الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / حوار مع مولانا النفّرى (95) من “موقف لا تفارق اسمى”

حوار مع مولانا النفّرى (95) من “موقف لا تفارق اسمى”

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 30-8-2014

السنة السابعة

العدد:  2556

حوار مع مولانا النفّرى (95)

من “موقف لا تفارق اسمى”

وفقة ومراجعة واعتذار

منذ بدأت حوارى مع مولانا النفرى فى هذه النشرات بعد أن خفت أن أتمادى فى حوارى مع الله، وأنا حذر من الاعتماد على المتن الذى بين يدىّ (مع أننى كنت أقل حذراً إزاء نفس المتن فى حوارى مع الله، وقبل ذلك فى كتابى المشترك “مواقف النـفـّرى بين التفسير والاستلهام” (1) مع الابن د. إيهاب الخراط، فقد أعفانى زميلى المشارك فى التحرير من مسئولية الانتقاء، والتدقيق فى الأصل وقد تجسد هذا الحذر فى ما أسميته “قراءة عابرة فى كتاب رأيت الله” تأليف: د. مصطفى محمود، ونشرت تفصيل ذلك النقد فى العدد 1905 من هذه النشرة بتاريخ 17/11/2012 بعنوان: “مخاطر استعمال التعامل مع نصوص النفرى”.

وفى النشرة التالية بتاريخ 24/11/2012 بعنوان: “كيف نقرأ النص بغض النظر عن صاحبه” انتقلت إلى نقد أكثر عمومية، وأكثر شكا فى دقة مرجعية المتن الذى بين يدىّ، وقد استشهدت بصاحب الفضل آرثر جون أربرى الذى عرفنا به وأرّخ سيرته وترجم مواقفه، فأهدانا ما لم نعرف قيمته إلا بعد ترجمته.

وقد كنت كلما ضاق بى الحال واستبعدت أن يقول مولانا قولا مبتورا كما يصلنى من النص الذى بين يدىّ أقوم بين الحين والحين بتصحيح لفظ غير وراد فى اللغة العربية أصلا، أو مما يصلنى أحيانا كنشاز فى السياق، أفعل ذلك وأنا محرج حرجا شديدا فأضعه (بين قوسين) وأشير أيضا إلى ذلك فى الهامش، وأعتذر، ثم أعود أتراجع عن مثل ذلك إلا نادرا، خاصة وأنا أضع فى الاعتبار خوفى من اعتراض ابنى محمد الذى يرفض الاقتراب من النص تحت أى ظرف، فأوافقه من حيث المبدأ، ولا أعده بغير ذلك.

اليوم انتبهت أكثر إلى ما علمنى إياه أستاذى المرحوم المحقق محمود محمد شاكر حين أهدانى نسخة من تحقيقه لكتاب المقريزى “إمتاع الأسماع” (2) فى السيرة النبوية الشريفة، وأفهمنى مسئولية التحقيق وكيف اقرأ الهوامش، ومراجعاته لكل نص يرى فيه أدنى شبهة على سير أخرى مثل سيرة ابن هشام، أو لابن سعد …الخ، اليوم فقط عثرت على متن كامل فيه مثل هذه المراجعات لمواقف النفرى حيث حصلت على نسخة الكتاب المصورة PDF وبها رموز فى الهوامش الملحقة بالنص أولا بأول، اثبتت بعض الاختلافات كما وردت فى نسحة أخرى، وفرحت بذلك فرحا شديدا وقد حلت لى هذه الهوامش بعض ما كنت أتوقف عنده، فقررت:

أولاً: بدءًا من هذه النشرة سوف تكون هذه النسخة المصورة هى مرجعى الأساسى.

ثانياً: سوف أسمح لنفسى أن أنتقى من البدائل فى الهامش ما هو أنسب للسياق من وجهة نظرى فأجعله الأصل وأضع ما تغير أو نقص أو نشر من الأصل معه إذا لزم الأمر (كما حدث فى هذه النشرة) أو أضعه فى الهامش.

ثالثاً: سوف أراجع كل ما سبق نشره حتى الآن فى هذه النشرة، على هذه النسخة المصورة وأقارنه بكل ما سبق نشره منذ بداية حوارى مع الله بالتالى أقوم بتغيير ما ينبغى أن يتغير حسب ما وصلنى جديدا، أو أتمسك بما نشر إن كان كافيا ومفيدا، وذلك بالنسبة للنسخة الورقية بإذن الله (3)

وبعد: إلى نص اليوم:

                     “عن الكذب والصدق”

 وهو من موقف: “لا تفارق اسمى”

وقال مولانا النفرى:

 وقال لى:

              الصدق أن “لا” (4) يكذب اللسان والصديقية أن “لا” يكذب القلب.

وقال لى:

               كذب اللسان أن يقول ما لم يقل وأن يقول ولا يفعل،

              وكذب القلب أن يعتقد (5) فلا يفعل.

 فقلت لمولانا:

أنرت لى يا مولانا طريقى أكثر فى هذه المسألة، بما أمتد إلى بعض ممارساتى فى مهنتى، فالناس يرون أن الكذب هو قول غير الحق والحقيقة، ولكن من ذا الذى يعرف الحق أو الحقيقة حتى يُصدر هذه الأحكام بيقين كاف يميز الكذب من الصدق، إن الذى يقول غير الحق قد يفعل ذلك وهو يعرف الحق، وقد يفعله وهو لا يعرف الحق من الباطل أصلاً، ليس عن سفه أو نقص عقل وإنما لأن ذلك من الذى هو من أساسيات قصور بشريته، نعم من حق الإنسان العادى ألا يعرف الحق بشكل حاسمٍ يحدد له ضده حتى لا يكون كاذبا.

وحين نقول إن فلانا يكذب على نفسه قبل أن يكذب علينا، يبدو أننا نلتمس له العذر، فنحن إنما نضيف إلى موقفه ما يزيده قبحا، “الصدق ألا يكذب اللسان!!، لكن كيف نميز أنه اللسان الذى يكذب من أن الكذب آتٍ مما هو أعمق فأعمق من ذلك اللسان، فلعل الكاذب يكذب على نفسه ضمنا، أليس المفروض أن نعرف الحق الحق، لنقيس ما يقوله اللسان كذبا أو صدقا؟.

فكيف ذلك؟

يبدو أن مولانا قد أكمل ما قاله له ليبين لنا الأمر من عمق أعمق، وذلك بحديثه عن ما وصله عن صدق القلب.

ولكن من أين لى أن أعرف أن ما وقَرَ فى القلب هو الصدق حتى أميزه من عكسه “الكذب”؟، يبدو أنه كما ان لنا عقولا كثيرة مرتبة على بعضها البعض فإن لنا قلوبا كثيرة كذلك، وعلينا أن نحدد أى قلب نصدّق كما نحدد أى عقل يفكر ويقود سائر العقول فى لحظة بذاتها، وهذا وذاك يوصلنا إلى أى وعى يدرك هنا والآن أولا بأول، ولكى نضمن أن القلوب لا تكذب لتصل إلى “الصديقية” كما أشار مولانا علينا أن نعرف كيف نقيس سمك الرّان الذى يمكن أن تكسو القلوب سواء عليها أقفالها أم لا، وإلى حدة بصيرة تلك القلوب، ثم نحكم بعد ذلك على أن القلب لا يكذب، وبالتالى أنه يتمتع بما اسماه مولانا “الصديقية”.

ما وصلنى هو أن هذا القول فى هذا الموقف لم يحل شيئا وإنما اشار بسهم متواضع إلى ضرورة المراجعة قبل أن يدمغ بعضنا بعضا بالكذب، أو بالصدق أو الصديقية.

شيخنا ينتقل بنا إلى ما هو أسهل وأكثر مباشرة حين يقول:

                                                   كذب اللسان أن يقول ما لم يُقل

هذا أقرب فهو لم يقل كذب اللسان أن يقول غير الحق، ولكن فقط أن يقول ما لم يُقل (والضمَّة من عندى)، وهذا يتضمن أن يحكى ما لم يحدث، أو أن ينقل ما لم يكن، أو أن يحرف ما يكون قد سمع، وفى حدود الألفاظ فهذا اصلح وصف لأغلب ما نسميه كذبا.

كما أن مولانا يكمل:

                         وكذب القلب أن “يعقد” فلا يفعل.

ولكن مع المنهج الجديد اخترت التصحيح من إحدى النسخ فى الهامش، وهو التالى:

وكذب القلب أن “يعتقد” فلا يفعل.

فهيا نقرأ الروايتين الواحدة تلو الأخرى:

 الرواية الثانية – بعد التصحيح – تفيد أن يقاس صدق القلب بما هو أبعد من الاعتقاد، فلا يكفى أن يرسخ المعتقد فى القلب، وإنما تقاس مصداقية المعتقد بتفعيله فعلا قائما قادرا ومسئولا، هذا هو ما اشُترط فى الإيمان الذى لا يكفى أن يكون قد وقر فى القلب إلا أن يصدقه العمل.

أما الرواية الأصل حين تحل كلمة “يعِقد” بكسر العين محل “يعتقد” أى:

وكذب القلب أن “يعِقد” فلا يفعل.

فقد قرأتها بمعنى يعقد النية أو يعقد العزم، وهذا يوصل لنا معنى آخر وهو الأ نطمئن إلى مجرد حسن نوايانا ولو رسخت فى قلوبنا، وأن نختبرها دائما ابدا بظهورها فى فعل نافذ محدد المعالم بهذا تصبح صادقة صدق قلبنا، ولنا أن نقيس نوايا الآخرين بنفس المقياس.

وهكذا:

كما ترون: لم أكن متحمسا اليوم جدا فى هذه النشرة للترحيب بهذه الأقوال التى وردت فيها بما هى كما هى، ولا أصابنى نفس الانبهار الذى عايشته مع أقوال مولانا حتى الآن، وأخشى أن تكون مراجعتى لمنهج تسجيل هذه الأقوال عبر التاريخ، بما فى ذلك ما جاء فى “كتاب التلمسانى “شرح مواقف النفرى” (6) قد ضاعف عندى الشك أن يكون كاتبها واحدا، وأن يكون حفيده الذى سجلها كتابة قد ساهم فيها أكثر مما ينبغى، الآن: أكاد أشعر أثناء حوارى مع مولانا أن حفيده – رضى الله عنهما – قد حضر بجرعة أكبر، فكان ما كان.

وحتى لا يقل حماسى، أود أن أرجع للمبدأ الذى أتاح لى هذه القراءة: وهو أن أجعلها فرصة لقراءة النصوص دون الارتباط بشخص كاتبها، وهأنذا أعيد تلك المبادئ والشروط – بعد تعديل طفيف – مرة ثانية لأتذكرها وأذكركم بها لتلزمونى بها لو سمحتم وهذا هو ما جاء فى نهاية (نشرة 24/11/2012 “كيف نقرأ النص بغض النظر عن صاحبه” .

وبعد

أكتفى بهذ القدر من التشكيك الذى آمل أن يحقق بعض الأغراض المطلوبة ونحن ننتقل إلى هذا المنهج الجديد فى الحوار مع مولانا النفرى:

1) ألا يصل بنا الحماس لدرجة تقديس هذا النص الذى بين أيدينا

2) ألا نسمح لأنفسنا أن نذهب إلى أقصى الناحية الأخرى فنهمل مثل هذه النصوص الغالية مهما وصلت درجة الشك فى حقيقة كاتبها وطبيعة مصدرها إلى هذا الحد.

3) أن نحترم النصوص المجهولة المؤلف، تماما، ربما من نفس منطلق احترام الأساطير (7)التى تنوقلت شفهيا، ثم كتبت – أو لم تكتب – مؤخرا دون مؤلف.

4) أن نتعامل مع النص فى ذاته، دون الوقوف عند محاولة تقمص مؤلف بعينه، مع أن هذا يُنقص النص بعض نبضه، فأنا – مثلا – لا أقرأ نص النفرى إلا وهو شخصيا معى (ربما مثلما يحدث وأنا أقرأ “صفحات تدريب محفوظ” كل خميس حاليا)

5) أن نتشجع فى فعل “الانتقاء” دون التزام مطلق بكل المتاح  (8)

6) ……………………

7) ……………………

8) أن نستلهم من هذه النصوص ما نحتاجه فيما يتعلق بمناهج وقنوات المعرفة، فتتفتح الآفاق أمام مناطق الغيب الإبداعى، والجهل المعرفى، والوعى الخلاق الصامت، وإيقاع التطور النابض.

9) أن نتقى الله طول الوقت فى كل ذلك.

10) أن يساعدنا بعض ذلك على التعرف على هذا الكائن الرائع – الإنسان – فى طريقه إلى خالقه كما خلقه، بما خلقه.

وقد حذفت بند (7، 6) من التوصيات فقد نصّ بند (7) “ألا يَسمح لنا هذا الضعف فى النقل والإسناد أن نضيف حرفا واحد أو نحذف حرفا واحدا، ونحن نتصور أنه يقيم المعنى كما نريد، مهما كان المبرر”، لأن هذا هو ما خالفته، فجاءت هذه الوقفة وهذا التوضيح متضمنا بعض الاعتذار.

أما بند (6) فقد فتح الباب للاستلهام ما دام الخطاب إلى الله (فى حوار مع الله) وما دمنا قد انتقلنا إلى الحوار “مع مولانا” فلم يعد لهذا البند مكانا مناسبا فى إحياء هذه القواعد الجديدة أثناء هذه المراجعة.

 

[1] – كتبت استلهاماتى من اختيارات زميلى وابنى المشارك فى الكتاب وهو صاحب الفضل والسبق وكتبت بنصوصه التى نشرت فى مجلة الإنسان والتطور من عدد أكتوبر 1987 إلى عدد ديسمبر/يناير (1999 / 2000).

[2] –  “إمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأموال والحفدة والمتاع” للأمام تقي الدين أحمد بن علي المقريزى، وتحقيق د. محمود محمد شاكر –   لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، سنة 1941م

[3] – فإن لم يسمح لى العمر، فهذه توصية لمن بعدى بدءًا بابنى محمد شاملا كل تلاميذى أو أى محب لمولانا وللحقيقة وللإتقان.

[4] – فى المتن الأصلى  كتبت كلمتين “أن لا” وقد  قبلت التعديل حسب المنهج الجديد كما ورد فى إحدى النسخ فى هامش النسخة المصورة الجديدة فهو أقرب للعربية الصحيحة، أى أن لا تكتب “ألا”.

[5] – هذا اللفظ يعتقد هو ما انتقيته تصحيحا من النسخة ل& م بدلا من اللفظ الأصلى يعقد وسوف أتناولهما الأثنين فى حوارى مع مولانا.

[6] – “شرح مواقف النفرى” لعفيف الدين التلمسانى، دراسة وتحقيق وتعليق: د. جمال المرزوقى، تصدير: د. عاطف العراقى

[7] –  وربما الأمثال العامية السائرة كذلك

[8] – (كما كنت أفعل حتى الآن) مع أن هذا تراجع فى نشرة اليوم كما هو مبين فى أولها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *