الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / سلسلة فقه العلاقات البشرية: (2) “هل العلاج النفسى “مَكْـلـَمَة”؟) (11) الفصل الثانى: (اللوحات) اللوحة الرابعة “الموت‏ ‏السرّى ‏المِـتـْدحِـلب”

سلسلة فقه العلاقات البشرية: (2) “هل العلاج النفسى “مَكْـلـَمَة”؟) (11) الفصل الثانى: (اللوحات) اللوحة الرابعة “الموت‏ ‏السرّى ‏المِـتـْدحِـلب”

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 13-5-2023

السنة السادسة عشر

العدد:  5740

مقتطفات من: “فقه العلاقات البشرية”(2)[1]

عبر ديوان “أغوار النفس”

الكتاب الثانى:

هل العلاج النفسى “مَكْـلـَمَة”؟ (سبع لوحات) (11)

الفصل الثانى:

 (اللوحات: من 1 – 7)

اللوحة الرابعة:[2]

الموت‏ ‏السرّى ‏المِـتـْدحِـلب

 نقرأ المتن كله أولا:

 (1)‏

لا‏ ‏يــاعْم‏.!! ‏كده‏ ‏أحسن‏.…،

‏……‏

أصل‏ ‏الموت‏ ‏علناً‏ ‏بيخُضْ‏.‏

ولا‏ ‏حدْ‏ ‏يقول‏، ‏ولاحد‏ ‏يْرَدْ.

ولا‏ ‏فيه‏ ‏مزّيكا‏،‏

ولا‏ ‏جنس‏ ‏يا‏ ‏ويكا‏،‏

ولا‏ ‏فيه‏ ‏كْلْ‏ ‏واشكُرْ‏ ‏بالفستقْ‏،‏

ولا‏ ‏كفتهْ‏ ‏وكبدة‏ ‏وحتةْ ‏كيف‏،‏

ولا‏ ‏فيه‏ ‏تصنيف‏.‏

(2)‏

خلّينا‏ ‏كده‏ ‏نلعب‏ ‏فى ‏السر‏،‏

قال‏ ‏إيه‏ ‏عايشين‏.‏

وأقول‏: “‏أنا‏ ‏رأيى ‏ياجماعة‏”.‏

وكإنِّى ‏عندى ‏رأى ‏صحيحْ‏.‏

وراح‏ ‏اعمل‏ ‏زى ‏ما‏ ‏اكون‏ ‏باخْـتارْ.‏

أو‏ ‏أرفعْ ‏حاجبى ‏وانا‏ ‏مِحتارْ‏.‏

كده‏،.. ‏شبـــَـه‏ ‏الجـــدْ‏.‏

(3)‏

يا‏ ‏أخينا‏:‏

لما‏ ‏انت‏ ‏عرفت‏ ‏انى ‏ميّت‏، ‏بتقرّب‏ ‏ليه؟‏ ‏

ماتكونشـِى ‏عايز‏ ‏تتفرّج؟‏ ‏

                            على ‏إيه؟‏ ‏

عايـــز‏ ‏تعرف‏ ‏ازاى ‏المّيت‏ ‏بيحسّ‏. ‏

إزاى ‏بيطلّع‏ ‏حس‏. ‏

ولاّ ‏حاتاخد‏ ‏تفاصيل‏ ‏النَـعـْى؟‏ ‏

تكتب‏ ‏إعلان‏ ‏وبخط‏ ‏اسود‏ ‏وببنط‏ ‏عريض‏:‏

‏”‏إن‏ ‏المرحوم‏ ‏كان‏ ‏واحد‏ ‏بيه‏،‏

ولاخدْشـِى ‏نصيبُه‏ ‏فى ‏الدنيا‏ ‏ويا‏ ‏عينى ‏عليه‏.‏

والمعزَى ‏من‏ ‏ستهْ‏ ‏لتسعهْ‏، ‏

بــ‏‏مَعادْ ‏سابق‏.”‏

‏(4)‏

بس‏ ‏ما‏ ‏تـِنْـساش‏:‏

ضرب‏ ‏المّيت‏ ‏أكبر‏ ‏حُـــرمـَه‏.‏

إزرعْ ‏صبّار‏ ‏جنب‏ ‏التربهْ‏،‏

والشيخ‏ “‏عارفْ‏” ‏يقرا‏ ‏سورة‏ ‏”الإنسان”‏.‏

أولا: الاغتراب فى لذة ظاهرة أحد مظاهر الموت النفسى:

المواجهة أثناء العلاج النفسى بأن الوجود المغترب (مرضاً أو فرطَ عادية) هو موت نفسى بشكل أو بآخر، تعتبر أحيانا من الصدمات العلاجية المفيدة إذا ما ضبطت الجرعة، أما إذا زادت جرعة التعرية أو اختيار التوقيت المناسب، فالنتائج قد تكون مضاعفات معيقة أهمها خطر الرؤية المعجزة نتيجة للألم المفرط.

الحياة التراكمية الاغترابية (العادية) تواصل مسيرتها بسلسلة من الرشاوى التسكينية والنكوصية، وبالتالى يتمادى الخمود حتى الموت (توقف النمو) تحت غطاء من اللذائذ المؤقتة المنفصلة عن بعضها، وعن عائدها.

عنوان هذه القصيدة “الموت السرى المتدحلب“، يشير إلى أن هذا الموت لا يسمى موتا عادة، حيث أنه يتسحب تحت عناوين شديدة الرشاقة بالغة الإغواء، مثل اللهو التفريغى الصاخب، أو الجنس اللذى يمارس لذاته “ولا فيه مزّيكا – أو جنس يا ويكا“.

بل إن لذة الأكل أو تعاطى المسكرات، قد تنضم بشكل أو بآخر إلى هذه النشاطات المغتربة حين تصبح أهدافا فى ذاتها .

كـُلْ واشكر” شامى بالفستق،

 أو كفتة وكبده وحته كيف“.

 كل ذلك قد يندرج تحت بند الرفاهية واللذة والمتعة والترييح، ليكن، ولنعترف أنه لا يوجد ما يدعو فى الحياة العادية أن نرفض بعض ذلك أو أن ننكر حقنا فيه “قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَاللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ”، لكنه حق مشروط بالتفرقة بين الغاية والوسيلة، بين حق المتعة تصعيدا إلى متعة أرقى فأرقى، وبين المتعة اللذيه الاختزالية المكررة كنهاية للمطاف.

هذا العمى الجيد فى الحياة العادية يصبح معطلا فى العلاج النفسى، لأن كثيرا من الأمراض النفسية إنما ظهرت لتعلن، أو على الأقل تعرّى، التوقف عند هذه المرحلة اللذية التراكمية المغتربة، الاعتراف للمريض بأنه على حق فى رفضه هذا، برغم فشله فى إعطاء البديل، قد يجعل بصيرته تحتد أكثر فأكثر فيتمادى المعالج فى إعلان أن كل هذه المظاهر هى نوع من الموت الذى علينا – بالعلاج – أن نتحفز لرفضه، لكن ليس بالمرض ولكن بفرصة العلاج.

وهنا يعلن المتن تلك المقارنة بين الموت سـِرَّا،  بالإستغراق فى لذة مخدرة مغتربة، وبين الموت المتسحبِّ على مسار المرض السلبى، وبين التسليم لموت اغترابى تحت أسماء تدليل خبيثة.

لا‏ ‏يــاعْم‏.!! ‏كده‏ ‏أحسن…،‏

…………

أصل‏ ‏الموت‏ ‏علناً‏ ‏بيخُضْ‏.‏

ولا‏ ‏حدْ‏ ‏يقول‏، ‏ولاحد‏ ‏يردْ.‏

ولا‏ ‏فيه‏ ‏مزّيكا‏،‏

ولا‏ ‏جنس‏ ‏يا‏ ‏ويكا‏،‏

ولا‏ ‏فيه‏ ‏كل‏ ‏واشكر‏ ‏بالفستقْ‏،‏

ولا‏ ‏كفتة‏ ‏وكبدة‏ ‏وحتةْ ‏كيف‏،‏

ولا‏ ‏فيه‏ ‏تصنيف‏.‏

ثانيا: تشكيلات أخرى للاغتراب

يعرّى لسان حال داخل المريض فى “المتن” بعد ذلك تشكيلات أخرى لتجليات الاغتراب، ففى الفقرة التالية ينبه بسخرية أيضا إلى لعبة الاغتراب فى الكلام وفى المناقشات وفى تبادل الآراء بلا آراء (طقّ حـَنـَكْ)، وفى مظاهر الاختيار بلا حرية حقيقية لا تتجلى إلا فى وجود بدائل للقرارات المطلوب الاختيار فيما بينها، وقدرة على التمييز، ثم على الحسم، ثم على اختبار نتيجة الاختيار، ثم على تحمل مسئولية هذه النتيجة واحتمال إعادة الاختيار.. إلخ، بدون كل ذلك يصبح الاختيار مظهراً خادعا يـُضم إلى تشكيلات الاغتراب (موتا سريا متدْحـِلبـَاَ) حتى لو سمّى حرية.

خلّينا‏ ‏كده‏ ‏نلعب‏ ‏فى ‏السر‏،‏

قال‏ ‏إيه‏ ‏عايشين‏.‏

وأقول‏: “‏أنا‏ ‏رأيى ‏ياجماعة‏”.‏

وكإنى ‏عندى ‏رأى ‏صحيح‏.‏

وراح‏ ‏اعمل‏ ‏زى ‏ما‏ ‏اكون‏ ‏باخْـتارْ.‏

أو‏ ‏أرفع‏ ‏حاجبى ‏وانا‏ ‏مِحتارْ‏.‏

كده‏،.. ‏شبـــَـه‏ ‏الجـــدْ‏.‏

ثالثا: التجاوب الظاهرى وخطورة الإيلام دون فِعْل

على الطبيب المعالج ألا ينخدع فى التعبيرات الظاهرة مهما كانت واضحة أو فى الاختيارات الكلامية ما دامت لم تـُخـْتـَبـَر، ثم متى ظهرت الأمور هكذا فى سياق العلاج النفسى أصبحت مهمة الطبيب (المعالج) أن يواصل التحرك بعد التعرية آملا فى عرض بدائل علاجية نمائية، وهنا يتجلى مأزق اختيارى جديد:

إذا توقف العلاج عند مرحلة تعرية هذه التشكيلات العادية (الرائعة) باعتبار أنها ليست إلا اغترابا مكافئا لموت تخديرىّ (فرط الدفاعات المسكـِّنه)، وأن المرض لم يظهر إلا لأن داخل المريض رفضها قبل أن يقوم العلاج بتعريتها، أو بإكمال تعريتها حدّ الألم، إذا توقف العلاج عند هذه المرحلة دون مشاركة حقيقية من المعالج تصبح المسألة أقرب إلى الفرجة والتجريح، أكثر منها مواكبة ومواجدة علاجية.

وقد يلتقط المريض ذلك منبـِّها (كما جاء فى المتن) باحتجاج ساخر – من داخله – إلى سلبية إعلان هذه الرؤية بمجرد تسميتها وكأن فى ذلك إعلان لرفض الاغتراب، دون طرح بديل، من هنا تأتى صرخة لسان حال المريض ورفضه، ومن ثم السخرية من هذا الموقف العلاجى المجهض المتوقف عند الكشف، والوصف، والتغيير وربما التبرير.

هذا التحذير الساخر هو تعرية أخرى للعلاقة العلاجية الرسمية “من سته لتسعة، بميعاد سابق” حين يُفرغ العلاج من المواجدة والمواكبة، لحساب تسمية المرضى بأسماء تشخيصية أو إعلان الوفاة والتحسر على ما آلت إليه حركته من سكون هامد (حتى بوصف النفسمراضية للسيكوباثولوجى)، تصبح المسألة كأنها عرْض لمشاهدة درامية تستحق الفرجة،

يواصل لسان حال المريض مواجهة داخل الطبيب (المعالج) قائلا:

يا‏ ‏أخينا‏:‏

لما‏ ‏انت‏ ‏عرفت‏ ‏انى ‏ميّت‏، ‏بتقرّب‏ ‏ليه؟‏ ‏

ماتكونشـِى ‏عايز‏ ‏تتفرّج؟‏ ‏

على ‏إيه؟‏ ‏

عايـــز‏ ‏تعرف‏ ‏ازاى ‏المّيت‏ ‏بيحسّ‏. ‏

إزاى ‏بيطلّع‏ ‏حـِسّ‏. ‏

ولاّ ‏حاتاخد‏ ‏تفاصيل‏ ‏النَـعـْى؟‏ ‏

تكتب‏ ‏إعلان‏ ‏وبخط‏ ‏اسود‏ ‏وببنط‏ ‏عريض‏:‏

‏”‏إن‏ ‏المرحوم‏ ‏كان‏ ‏واحد‏ ‏بيه‏،‏

ولاخدْشـِى ‏نصيبُه‏ ‏فى ‏الدنيا‏ ‏ويا‏ ‏عينى ‏عليه‏.‏

والمعزى ‏من‏ ‏ستة‏ ‏لتسعة‏، ‏

بــ‏ “‏معاد‏ ‏سابق‏.”‏

رابعا: إما الألم فالنمو – وإما الموت – بالإنسحاب التسليمى المحتج:

أحيانا يصل يأس المريض من المعالج إلى الإقرار باستحالة تحريك الجمود المتحوصل داخل سياج من الدفاعات الاغترابية، وهنا يصبح التمادى فى تعتعة حركية النمو نوعا من مضاعفة الألم بلا أمل، ومن ثَمَّ يقفز المتن ناهيا عن مثل هذا العبث بمعنى:

إما محاولة متواصلة جادة تحت كل الظروف باعتبار أن هذا الألم المترتب على السخرية هو ثمن مشروع وهو إشارة خضراء – رغم المعاناة  داعية للتحريك بقدر بذل الجهد ومواصلة الصحبة.

وإما تسليم طيب بحق المريض فى اختيار الدفاعات التى تناسبه، حتى لو كان المرض هو الذى بدأ بتعريتها، وليس من حق المعالج فى هذه الحال أن يسمى هذه الدفاعات موتا مادام لم يواصل مع المريض ليحققا البديل.

وبألفاظ أخرى:

إما التسليم بحق الاغتراب (السائد فى الحياة العادية)،

وإما مواصلة مسيرة النمو العلاجى بلا توقف أبدا.

هذا وإلا: فالمسألة (العلاج) تصبح بلا طائل إلا الإيلام والتنظير والمعرفة المـُعـَقـْلنة حتى لو تخفـّى تحت مظلة الشفقة واحترام الواقع.

بس‏ ‏ما‏ ‏تـِنْـساش‏:‏

ضرب‏ ‏المّيت‏ ‏أكبر‏ ‏حُـــرمه‏.‏

إزرع‏ ‏صبّار‏ ‏جنب‏ ‏التربهْ‏،‏

والشيخ‏ “‏عارف‏” ‏يقرا‏ ‏سورة‏ ‏”الإنسان”[3]

وقد يلتقط لسان حال المريض التراجع، فهو هنا  ينهى عن مواصلة المحاولة ما دام المعالج ليس على قدرها، فما الداعى للتوقف عند محطة الألم، وهذا لسان حال من يعلن ذلك.

…………………

…………………

ونواصل الأسبوع القادم بعرض اللوحة الخامسة ” لله‏ ‏يـاسْيادى……!!!!”

ـــــــــــــــــــــــــــ

[1] – يحيى الرخاوى: (2018) كتاب “فقه العلاقات البشرية” (2) (عبر ديوان: “أغوار النفس”) “هل العلاج النفسى “مَكْـلـَمَة”؟ (سبع لوحات)”، الناشر: جمعية الطب النفسى التطورى – القاهرة.

[2] – كما أشرت سابقا فى الكتاب الأول وفى هامش “3”، كان اسم هذه اللوحات “جنازات“، ، وكان المقصود بها أن أقدم كيف يمكن أن يساء فهم العلاج النفسى على أنه تفسير وتبرير وتسكين، وكيف أن هذا بمثابة وقف النمو بما يمكن أن يقابل “الموت النفسى“، إلا أننى وجدت  نفورا من الاسم، ومبالغة فى التصوير، ففضلت مصطلح “لوحات” تصف كل هذه الأحوال (لا الحالات) التى أوحت لى بعطاء هذا العمل.

[3] – غيـّرت كلمة فى هذا الشطر، فقد كان الأصل فى الديوان “سورة الرحمن” لكننى انتبهت إلى خطئى فى الاستشهاد، وجعلتها “سورة الإنسان” لأنزع عنها التقديس من ناحية، ولتصبح أقرب إلى السياق من ناحية أخرى.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *