الرئيسية / أسئلة وأجوبة / حوار جريدة الأهرام 7 ديسمبر 2018 “رفض أن يكون طبيبه النفسى” .. نجيب محفوظ فى عيادة الأديب يحيى الرخاوى

حوار جريدة الأهرام 7 ديسمبر 2018 “رفض أن يكون طبيبه النفسى” .. نجيب محفوظ فى عيادة الأديب يحيى الرخاوى

حوار جريدة الأهرام 7 ديسمبر 2018

رفض أن يكون طبيبه النفسى

نجيب محفوظ فى عيادة الأديب يحيى الرخاوى

أجرى الحوار: ناهد الكاشف

د. يحيى الرخاوى حوار الأهرام

أتاح له القدر وهو فى العقد السابع من عمره، أن يقترب من علم نجيب محفوظ، وان يتعرف عليه وان يتعرف على نفسه من خلاله، فقرأ له القاهرة الجديدة، والسراب وخان الخليلى.لم يقتصر حبه لنجيب على القراءة فقط، فراح يحلل ويفسر ويؤرخ لكل لحظة اقترب فيها من هذا الأديب العظيم، نافيا وبشده أنه كان طبيبة الخاص، مؤكدا ان نجيب من أعاد إليه توازنه النفسى.

الدكتور يحيى الرخاوى أستاذ الطب النفسى يقول فى حواره لـ”الأهرام”: صاحبت شيخى فى المستشفى بعد حادث محاولة اغتياله كصديق ومريد، وقد وصفت حالته الصحية بأنه يعانى من “فقر ناس” وأن علاجه فى السمحوار جريدة الأهرام 7 ديسمبر 2018
اح له بجرعة من محبيه وأصدقائه يوميا

………………………………….

> كيف ومتى بدأت علاقتك بالأديب نجيب محفوظ؟

فى شتاء 1948، وكنت فى حوالى الرابعة عشرة، قال لى زميل صديق، وكنا فى سنة رابعة ثانوى “الثقافة العامة”، أنه اكتشف من يستأهل القراءة، ونصحن بقراءة “القاهرة الجديدة”، وفعلت، منذ هذا اليوم بدأت حكايتى معه: تعرفت على نفسى من خلاله فقراءة القاهرة الجديدة، فالسراب، فخان الخليلى ثم خذ عندك.. حتى تاريخه..!! وتحسست مصر الحارة معه، ممسكا بيده معظم الوقت، لا أتبع.. ولا أفـْلـِت. لست أدرى لمَ تصورتـه شيخا مليئا بالفتوة والحياة واليقظة وحب الاستطلاع، يمسك عصا بيمينه يتحسس بها جدران بيوت الحارة وأسوارها المتهدمة، الناقصة البناء، ويتجنب بها (بالعصا) عثرات الأرصفة والحجارة، ويمسكنى بيده الأخرى طفلا ناظرا يدّعى البصر، ثم لا الطفل يكف عن القفز والتلفت والتساؤل، ولا الشيخ محفوظ يكف عن الشرح والإعادة.ثم قابلته فى أوائل السبعينيات مرة واحدة فى الأهرام، سألته فى هذه المرة الواحدة عن خبرة عمر الحمزاوى فى الخلاء، وكنت قد كتبت نقدا لروايته “الشحاذ” نشر فى الأهرام فنبهنى إلى ما لاأنساه كلما شطحتُ ألما، أو كدت أنسحب إنهاكا، قال: “إن ما لا يصلح لكل الناس هو حل مضروب محدود فى الواقع والتاريخ” اغتظت منه حتى كدت أقتنع.

> اذن كان مدخلك لعالم نجيب محفوظ هو الادب؟

من الأدب طبعا، أنا لا أذكر أننى قرأت عملا لنجيب محفوظ دون حــوار يكاد يكون مسموعا، حتى يصل أحيانا إلى التماسك، ولو أردت أن أكتب قراءتى المنظمة له لاحتاج الأمر إلى موسوعة كاملة.رحت أتابعه وهو يروّض الـقدَر بفعلٍ هادئٍ طيبٍ صبور، ساعة بعد ساعة، يوما بعد يوم، فعاينته وعايشته وهو يبنى معمارا جديدا من البشر، وهو ما سميته: الإبداع.

> فى تصريحات عديدة لك قلت: إن نجيب محفوظ أعاد تأهيلك نفسيا كيف كان هذا؟ وما هى المهارات التى يمتلكها جعلتك تقول هذا؟

فوجئت بعد الحادث بذكر اسمى فى الصحف مقرونا بوصف “طبيبه الخاص”، كما ذكروا على لسانى أننى صرحت بأنه يستطيع كذا، ولا يستطيع كيت، وكل ذلك لا أساس له من الصحة، ليس هذا فقط، بل إننى شعرت أن به جَرْحٌا ما لأستاذى وشيخى هذا، أنا لم أقبل دور الطبيب منذ البداية، لا الطبيب الخاص ولا الطبيب المرافق، أنا مجرد.. ما هذا العبث كله؟ صحيح أن المرض النفسى ليس عيبا، وأننى خِفْتُ مرات متفرقة على أستاذى أن يكون قد تَقَمَّصَ شخوصه حتى عانى – مثلا – ما أتاح له وصف حالة “عمر الحمزاوى” فى الشحاذ، وبناء على حدّة رفضى وإصرارى أنه هو الذى عالجنى خرج منى هذا الاحتجاج شعرا بعنوان: فى عيد ميلاده الـ “92” ونشر فى الأهرام بتاريخ 15-3-2003 وهذا بعض ما جاء فيه:

أنِّيَ قادرٌ أشفى النفوسَ بما تَيَسّرَ من علومٍ أو كلامٍ أو صناعهْ
عَفْوًا، ومَنْ ذا يشفى نفسى حين تختلط الرّؤَي، أو يحتوينى ذلك الحزنُ الصديقُ فلا أطيْق؟ حتى لقيتـُـكَ سيدي،  فوضعتُ طِفِلَى فى رحابكْ. طفلٌ عنيدْ.

مازال يٌدْهَشُ كلَّ يومٍ من جديدْ.

صالحتَـنِى شيخِى على نَفْسِيَ حتى صرتُ أقربُ ما أكونُ إليْهِ فينـَا،

صالحتَـنِى شيخِى على نَاسى، وكنتُ أشكُّ فى بـَـلَهِ الجماعَةِ يُخْدَعَوُنَ لغيرِ مَا هُـمْ.

صالحتَـنِى شيخى على حُرِّيِتى، فجِزِعْتُ أكثر أن أضيعَ بِظلّ غيري.

صالحتَنِى شيخى على أيَّامِنَا المـُرَّة مَهْما كاَنَ منها.

عَّلمتنى شيخى بأنا قد خُـلِقْنا للحلاوَة والمرَارَةِ نحمل الوعْيَ الثقيلَ نكونُـهُ كَدْحاً إليهْ.

> ما هى ملاحظاتك كطبيب على الأديب نجيب محفوظ؟

ليس لى ملاحظات كطبيب إلا تعلمى منه فرط الالتزام بتعليمات الأطباء طول الوقت حتى حرم على نفسه الكرواسون سنين عددا، مما اضطر المرحوم أ.د. علاء الزيات الذى دعوته لزيارته أن يكتب له فى روشتة: واحدة كرواسون يوميا.

> هناك من قال ان نجيب محفوظ عانى فى طفولته من نسبة بسيطة من مرض التوحد.. هل هذا الكلام حقيقي؟ وهل هناك مؤشرات كانت تؤكد هذا الكلام؟

مرض التوحد هذا ما زال غامضا حتى على بعض المختصين من الأطباء، وهو ليس له علاقة مباشرة بالتخلف فى القدرات الذهنية حتى أن إينشتاين نفسه قيل إنه كان يعانى منه طفلا، وكم فتحنا ملفات طفولة شيخنا محفوظ بالصدفة وأنا أؤكد أن هذا احتمال غير وراد.

> تعرفت على نجيب واقتربت منه آكثر بعد تعرضه لمحاولة اغتيال.. كيف اثر عليه هذا الحادث؟

كلمنى المرحوم أ.د. سامح همَّام (الذى أجرى له الجراحة بعد الحادث) وهو أستاذى وصديقى وسألني: هل زرتَ الأستاذ؟ فقلت له: “لا”، سألنى: “لماذا”، قلت له: “أنا أحب أن أحافظ على حبى له عن بعد”، ذهبتُ – وكأن عليّ أن أطيع أوامر الشرطة!!- لزيارته: ذهبت طفلا يخاف أن يواجه أباه رغم يقينه بعفوه وحبه وطيبته، طفلا عليه أن يعود أباوه ويكون تحت أمره ويطلب رضاه، لا أكثر. وصاحبته فى المستشفى كصديق ومريد لا أكثر حتى إن الوصفة التى كتبتها له هى أنه عنده “فقر ناس” وأن علاجه فى السماح له بجرعة من محبيه وأصدقائه يوميا.

وحين عاد شيخى إلى قلعته وكأنه لم يفارقها أبدا، أخذتُ أداعبه لأول مرة منذ زرته، وردَّدت عليه قول المرحومة خالتى أنه: “يا دارى، يا ستر عارى، يا منيِّمَانى للضحى العالى”، مال إلى الخلف وجلجلت ضحكته التى سمعت عنها، فعـِشـْتـُها بحجمها لأول مرة. شيخنا يعود إلى بيته وتعود إليه – إلينا- ضحكته.

د. يحيى الرخاوى - نجيب محفوظ حوار الأهرام

> ارتبطت بأدب نجيب محفوظ وبكتاباته ولك العديد من المؤلفات ككاتب وأديب، كيف ترى ادب نجيب محفوظ؟

هذا سؤال احتاج منى للرد عليه خمسة كتب كاملة صدرت تباعا فى السنتين الأخيرتين بعد رحيله عبر الكتاب الأول الذى صدر قبل سنين “قراءات فى نجيب محفوظ” الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1992 وهذه الكتب هى:

“فى شرف صحبة نجيب محفوظ”، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، 2018 (ثلاثة أجزءا فى ثلاثة كتب(

“تقاسيم على أصداء الأصداء” (نجيب محفوظ)، منشورات جمعية الطب النفسى، الطبعة الأولى 2006، الطبعة الثانية 2018 “دراسات نقدية أحدث فى نجيب محفوظ”، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، 2017.

عن طبيعة الحلم والإبداع، دراسة نقدية فى “أحلام فترة النقاهة” لنجيب محفوظ، دار الشروق، الطبعة الأولى 2011، الطبعة الثانية 2015.

> هل كان نجيب محفوظ يستشيرك فى بعض ما يكتب خاصة فى وتكوينات الشخصيات التى يكتبها؟

لم أر إنسانا بهذا التميز والإبداع يحسن الاستماع إلى محدثيه بكل احترام مهما بلغت سطحية وهامشية ما يتحدث فيه، وقد كان يستمع باحترام لكل من يحادثه حتى فى نقد بعض أعماله، وقد تحمل رأيى، وأنى لم أحب رواية “أولاد حارتنا” ليس للأسباب الدينية التى شاعت حولها وإنما لأنها كانت مفرطة فى الرمزية المباشرة، وقد هز رأسه وابتسم ولم يحتج على ذلك.

> كيف كان يرى نجيب محفوظ التكوين النفسى للمواطن المصرى وكيف استطاع صياغة شخوص شخصياته بهذه الحرفية؟

ذات مرة ذكر لنا الأستاذ أنه ولد فى بيت القاضى فى منزل على الميدان، وأن الميدان ليس له شيخ حارة، وأن البيت الذى ولد فيه كان يطل على درب هرمز لا أكثر، وبالتالى فقد “كان شيخ حارتنا هو شيخ حارة درب هرمز”، وحين كان الأستاذ يحكى هذه الذكريات، بدت عليه حيوية الذكرى المتجددة، وكأنه عاد إلى هناك الآن، كأنه يحكى لأول مـرة وكأننا نزور معه كل الشخوص الذين عاشرهم، ثم أعاد إبداعهم فى أعماله.

> هل عانى نجيب محفوظ فى فترة من فترات حياته من ضغوط نفسية أثرت عليه. وظهر ذلك فى كتاباته؟

كل إنسان نبيل مشارك مهما بلغت عبقريته لابد أن يعانى من آلام نبيلة، الألم الحى هو وقود الإبداع للمبدع الأمين، أما أن نسمى هذه الآلام ضغوطا نفسية أو اضطرابات نفسية، فهذا أبعد ما يكون عن شيخى، لكننى أشهد أنه كان حين تصله صور من مأسى وآلام عامة الناس كان يتألم ويشارك بمنتهى النبل والصدق والمسئولية.

> كيف عالجك نجيب محفوظ؟ وما هى معاناتك التى كنت تعانى منها؟ وماهى ادوات علاجة؟

لقد ذكرت ذلك فى بداية الردود، فإذا كان ولابد فدعينى أذكر لك نهاية القصيدة:

مِنْ وحى أحلام النَّقَاهَة- سيِّدي- نَشَطَتْ خَلاَيَا دَاخِلِي:

فحلمـتُ أنِّيَ حاملٌ، وسَمعتُ دقًّـا حانياً وكأنه وعد الجنينّ.

جاء المخاضُ ولم يكن أبدا عسيرا، وفرحت أنى صرت أماًّ طيبةْ،

لكننى قد كنت أيضا ذلك الطفل الوليدْ،

فلقفت ثدى أمومتي، وسمعتُ ضَحكاً خافتاً.

لا.. ليس سخريةً ولكن.

.. وسمعتُ صوتا واثقا فى عمق أعماقى يقول:

المستحيلُ هو النبيلُ المُمْكِنُ الآنَ بِنَـا.

لمستْ عباَءتُكَ الرقيقةُ جانباً من بعض وعيِى،

فـعلمـت أنـك كُـنْـتَـه.

وصحوت أندم أننى قد كنتُ أحلم.

> هل ممكن الاديب بما يمتلكه من مهارات ادبية تؤهله ليكون فى مرتبة الطبيب النفسى الذى يعالج المرضي؟

أعتقد أن ما وصلنى من شيخى هذا هو أرقى وأعمق مما يمكن أن يتصف به أمهر الأطباء النفسيين، الطب النفسى هو مشاركة ومواكبة واحترام وإعادة تشكيل النص البشرى، وقد كان شيخى بالغ المهارة فى كل ذلك.

> حدثتا عن اطرف ذكرياتك مع الاديب نجيب محفوظ؟

كان هناك حادث طريف مازلت أضحك حين أتذكره: فى إحدى الليالى ونحن فى بيت المرحوم توفيق صالح، بدا لى أحمد مظهر أنه يقاوم النوم بشكل ما، لكنه أبداً لا يغفو، لا أظن أن الأستاذ قد لاحظ ذلك، أو ربما ألمحت أنا إلى هذا، وفجأة، بعد فترة صمت ليست طويلة، حكى لنا الأستاذ حكاية شاعر كان يجلس وسط صحبة غلبها نعاس حين أفرطت فيما يمكن أن يُنعس، فأنشد الشاعر يقول:

“ألا أيها النوام ويحكموا هُبُّو أسائلكم هل يقتل الرجُلَ الحبُّ”. فقام أحد الذين قد غلبه الشراب حتى كاد ينام، وصفعه محتجا أنه:

“أتوقظنا ياغبى لهذا السبب التافة؟”

وضحك الاستاذ ومال إلى الخلف.

فضحكنا جدا.

ومرة أخرى وكنت عائدا معه وحدنا وكنت أقود سيارتى فى شارع فيصل، وكان الشارع خاليا فى البداية، ففرحنا بذلك وعقـَّـبـْـنا عليه، وانطلقنا، ثم تعقد المرور فقال حسدناه، ثم اكتشفت أن المرور تباطأ أكثر فأكثر لأن ثمة فرحا أمامنا حيث لاحت العربة المزدانة، فقال الأستاذ ما هذا؟ قلت له فرح، فراح يدندن:

“بابا سَمحْ أروح الفرحْ”

وقال إنها أغنية قديمة، ثم أردف أنظر كيف تدل الأغانى على قيم عصر بذاته، كان أيامها الذهاب إلى الفرح يحتاج إلى محايلة واستعطاف وإذن خاص، فذكَرته بأغنية مقابلة أحبُّها حتى إننى حفظت كلماتها، فسألنى عنها، فقلت له أولها، فتذكرها هو بدوره دون تفاصيل، وطلب منى أن أكملها فرددتها مدندنا، منتهزا فرصة عدم وجود الحارس معنا:

حرّج عليا بابا ماروحشى السينما

وأقابلك فين؟

……..

وحين وصلت إلى آخر مقطع:

……..
يارب انت ياقادر

ياجابر كل خاطر

دوم إخلاصنا للآخر

وحياة جد الحسين

وجدت أن الأستاذ يكرره معى، ثم سألنى من أين لى حفظ ألفاظها؟ وقلت له: ومن أين له حفظ “بابا سمحْ أروح الفرحْ”، وضحكنا معا.

> حدثنا عن سمات نجيب محفوظ الشخصية وتحليلك النفسى لشخصيته كإنسان وكأديب، وهل هناك فرق بين نجيب الإنسان ونجيب الاديب؟.

لعل أجمل ما كان يميز هذا الإنسان الرائع هو “عاديته” كإنسان وفى نفس الوقت تفرده كأديب ومبدع فريد، أما ميزته كمفكر فهى لا تجارى حتى إننى سمعت أنه كان يتصفح الموسوعة البريطانية كل بضعة أيام للاستزادة من المعرفة، كما علمت كيف قرأ للمبدعين الفرنسيين بالفرنسية وهى ليست لغته الثانية.

كان إنسانا مصريا جميلا نادرا أشعرنى بالفخر أننى انتمى لناسى المصريين معه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *