الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / (رباعيات.. ورباعيات) (4) (صلاح جاهين – عمر الخيام – نجيب سرور) ما زلنا مع صلاح جاهين

(رباعيات.. ورباعيات) (4) (صلاح جاهين – عمر الخيام – نجيب سرور) ما زلنا مع صلاح جاهين

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 4-1-2020

السنة الثالثة عشرة

العدد:   4508

 (رباعيات.. ورباعيات) (1) (4)

(صلاح جاهين – عمر الخيام – نجيب سرور)

ما زلنا مع صلاح جاهين

…………

………….

كيف الخلاص؟

فإذا كان طور الاكتئاب بكل هذه المرارة الجاثمة، والسواد المحيط، فكيف الخلاص؟ هل هو فى إحياء الأمل؟ قد ينفع هذا مرة؛ إذا كانت الحالة هينة، ولكن إذا تكرر الاكتئاب واحتد، فإن ضياع الأمل هو من أخطر مراحله وأقساها، وعلى ذلك، فالجرعات العابرة حتى الأمل، ليست إلا مُسَكِّنًا مؤقتا.

شاف الطبيب جرحى وصف لى الأمل

وعطانى منه مقام يادوب ما اندمل

مجروح جديد يا طبيب وجرحى لهيب

ودواك فِرِغ منّى وإيه العمل؟

وصلاح ينبهنا هنا إلى خطأ شائع بين الأهل، وأحيانا كثيرة بين الأطباء، حين يتطوعون بكل حماسة بالمبادرة بالنصح، والتلويح بالأمل، والحديث عن الغد، ولا فائدة إلا التسكين المؤقت الذى- عادة – يزيد من الوحدة، فالغوص فى أعماقٍ أخطر من الاكتئاب.

ويرى صلاح أنه إذا كانت “وصفة الأمل” المسكـَّنة، لا تفيد إلا لتسكين مؤقت، فإن لمسة حب حانٍ قد تكون هى الدواء الناجع، فصلاح إذ يسأل الطبيب عن حالة قلبه، يردّ الطبيب مشخّصا مداويا:

قالى لقيته مختنق بالدموع

ومالوش دوا غير لمسة من إيد حبيب

ولا أريد أن أدخل فى مزيد من التفاصيل التى تفسد حتى هذا الدواء،  لكن ينبغى أن أشير – أيضا- إلى أن المكتئب وهو فى شدة الحاجة إلى من يشعر به، ويحنو عليه، ويراه، ويشاركه، قد لا يستقبل ذلك بترحاب كاف، بل إنه قد يمسخه، ويـُفشله، وليس معنى أن “صلاح” – هنا- قد ذكر وصفاً لهذا الطبيب الأحذق الذى لم يكتف بالتلويح بالأمل، بل تمادى إلى الإشارة إلى فاعلية الحب الحقيقى، ليس معنى ذلك أنه قد أقر هذا العلاج دون تردد، فالشروط الواجب توافرها فى هذه “اللمسة من إيد حبيب”؛ حتى تعين على الاكتئاب وتخفف منه أو تزيله، هى شروط بالغة الدقة وأيضا الصعوبة، تبدأ من موضوعية الرؤية، لا مجرد الملاحظة، وعمق التعاطف لا مجرد الشفقة، وصدق المعايشة وعمقها،لا مجرد ظاهر المشاركة، بل إن من يغامر بممارسة ذلك الحب المشارِك مع مكتئب صادق، قد يصاب هو معه بالاكتئاب، وهذا وارد لأن هذا النوع من الاكتئاب مـُعـْدٍ فعلا، فالمسألة تحتاج إلى مزيد من التعاطف والمشاركة الإنسانية، وأحيانا إلى دعم تسكين كيميائى مساعد؛ حتى يمكن أن نجتاز الأزمة بقدر الإمكان.

طور الفرح

يتبادل طور الفرح مع طور الاكتئاب – كما أشرنا-  بلا انتظام ملزم، وفى أحيان كثيرة، تكون النقلة مفاجأة قصوى، وغير مبررة بالواقع المحيط أو الأحداث الجارية، وهذا ما يؤكده “صلاح” حين يعلن أنه، فجأة، وبدون مقدمات يصحو من النوم ذات يوم؛ ليجد نفسه فجأة بلا هموم  يجد نفسه وقد غمرها الصفاء، أو أحاطت بها راحة شاملة غير مفَسَّــرَة، يغمره شعور رائق، وتمتلئ نفسه بالبهجة والرغبة فى الحياة، والإقبال عليها فيقول:

فى يوم صحيت شاعر براحة وصفا

الهم زال والحزن راح واختفى

ومرة أخرى يصف كيف يأتيه الفرح غامرا، دون مقدمات، مثل لسعة كرباج:

كرباج سعادة وقلبى منه انجلد

رَمَح كأنه حصان ولفّ البلد

ورجع لى نصِّ الليل وسألنى ..ليه

خجلان تقول إنك سعيد يا ولد

وهكذا يذكرنا صلاح أولا بطعبية هذه النقلات ومفاجأتها، وثانيا ربما نتذكر أيضا كيف نخاف – حتى فى الأحوال العادية – من إعلان فرحنا (اللهم اجعله خيراً) وكيف نخجل من الاعتراف بحقّنا فى السعادة؛ حتى نحتاج إلى سوط يذكّرنا أن السعادة هى انطلاقة إلى الناس، ومعهم “نلفّ البلد”، فليس فى هذه السعادة ما يستأهل الخجل أو الإنكار.

وهو – فى حالة الفرح – يرى الطبيعة مبتهجة مسرورة، حتى يرى فوران صدور الصبايا، نوعا من دلعها الظريف، فيذكرنا كيف كان فى طور الاكتئاب يـُسقط حزنه على عيون الناس من حوله، ثم يأتى – هنا – ليسقط فرحته على الطبيعة ودلعها، الذى يبرر انطلاقة البنت فى رحابها:

ياللى نهيت البنت عن فعلها

قول للطبيعة كمان تبطل دلع.

وهو يمضى فى وصف هذا التناغم الرائق، بين الطبيعة الجذلة والنفس المنطلقة، بأكثر من صورة، فى أكثر من موقع :

غمّض عنيك وارقص بخفّة ودلع

الدنيا هية الشابة وانت الجدع

وتغمره السعادة وتصبح أصوات الطبيعة متسقة رائعة، يجتمع فى رحابها شمل الأحبة، ثم يمتد الإسقاط والتعميم حتى يتساءل: هل كل الناس هكذا سعداء:

مزيكة هادية الكون فيها انغمر

وصيف وليل وعقد فل وسمر

يا هلترى الناس كلهم مبسوطين

ويا هلترى شايفين جمال القمر

ثم هو يمضى يغنى للجمال، ويناشد قلبه أن يرفرف بين ضلوعه، يستبعد احتمالات الهم، بل يئدها قبل أن تولد، وهو يقول:

انْشِدْ يا قلبى غنوتك للجمال

وارقص فى صدرى من اليمين للشمال

ماهوش بعيد تفضل لبكره سعيد

دا كل يوم فيه ألف ألف احتمال

وهو ينبهنا هنا إلى عمق “الآن”، وأهمية “اللحظة”، فى طور الفرح، وأن الأخذ بالمبادرة فى تعميقها، هو من أهم ما يمكن أنْ يطلق ما بها من ثراء واعد، وكأنه بهذا يرد على ما سبق أن أشرنا إليه، فى شرح خطابه لنفسه التى تلغى حقها فى التمتع بنعم الله عليها، حين خاطبها قائلا:  “حظـَّك بيضحك، وانتِ متنكّدة”، وكأنه يدعونا إلى أنه بدل أن ننتظر هجوم الغم علينا، ونحن فى قمة فرحتنا (اللهم اجعله خير) علينا أن نسمح بانطلاق احتمالات الحياة بكل زخمها ووعودها، وليس فقط بالتسكين والتطمين الزائف “دا كل يوم فيه ألف ألف احتمال”.

وهو يشير إلى أن هذا الصدر المفتوح لاحتمالات بلا حصر، هو قادر على أن يقصـَّر عمر الغم حتى يلغيه قبل أن يبدأ:

والـْهـَمّ قبل ما ييجى يبقى مَضَى

 هذه الحال من غلبة الفرحة، والأمل، والانطلاق، لا تلغى الأمل الحقيقى، وإنما تخترقه، حتى لو لاح هذا الألم، وألحّ لِيُعلن عنه بالتعبير والتوجع مثلا، أو حتى بالإبداع، فإنه قد يقابـَـلُ بغلبة الأمل، وفرحة الطفولة الطازجة؛ فينهزم أمامها بإبداع فرحة تتحدّى دون أن يُنـْكَر أو يختفى.

غمست سنك فى السواد يا قلم

عشان ماتكتب شعر يقطر ألم

مالك جرالك إيه يا مجنون وليه

رسمت وردة وبيت وقلب وعلم؟

وهو يردد هذا المعنى من جديد؛ حين لا يطاوعه قلبه أن يشكو:

وفتحت قلبى عشان أبوح بالألم

ما خرجش منه غير محبة وسماح

وهنا تجدر الإشارة إلى وعى صلاح بخطأ آخر يرتكبه الأطباء والمعالجون والأهل (مثلما ذكرنا عن تحذيره من مجرد التسكين بالتلويح بالأمل)، وهذا الخطأ هو فى المبالغة فى فائدة تشجيع المكتئب على أن يعبّر عن اكتئابه، وأن يصف أعراضه، وكأنه بهذا يفرّج عن نفسه؛ فالبوح بالألم، ليس دائما هو الحل، بل إنه كثيرا ما يضاعف الحالة، وصلاح ينبهنا هنا إلى أن الفرح الطبيعى، الغامر – خلقة ربنا – قادر على اقتحام العرين  الأسود لكآبة جاثمة، وأن هذا قد يكون استجابة للانفتاح على احتمالات حياتية بلا حصر، وهو ما يتم تلقائيا مع النقلة إلى الجانب الآخر(جانب الفرح)، كما أشار صلاح من قبل “دا كل يوم فيه ألف ألف احتمال” وبالتالى أن النتيجة أنه “ما خرجشى منه غير محبة وسماح”.

وتستمر السعادة غامرة وهو بين الناس، ولكنها – أيضا- سعادة داخلية تنمو وتزدهر حتى فى وحدته وبدون سبب، سعادة تخترق حاجز الزمان والمكان، وكأنه يعيش فى بؤرة وعى الكون، إذ يقول:

إيديّا فى جيوبى وقلبى طِرِبْ

سارح فى غربهْ، بس مش مغْتِربْ

وحدى ولكن وَنْسَانْ وماشى كده

وبابتعــد ماعرفش أو بـاقترب

ويدفعه الفرح إلى مزيد من محاولة التحليق فى سماوات الأمل، وليس المهم فى هذه الأحوال أن يكون تحقيق الأمل بعيد المنال، ولا أن يصل إلى غاية المراد؛ ولكن المهم أن يرتوى بنشوة المحاولة، وكأن السعى حتى إلى المحال فى ذاته هو مصدر للسعادة، بغض النظر عن تحقيقه:

أنا اللى بالأمر المحال اغتوى

شفت القمر نطيت لفوق فى الهوى

طـُلته ما طلتوش إيه أنا يهمنى

وليه.. مادام بالنشوة قلبى ارتوى

وكما ينتهى الاكتئاب بالزهد فى الحياة، والتفكير فى التخلص منها والانتحار؛ يتصف الهوس فى قمته بحب الحياة فى أى مكان، وفى أية صورة؛ لأنه حب غالب غامر فياض، ينطلق إلى لب الحياة فى أى شىء، وكل شئ، فيصور ذلك لنا بقوله:

أحب أعيش ولو أعيش فى الغابات

أصحى كما ولدتنى أمى وَبـَات

طائر، حـِوان، حشرة، بَــشَرْ، بس اعيش

ما احلى الحياة حتى فى هيئة نبات

 خلاصة القول:

هذا هو صلاح ينبض بالحياة، وهو يصف لنا أعماق أعماق وجوده، وهو يترنح بين الحزن والفرح؛ فيكاد يغرى الناس أن يحزنوا مثل هذا الحزن، حتى بمغامرة المرض، ثم هو يكاد يصوّر لنا أن مكافأة من يجرؤ فيحزن، بصدق وعمق – خلقة ربنا – هو الذى يستحق أن يغمره فرحٌ رائع ليس كمثله شىء، هذا هو الحزن الأصيل بكل جلاله، ثم هذا هو الفرح الطاغى بكل زخمه، فى شخص واحد بكل حيرته وثورته وفنه ونبوغه .

مرة أخرى نتذكر كيف أن صلاح يعلّمنا، أو هو يحذّرنا، أن يكون هدفنا الأول من  وصف الحالات النفسية، هو أن ننتهى إلى تعليق لافتة لها اسم لاتينى؛ إذ إنه لا يترتب على ذلك، إلا ما هو تجريد للمشاعر الإنسانية من روعتها وجلالها، لتصبح فعلا مثل البرد أو الصداع.

هذا هو صلاح: رائع يفيض أصالة وإبداعا، وفى الوقت ذاته، فهو وجه فرحانقباضى، نابض مبدع، يعلمنا كيف نحرص على التناغم مع الإيقاع الحيوى الذى لا يكون مرضا إلا إذا كان الحزن لزجاً ومُشلا، أو كان الفرح هيجة زائطة مشتِّتَة.

…………….

(ونقدم الأسبوع القادم الفصل الثانى “بداية الدراسة المقارنة” بين الشعراء الثلاثة)

 

[1] – المقتطف من كتاب  “رباعيات ورباعيات”  (الطبعة الأولى 1979، والطبعة الثانية 2017)  والكتاب متاح  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net  وهذا هو الرابط

 

admin-ajax-41admin-ajax-51

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *