم البارز جميلا.. بل، بلا مؤاخذة، كان مترهلا الا قيلا، ومع ذلك فقد تذكرت الثوب السودانى الشفاف الرائع الذى ترتديه نسا السودان، وقلت: فهو الرمز والوطن وليست الحشمة والطقوس، ولو كان الحجاب نطور عندنا حتى يعنى ذلك، أو مثل ذلك لكان له وضع ىخر، أما بحالته الراهنة وتنوعاته (على الموضة) فهو – فى الإغلب –لابداء الزنية لا لاخفائها، ثم هو قد يعمل لاعفاء من ترتبيه من الغوص فى جوهر دينها بالرضا عن ظاهر شكلها، ذلك، وغم ماله – عندى – من وظائف ابداعية قل من يستعملها مهمن للتصالح مع الجسد والجنس معا، المهم أنى لم أستطع ان أقارن السارى الهندى الا بالثوب السودانى ثم بلاملاءة اللف عندنا، هذا التحدى الأنثوى الرائع الذى يفرض على المرأة الرشاقة والليونة والنشاط فى آن، وتصورت  لو أن سيدات المجتمع عندنا بدأن بارتداء هذه الملاءة رسميا (لا فى حفل جلابية”بارتى” لتطلب ذلك منهن  جهدا رائعا، لكنهم يستسهلن التقليد والديكورات الزائفة والزائلة، ودمتم، وتنزل زجتى مرتدية جلبابا من كرداسة لم ينتشر عندنا الا بعد أن اشترينه الخواجايات. (رأيت كيف؟؟) وننطلق الى “باريس الناس” بما تحوى من هنود وسنغاليين وبرتغاليين وايطاليين وعرب.. يعملون معظم الوقت، ثم يلتقون، فى مقاهى أرصفة باريس واركانها، تلك المقاهى التى أعتبرها مصاطب الدوار، والمقهى يدعوط وأنت سائر أن “تتفضل”، ويكررها مرارا (مثل بلدنا) حتى تتفضل، فأتفضل بعد أن تنصرف زوجتى الى هوايتها حسب موعدها مع الأدولاد يغيظون المحلات بشرائهم “أرخص”(!!؟؟)، ألم يوفروا فرق السعر، ناسين أنهم دفعوا الباقى بغر حاجة اليه، ولم اعد أعيد هذه الملاحظة لأنى حافظ عن ظهر قلب الردود..؟ أيش افهمك أنت فى الحاجة وقلتها، أنت لم تر الناس وهى تتكاتف للحصول على ذلك الشئ، وقد فزنا به دون غيرنا، أنت لم تر المحل وقد امتلأ حاجات على حاجات، والناس لحم على لحم، أنت ليس عندك  فكرة…. الخ” وكنت فى الزمان الأول اناقش هذه الدعاوى واحدة واحدة بما عندى من فكرة، لكن ابدا، ومازلت أتمنى على الله، ولا يكثر على الله، أن تعلم زوجتى قبل أن أموت: أن عندى فكرة، صحيح فكرة على قدر حالى، لكنها فكرة والسلام، واقبع فى ركنى المفضل فى مقهى جوبلان حيث أمامى صفين من مقاعد الزبائن، دون زبائن، الا قليلا، ثم الواجهة الزجاجية، التى لا تحجب عنى المارة فى الخارج، وحين استقر فى موقعى أبدا رحلة المقارنة بحثا عن الفروق، قافزا عبر الهوة الحضارية للأمام وللخلف على حد سواء، ويبدو أن مهنتى الطبية النفسية قد سهلت على لعبة التقمص بما يسمح لى أن البس ححذاء كائن من كان (كما يقول الانجليز)، فأحاول أن أدخل الى أعمق مسافة ممكنة فى عمق وجودهم ثم فى نوع وجودنا، علنى أخرج بما هو أكثر من الفرجة،و أعمق من الحكم، لكنى لا أنجح فى كثير من الأحوال، ويتجدد أمامى – مثلا – منظرا رايته مءات المرات، وسمعت عنه قبل أن أراه عشرات المرات – وكتبت عنه أحيانا – وهو منظر الفتى والفتاة وهما يتلامسان ويتلاثمان ويتقابلان (من تبادل القبل) ويتحاضنان.. الى آخر ما هو كذلك، ونحن لم نألف ذلك، وقد تعودت – كما سبق ان أشرت – أنى حين لا أفهم شيئا لا ابادر برفضه، وأنما اصبر عليه لعلى آتينى بخبر ولو بغير يقين، وحين نزلت باريس أول مرة (68) جعلت أنظر الى نفس هذ المنظر مندهشا ثم متظرا، ثم متسائلا، أما الدهشة فهى لعدم الألفة، وأما الانتظار فهو ترقب لما سيوصل اليه “هذا الذى”..، أما التساؤل فكان عن معنى ما حدث، ومكا لم يحدث، وكيف يبدؤون، ويستغرقون، ثم يتوقفون رغم تصورى استحالة ذلك (تقمصا) وقبل أن أتخذ موقف الرفض العجاب، أتذكر لعبة الحمام فوق اسطح بلدنا، وحركات الذكر والأنثى، ودغدغته لرقبتها أو تحت جتاحها، ودورانه حول نفسه ثم حولها. ثم طيرانها دون أن يطأها، أو طيرانها وعزوفة عن متابعتها حالا، أو عودته واختفائها، وقلت أن الانسان أصله حمامة أيضا، فلماذا ألحقنا داروين بالسمك دون الطيور، واذا كنا ننعت “الجنس” القح “بالحيوانية”، فخليق بنا أن ننعت اللثم / اللمس “بالحمامية”، واذا كان بنا شئ تلقائى يرفض الحيوانية (لست أدرى لماذا دائمكا هكذا دون تمييز) هكذا دون تحفظ ، وتحضرنى دروسى السرية فى الجنس من المدرسة الحيوانية فى القرية، وكان أول من نبهنى الى تأثير ودور معايشة هذه الطبيعة الحيوانية مباشرة فيمن يعايشونها من أطفال وشباب هناك هو أستاذنا العقاد فى ترجمته لحياة واحد لا أذكره، وحين راجعت مقولته فى نفسى وتاريخى تبين فعلا كم كانت مدرسة القرية الجنسية الحيوانية شاسعة المعارف، ومتعددة الوسائل، ولولا اشارة العقاد تلك، ما تجرأت على تذكرها آنذاك، فضلا عن وصفها الآن، فماذا يخجل فى ذكر مصدر تعلمنا الجنس من خالقه مباشرة فى كل زوجين اثنين، فما زلت أذكر نشاط ديكنا الزاهى، وفحولة ذكر البط و” أما فاطمة” تخضع له أنثاه حتى “يكسرها” (لاحظ التعبير) وأنا ألاحظ اللقاء باستطلاع ومتعة، وألاحظ أكثر شعور هذه العجوز الطيبة وهى تقوم بالمهمة الرائعة، ثم كبش القطيع المدلل من كل النعاج بلا استثناء، والكسيطر على الذكر الأضعف الناشئ استعدادا لتولى المهمة بعد احالة الأكبر الى المعاش، ثم حمارنا الأزرق العجوز الذى يمنع أى حمار آخر، مهما بلغ سبابه أو جماله أو تناهت فتوته، يمنعه أن يعتب الحظيرة طوال فترة “طلب” الأتان الركوبة الغندورة، ثم نشاط  ثورنا “الطلوقة” مصدر زرق العلاف الخاص،( وما أهنأ الذكر حين يؤجر على مهمته، وليس العكس)، وفى المدينة لم يغب عن بصرى متابعات اقل، مثل تلك المظاهرة خلف كلبة اضاءت اللون الأخضر، ولكن الريف شئ آخر فياهيبة (أو سوء حظ) الذين يتعلمون الجنس من كتاب ” الأحياء المفرر” أو من سخف التليفزيون المتنطع، أو من روايات الوالدين الكاذبة، الجنس الحيوانى الوحيد الذى اذكر أنى رفضته، حتى الجزع والخوف والقرف معا، كان ذلك المنظر الذى قلب بطنى وشاك وجدانى بين قط وقطة على سور نافذتنا فى مصر الجديدة، تيقظت من نومى على عواء باك كنحيب المتوجع الوحيد، فاكتشفت ما يجرى. ولم أجد فى ما أرى ما ألفت فى ريفنا النقى، فليس يبدو “عليه” أى زهو أو علو أو أمتلاء، وليس يبدو “عليها” أى استمتاه أو استقبال أو استرخاء، بل قسوة وأغارة فى مقابل خنوع فى ضياع (هذا هو استقبالى آنذاك) فرفضت ورفضت ورفضت، ولم استطع أن أقرن ذلك بالحوار الذى عايشته فى بلدنا، وأعود الى موقعى فى جوبلان، أتابع البلبل ووليفه (بعد تحية اسمهان) – فأقول لنفسى : ليكن أصل الانسان حمامة أو يمامة، فأقول: اذا كان زوج الحمام يمارس نشاطه هكذا لجزء من طبيعة التمهيد والاعداد، فان ما أرى هنا لا يبدو أنه تمهيد أو اعداد لشئ، بل هو ينتهى كما بدأ، وياخيبة التقمص المجهض، حتى أنى كنت اتعجب حين تطول القبلة (فى المترو خاصة) والزنقة (فى الركن خاصة)، ثم تأتى المحطة التالية [11]  و” هب” يذهب كل من هو فى حاله: تنزل البنت أو الولد ويبقى الثانى (او الثانية) واتصوره مجهض المشاعر والنوازع والغرائز مثلى، فلا أجد شيئا من ذلك، حتى أنه قد يخرج صحيفة من جيبه وهات يا حل فى الكلمات المتقاطعة، سبحان الله، أى قدرة على نمقل المؤشر بين محطات المشاعر بهذه السرعة، وأكاد لا أصدق: فأما أن الذى كان لم يكن، وأما أننى تصورت شيئا غير ماهو، وأستغفر الله وأسكت، لكن الشعر لا يسكت ( وهذا لم ينشر بعد)[12] حيث خيل الى أنى رايت فيما جرى هذا الصباح جديدا: هو جالس يحتسى قهوته مع “أهله” الخبز الخاص “الكرواسون” فتدخل عليه “هى” سريعة الخطى حمراء الحضور، التفتت .. وتلائما، جلست.. فتحسسا، شاركت.. فتهمامسا، ابتعدت.. فتمايلا،… الخ وانا افرح بهما ,اشفق “علينا” افهم القليل. وأرفض القليل، وأؤجل الكثير، وتزداد وحدتى بمعنى خاص أعرفه، فهذه المنطقة أحوم حولها الكثير، لا أعرف تفاصيل لغتها، ولا دورة حياتها، ولا تداعيات مسارها، لذلك اظل الف بلا انقطاع مع اللحن الصادح حول الكرسى. وحين بل أقف مكانى بعيدا فى انتظار أن تدور الموسيقى ثانية لأعادود اللف حول الدائرة  دون أن أدخلها أبدا، وقد رضيت بهذا الدور من باب الوعى بما هو أنا، فى حدود ما أعرف، وكانت هذه الدرجة من الوعى لا تمنعنى من المشاركة والحوزار والتساؤل دون أن أغامر بأكثر من ذلك، فلا أنا المتفرج المتعالى، ولا أنا المنسحب الدامغ، ولا أنا الأعمى المتغافل، أو لعلى بعض من كل هذا، لكنى مع كل هذا مشارك متسامح، صحيح أنه نوع خاص من المشاركة، لكنى اظل أحاول… فأكتشف من بعد آخر أنه ربما يكون هذا التلامس، والتلائم …. الخ.

ربما  يكون تباعدا أخطر، ذلك أنى اتعجب كيف أن “كل من هو فى حاله” حسب قانون الحرية الغربية، ثم كيف المسافات ثم تتخلق بين الجنسين بهذه السرعة والسهولة، وأكتشف  أنى  أنهيت القصيدة التى كتبتها فى مقهى الجوبلان بهذا البيت ” أفرج عن الضحايا: تنتحر فاضبط نفسى حاكما على ما يجرى من بعد آخر حين استقبل ما يجرى وكأنه “طقوس نظام”، وليس “مسئولية حوار”، وأن هؤلاء الناس هو ضحايا هذا النظام بشكل ما، وحين ضحكوا عليهم بهذا القدر من الحرية المشبوهة دار كل حول نفسه فما أ ضيق المساحة، ويلتقى دون أن يلتقى أحدهم بصاحب أو صاحبة، ثم ما أسهل الفراق.

مازلنا الخميس 6 سبتمبر1985:

التقينا حول الظهر فى ميدان الأوبرا بعد الاطمئنان على حجز العودة من جنيف للأولاد، وجلسنا على رصيف قهوة السلام  “Le pais” التاريخية بروادها من الساسة المصريين خاصة، ولاشمس قد تسلطت على صعلتى فحركت ذكريات المشى من المونمارتر حيث كنت أسكن، الى الجنوب 14 حيث كان المفروض أن أعمل وأدرس، مارا بميدان الأوبرا (أينها فى مصر؟) وثمة محل  على الناصية المقابلة يبيع المجوهرات المزيفة التى تحتاج الى خبير ومجهر لكشف تزييفها (فلماذا الأصلية؟) وكنت قد حضرت إليهم متأخرا قليلا بعد أن استغرقتنى قهوة جوبلان حيث هاج بى الشعر دون استئذان، فأجد ابنى ممسكا بنسختين من صورة لهم فى جلستهم وقد اكفهر تماما حيث خدعه أحدهم، أو هو قد خدع له، حين فهم منه أن ثمن الصورة اثنين فرنك وثمانين سنتيماdeux, quatre vint أنها أرخص حتى من التصوير العادى، وبعد التصوير يكتشف أن الصورة الواحدة بأربعين فرنكا، وأن البائع كان يقصد أن “الاثنين بثمانين”، ويدفع ابنى النقود وهو يغلى ويلعن حروف الجر والعطف وعدم ظهور “الفاصلة” فى الكلام، وكان هذا بداية يوم المقالب:

ذلك أنى حين تركتهم لساعة وبضع ساعة حسب ميعاد سابق مع أستاذ مهم ينزل فى فندق قريب (سان جيمس) بشراع ريفولى، ذهبت وأنا مشغول بمهمة ثقيلة تتعلق بمستقبل ابنى، مهمة لا أحبها، ولا أتحمس لها، وأن كنت مضطرا للقيام بكل التزام التكيف وضد كل المقاومة الداخلية، فجلعت أشوح بيدى كالعادة حين يحتد ما يشغلنى ضدى، ويبدو أن منظرى هذا قد جذب انتباه أحدهم من ركاب العربات الفخمة (كانت B.M.W على ما أذكر – تحمل أرقاما أجنبية)، وحين توقفت فى الاشارة اقترب منى راكبها – وهو بالداخل لم ينزل – وقال لى لهجة ليست باريسية ولا فرنسية انه: ما مسيو، يا مسيو، ولم أتصور أنه ينادى على، ثم حسبت انه يسألنى عن عنوان ما، لكنه جعل يحكى”.. أنا رجل من ايطاليا وقد نفدت نقودى وأريد أن أرجع بلدى، وقد كنت قد أحضرت بعض الأغراض لصديق لى ها هنا، لكنى لم أجده، ويبدو أنك غريب، وطيب، فقد تنفعك هذه الصناعات الايطالية، المتواضعة الثمن، فقد أدخلتها بدون جمارك … الخ، ولم ألتقط كل ما قاله تفصيلا لكنى فهمت مجمل المراد، وأنا بى ما بى، وقبل أن ارد فتحت الاشارة فحمدت الله اذ اضطر صاحب السيارة ان يمضى، ونسيت لتوى كل ما كان، لكنى ما أن عبرت التقاطع ومضيت بضع خطوات ختى وجدته ينتظرنى وقد أوقف العربة وخذ عنك ” يا مسيو .. يا مسيو”، وقبل ان يعيد ما قال قررت – لست ادرى كيف – ان اسهل طريقة للتخلص منه هو أن أستجيب له تماما وحالا، مع أنى لم أستبعد نصبه فأعطأنى سترتين  من الشمواه أو ماشابه، فأعطيته ما أراد من فرنكات، فاتصرف وجعلت أنظر للكيس المصيبة الذى أحمله فى يدى وأنا فى طريقى لمقابلة الشخص المهم، وتمنيت أن ألقى به بعيدا، وقبل أن أفعل، لا حظت العربة وقد توقفت ن جديد، يانهار أبيه لن يمر، و” يا مسيو…. يامسيو..” وقبل أن ألقى فى وجهه كل شئ أو أشتمه بالعربى كما ينبغى، بادرنى: أنت رجل طيب نم مصر، وأنا أحب مصر، خذ هذه  أيضا هدية بدون مقابل، وناولنى سترة ثالثة من نفس النوع!! وانصرف لا يلوى على شئ، وانا ألوى على أشياء، فقد تأكدت أولا أنه نصاب، ثم رجحت ان النصبة طلعت واسعة حبتين حين استجبت فدفعت كل الثمن فورا وكما قال دون نقاش اصلا، ثم تعجبت انه اشفق على غفلتى لدرجة أنه عاد يصلح بعض ما جنى، فأهدانى ما أهدانى، حتى يبارك

الله له فى سرقته، وحين وصلت الى هذا الاستنتاج ابتسمت بالرغم منى، وتذكرت قريبا لى كان “يقتل” بالأجر، وحين جاءته امرأة فقيرة، ليس لها رجال، لتستأجرة فى مهمة اضطرارية، ترفق بحالها وأقسم بالطلاق أن يقوم بالمهمة “جدعنة” وأن يقتل خصمها لوجه الله (!!).

أديت مهمتى بسرعة فى الفندق الفخم، وزغت من دعوة زوجته الفاضلة لزوجتى الكامنة على غداء أو عشاء، فزوجتى لا تحب هذا المجتمع، ولم تحضر الملابس التى …، ولا تتقن لغة أخرى، فلماذا؟ ولم أستطع أن أعتذر أنا أيضا لأن الوليمة كان سيحضرها شخص قد يساعدنى فى مهمتى الثقيلة تلك، ثم انها دعوة لغداء عمل تتعلق بالتعاون الطبى المصرى فيما يسمى بـ “السديم”. وسوف أعود لذلك فى فصل لاحق. وانتهى اللقاء على وعد ما وقفلت راجعا الى زملاء الرحلة جالسين على نفس المقهى وأحاول أن أدارى خجلى، لكنهم يتبينون ما أحمل، فأحكى لهم بايجاز شديد وأريهم محتوى الكيس: ثلاث سترات من نفس النوع، بنفس المقاس، وبعد فترة كتمان ينفجرون ضاحكين، فتأكدت مما جرى، والألعن – أو الأرحم – أن المقاس لم يكن مقاسى أصلا، وشربتها بأكملها ..، بسيطة !!

انصرفنا معا حتى أبواب مبانى محلات اللافييت المتعددة المتجاورة على الجانب الآخر من ميدان الأوبرا، وتفرقنا على أن نلتقى، فاتجهت الى قسم ملابس الرياضة، حيث انى طالع فى المقدر جديدا، لكنى اكتشف أنها أغلى بكثير من الملابس العادية، اذ يبدو أن “بدعة الجرى” الحديثة، والنشاط البدنى الهوائى Aerobics (انظر بعد) قد أصبحت من مميزات الطبقة القادرة (حوطوا بكل شئ يا عالم !! حتى الرياضة والصحة الجسمية!!)- ولم أشتر شيئا طبعا، ثم تجمعنا على الناصية أمام أحد الأبواب كما اتفقنا.. وبدأ الفصل الثالث: يتقدم شاب أنيق رشيق له رأس متناسق مستدير، ووجه أحمر فى صحة، وشعر أصفر ذهبى!! خواجه ابن خواجه وأمه حتما خوجاية 100%، فكلمنا بلهجة انجليزية سليمة ليس بها أية لكنة فرنسية، وعرض علينا.

بعد أن عرفنا أنه انجليزى – أن نصرف منه الدولارات بسعر أكبر (أظن ثلاثين أو أربعين فرنكا أعلى من السعر الرسمى فى كل مائر دولار) ورغم حسن المظهر وحسن اللغة .. وحسن كل شئ، شككنا فيه من باب الحيطة، قالت ابنتى : ومع ذلك فلنحاول، والنكتف بمائة دولار واحدة لا غير حتى اذا نصب علينا تكون الخسارة محتملة، ولم أفهم لم نقدم علىالمحاولة ما دمنا على هذه الحالة من الشك فىالرجل، علما بأن فرق السعر ليس كبيرا، ولكن ما ذا تفعل فى النصاحة المصرية؟ قلنا نجرب ونفتح أعيننا جميعا :

ذهب صاحبنا وأحضر المبلغ قبل أن أناوله الورقة أم مائة دولار (لاحظ درجة الحرص)، وناولنى المبلغ وطلب منى أن أعده حتى اطمئن (منتهى الأمانة) فعددت واكتشفت (ويا للحذق) أنه ناقص ثلاثين فرنكا، فتأسف (جدا) وانطلق بخطى سريعة يحضر بقية المبلغ، وأنا مازلت ممسكا بالمائة دولار، ثم عاد وأخذ يتلفت منبها أن نحذر أن يرانا البلويص، (يا ولد!!) هل كل ذلك من أجل ثلاثين فرنكا؟ لكنها المغامرةو وأخذ منى الأوراق ذات الفئات الكبيرة ليعد الأوراق جميعها معا، وراح بعد : واحد اثنين ثلاثة …. ثمانية، وقال : تمام؟ قلت : تمام، فركنها واتجه الى الفكة (وهىالتى كانت ناقصة) وعدها فلم تعد ناقصة بعد أن احضر الثلاثين فرنكا ( يا سلام على الدقة!!) وهنا اطمأن قلبى أننا أخيرا نجحنا الا ينصب علينا أحد (اللهم الا اذا كانت الأوراق مزورة) – فناولته المائة دولار فانصرف بخطى سريعة وأنا ممسك بالأوراق الأخيرة فرحا بدقتى وحرصى، ألم اكتشف نقص الثلاثين فرنكا وأصر على اعادة العد؟ وكانت ابنتى تراقب الجارى زيادة فى الحيطة والحذر، واذا بها فى نفس ثانية انصرافه تسألنى بغتة : أين الاوراق ذات الفئة الكبيرة (الثمانمائة فرنك)؟ فدهشت للسؤال .. فهى معى بداهة، وجعلت أبحث فى جيوبى فلم أجد شيئا، وهنا – فقط – فقست اللعبة الذكية، فتلفتنا جميعا وكان صاحبنا – الخواجه الانجليزى ابن الخوجاية – فص ملح وذاب، ونتبين أنه بعد أن عد الأوراق الكبيرة احتفظ بها فى يده، وأنا أظن أنها معى ثم اخفاها بمهارة خاصة موهما اياى أنها معى جاذبا انتباهى أولا : الى التأكد من اكمال الأوراق الصغيرة التى كانت ناقصة، وثانيا : الى احتمال مداهمة البوليس، الا يستأهل الاعجاب بالذمة؟ لكن ابنتى لم تكن قد نسيت نصب “المارسيلى” فى “نيس”، ولم أكن بدورى قد نسيت نصب الايطالى منذ ساعة، وها هو النصاب الانجليزى الحاذق، أهى عصبة أمم للنصب والاحتيال يا بلاد الحضارة السعيدة؟ وهكذا فقدنا ثمانمائة فرنكا ونحن نتصور أننا بنصاحتنا نبيع الدولارات المائة أزيد من السعر الرسمى بثلاثين فرنكا، (يا حلاوة!!)، ماذا جرى لأهل الحضارة يا خلق هوه؟ أهذا هو الانجليزى الذى كنا نضرب به المثل “معاملة انجليزى” … “مواعيد انجليزى” .. فاذا به “نصب انجليزى” … “خطف انجليزى”، وتكررت حكاية رفض ابنتى أخذ العوض (المائة دولار كانت من رصيدها هى) .. مع انى المسئول، فتوصلنا الى حل وسط، ورجعنا مكسورى الخاطر من آثار تلاحق المقالب، نضحك مرة، ونخجل مرة، على ارضية من الغيظ المكتوم فى كل حال، وبدا لنا أننا نستحق وجبة متواضعة فى المطعم الصينى الرخيص اسفل الفندق، نفترق بعدها لنلتقى فى المساء الى السينما تخفيفا وتعويضا.

ما زلنا الخميس 6 سبتمبر 1985:

للذهاب الى السينما فى بلاد برة طعم خاص بالنسبة لمواطن عادى مثلى ليس سينمائى الطبع، ولا هو مثقف التكوين، نعم، لم أنجح أبدا أن اكون مثقفا سينمائيا حتى بعد أن استدرجنى بعض طلبتى واصدقائى الأصغر الى الاشتراك فى “نادى السينما” فى مصر فى منتصف السبعينيات، فتمتعت مثلهم ببعض الأفلام الحرة، لكنى وحدت نفسى أتفرج على مجتمع “نادى السينما” أكثر من فرجتى على الفيلم، ورويدا رويدا أحسست أنى فى غير مكانى ذلك انى شعرت أن هذا المجتمع المثقف جدا، اليسارى كلاما، المتيقن استقرارا، الساخر دائما، هو مجتمع بديل بشكل أو بآخر، بديل عن حزب سياسى، أو بديل عن انتاج مغامر، أو بديل عن خبرة مبدعة، وشعرت أن فيلما واحدا تبلغنى رسالته مثل “ابنة ريان” أو الفيلم الايرانى “الغريب والضباب” (أين ايران الآن من هذا أو بعضه؟) شعرت أنى احتاج وقتا كافيا لأستوعب رسالته، فكيف اسمح لهذا النادى بملاحقة وعيى هكذا؟ كل أسبوع كل أسبوع يلاحقه بما أتحدث عنه ولا أعيشه لكنى فى السفر، والى باريس خاصة، أعتبر الذهاب الى السينما جزءا يكمل تعريتى، وما زال فيلمى “آخر تانجو فى باريس”، و “كل هذه الموسيقى الجاز” ([13]) اللذان شاهدتهما منذ بضعة سنوات فى باريس يدوران معى، وقد أثر فى الفيلم الأول حتى أهاج شعرى ([14])، ورغم ان جرعة الجنس فيه صريحة وقوية ودالة الا انه ليس فيلما جنسيا طبعا، وأنا لا أعرف ما هى الأفلام الجنسية أصلا، لم أسع لمشاهدتها أبدا، وحين سألت بعض من شاهدها عن ماهيتها تبينت ما صرفنى عنها، حتى لم يثرنى ولا حب الاستطلاع الى تجربتها، ذلك أنها – كما بلغنى – ليست سوى تصوير للعملية البدائية لأعضاء جنسية تكاد تنفصل عن ذويها، فماذا؟ لماذا؟ لكن فى مثل فيلم “آخر تانجو فى باريس” يظهر الجنس كجزء لا يتجزأ من واقع تصعب سلسلته اذا ما انفصمت عن مجراه احدى حلقاته، وقد ظل مارلون براند و يمارس هذا الجنس مع بطلة الفيلم (لا أذكر اسمها) طوال ساعات الفيلم دون أن تعرف اسمه (مثلا)، وكان فى ذلك – ما يعرى مثل هذه العلاقة بشكل أو بآخر فى هذا النظام الغربى المغترب، وتصورت أنه يستحيل ان تتعرى مثل هذه العلاقة بهذه المباشرة بغير المغترب، وتصورت أنه يستحيل ان تتعرى مثل هذه العلاقة بهذه المباشرة بغير هذا الجنس “هكذا”، وأتذكر فزعا تلك البدعة الخطيرة الذى دخلت حياتنا الثقافية تحت عنوان “تجنب ما يخدش الحياء” لدرجة سمحنا معها بقص كل لفظ صريح أو موقف محدد فيه جنس انسانى دال، تحت عنوان “ما يخدش الحياء”، وقد تجسد هذا التشويه مؤخرا فىقضية ألف ليلة التى انتهت والحمد للله لصالح الثقافة والحقيقة والفن والتراث، لكن القص والجبن ما زالا عارين يلطخان وجه دواوين شعرية أصيلة مثل ديوان ابى نواس أو بشار بن برد أو عبد الحميد الديب، فاذا أضفنا الى ذلك العاب الرقابة الأحدث، عرفنا أين نحن، وان كنا قد لا نعرف – بهذه الصورة – “الى لبن”، فالأرجح أننا نسير بظهورنا، لأن هذا النوع من : الأخلاق بالاغماض، والأخلاق بالحذف، والأخلاق بالادعاء، والأخلاق التى نستعمل من الظاهر، كلها تدل على ضعف المواجهة، وعتمة الوعى، والجبن أمام الحقيقة، وأنا لست من أنصار الحرية المطلقة، كما أنى لست من مشجعى الاثارة العنيفة للتجارة بالغرائز، واذا كنت قد أفهم – بصعوبة وفى حدود – دور الرقابة على الأفلام والتليفزيون مثلا، لأنها مادة مفروضة لجمهور مستسلم، فانى لا أفهم معنى التدخل فى التراث الاصيل بالحذف الجبان، فهل نحن 1 مجتمعا وقراء) أكثر ادبا وتدينا وحياء من المسلمين فى القرن الثالث الهجرى مثلا، ولابد أن اعترف انه اذا كانت مواكبة الجنس عند سائر مخلوقات الله قد سمحت لنموى الجنسى ان يتحرك فى رحاب الطبيعة، فان قراءة التراث الجنسى كان يغذى خيالى بما ينبغى، وما زلت اذكر كيف حصلت على نسخة من كتاب “رجوع الشيخ الى صباه” وأنا فى مرحلة الثقافة العامة (الرابعة ثانوى) فرحت لنقله نسخا باليد وافرض شروطى حتى على اخوتى الأكبر مقابل ان يستعيروه منى، ثم اختفى الكتاب المنسوخ بفعل فاعل … لعله ابى، (دون أن يذكر حرفا لى، أو لاخوتى، ان كان هو) ورغم انه كتاب موضوع اصلا للاثارة الجنسية، الا أن طريقة كتابته وصور المبالغة فيه ادت وظيفتها فى أن يكمل خيالى ما أبلغته اياى الطبيعة الحيوانية.

وحين رحنا نبحث عن فيلم مناسب، اكتشفت ان الأفلام التى هى ممنوعة لديهم، انما تمنع لن هو أقل من13 سنة، ونحن فى البلاد الحارة يتفجر فينا الجنس قبل ذلك فلماذا عندنا يبدأ المنع من 16 سنة، وتصورت أنهم قد يسمحون لنا بالافلام الصريحة والشجاعة بعد بلوغنا المائةن لضمان انا حينذا ك سنكتفى بالفرجة مثل ام جرير أو الفرذدق، حين هجاها الآخر بقوله (على حسب رواية سمعتها دون تيقن) :

عجوز قد زنت ستين عاما وقادت بعد ذلك اربعينا وعادت فاشترت جديا وعنزا لترقب لذه المتناكحينا.

وما يزعجنى فى موقفنا هذا أكثر فأكثر، أن القهر والحجر والمنع يأتى من الأصغر، فى حين أن السماح يصدر ممن هو أكبر (حكم الاستئناف الرشيد)، وكان المتصور أن يكون الجارى هو العكس، وهذا لا يعنى كما يدعى البعض أن الأصغر أكثر تدينا والتزاما، وانما قد يعنى أن الأصغر أكثر خوفا وعماء، وأن الأكبر أكثر مرونة وموضوعية، وهذه ظاهرة منذرة، لأنها تشير الى أن الشباب قد أصبح شيوخا، فاضطر الشيوخ أن يحافظوا على شباب الامة بمزيد من المرونة والحركة والسماح فى مواجهة هؤلاء الخائفين المتجمدين وراء كذبهم على أنفسهم، وأتصور ان المسئول أساسا عن ضيق الأفق وعتمة الوعى وعلو الصوت الأجوف هو الحكم الشمولى بوجهيه الناصرى والساداتى، وأنه لا بديل لاستعادة شباب الأمة فكرا ومواجهة اوابداعا الا بالحوار وانهاء كل ما هو جيش، لو تهديد بجيش، سواء كان جيش يوليو أم جيش أكتوبر أم الجيش الأحمر أم جيش الخلاص الدينى الاغترابى، وندخل فيلم اكاديمية البوليس، وأتصور قضية ترفعها الساطات المسئولة لاهانة العسكرية (!!) لكنى أتذكر افلام اسماعيل يس فى الجيش والبحرية .. الخ واحمد ربنا على أننا ما زلنا – رغم كل ذلك – نكتب هذا الكلام، فينشر،

وفى طريق عودتنا نتواعد أن يكون باكر هو يوم الاحد، ثم بعد ذلك نتفق، فقد كنت محتاجا الى بعض الانفراد بنفسى لاتنفس ببطء وأرى ..

حاشية : الخمس 13 / 2 / 1986:

مرت على ابنتى صباحا بعد أن كنت قد الغيت سفرا الى الريف محتجا على نفسى : تستعملنى “هكذا” طوال الوقت لصالح من لم يعودوا فى حاجة الى، قالت ابنتى هذه – تستأذنى – أنها ذاهبة الى بورسعيد، فقرفت كالعادة، فأنا أكره هذه الرحلة مهما حسبوا اقتصادياتها، ومنذ أربع وعشرين سنة (1962) وأنا لم أذهب اليها، كنت أعمل طبيبا ممارسا فى شركة للبترول، وذهبت أقوم بكشف دورى أو ما ثيابه، واذكر أنى لم ارتح لها من البداية، ثم حدث الاحتلال فانقبضت، ثم الجلاء الجزئى، فرفضت، وقلت لا يضحكون على أولاد الكلب هؤلاء فيوهمونى بالجلاء وهم على بعد النظر، ثم جلوا عن سيناء كلها فلم بعد لى حجة، لكنى لم أستطع من جديد، حيث بدأت أراها ثقبا فى اقتصاد بلدى، يتمتع فيه بالاغفاء ذوى الحيثية والتصريحات الخاصة، والتهريب ذوى الذكاء والطرق الخاصة، قلت لا، لكنها “لا” خائبة لا تعود الا على شخصى، أما بقية أسرتى – رغم أنهم ضمن مسئوليتى – فلم أستطع أن اتدخل فى حركتهم، فأصبحت رغما عنى مساهما فيما أكره، المهم أن ابنتى ستسافر، وأنا سأوافق، ويتكرر المضض، فالحمد لله، وبديهى أن أمها – على الأقل – ستسافر وحدها!، أو مع بنت طيبة تساعدنا فى أمر بيتنا، فتعجبت، فعرضت على ان اسافر معها، وهى تعلم ردى فرحت التمس عذرا جديدا ثانويا، فادعيت أنها لو غيرت الرداء الذى ترتديه فانى موافق، وأنا أعلم أنها عنيدة ولا تفعل، اذا بى أجدها تعود الى بعد خمس دقائق وقد فعلتها .. فوقعت فى الفخ ولم املك التراجع، وهكذا وجدت نفسى، وعلى أهون سبب – فى بور سعيد.

وبمجرد أن دخلنا انقبض قلبى وجعلت اسأل المارة – مداعبا ابنتى – عن الطريق الى القاهرة بدلا من سؤالى عن مكان السوق – فحذرتنى ابنتى أنى لابد واقف فى الجمرك بضع ساعات حتى لو استدرت فى نفس لحظة دخولى، دون أن أدخل وسط المدينة، فجعلت استنجد بأى مكان اختبئ فيه حتى ينتهون من انتهاك حرمة اقتصادنا، فقالت لى أنها سمعت أنه يوجد على البحر ما هو “هلتون” قلت على به فهو مكان تطيب لى فيه القراءة والكتابة (وكنت قد أحضرت معى كالعادة أحد عشر كتابا ورزمة ورق وسبعة أقلام) – ولكنى قبل أن انسحب قلت “أجاملها”، فدخلت معها محل اربطة عنق وتشاجرت مع البائعة المحجبة فى نصف دقيقة وانصرفت دون أن أشترى شيئا، ثم اشتريت حزاما من على الرصيف أخزى به عين السفرية (ولم يكن مقاسى!!) ومضيت على قدمى وحدى نحو الشاطئ ابحث عن هذا الهلتون، وكأنى نصائح كاره متورط، حتى وصلت، فاذا بهذا الهيلتون ليس فندقا وانما سوقا تجارية تتربص بى كأنى أهرب منه اليه، فتماديت فى السؤال حتى اشفق على شاب صغير صغير قال : تقصد هيلتون ايتاب، وقلت : نعم – اى شئ، وطبعا لا يوجد شئ اسمه هيلتون ايتاب، اما هيلتون واما ايتاب، وهناك فىمفهى ومطعم الفندق (ايتاب) وجدتنى اجلس فى مكان شديد الجمال، وليس معى جنس مخلوق، اذ لابد أن الجميع فى حالة شراء متصلة، فجلست محتميا بوحدتى وجمال المكان، وأخرجت أوراقى وكتابى وأقلامى، وقلت لهم : يختارنى من يشاء منكم.

لم يكن قد مضى على وداع صديقى سوى أسبوعين، واذا بالهدوء والمضض يحضر انه امامى من جديد وهو يعاند الموت لاهثا اذ يودع الحياة ببطء راسخ، فهاج بى الشعر، وتيقنت مرة أخرى من علاقة الشعر بالسفر، غير أنىلم أكن اتصور انه حتى هذا السفر الى بور سعيد كالمقبوض على هكذا يمكن أن يهيج شعرى، وكنت أحسب أنى خاصمت الشعر الى غير عودة، بعد ان اكدوا لى أنى طرقت بابه عن طريق الخطأ، وبغير داع، فقلت احترم النقاد والسن والتخصص .. ولا أعود، ولكنه هو الذى عاد فى هذه الوحدة المتفجرة على وعيى بما هو خليق أن يكون “حاشية” هذا الفصل، كقصيدة رثاء أنشرها له / لى / ….

حتى اذ ابلغت التراقى

-1-

يا صاح لا تلفظها

منهكة،

بلهاء ترعى فى مجاهل الديمومة السراب

……..

……..
وصاحبى :

يلهث خلف الموت، قبل الموت، عند الموت

يسكب الحياة قطرة، فقطرة

اقلب الديوان بحثا عن قصيدة مهترئة

فتطنح البثور فوق صفحة الكلام

وصاحبى :

يروض الهواء

ينتظم :

……..

……..

مرحى انطلاقة التحرر

مرحى استدارة الزمن

…….

(العار يا سيدتى الكريمة

ان نحتفى

بريحها الثقيلة

تكبل الالهام والتوحد

تبرر الجسد)

-2-

يعيد نفخ الناى فى مرارة

يجمد الصقيع ذرات المناوبة

……..

يا حسرتا

لم يبق الا ما تبقى من فتات المادبه

يا صاحبى

لا تطفئ الشموع قبل الرجفة المسافرة

الآن؟ ليس الآن، حتى الآن، قبل الآن

ونبضها الحقيقة

يسحق لوم الخائبين العزل

-3-

يشهق فى رتابه

سر توارى فى لحاء الشوكة المزدهره

يحنو عليها – تنطلق

يزفرها

تسلم العلم

يطل من ورائها المجهول

………

لا سهل الا ما سهل

(شيخ اذا ما لبس الدرع حرن

سهل لمن ساهل حزن للحزن)

هل يا ترى تسلم القيادة؟

هل يا ترى قد اصبحا فى واحد

ان قال : كن – يكن؟

-4-

جزئية حائرة

تقول؟ لا تقول؟ تعتمل

(لم أبد يوما .. لا .. ولما استتر)

يا بيضة الحجر

لا تفقسى الكآبة

-5-

يعاود الشهيق، والزغير يرتقب

ليست كتابة كما الحساب

فالقول : للأحلام، للجنون، للسراب، للعبث

القول : للعذراء

باحت؟

لم تبح

والسر يختفى فى مائها المزمزم

….

…..

لبيك قاصف القلم

لبيك مرسل اللواقح الدمن

لبيك ينزل المطر

لبيك وعى الناس يزدهر

لبيك ريحك الذرات والتخلق الضفيرة

لبيك؟…….. ……… لا لبيك

يا لست أنت،

عادت لعشها من قبل أن تصير أنت أنت

“قال” …

استردها

-6-

ايقاعها انتظم

الحمد للذهاب للمجئ للدوائر النغم

تساقط المشاعل

والعدو يضرى فى تتابع اللهلث

تحشرجت فى سم خيط افرزته دورة الشرانق

يشحذ سن شوكة المحاولة

لا تنفذ السنون بؤرة المريا

المحتضر؟

كلا،

خيبت ظن الموت

غافلت ظلمة العدم

اسبلت جفنا اختفى من ذروة التلاشى

لم استتر

لم أمح نبض الحلم

سارعت انفخ المقولة القديمة

دارت تئن

تردد الصدى

يعاود الشهيق والزفير رقصة التحدى

-7-

هذا،

ولما كان يومها بلا غد

وريحها بلا اتجاه

مزقت ثوب الشعر واقفا على اطلالها

فذابت القصيدة الوليدة

فى وعدها القتيل

مادت بنا الرواسى

فلتجر السفينة

فى كل وجهة نبى

فى كل نبضة الم

– 8 –

يعاود الشهيق يشهد الزهور والحقب :

ما مضنى سوى الزفير ينتحب

ما هد ظهرى غير طوطم البكم

ما راعنى سوى الكذب

– 9 –

5 / 5/5 / 5/5 / 5/5/

/5/5/5/5/

/5/5/

5/5

غافلنا بلا وداع

ارخى سدولها.

وافيق فأجدنى ما زلت أنا

فأحمد الله واكاد لا أجرؤ أن أقرا القصيدة، لكنى أفعل، فادرك أن الشعر بقدر ما هو تخليق متجدد فهو خلود مدور، وأشعر بريح صاحبى فأحييه، وأعتذر

والتقت حوالى فاذا بالمكان نصف ممتلئ فقد فاربت الساعة الثانية، والمح على مائدة بعيدة، يسمح لى وضعها أن أرى متحلقيها دون أن يرونى، المح زملاء ورؤساء من كبار القوم جاؤوا يتناولون غداء ويتبادلون ألفاظا، فأجدنى رافضا تماما، رافضا ماذا؟ لم أحدد، وأنقل بصرى بينهم وبين القصيدة واقيس المسافة فأجد أنه يستحيل …، يستحيلن يستحيل ماذا؟ يستحيل والسلام وانظر للقصيدة وأقول لها : اخترت وقت وموقع ولادتك قبل أن يحضروا، وقبل انصرافهم، يلمحنى اقرب واحد منهم، فيأتى للسلام، ويصمم أن يواعدنى لاغادر معهم المدينة ليمررونى من الجمرك دون رسوم.

وتلكزنى القصيدة فى وعيى، وتدور أمامى دائرة قبيحة بين التهرب من الضرائب، والشطارة فى الجمارك، ثم .. اعلانات الاجتماعيات بأسمائهم فى قوائم تسديد ديون مصر…!!!

ولا حول ولا قوة الا بالله.

وتحضر ابنتى محملة بأقل القليل، ربما خوفا منى، ونمر من الجمرك فيما يقل عن نصف ساعة فتفرح ابنتى بسلامتها حيث كانت تتصور أننا لو تأخرنا أكثر لقتلتها – مثلا –

وأشعر أن السفر هو السفر، وأسأل نفسى اذن لم لا اكمل هذه الرحلة بالحديث عن تجوالى فى ربوع بلدنا فى الفصول الأخيرة كما طلب احد القراء؟

وأترك الباب مفتوحا.

وحين عدت، تواجهنى الأسئلة التى توقعتها وكيف غيرت طبعى وذهبت، وكيف وجدتها بور سعيد، وماذا أحضرت منها؟

والقصيدة أمامى اشكرها أن خففت عنى ما اكره، نعم، هى ما أحضرتها أو احضرتنى، وأبدا فى اعادة كتابتها مسافرا فيها اليه / الى حتى نلتقى.

[1] –  لم أكن أعلم وأنا أكتب مقدمة الفصل السابق أنى أجتاز بوابة الرحلة الأصعب، بإيقاعها الأرعب، أوصل منها صديقى للمرة الأخيرة، فقد تسارع الإيقاع ليعلن أن تلك المقدمة (بالعدد الماضى) لم تكن إلا إرهاصات صادقة… لبداية نهاية رحلة، تواصلت حلقاتها فى زحف كاسح، لكنى ا لتقطت خطواتها بالتصوير البطئ، فقد كنت أواكب “الراحل” بخطى ثقيلة من فرط العجز والسخط والجهالة.

[2] – بتشديد الكاف وكسرها.

[3] – وأتذكر مثل ذلك فيما قرأت فى عمل الموت Thanatology مما لا أستطيع أن أترجمه حرفيا من أنه ثمة فرق بين ما هو Death وما هو Dying، وفى العربية ثمة فرق بين الموت والوفاة.

[4] – بدع أمريكية طبية حديثة، حيث ثمة تخصص فى “أمراض الجلد وجراحته”.

[5] – هكذا يتنطق زوجته اسم ابنهما الوحيد “طارق”، فينطقه هو كذلك

[6] –  وهو نظام مبنى على أساس تجارى جديد يسوق الطب بشكل أربح وآمن من العيادات الخاصة والمستشفبات كذلك، وقد أصبح حديثا هو السائد فى تجارة الطب فى أمريكا.

[7] –  كتبت هذا الجزء قبل إعلان نتائج الانتخابات المزيفة، وقبل رحيل ماركوس بكل جواهره وعفنه، ولم أحاول أن أن أغيره إذ أن كل ما تلا ذلك لم يغير شيئا.

[8] – وهو الأستاذ الباطنى الذى ثار الشك حول وفاته بتدبير ناصرى.

[9] – استعمل أفعل التفضيل بلا تردد ولا حدود، فقد آن الأوان!!

[10]  – خفت فى هذه اللحظة أن أكرر بعض ما ذكرت فى فصول سابقة، فأنا لا أعود الى ما كتبت، والوقت طال، لكننى قررت أن أواصل حتى لو كررت، فليس القارئ واحد، وللاعادة معناها بداهة – وحين يصدر العمل متصلا قد يكون لى موقف آخر.

[11] – كتبت فى ذلك شعرا: كجزء من قصيدة النشوة والمنزول ديوان سر اللعبة 1983.

[12] –  قصيدة بعنوان : سجن الحرية.

[13]– Last tango in Paris & All that Gaz.

[14] – بعض قصيدة النشوة والمنزول أيضا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *