نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 25-10-2014
السنة الثامنة
العدد: 2612
حوار مع مولانا النفّرى (103)
من موقف المحضر والحرف
وقال مولانا النفرى
وقال لى: مَنْ أهل النار، قلت أهل الحرف الظاهر،
وقال لى: من أهل الجنة، قلت أهل الحرف الباطن،
وقال لى: ما الحرف الظاهر، قلت علم لا يهدى إلى عمل
وقال لى: ما الحرف الباطن، قلت علم يهدى إلى حقيقة،
فقلت لمولانا:
اسمح لى يا مولانا بهذه الملاحظات قبل حوار النص:
أولاً: لأول مرة (وربما فاتنى مثل ذلك أو لحقت به لاحقا) هو يسأل وأنت تجيب يا مولانا، دهشت أولا، ثم انتبهت (ربما من واقع مهنتى الوظيفية لا الحرفية) أننى اشهد امتحانا شفهيا مثل الذى يعقد للدراسين خاصة فى أقصى مراحلهم. حين كنت أتلقى عنك ما يقوله لك، كنت استمع له من خلال تلقيك وثقتى فى شفافية وعيك، لكن الآن، وهو يسألك وأنت الذى تجيب، أتوقف قليلا، وأتشجع أكثر مما كان الحال حين كنت استمع إلى ما يقوله لك من خلال وعيك.
ثانياً: لكنك يا مولانا بدأت نفس البداية “وقال لى” ولم تقل “وسألنى”، فابتعد عنى قليلا موقف الامتحان، أحسن، ومع أننا كلنا معرضون لامتحان وامتحان وامتحان طول الوقت إلا أننى كدت استثنيك، ومعى حق، ربما!
ثالثاً: ثم إنك يا مولانا مع تغيير اتجاه الخطاب هكذا: حللت لى إشكالة كم سئلت عنها، فأنت يا مولانا لم تزعم أبدا أن ما قاله لك هو وحى من عنده، وإلا كنت متنبيا نزهك الله، وأستغفره وأتوب إليه، وإنما وصلنى دائما أننى إنما أقرأ فى مرآة وعيك حين يشف ويرق فتقوله أنت بلسانك على مسئوليتك، فيصل إلى من يستطيع أن يضبط وعيه على موجة ما تجلى فى وعيك لا أكثر ولا اقل، وبالتالى يكون كل ما قلت أنه “قاله لك” هو “أقوالك” أنت فى لحظة شفافية من نور، كما أشرت حالا، فيأتى هذا الخطاب الآن من مقتطف هذا الموقف، فيصلنى الريح فى الاتجاه الأكثر جلاءً وطمأنة.
ثم أنتقل بعد ذلك يا مولانا إلى النص:
كم أوقفتنا محتارين يا مولانا أمام أغلب ما قاله لك عن “الحرف”، وكم ترجمناه إلى ما تيسر حسب السياق، ولكنك هنا يا مولانا فرّقت لنا بين الحرف الظاهر والحرف الباطن، فرقت تفرقة لم نعهدها منك وأنت تعلِّمنا العلم الذى لا ضد له، والجهل الذى لا ضد له مثلا، حتى أصبحت يا مولاى أكاد لا أقبل شيئا إلا إذا صاحبه ضده لأنه ليس ضده تماما، فأطمئن، لهذا فقد تعجبت وأنت تجيبه هنا فتجعل الحرف الظاهر ضد الحرف الباطن هكذا بكل هذا الوضوح، إلا أن هذا أفادنى جدا، لأنه حدَّ من حساسيتنا التى وصلتنى ضد كل ما هو حرف، كما وصلنى من معظم المواقف، التى تناولتها، لكننا الآن هنا قد تبينت لنا حدود التحذير والنهى، وأنهما بالنسبة لنوع واحد من الحروف دون الآخر، بل لقد تمَّ وضع الآخر فى موضع الضد تماما، فأنتبه يا مولانا إلى أن النهى والتحذير كانا قاصرين على الحرف الظاهر، وأَنّ ثَمَّ حرفا آخر هو “الحرف الباطن” قادر ملئ مُطْمئِن، فالحمد لله.
الحرف الظاهر يا مولانا إذن هو فقط المنهى عن الاكتفاء به، أو التسليم له، أو تقديسه، وهو الذى وصلنا بصور متعددة: فمرة يصلنى على أنه الرمز، ومرة أراه كلاما مرصوصا فى أهرامات، ومرة يصلنى من خلال التفسير الوصى حتى على كتابه الكريم، ومرة آراه فى قصور العلم المؤسسى ومعابده، وبالتالى: فى البحث العلمى الفوقى، وكثيرا ما يتجسد فى قلاع أيديولوجية رصينة من مذاهب البشر المتحمسين والواثقين والراسخين، والثابتين وقد نبهتنا يا مولانا من خلال ما قاله لك كثيرا وطويلا أن نحذر من كل هذا، وهأنت ذا تبلغنا سبب الحذر، حين تجيب بكل يقين أن أهل هذا الحرف الظاهر هم أهل النار، بل لعل التعبير يكون أكثرا اختراقا وتأكيدا حين أصحح نفسى، فلقد أجبتَ يا مولانا حرفيا بترتيب آخر يقول: إن أهل النار هم أهل الحرف الظاهر وهذه الإجابة هى أكثر تأثيرا وتجميعا وتوضيحا، وتحديدا، حتى أكاد أصل إلى احتمال أن كل من فى النار هم من أهل الحرف الظاهر، وهم فى نار العمى من الآن وليس فقط فيما بعد.
ليكن وليحفظنا الله!
لكنك علمتنا أيضا من خلال ما قاله لك أنه لا غنى لنا عن الحرف، إذن لا غنى لنا عن الرمز وعن اللغة وعن النظرية وعن الشكل وعن الرسم وعن الخط وعن البرامج، ولابد أن كل ذلك حتى لو بدا أغلبه أو كله حرفا ظاهرا، لابد وأن كل ذلك يمكن أن يدفعنا حتى نجد له ولنا مخرجا يخرجنا من سجنه، فيخرج معنا، لابد أن ثمة وسيلة أو إضافة أو اجتهادا أو جهادا تسمح له أن يمتلئ ليصبح حرفا باطنا، أو قريبا من ذلك.
لكن كيف يمكن لنا أن نميز بين الحرف الظاهر والحرف الباطن وكلاهما حرف، فما هو السبيل؟
الأرجح أنه علينا أن “نسير فى الأرض” لتكون لنا “قلوب نعقل بها”، ذلك أن القلوب لا تعقل إلا الحرف الباطن، والأرجح عندى أن قلوب أهل الجنة قادرة على أن تقلب الحرف الظاهر إلى حروف نعقلها بقلوبنا من واقع ممارستنا الأمينة سيرا على الأرض تحت رحابه، فهى النجاة.
الإيضاح بعد ذلك فى إجاباتك اللاحقة كاد يحدّ مما حضرنى الآن، فقد حددتَ يا مولانا أن الحرف الظاهر هو علم لا يهدى إلى عمل، ليكن.، هذا تحديد حاسم، وشرط جازم، حتى يمكن تصور أنه إذا استطاع الحرف الظاهر أن يتخلص منهما فهذا هو أول الطريق للقاء مع الحرف الباطن.
ربما تتسلسل المراحل من الحرف الظاهر إلى ما بعدها فى تصعيد أو تعميق أو ذهابا وجيئة، فينتقل إدراكنا من الحرف الشكل الرسم إلى الحرف التشكيل الجامع، إلى موضوعية المعلومات النابضة، إلى إشراقات “الوقفة” إلى فاعلية “المعرفة”، لكنه إذا ظل الحرف ظاهرا يستعمل من الظاهر، أصبح حاجزا دون كل ذلك، وهو بذلك سوف تتوقف وظيفته عند هذه المرحلة الأولى فيجهض كل حمل بعده، وترتفع الحواجز فتعمى قلوب أهله، وهو هكذا لا يهدى إلى عمل ولا يتحلى بأية قدرة على الفعل حيث هو مفرغ من المعنى الحقيقى الذى كان يمكن إذا امتلأ به أن يتكامل مع الحرف الباطن الذى بحسب إجابات مولانا هو علم هاد، ولا بد أنه العلم الذى ليس ضده الجهل، العلم الذى لا يتوقف عند العلم لكنه يهدى إلى حقيقة.
منذ أسابيع قليلة علمتنا يا مولانا أن “كذب اللسان هو أن يقول ما لم يقل، وكذب القلب أن يعتقد فلا يفعل” (نشرة 30-8-2014) فهل يا ترى جاءت إجابتك الآن تشير إلى أن الحرف الظاهر هو بعض تشكيلات من مثل هذا الكذب؟
الحرف الباطن – بحسب إجابتك – ليس علما يحفظ، ولا هو علم للعلم، بل كما أشرت هو علم: يهدى إلى سبيل يهدى إلى كشف، يهدى إلى عمل، بمعنى أن الطريق الصحيح هو شرط العمل الصحيح حيث وصلنى أن الهداية والاهتداء إلى عمل هما غير العمل الفعل اللذان قد يكونان حرفان إن لم يرتبطا بهداية الحرف الباطن إلى الصراط الممتد إلى حقيقة، وإلا ابتعدا عن الحرف الباطن ونبضه.
ثم إننى فرحت حين افتقدت أداة التعريف فى كلمة “حقيقة”، فأنت قلت عن الحرف الباطن أنه يهدى إلى: “حقيقة” ولم تقل يهدى إلى “الحقيقة”، فالحرف الباطن من ناحية ليس هو الحقيقة نفسها لكنه طريق إليها، وإذْ هو ليس الطريق إلى الحقيقة بل إلى حقيقة من الحقائق، وكل حقيقة وراءها حقيقة إلى وجه الحق تعالى.