نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 10-10-2015
السنة التاسعة
العدد: 2962
حوار مع مولانا النفّرى (153)
من موقف “محضر القدس الناطق” (2)
أنهيت نشرة الأسبوع الماضى بأن سطرا واحد أوقفنى بزخم إيحاءاته حتى أجلت الحديث عنه والاستلهام منه إلى اليوم، وقد بلغ من حرجى من صعوبة قراءته وانطلاق الحوار مع مولانا منه: أن أمِلْتُ: “أن يصل مغزاه إلى وعى من يتابعنا دون تدخل منى حتى نلتقى!!”
وها نحن نلتقى وقد تجسدت الصعوبة أكثر، وتجلت فى الصمت الشامل، فكان علىّ أن اواصل آمِلا أن تحتملوا ما سوف أذهب إليه!
يقول هذا السطر:
ليكلمنى منك من كلّمتُهُ، وليحذر منك أن يكلمنى من لم أكلمه.
فقلت لمولانا:
هكذا تلقى فى وجوهنا تحديا شديد الصعوبة، فأنت تعلم يا مولانا علاقتى بمستويات الوعى وتعدد الذوات، كما تعلم عزوفى عن تفسير مثل حدسك هذا الذى استلهم منه حوارنا، بلغة من “منظومة أخرى” من خارجه – كما نبهنى إبنى محمد مرارا – ومع ذلك فإليك ما حضرنى:
يبدو أننا حين نتوجه إليه ينطلق من داخلنا “أحدنا”، “دون الباقيين”،
فإن ضَدَقَ بعض عقل القلب، “كلَّمه”، وإن صدق أكثر: “سمع منه”، مثلما تعلمنا منك يا مولانا حين بلغتْ بك الشجاعة أن تسمح لك بهذه الصيغة البالغة الدلالة: “وقالى لى … وقال لى”،
هذا المستوى الجسور الكادح لعقل القلب هو الجدير بالحوار معه، والاستماع منه، فهو يقول وهو يستمع، فيتواصل الحوار كما غمرك بخطابه، فغمرتَنَا بدورك مما أفاض عليك به.
لكن هناك احتمال أن يحاول أن يكلمه – منّا – عقل آخر (أو يتصور ذلك) وغالبا هو العقل المتحذلق: العقل التفكيرىّ وعقل الفكر العلّى الممنطِق، وهو بعض ما أشرنا إليه فى أغلب كلامنا عن “علم الكلام” (الأسبوع الماضى نشرة 3/10/2015 وقبله نشرة 26/9/2015)، والأرجح عندى أنه لا يعرفه أصلا، وبالتالى فهو – سبحانه – لا يكلم مثل هذا العقل: إذْ يأبى أن ينزل إليه وهو لا يفهم إلا برموزه البراقة، وقواعده الهندسية المحكمة: فيختزل الوعى إلى أبجدية حروفه وشكل كلماته، فهو لا يكلمه، مهما تكلم “عنه” ودار حول ما يعتقد أنه هو!
وبالتالى يصلنى هذا التحذير فيحضرنا أن ننصب – ما أمكننا – ميزانا حساسا يدلنا على أىٍّ منا (ونحن كُثْرٌ بداخلنا) يكلمه ويسمع منه:
وهل هو ذلك العقل الذى يصوِّر لنا أنه “يثبته” أو “يستدل بالحجج عليه، وبالتالى يريدنا أن نراه من خلال قواعده، وهو أبعد ما يكون عنه؟ وهو لا يكلمه فهذه ليست لغته.
أمْ أنه العقل الوعى الأشمل قائد قافلة كل مستويات وعينا إليه، ذلك العقل القلب الكاشف الكادح، الذى ينعم بأن يتلقى السماح منه، فيصله الرد، فيندرج هو وكل المستويات المتضفرة معه فيمن من يكرمه بأن “يكلمه”، فهو السماح لمواصلة الكدح والحوار.
مرة أخرى: إنه إذا اكتشف هذا الميزان أن الذى يكلمه، أو بتعبير أدق يحاول أن يكلمه ليثبته أو ينفى نفيه، فعلينا أن نوقف هذه المحاولة الفاشلة حتى يتوقف هذا العقل عن وهم أنه قد وصل إليه أو استمع له، ذلك أن هذا ليس هو الطريق، هكذا نعمم التحذير بأن نوقف هذا المستوى عن أن يتمادى فى حذلقته وتصوراته وهو لا يفعل إلا أن يبتعد عنه.
عذرا يا مولانا، لكن مجرد تعبير “ليكلمنى منك من كلمته” هو نظرية بأكملها فى تعدد الذوات أو تعدد مستويات الوعى، وهو التعدد الحركى الجدلى الذى إذا أحسن إتقان حركية الإبداع والجدل إليه، نال ما يعد به وتواصل الحوار وهو يكلمه ويسمح له.
مرة أخرى: إن معنى نفس التعبير “ليكلمنى منك من كلمته” هو الذى ينبهنا إلى ذوات عديدة تتضفر وتتجادل وهى تكدح إليه.
وكل ما عَدا ذلك اغتراب وفذلكة.