الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / (رباعيات.. ورباعيات) (صلاح جاهين – عمر الخيام – نجيب سرور) الفصل الثانى: بداية الدراسة المقارنة (7)

(رباعيات.. ورباعيات) (صلاح جاهين – عمر الخيام – نجيب سرور) الفصل الثانى: بداية الدراسة المقارنة (7)

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت:25-1-2020

السنة الثالثة عشرة

العدد:   4529

 (رباعيات.. ورباعيات) (1)  (7)

(صلاح جاهين – عمر الخيام – نجيب سرور)

الفصل الثانى: بداية الدراسة المقارنة: (* رباعيات جاهين  * عمر الخيام   * نجيب سرور)

(مازلنا مع رباعيات جاهين)

……………..

الكلمة الصوت.. والكلمة الفعل (استيعاب العدوان)

إذا كان صلاح جاهين قد رأى عدوانه، وتحسس الدم بيديه، وحال دون أن يطلقه على آخر؛ عجزا عن الإيذاء؛ واستيعابا لجرعة الأمان الأولى، فكيف السبيل إلى توجيه طاقة عدوانه الطبيعية، دون كبتها، وقد تأكد عجزه عن القتل (الذى لم يتردد سرور فى الإعلان عنه، وكأنه قاب قوسين من الإمكان الفعلى؟) عَجَزَ جاهين عن القتل، نتيجة لجرعة الأمن؛ فكيف استوعب تلك الطاقة؟

وصلنى أن “الكلمة” أصبحت عند جاهين من القوة والحضور، بحيث استوعبت كل طاقة العدوان تقريبا.

 فالكلمة ما زالت عنده هى الكائن الحى محدد المعالم، قوى التحدى، القادر على كل شىء، وكأنها الفعل ذاته، وليست بديلا عن الفعل، أو رمزا  مبدَعا؛ بل هى هى الفعل من عظم حملها للمعنى، كأنها “اللوجوس” الذى كان فى البدء، كأنها الحياة فى ذاتها، كأنها كافية لتغيير الكون، متى أصبحت هى هى.

وصلاح يفرق بين الكلمة الصليل، والكلمة الثورة النذير البشير، ويرى أثر الأخيرة على الشر أثرا قاتلا مغيرا بالضرورة :

أنا قلبى كان شخشيخة أصبح جرس

جَــلْجـِلْت به صحيوا الخـدم والـحرس

أنــا المـهرج.. قمتو  ليه خفتو ليه

لا فْ إيدى سيف ولا تحت منى فرس

(23/217)  (2)

وحين تحمل معناها وقدرتها على الاختراق، فهى أقوى وأقدر من السيف والفرس؟

إن ما أود إبلاغه هو رسالة تقول:

 إن صلاح جاهين قد حمل قلمه سيفا فاعلا، ربما يرد به على صلاح عبد الصبور وهو يكاد يرفض أن يحمل الفارس قلما (3)، مفضلا الفارس الذى يحمل سيفا، فيرد جاهين هنا ليؤكد بصراحة ومباشرة: أن الكلمة عنده هى سيف من حيث هى بذاتها: قوة وقدرة ومسئولية، فى آن:

عجـبتنى كـلمة من كـلام الورق

النـور شَـَرق من بين حروفها وبَرَق

حبيت أشيلها ف قلبى، قالت حرام

دا انا كل قلـب دخلـت فيه اتحرق

(17/214)

وعدم تحديده لكلمة بذاتها كما فهمها أحدهم أنها ” الحب” جعل وصفه هذا يعود على أية “كلمة” ذات معنى فعلا، “الكلمة المعنى هى “الكلمة الفعل” أيا كانت، مادامت تحمل معناها بحق، وصلاح هكذا يعلن قوة الكلمة ورحمتها ومسئوليتها وفعلها فى آن، وهو يعرف أمانة حملها حتى ليكاد يموت من إصراره على ألا يُطـَنـْبـِل (4)

وقد جسَّدَ الكلمة فى رباعية بالغة الروعة، تشعرنا – برغم اختلاف المقام- كيف كان يرى الكلام كائنا عيانِيَّاً حيا بحق:

صـوتِك يا بـنت الإيـه كإنه بدن

يـرقص يزيح الهم يمحى الشجن

يا حـلوتى وبـــدنك كإنه كلام

كلام فلاسْفه، سكروا ونسيوا الزمن

(73/242)

ونقف وقفة ثانية لنقول إن “الكلام” قد استوعبَ خلال تطور الكائن البشرى كثيرا من طاقة غريزة العدوان.. كما قد ذكرتُ فى دراسة سابقة عن علاقة “العدوان بالإبداع”(5)، ولم يخطر ببالى أن الكلمة “اللوجوس”، هى فى ذاتها إبداع نابض، حتى رأيت علاقة جاهين بالكلمة، وتذكرت فى خبرتى فى العلاج الجمعى كيف أن الكلام هو  – من ناحية – بديل للعدوان، إذ يغنى عنه، وكيف أنه هو هو فى ظروف أكثر صحة: حاوى طاقة العدوان، وكأنه نما منها وبها فاستوعبها، واتضحت لى الرؤية حين أعلن صلاح جاهين عمق هذا الاحتمال، من خلال حدس إبداعه الفائق فى هذا العمل، ويبدو أن ما ذهب إليه هو من أصح الصحيح لو ظلت الكلمة هى التى كانت فى البدء وليست الكلمة التى اغتربت وانفصلت وأصبحت صوتا خاويا، أحس أن هذه النقطة تحتاج إلى توضيح، حتى لو اضطررت إلى نوع من التكرار، فأقول:

العدوان الفج طاقة دافعة، تحفظ مجرد بقاء البدائيين فى الصورة البدائية، فلما اكتسب الكائن البشرى القدرة على الكلام، احتوت الكلمة قدرا من طاقة هذا العدوان الفج، فقامت (الكلمة) جزئيا بالحفاظ على التواصل بين البشر، وحركية الإبداع هى من أرقى تجليات التواصل، ويبدو أن الكلمة أصبحت عند جاهين كائنا مسئولا سائلا فاعلا بالضرورة، فارتقى عن العدوان الفج واستوعبت كلماته طاقته، دون كبته أو إغفاله.

وصلاح يعامل الكلمة باعتبارها كائنا حيا: يراها متألمة، لعبيّة (بتشديد الياء)، فائرة، حائرة، قادرة، منذرة. وأخيرا يعلن رؤيته للكلمة من عمق جدلى جديد، حين يحتضن الخير فيها الشر، وبالعكس وهو يعلن خطورة الاكتفاء بهيكلها الظاهرى، دون محتوى رحمها التوأم النقيض.

أنا قلت كلمة وكان لها معنيين

كما بطن واحد وتوأمين زين وشين

لو دنيـا شر.. التوأم  الخير يموت

ولو دنيا خير.. الشر حايعيش منين؟

(101/256)

إن احتواء الخير للشر، بالمعنى الجدلى، يحافظ على الحركة فى داخل الكلمة الفعل، وهذا ما تظهره  هذه المقابلة الذكية الجدلية المتداخلة المتحركة، وهى ليست أبدا  مجرد توازن تسوياتى.

وكنت قد عنيت فى دراستى السابقة للرباعيات (الفصل الأول) برؤية جاهين لوظيفة الكلام التسكينية التى لا ينبغى الإقلال من أهميتها، ولكنى قد عـَبـَرْتُ فى هذه القراءة الحالية إلى ما بعدها؛ فالكلام حين يكون إزاحة هم وفضفضة  (6)، إنما يقوم بوظيفة التنفيث دون الثورة، وصلاح لم يغفل هذا المعنى التنفيثى (الذى كان وما زال موضع اهتمام التفريغ النفسى والعلاج النفسى فترة من الزمان ـ والذى شاركتُ طويلا فى تمجيده أكثر مما يستحق)، يقول جاهين:

عينى رأت مولود على كتف أمه

يصرخ تهنن فيه، يصرخ تضمه

يصرخ تقول يابنى ما تنطق كلام

ده اللى ما يتكلمش يا كتر همه.

(104/257)

يقول صلاح – كما ذكرنا-  فى المعنى التنفيثى نفسه:

يا عندليب ما تخافش من غنوتك

قول شكوتك واحكى على بلوتك

الغـنوه مـش ح تموّتـك إنمــا

كتــم الغنا هو ا اللى حايموتك

(105/258)

إذن: فقد قامت الكلمة الفعل عند جاهين، باستيعاب طاقة العدوان، دون أن يغفل طبيعتنا الدموية، ودون أن يتغافل عن العدوان المحيط من كل جانب؛ لكن اطمئنانه لجرعة الأمن، وثقته بقدرة الحياة، جعلاه يرى الواقع ولا يُستدرج إلى معركة دموية بدائية؛ فهو قادر على العيش وسط المخالب دون إلغائها، أو تمضية حياته فى صراعها الجانبى، بديلا عن الحركة الأمامية.

عجبى عليك حواليك مخالب كبار

ومالكش غير منقار وقادر تعيش

(62/236)

الاختيار.. والرؤية

نقول ونعيد إنه لما قامت الكلمة بالواجب لتستوعب طاقة العدوان استغنى صلاح بها عن العدوان الفج، ولكنه لم يَجْبُنُ عنه؛ فكما أن طيبته اختيار، فإن كلمته الفاعلة اختيار والفرق بين الاستغناء عن العدوان والجبن عنه، وكذلك بين الطيبة الاختيار، والطيبة، الهروب، فرق صعب التحديد. والبحث عن الرؤية المصاحبة والقدرة الحقيقية، هو الذى يعرفنا الفرق بين الاختيار والهرب، وجاهين رأى وحدد قدرته، رأى الدم ورأى المخالب.. ثم ها هو يرى الخوف، ويحدد ضرورته وحواره معه، وهو يؤكد حرصه عليه، جنبا إلي جنب مع امتلاك القدرة فى تفاعل مستمر (جدل جديد)، وهو يحدد قدرته المتواضعة فى مواجة هذا الواقع الحى المخيف.

سـهِّــير ليـالى وياما لفيت وطفت

وف ليلة راجع فى الضلام قمت شفت

الخـــوف كأنـه كلب سد الطريق

وكـنـت عاوز أقـــتله بـس خفت

(15/213)

هذه رؤية مكثفة تطمئننا إلى اختيارات جاهين، من موقع حجم الواقع بالداخل والخارج!!. فهو  إذ يكشف عن خوفه، يعلن أنه أيضا يعرف أن الخوف ضد الانطلاق (سد الطريق)، ثم إن خوفه من الخوف هو أيضا أكثر واقعية من إنكاره، ومن التسليم له معا.

وهكذا لم أمنع نفسى من تصور أن جاهين قد حافظ على الخوف، ورفض قتله حرصا عليه، وفى الوقت ذاته خوفا منه، أى أنه حفاظ ضمنى على استمراره، باعتباره جزءا من طبيعتنا، وتأكيدا لذلك فإنه يرى الخوف ما زال قائما، حتى بعد اختفاء مبرراته التاريخية النابعة من ضخامة حجم المجاهيل.

كان فيه زمان سحلية طول فرسخين

كهـفين عـيونها وخشمها بربخين

ماتـت…لكين الرعـب لم عمره مات

مــع إنه فـات بدل التاريخ تاريخين

(16/213)

ومع هذه الرؤية، نستطيع أن نأمن لاختياره الكلمة الفاعلة، دون العدوان المباشر، والطيبة المشارِكة برغم فداحة الثمن وهو يؤكد هذا الاختيار، ويرضى بثمنه: وحدة واردة وألما مفيقا، دون انسحاب دائم حتى لو تخلى عنه الجميع، فى غيبوبة جنون نكوصى، وهو يحذرنا من تبادل القتل وسيلة للحوار، وذلك حتى لا يموت الحنان الخلاّق فيما بيننا.

كل اللى فى الخماره صابهم جنون

صبحوا  الرجال يتبادلوا كأس المنون

 وبــدم ونـبيت انكـتب عالجــدار

ياميت ندامه على اللى”قلبه حنون”

(19/215)

نعم: أن تختار الطيبة، وأنت تعلم كل هذا، فيا ميت ندامة على ماستلاقى من ألم الرقة، وشوك الوحدة، ولكن يبدو أن الاختيار الواعى، يساوى، وهو يستحق أن يـُدفع فيه أى ثمن، ويبدو أن صلاح كما عجز (واستغنى) عن العدوان، عجز أيضا عن البلادة، مما يؤكد نوع طيبته المشارِكة، لا الغافـِلة:

 

قالوا الشقيق بيمص دم الشقيق

والناس ما هياش ناس بحق وحقيق

قــلبى رمـيته وجبت غيره حجر

داب الـحجر… ورجعت قلبى رقيق

(20/215)

العجز عن الألم العدمى، وعن الإيلام

خلاصة القول إن طيبة صلاح، مع رؤيته، مع ألمه الناتج عن اختياره، مع استمراره، تؤكد جميعا أننا أمام عاشق للحياة بتناقضاتها النابضة المؤلمة البهيجة، وعلاقة صلاح بالألم، علاقة خاصة؛ فهو ليس داعيا إلى الهرب منه على طول الخط، ولا هو يستدعيه ابتداء، وفى الوقت ذاته، هو لا يطيق أن يُلحق الألم بغيره، ولكنه لاينكره أبدا أو يتغافل عنه، وهو يطلب الشفاء منه “بلمسة من إيد حبيب”، وأخشى أن أقول إنه يكاد يعجز أيضا عن أن يصفق للألم، حتى لا تبدو كل اختياراته عجزا عن.. وليست فعلا لــ…. ومع ذلك، فإن داخله الذى جرع الأمان يوما، فأيقن بغلبة الخير فى الحياة، يطغى دائما أبدا حتى على قراره بالتألم أو الإيلام، دعونا نتذكر رباعية جاءت فى الفصل الأول تؤكد ذلك:

غمست سنك فى السواد يا قلم

علشان ما تكتب شعر يقطر ألم

مالك جرالك إيه يا مجنون وليه

رسمـت ورده وبيت وقلب وعلم

(87/249)

صلاح جاهين يعجز عن استعمال الكره (الأسود)، لإعلان الألم حتى شعرا، بل إنه لو أراد أن يجرح نفسه دون الآخرين لما استطاع؛ إذ يغلب حلو الداخل (الذى ذاق الأمان) على قرار الخارج الذى أدرك الواقع، فالضياع العدمى والحزن الاعتمادى لم يتغلغلا أبدا إلى عمق وجوده، ولم يستطيعا أبدا أن يفسدا مفعول جرعة الأمان المبدئية، مهما كانت غير كافية.

أنا الذى عشت الزمان مضيعه

بِرُوح حزينه معفنه مضعضعه

زرعت شجرة سنط لجل انجرح

لقيتها شعر البنت ومفرعة

(89/250)

……………

ثم ننتقل الأسبوع القادم إلى: “رباعيات الخيام”، فنرى فروقا دالة ومهمة!!

[1] –  المقتطف من كتاب  “رباعيات ورباعيات”  (الطبعة الأولى 1979، والطبعة الثانية 2017)  والكتاب متاح  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net  وهذا هو الرابط.

[2] – الأرقام فى كل الدراسة تشير إلى (رقم الرباعية قبل الشرطة/ ثم إلى رقم الصفحة الرقم التالى بعد الشرطة) فى طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب 1977.

[3] – صلاح عبد الصبور “يوميات نبى يحمل قلما، ينتظر نبيا يحمل سيفا” فى مسرحية (ليلى والمجنون).

[4] –  طنبل: تحامق (الوسيط)، وكنت أودّ أن أستعمل الكلمة العامية طنّش، ولكن…

[5]  –  يحيى الرخاوى “العدوان والإبداع” “مجلة الإنسان والتطور” عدد يوليو 1980،     ص 94 ـ 28.

[6]  – فضفض الشئ: اتسع، وفضفض الثوب: وسَعه، واستعمال هذه الكلمة بالعامية، قد يعنى توسيع الصدر بالتنفيث عن مخزون من الهم. لهذا استعملتها فى كل هذه المعانى داعيا إلى مثل ذلك

 

 

admin-ajax-41admin-ajax-51

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *