نشرت فى الدستور
5-11-2008
تعتعة
دعوة إلى: الوعى بما تملك (2من 2/أ)
انتهت التعتعة السابقة إلى وعد بشرح فقرة أن “إللى ماعندوش دا عنده، لأْ، وغيره مايلزموش، وسوف أمضى فى ذلك بكل حذر، منتبها ما أمكن إلى خدعة الترويج للرضا الخائب والزهد الكذاب.
أنتمى – جزئيا على الأقل- لمدرسة نفسية اسمها مدرسة “العلاقة بالموضوع” وهى مدرسة تتجاوز التحليل النفسى الفرويدى خاصة، وتركز على أن ما يضبِط، وينظّم، ويحفِز خطوات النمو البشرى، منذ الولادة، هو كيفية التدرج فى علاقاتنا “بالموضوع”، هذا يعنى أساساً “علاقاتنا بالآخر”، أى: بإنسان آخر، بدءًا من الأم
لكننى فى ممارستى الطويلة انتبهت إلى أن “الموضوع” يمتد ليشمل أى موضوع يمكن أن نوجه إليه طاقة الحياة وهى تحمل “ما تيسر من معنى” (ضد الاغتراب)، يشمل ذلك العمل ذا المعنى، والطبيعة، والأشياء. وكلما توثقت علاقة مريضى بأى من ذلك (إنسان آخر، أو عمل ذى معنى …الخ) احتاج لجرعات أقل من الأدوية المثبطة حتى ينطلق فى معاودة مسيرة حياته، فيستغنى عنى وعن الأدوية.
هذه المقدمة ضرورية قبل أن ندخل إلى البحث فى مسألة “المال باعتباره “موضوعا” حياتيا له دلالته (النفسية! أيضا) فى مسيرة الإنسان:
إلى أى قدر يمكن أن يكون الأمر كذلك؟ ولماذا لم يهتم النفسيون بدراسة “العلاقة” بهذا “الموضوع” (النقود) بشكل جاد وتفصيلى؟ هل هو ثانوى؟ أم أنه الهرب؟
خطر كل ذلك ببالى وأنا أحاول الإجابة أول أمس عن تساؤلات مذيع نابه (قناة OTV “برنامج البورصة اليوم”) عن التأثيرات النفسية على الفرد والمجتمع إثر هذه الهزة (أو الكارثة) الاقتصادية التى يمر بها العالم. حاولت فى إجاباتى أن أبين أولاً أن البديهة العادية تستطيع أن تجيب عن معظم الأسئلة إذْ هى لا تحتاج إلى متخصص، حاولت أيضا أن أميز بين التفاعلات المحتملة عند المستثمر الكبير، والمستثمر الصغير، منتبها إلى أن كل (أو أغلب) الصغار المساهمين فى البورصة – فى بلدنا على الأقل- ليس عندهم فكرة عن كلمة “البورصة” أصلا وما تعنى، هم لايعرفون قواعدها ولا قوانيها، ولا أحاييلها، ولا ألاعيبها، ولا حركاتها، هى بالنسبة إليهم أقرب إلى المقامرة أو ربما إلى شركات توظيف الأموال.
أما الكبار فهم لا يخسرون فقط فمن يخسرون، وإنما يخسرون ما كانوا يطمعون فيه، ليس فى البورصة وإنما فى عمق جشعهم، فالذى يخسر مليون جنيه وهو يضارب فى خمسة ملايين يخسر –نفسيا- خمسين مليونا كانوا فى أعماقه. وحين سألنى المقدم الفاضل عن سر كل هذا الجزع، اجتهدت أن أقول: إن هذه الأحداث تعرى الطبيعة البشرية، بل الطبيعة الحيوية، فيما يتعلق بـ “الخوف من الموت جوعاً”، وحين تعجب المقدم الكريم، صعب علىّ أن أشرح أكثر، كيف يكون داخل ملياردير مثلا هذا الخوف البدائى من الموت جوعا.
تصورت وأنا فى طريقى عائدا أن الوعى بالمال (بما أملك) كموضوع لابد أن يرتبط ببعد أخلاقى (وربما دينىّ) بشكل ما، وتذكرت أن ما يسمى “سياسة السوق” ليس بها أخلاق أصلاً، بل إن من يدخلها، وينسى أن يترك كل مكارم الأخلاق خارج السوق، لابد أن يخسر ما وراءه وما أمامه، ثم تراجعت عن هذا التعميم وقلت “إلا نادرا”.
أنا لا أقصد بالأخلاق ذلك البعد الترهيبى المثالى، بقدر ما أقصد الأخلاق التى تعود على صاحبها بما يستحق حالة كونه بشراً سويا، فتعود على الناس بما يكرمه قبل أن يكرمهم.
وبعد
إذا كنت قد تجنبت أن أخدع من ليس عنده (اللى ما عندوش) بأن أذكره بأنه يمتلك عينين يرى بهما، وأنه يمشى على قدميه وكلام من هذا، فماذا عندى أوضحه أكثر من ذلك لمن ليس عنده، حتى يعى به، فيفرح، وماذا عندى أقوله لمن عنده حتى يكون إنسانا بحق؟ هذا ما أرجو أن أواصل تقديمه.
اكتشفت مؤخرا ثروات مجانية أخجل أن أوصلها للناس، خاصة “من ليس عنده”، وأشعر أنهم إما سيسخرون منى ولسان حالهم يقول “خلّ الهم لاصحابه” أو ربما “احنا فى زفت ولا فى شم ورد”، لكننى أيضا حين أحبسها أشعر أننى غير أمين لأنى أحتكر ما لا يحق لى احتكاره (مادامت ثروات).
مجرد عناوين الثروات (شطحا):
أولا: ثروة أن تعرف جديدا (تعرفه لا تتباهى به فقط).
ثانيا: ثروة أن تُحِب (بكسر الحاء) دون استئذان (وبدون انتظار أن يحبَّك المحبوب، أو حتى أن يعرف أنك تحبه، حتى لو لم يكن يستأهل حبك).
ثالثا: ثروة أن تستغنى (ربما لأنك تكتشف أنك لست فى حاجة حقيقية إلى ما كنت تريده!)
رابعا: ثروة أن تملك – سرًّا – ما لم تملكه – فعلاً- (وهذا أصعب من أن يوجز، فانتظرونا)
التفاصيل فى الأسبوع القادم (2/ب)!