الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / (رباعيات.. ورباعيات) (6) (صلاح جاهين – عمر الخيام – نجيب سرور) الفصل الثانى: “بداية الدراسة المقارنة”

(رباعيات.. ورباعيات) (6) (صلاح جاهين – عمر الخيام – نجيب سرور) الفصل الثانى: “بداية الدراسة المقارنة”

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 18-1-2020

السنة الثالثة عشرة

العدد:  4522

 (رباعيات.. ورباعيات) (1)  (6)

(صلاح جاهين – عمر الخيام – نجيب سرور)

الفصل الثانى: بداية الدراسة المقارنة: (* رباعيات جاهين  * عمر الخيام   * نجيب سرور)

…………….

……………..

 نبض الطبيعة.. وتفتح الحياة

يؤكد جاهين كيف أن الإيقاعحيوى للطبيعة يجعل الغصن الجاف مثل عود الحطب يتفتح زهورا عجبا مع قدوم الربيع

تِسْلم يا غصن الخوخ يا عود الحطب

ييجـى الربيع.. تطلع زهورك عجب

 (69/240)

وهو يواصل كما ذكرنا التأكيد على علاقة “حركة” الطبيعة فى فصولها المتعاقبة، مع حركة الإنسان فى فصوله (أطواره) المتتابعة، وأن تناقض الحركتين أو اختلافهما يـُحدث تناقضا مؤلما يثير جدلا خلاّقا حتميا لمسيرة النمو (وقد يحتدّ حتى يصل إلى درجة المرض).

تعالوْا نرى الاختلاف حتى المواجهة فى تناقض يعرّى الموت حتى تشعر أنه لا مفر من الإحياء.

دخل الربيـع يضحــك لقانى حزين

نده الربيع على إسمى لم قلت مين

حــط الربيـع أزهــاره جنبى وراح

وايـش تعمـل الأزهــار للميتين؟!

(24/217)

هنا نقف احتراما لهذا الموت الذى يستقبل الربيع، ويستمع لندائه ويلمس أزهاره، ثم يعلن عجزه (كنقطة انطلاق جديدة غالبا)، لكنها ليست النهاية، ذلك أننا نلاحظ أن صلاح جاهين وهو يعلن موت  قلبه المرحلى، وعجزه عن مواكبة حركة الطبيعة النابضة، لا يستسلم، وما دامت الحركة حتما، فالانتظار صعب، واليأس أيضا كذلك، والنصر فى النهاية لمواصلة النبض، والتجديد، والنمو، الإبداع.

يأسك وصبرك بين إيديك وانت حر

تيـأس ما تيـأس الحياة راح تمر

أنا دقت مندا ومندا عجبى لقيت

الصبـر مـر، وبرضك اليأس مـر

(95/253)

الحركة والتناقض والديالكتيك:

الحركة هى الحياة، والحركة الحياة هى نتاج الجدل الصعب، الذى لا يُفهم إلا بتحمّل الغموض المعلَن، وكأنه الحيرة، لكنها حيرة الدهشة وليست حيرة العجز، وجاهين إذ يدرك ذلك كأساس للمعرفة، يكاد يتعالى على العقل السطحى الذى يلف حول مشكلة جانبية، مثل مشكلة الجبر والاختيار.

لا تـُـجبر الإنسان ولا تخيره

يكفيه ما فيه من عقل بيحيره

(108/259)

وتكاد القراءة الأولى، ترفض نفى الاحتمالين معا، ولكن الرؤية الثانية تقول إن العقل يحمل نبض الحركة التى تحدد الخطوة التالية، وفى الحركة يتداخل الجبر والاختيار؛ بحيث يصبح الفصل بينهما، بوصفهما ضدين، غير ذى موضوع.

وحتى تستمر رحلة الجدل، فلابد من عمق يـُظهر تعقد التوليف وكثافته، فنرى التناقض فى نبضه الجدلى، يعرض فى صورة صريحة، حين يتداخل الموت فى الحياة.

بحر الحياة مليان بغرقى الحياة

(70/240)

فإذا أكملنا الرباعية، رأينا غريقا لا يستطيع أن يصرخ، يلتمس النجاة فى قارب نجاة، فلا يجد إلا الحب قاربا منقذا.

صرخت خش الموج فى حلقى ملاه

قـارب نجاة! صـرخت قالوا مفيش

غـير بـس هـو الحب قـارب نجاة

(70/240)

والمعنى السطحى قد يـُعْــلى للوهلة الأولى من قيمة “الحب” كما هو مفهوم شائع كمنقذ من الوحدة، ومهدىء للقلق، ولكننى لا أستطيع أن ألتقط هذا المعنى ليحل محل التداخل الولافى الرائع فى أول شطر (غرقى الحياة!!)، وفى الوقت ذاته لا أستطيع أن أهمل هذا التتابع الصريح البسيط، وعموما.. فإن الحب قد يُنظر إليه من أكثر من مستوى؛ فجرعة “الأمن الأساسية” التى تبدأ بها الحياة، أحيانا ما يطلق عليها فى اللغة غير العلمية لفظ الحب والمفهوم الأعمق والعلمى قد يعنى مواصفات فى هذه الجرعة، تفيد إعطاء الغذاء (النفسى) الملائم فى اللحظة الملائمة للحاجة النشطة. فإذا كان هذا هو الأمان من ناحية، وهو هو الحب من ناحية أخرى، اتضح الأمر وتقارب الفهم من المحور الذى ندور حوله، ونحاول تأكيده، فالمسألة هنا مسألة “نوع” الحب الباعث على الثقة، وليس لصْقة (لزقة) الحب الدالة على الجوع والعجز، يؤكد ذلك جاهين فى رباعية أخرى، يتكلم فيها مباشرة هكذا:

ياللى عـرفت الحب يوم وانطوى

حسك تقول مشتاق لنبع الهوى

حسك تقول مشتاق لنبع الغرام

دا الحب مين داق منه قطره ارتوى

(81/246)

انظر هنا كيف يحذر من الهوى والغرام فى حين يعلى من قيمة ودوام أى قطرة من قطرة الحب  الداعم الرائى الحقيقى، ولا أحسب أن أى عالم نفس يستطيع أن يصف أفضلية وفاعلية نوع “جرعة الأمن الأساسية”، وثبات أثرها، أفضل من هذا الوصف الدقيق. فالمهم هو “النوع” و”الكفاية”، لا الحماسة ولا الكمية، ولعل قدرة صلاح على وصف هذه القطرة، تؤكد ما ذهبنا إليه من افتراض ارتوائه نسبيا منها فى يوم ما، وهو ارتواء باعث على استمرار الحركة الفاعلة المغيـّرة، التى تبدو فى كل موقع من رباعياته.

وحتى الصور الطبيعية شبه الساكنة؛ التى تصل إلى الشخص العادى، تصل إلى صلاح مختلفة؛ فيوصلها إلينا فى حركتها الخلاقة المبدعة، انظر إليه وهو يرى النيل، لا كمرآة ساكنة تعكس شمس الأصيل المذهبة(!!)، ولكن وهو “شغال” ينحت الصخر فيضانا بعد فيضان، وهو لم ينس أن يتقمصه هو الآخر، ما دام الأمر “حركة وطبيعة”!! وهو لم يتقمصه ليغرق فيه، أى يختبىء؛ إذ يحتويه، ولكنه يوازى حركته، وهو ذاته من صلبه، فيلتقط صعوبة النحت والتغيير، ويدمى راضيا بشوك الصبر والإصرار.

كام اشتغلت يا نيل فى نحت الصخور

مــليون بـئـونة وألـف مليون هاتور

يا نيـــل أنا ابن حلال ومن خلفتك

وليــه صعـــيبة علىّ بس الأمور

(99/255)

فالحركة عند صلاح جاهين أبدية، وفعلها مؤكد، ونتيجتها الإيجابية محسومة، ومن فرط تقديسه لها، ومساواتها بالحياة ذاتها، كاد يعجز عن التوقف، حتى لو كان ثورا يدور فى فراغ، إنه يؤمن بأن مجرد الحركة، هى الضمان الحقيقى لدفع الحياة، حتى أنه يرفض الرفض المتشنج، ويتحمّل الاستمرار الواثق من غلبة الحياة (قال بس خطوة كمان وخطوة كمان) فيبدو مطمئنا إلى “اتجاه الحركة وضمان نتاجها”، فإذا جف بئر الحياة فليكن خارجا عن تقاعسه فى دفع عجلتها بالتوقف عن الدوران.

إقلــع غـُـماك يا تور  وارفض تلف

إكسر تروس الساقية واشتم وتف

قال بـس خطوة كمان وخطوة كمان

يا اوصل نهاية السكة، يالْبير يجف

(37/224)

والبير لا يجف ما دام الثور قد خلع الغُمَى واستمر برغم كل شىء!!!

المصارع الطيب:

نهل صلاح من”جرعة الأمن الأولية”، وفى نفس الوقت لم يُحرم من جرعة التوجس اللازم للتوازن المرحلى، وغلبت عليه فى الرباعيات على الأقل جرعة الأمن، حتى كانت هى الصبغة السائدة طول الوقت (بعكس سرور الواقف على سنّه طول الخط: انظر بعد)، وهذه الصبغة السائدة يمكن أن أطلق عليها” الطيبة النابضة”، تلك التى أعجزته (أكرر: أعجزته) عن القتل، وعن الكره المر، وعن اليأس، وعن الوحدة برغم وجودها جميعا بكل ثقلها وحجمها.

ما هى معركة جاهين فى الرباعيات؟

 كيف ومتى يطل القتل إن فعل (قارن فيما بعد سيف سرور المُسْلَطْ، وسوطه المسموم)؟

 معركة جاهين هى جهاد السعى إلى الهارمونى والاتساق مع الأنغام (2) فهو يقاتل التنافر مع الزمن، فى طيبة الذى يقدس الحركة والنبض والمسيرة؛ فهو مُناِزل” اليوم الجديد”، بإعلان حرب شريفة، هى حركة الحياة ذاتها بلا نقصان:

من بين شقوق الشيش وشقشقت لك

مع شهــقة العصافير وزقـزقـت لك

نهار جديد أنا.. قـوم نـشوف نِعْمِليِهْ

أنـا قـلت: ياح تقتـلنى.. يا ح اقتلك

(58/234)

 فهو مصارع طيب؛ لم يحاول أن يهرب من عدوانه فى كأس، ولم يسطِّح وجوده بإنكار العدوان أصلا (مثل الخيام انظر بعد:)؛ بل لعله أدرى الناس بالطبيعة البشرية الدموية، وهذا مايجعلنا نحترم طيبته أكثر؛ فهو واعٍ بالطبيعة الدموية للحياة؛ لكنه يرفض أن يُستدرج ليشارك فى معركة دائرة طاحنة حوله؛ لأنه شخصياً  كله دم فما الداعى إلى خلق أوهام تـَنَاقُضٍ يبرر عدوانا قبيحا؟

على رِجْلى دم.. نظرت له ما احتملت

على إيدى دم.. سألت ليه؟ لمْ وصلت

على كتفى دم وحتى على راسى دم

أنـا كـلى دم.. قتـلت، ولا اتقتلت

(30/220)

فهو يعترف بعدوانيته وعدوانية الآخرين؛ بصفتها طبيعة بشرية؛ ومع ذلك، ولذلك، لايستطيع أن يتصور صلاح الأذى التعذيب الفوقى بلا علاقة لأى مخلوق، فها هو لا يفهم كيف يسمح آخر لنفسه أن يعذب آخر.

أنا كل يوم أسمع ….. فلان عذبوه

أسرح فى بغداد والجزاير واتوه

ما اعجبش م اللى يطيق بجسمه العذاب

أعـجب من اللى يطيـق يعـذب أخـوه

(31/221)

رؤيته للدم، كانت رؤية داخلية أمينة، حدد بها طبيعة البشر الدامية، ولم يستثن نفسه منها، لم يسقطها كلها بالخارج، مثلما فعل سرور ولم يهرب منها فى الكأس (بعد وضعها أيضا فى الخارج، مثلما دعا الخيام) ولكنه واجهها، ثم استوعبها، ثم عاش لمستواها فحوّرها ووالف بين تناقضاتها؛ ليرفض الإيذاء، دون أن يسطح الطبيعة البشرية بإنكار العدوان أصلا، وقدرة صلاح على عرض هذا الولاف، ظهرت قبلا ونحن نرى “بحر الحياة مليان  بغرقى الحياة”، ثم تظهر فى أكثر من موضع آخر، فهو يشرب من ينبوع الأمن أو الحياة، فى وسط “لهاليب” العدوان، وهو لم يقصر غرقى الحياة على البشر، بل امتد بحدسه إلى كل الأحياء حتى الخنازير والكلاب، فَلَزِم الفارس يخترق اللهيب ويواصل، وقد فعلها صلاح كما نرى، دون تجزىء سطحى، أو شطح هروبى.

ينبوع وفى الحواديت أنا سمعت عنه

إنه عجيب.. وف وسط لهاليب لكنه

شقّيت كما الفرسان طريقى… لقيت

حــتى الخنازير والكلاب شربوا منه

(32/221)

لاحظ كيف لم يحدد بوجه خاص أى ينبوع هذا، وتركها للقارىء يُسقط ما يشاء.

وبالطيبة القوية نفسها يستطيع أن يقولها.. “آه”، دون مظنة ضعف أو استجداء أو استكانة؛ أليس للأسد أن يزأر؟

يوم قلت آه سمعونى قالوا فسد

ده كان جدع قلبه حديد واتحسد

رديت علـى اللايمين أنا وقلت.. آه

لو تـعرفوا مــعنى زئير الأسد

(21/216)

إن من القوة أن يسمح الواحد لنفسه أن يقول: آه.. على مسؤوليته، وشتان بين آه الشكوى، وآه الاستجداء، وآه الوله، وآه السخط، وآه اليأس، وهذه الآه الزئير!!..

…………….

ونكمل الأسبوع القادم: “الكلمة الصوت.. والكلمة الفعل” (استيعاب العدوان)

 

[1] – المقتطف من كتاب  “رباعيات ورباعيات”  (الطبعة الأولى 1979، والطبعة الثانية 2017)  والكتاب متاح  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net  وهذا هو الرابط

[2] –  قارن  أنغام  التكية ورقص الطبيعة،  وإيقاعها فى ملحمة  حرافيش نجيب  محفوظ، كما وردت فى نقد المؤلف الملحمة: قراءات فى نجيب محفوظ،  (فصل دورات الحياة وضلال الخلود، ملحمة الموت والتخلق “فى الحرافيش”،  ص19 ـ 651)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1992.

 

admin-ajax-41admin-ajax-51

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *