الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / حركية الوجود وتجليات الإبداع [جدلية الحلم والشعر والجنون] (4 من ؟)

حركية الوجود وتجليات الإبداع [جدلية الحلم والشعر والجنون] (4 من ؟)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 23-6-2019

السنة الثانية عشرة

العدد:  4313

الكتاب فى حلقات:       

حركية الوجود وتجليات الإبداع (1)

[جدلية الحلم والشعر والجنون] (4 من ؟)

بدءًا من نشرة أمس سوف يكون الرقم مسلسلا

حتى يتم متابعة حلقات الكتاب بشكل تسلسلى.

ما زلنا فى الفصل الأول بعنوان: “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع”

……….

……….

‏‏الزمن‏ ‏فى ‏الحلم‏:‏

فرق‏ ‏بين‏ “‏زمن‏ (‏وقت‏) ‏الحلم‏” (‏الزمن‏ ‏الذى ‏يستغرقه‏ ‏الحلم‏ ‏فعلا)‏، ‏وبين الزمن الذى يرد فى حكيه وأيضا ‏بين ما نسميه هنا:‏ “‏الزمن‏ ‏فى ‏الحلم‏”، ‏ونعنى ‏بالأخير‏ ‏العلاقات‏ (‏الزمنية)‏ ‏والنقلات‏ ‏بين المعلومات ومن ثـَـمَّ‏ ‏الأحداث‏،‏ ماهية‏ ‏الزمن‏ ‏فى ‏الحلم‏ ‏تقبل‏ ‏كل‏ ‏الاحتمالات: عندنا‏: ‏الزمن‏ “‏الدائرى‏”، ‏و‏”‏المتقطع‏”، ‏و‏”‏الثابت‏” (‏المتوقف‏)، ‏و‏”‏العكسى‏”، ‏و‏”‏المتداخل‏”، ‏وذلك‏ ‏فى ‏مقابل‏ ‏الزمن‏ “‏التسلسلى ‏التتابعى‏” ‏فى ‏اليقظة‏. ‏ويرجع‏ ‏هذا‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏الزمن‏، ‏فى ‏الحلم‏، ‏يصبح‏ ‏مكانا‏ ‏وتركيبا وعلاقات، يصبح زماناً وليس زمنا‏ فقط، ‏الشائع‏ ‏الغالب‏ ‏أن‏ ‏الزمن‏ ‏هو‏ ‏علاقة‏ ‏بين‏ ‏حدثين‏، ‏عموما ‏يقع‏ ‏الحدثان‏ (‏فأكثر‏) ‏فى ‏اليقظة‏ ‏فى ‏تتابع‏، ‏فيتحدد‏ ‏الزمن‏ ‏طوليا‏، ‏أما‏ ‏فى ‏الحلم‏، ‏وأيضا مع‏ ‏التنشيط‏ ‏بالبسط‏ ‏الإيقاعى، ‏فإن‏ ‏الأحداث‏ (‏الكيانات‏/‏المعلومات‏) ‏تتحرك‏ “‏معا‏”، ‏ثم‏ ‏تنشئ ‏علاقات‏ ‏مستعرضة ومتداخلة ومتنوعة ‏ ‏بسهولة‏ ‏لا يُحترم‏ ‏فيها‏ ‏التتبع‏ ‏التسلسلى، ‏الذى ‏يؤلف‏ ‏الزمن المعروف‏ ‏فى ‏اليقظة(2) من‏ ‏هنا‏ ‏نفهم‏ ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏أى ‏علاقة‏، ‏وكل‏ ‏علاقة‏، ‏هى ‏احتمال‏ ‏قائم‏. ‏يتحدد‏ ‏طول‏ ‏الزمن‏ فى الحلم ‏بمدى ‏سهولة‏ ‏أو‏ ‏صعوبة‏ ‏عملية‏ ‏التوصيل‏ ‏أو‏ ‏الترابط‏ ‏بين‏ ‏معلومة‏ ‏ومعلومة، بين حدث‏ ‏وحدث‏، ‏بين تشكيل‏ ‏وتشكيل‏، ‏وهكذا‏ ‏تتباعد‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏الكيانات‏ ‏وتتقارب‏ ‏وتتبادل‏ ‏وتتداخل‏، ‏بحيث‏ ‏يصبح‏ ‏من‏ ‏السهل‏ ‏أن‏ ‏تختزل‏ ‏القرون‏ ‏فى ‏جزء‏ ‏من‏ ‏الثانية‏، ‏وأن‏ ‏تمتد‏ ‏الثانية‏ ‏إلى ‏عقود‏ ‏من‏ ‏الزمان‏ ‏بحسب‏ ‏سرعة‏ ‏التوصيل، أو غير ذلك‏، ‏كما‏ ‏يمكن‏ ‏للمستقبل‏ ‏أن‏ ‏يبدو‏ ‏قبل‏ ‏الحاضر‏، ‏ويكاد‏ ‏لا‏ ‏يكون‏ ‏ثـَـمَّ‏ ‏ماضٍ‏ ‏أصلا‏، ‏وكل‏ ‏ذلك‏ ‏مؤسس‏ ‏على ‏أن‏ ‏الترابط‏ ‏بين‏ ‏الأحداث‏ ‏أصبح‏ ‏مكانيا‏، ‏مستعرضا‏، (‏فى ‏الجهاز‏ ‏العصبى ‏أساسا‏ ‏وفى ‏المخ‏ ‏بالذات‏ ‏دون‏ ‏استبعاد‏ ‏سائر‏ ‏الجسد‏) ‏إن‏ ‏ذلك‏ ‏يتيح‏ ‏حركية‏ ‏تبدو‏ ‏عشوائية‏ “‏كيفما‏” ‏اتفق”‏،‏ بدلا‏ ‏من‏ ‏الاقتصار‏ ‏على ‏الزمن‏ ‏المسلسل‏ ‏الطولى ‏الترابطى ‏المتتالى‏، علما بأنها فى عمق تركيبها ليست عشوائية أصلا.

يتناسب‏ ‏عمق‏ ‏الحلم‏ ‏المحكى وصدقه، ‏أى بعده عن التزييف‏ ‏، ‏مع‏ ‏قدر‏ ‏ما‏ ‏يظهر‏ ‏فيه‏ ‏من‏ ‏قلب‏ ‏الزمان‏ ‏إلى مكان وعلاقات‏ ‏بالصورة ‏السالفة‏ ‏الذكر‏. ‏كثيرا‏ ‏ما‏ ‏يحكى ‏الحالم‏ ‏المؤلـِّـف‏ (‏لا‏ ‏المزيـِّـف‏) ‏أحداث‏ ‏الحلم‏ ‏وكأنه‏ ‏يكتب‏ ‏سيناريو‏ ‏فيلم‏، ‏بمعنى ‏أنه‏ ‏بدلا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏يحكى ‏بصيغة‏ ‏الماضى التى ‏تقول …. “‏ثم‏ ‏ذهبتْ‏ ‏وقالتْ‏ ‏ثم‏ ‏سمعتْ‏… ‏الخ‏، ‏نجده‏ ‏يتحدث‏ ‏بصيغة‏ ‏المضارع‏ “‏ثم‏…. (‏يتغير‏) ‏المنظر‏، ‏ثم‏ ‏أجد‏ ‏نفسى فى…….، ‏ويظهر‏ ‏لى فجأة‏‏ ‏كذا‏.. ‏إلخ‏،  ‏والفرق‏ ‏واضح‏ ‏بين‏ ‏الحكاية‏ ‏السـَّـلسلة‏ التتابعية ‏والسيناريو‏ ‏المصور.‏

هذا‏ ‏القلب‏ ‏من‏ ‏البعد‏ ‏الطولى ‏للزمن‏، ‏إلى ‏البعد‏ ‏العرضى المتداخل المتنوع  ‏للعلاقات‏، ‏هو‏ ‏الذى ‏يظهر‏ ‏بصورة‏ ‏أو‏ ‏بأخرى ‏فى ‏نوع‏ ‏من‏ ‏الرواية‏ ‏الحديثة‏، ‏وكذلك‏ ‏فى ‏الشعر وفى بعض أنواع الإبداع المستلهمة – دون قصد – لآلية الأحلام، والتى تجلت مؤخرا بشكل مباشر فى أحلام فترة النقاهة (لنجيب محفوظ)(3)

‏‏وظيفة‏ ‏الحلم‏، ‏وشبهة‏ ‏التشويه‏:‏

قد‏ ‏لا تكون‏ ‏للحلم‏ ‏وظيفة‏ ‏محددة‏ ‏بالمعنى ‏الشائع ‏المسطح‏، ‏إذ‏ ‏أن‏ ‏الحلم‏ ‏لا‏ ‏يحدث‏ ‏بالضرورة- ‏‏كما‏ ‏شاع‏ ‏الزعم‏-‏ ‏لتحقيق‏ ‏رغبة‏، ‏أو‏ ‏لتفريغ‏ ‏طاقة‏. الحلم‏ ‏ظاهرة‏ ‏إيقاعية‏ ‏دورية‏ ‏حتمية‏، ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نحترم‏ ‏حدوثها‏ ‏لمجرد‏ ‏أنها‏ ‏صفة‏ ‏حيوية‏ ‏للكائن‏ ‏البشرى، إذ تعددت مستويات وعيه، ‏مثلها‏ ‏مثل‏ ‏وظيفة‏ ‏اليقظة‏ ‏ووظيفة‏ ‏النوم..،‏ ‏أما‏ ‏ما‏ ‏يحدث‏ ‏فيها‏ ‏ومنها‏ وبها ‏فهذه أبعاد أخرى‏.

إذا‏ ‏تحدثنا‏ ‏عن‏ ‏وظيفة‏ ‏الحلم‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نبدأ‏ ‏بوظيفة‏ ‏النشاط‏ ‏الحالم‏ (‏الحلم‏ ‏بالقوة‏)، ‏حيث‏ ‏أثبتت‏ ‏تجارب‏ ‏الحرمان‏ ‏من‏ ‏الأحلام‏، ‏أن‏ ‏الأحلام‏ ‏تؤدى ‏وظائف‏ ‏صمام‏ ‏الأمن‏، ‏والتفريغ‏، ‏وإعادة‏ ‏تنغيم‏ (‏هارمونية‏) ‏المعلومات‏، ‏وكذلك‏ ‏فالنشاط‏ ‏الحالم‏ ‏هو‏ ‏بعض‏ ‏أنشطة‏ ‏التعلّم‏: ‏بمعنى ‏تعزيز ما تيسر من‏ ‏المادة‏ ‏المكتسبة‏ ‏حتى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تُتمثل‏ ‏لكى ‏تصبح‏ ‏تحويرا‏ ‏فى ‏التركيب‏ ‏الكلـى، وهكذا باستمرار، ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏يحدث‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏لم‏ ‏يعرف‏ ‏الحالم‏ (‏أو ‏لو‏ ‏أنكر‏ ‏على ‏نفسه‏ تلقائيا دون أن يدرى) ‏أنه‏ ‏حلم‏ ‏أصلا‏،‏ من هذا المنطلق نتبين أن ‏وظيفة‏ ‏الحلم‏ ‏كما‏ ‏يعرفه‏ ‏العامة‏ ‏والمفسرون‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يعاد‏ ‏النظر‏ ‏فيها، وذلك‏ ‏من‏ ‏خلال‏ معرفة وظيفة ‏النشاط‏ ‏الحالم‏ نفسه، ومن الأساس،‏ ‏وليس‏ ‏فقط‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏ما‏ ‏يعلن‏ ‏من‏ ‏ناتجه‏ ‏فى ‏وعى اليقظة ‏فى ‏صورة‏ ‏الحلم‏ ‏المحكى، ‏أو‏ ‏حتى ‏الحلم‏ “‏فى ‏المتناول‏”.‏

هذا، و‏تختلف‏ ‏درجات مستويات ‏تأثير‏ ‏وتوظيف‏ ‏الحلم‏ ‏من‏ ‏شخص‏ ‏إلى ‏آخر بشكل متنوع، ومن ذلك:

1- إن ‏مجرد‏ مبدأ ‏أن‏ ‏يتذكر‏ ‏شخص‏ ‏ما‏ ‏بعض جوانب أحلامه‏ ‏أو‏ ‏يحكيها‏ ‏هو إعلان عن‏ ‏قدرة‏ ‏هذا‏ ‏الحالم‏ ‏على ‏رؤية‏ “‏ما‏ ‏ليس‏ ‏كذلك‏” ‏فى ‏نفسه‏، ‏أو‏ ‏على ‏الأقل‏ ‏قبوله‏ ‏محاولة‏ ‏أن‏ ‏ينظر‏ ‏فى ‏الجانب‏ ‏الآخر‏ ‏من‏ ‏وجوده‏، ‏أى ‏أن ذلك ‏يشير ‏- بشكل‏ ‏ما‏‏-‏ ‏إلى ‏ترجيح‏ ‏قـُـرب‏ ‏ذواتـه‏ (‏حالات‏ ‏ذاته‏، ‏طبقات‏ ‏وعيه‏)، ‏بعضها‏ ‏من‏ ‏بعض‏، (هذا باستثناء الحلم المزيف تماما، إذ قد يؤدى دورا عكسيا يدل – بالتالى– على الخوف من التهديد بتقارب مستويات الوعى).

2- حين‏ ‏يكون‏ ‏الحلم‏ ‏إبداعا‏ ‏أصيلا‏ ‏مستمدا‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏داخلى ‏متحرك‏، ‏فإنه‏ ‏يعمل‏ ‏على ‏تعزيز‏ ‏المعلومات‏ ‏فى ‏طريق‏ ‏تمثيلها‏ ‏فى ‏الكل‏ ‏النامى دفعا ‏لاستمرار‏ ‏مسار‏ ‏التطور‏ ‏الذاتي‏، وهذا‏ ‏ما‏ ‏يستدل عليه من التأكيد على طبيعة وظيفة مجرد حدوث ظاهرة الحلم فى ذاتها  (بغض النظر عن محتواها)، وذلك فيما  يسمى  الصقل consolidation‏، ‏وإعادة ‏ ‏التنميط  ‏re-patterning ‏

3- أما ‏إذا‏ ‏تمت‏ ‏رواية‏ ‏الحلم‏ ‏وحكيه‏ ‏بشكل‏ ‏تتابعى ‏مسلسل‏ ‏على ‏حساب‏ ‏إبداع‏ (‏إعادة‏ ‏تشكيل‏) ‏ناتج‏ ‏التنشيط‏، ‏فإن‏ ‏ذلك‏ ‏يدرج‏ ‏فى “‏ميكانزمات‏” ‏الدفاع‏ ‏التى تقلل من احتمال فهم ‏ ‏وظيفة‏ ‏الحلم‏‏ ‏فى ‏التشكيل‏ ‏الإبداعى ‏الممكن‏ ‏لما‏ ‏أتيح‏ ‏من‏ ‏المعلومات‏ ‏المتعتعة‏.‏

‏‏مخاطر‏ ‏التفسير‏:

‏ ‏ننظر‏ الآن ‏فى ‏العلاقة‏ ‏بين‏ ‏وظيفة‏ “‏حكى ‏الحلم‏”، ‏و‏”‏محاولة‏ ‏تفسيره‏”: ‏إن‏ ‏مجرد‏ ‏الحكى (= ‏إعلان ناتج إبداع الحلم ‏ فى ‏مرحلة  الاستيقاظ التى ‏تتيح ذلك‏) ‏هو‏ ‏بمثابة التفسير الذى‏ ‏لايحتاج‏ ‏إلى ‏تفسير‏، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏التفسير‏ ‏قد‏ ‏يقوم‏ ‏أحيانا‏ ‏بدور‏ ‏سلبى، ‏حين‏ ‏يُحِل‏ ‏مفهوماً‏ ‏شائعا‏، ‏أو‏ ‏متحيزا‏ ‏لعقيدة‏ ‏ما‏، ‏أو‏ ‏نظرية‏ ‏ما‏، ‏أو‏ ‏موقف‏ ‏مسبق‏، ‏محل‏ ‏أصالة‏ ‏الحلم،‏ ‏فإذا‏ ‏بالكشف‏ ‏المعرفى ‏الذى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يقوم‏ ‏به‏ ‏الحلم‏ ‏يتوارى ‏وسط‏ ‏أكوام‏ ‏الدفاعات‏ الوصية ‏التبريرية‏ ‏والتأويلية‏، ‏سواء‏ ‏كان‏ ‏ذلك‏ ‏التفسير‏ ‏تقليديا (‏مثلا‏: ‏ابن‏ ‏سيرين‏) ‏أم‏ ‏كان‏ ‏تحليليا (‏مثلا‏: فرويد‏).‏

‏‏عن‏ ‏الجنون‏ ‏والحلم‏:

سوف‏ ‏نتجنب‏ ‏فى هذه‏ ‏المداخلة‏ ‏تفصيلات‏ ‏المقارنة‏ ‏بين‏ ‏الحلم‏ ‏والجنون‏. (‏مما‏ ‏سيأتى ‏بعضه فيما بعد ‏ ‏فى ‏الفصل الثانى:‏ ‏جدلية‏ ‏الجنون‏) ‏و‏ ‏سنكتفى ‏هنا‏ ‏بالإشارة‏ ‏إلى ‏بعض‏ ‏أوجه‏ ‏الشبه‏ ‏والاختلاف بين الحلم والجنون‏، ‏مما‏ ‏يفيدنا‏ ‏فى ‏المقارنة‏ ‏الأساسية‏ ‏اللاحقة‏ ‏بين‏ ‏الحلم‏ ‏والإبداع‏.‏

‏ ‏الجنون‏ ‏الذى ‏سأتناوله‏ هنا‏ ‏هو‏ ‏الجنون‏ ‏بمعنى ‏التناثر‏، ‏والاغتراب‏، ‏واللغة‏ ‏الخاصة‏، ‏وضرب‏ ‏الزمن‏، ‏وهو‏ ‏أقرب‏ ‏مايكون‏ ‏إلى ‏المستوى ‏الأعمق‏ ‏من‏ ‏الحلم‏ ‏المقابل‏ ‏لنشاط‏ ‏الحلم‏ ‏البدئى ‏الأوّلى‏ ‏أثناء‏ ‏نوبة‏ ‏النوم‏ ‏النقيضى (‏نوم‏: ‏الريم‏)، (=‏الحلم‏ ‏الفعل‏/‏الحلم‏ ‏الحركة‏). ‏

‏فى ‏حالة‏ ‏الجنون‏ ‏يحدث‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏التنشيط‏ ‏الذى يحدث فى الحلم، لكنه يحدث ‏أثناء‏ ‏اليقظة‏، ‏فتـقـتحم‏ المادة‏ ‏ ‏المـنَـشـّطة عشوائيا‏ ‏وعى ‏اليقظة‏، ‏ملتحفة‏ ‏بوعيها‏ ‏الخاص‏، ‏ليتداخل‏ ‏المستويان‏ ‏فى ‏بعضهما‏ ‏فيحدث‏ ‏التشوش‏ ‏والخلط‏، ‏فضلا‏ ‏عن‏ ‏أن‏ ‏الظاهرة‏ ‏الإيقاعية‏ ‏فى ‏الجنون‏ ‏عامة‏ ‏عادة‏ ‏ما‏ ‏تتجلى ‏فى ‏بعد‏ ‏زمنى ‏أطول‏ ‏يقدر‏ ‏بالشهور‏ ‏وأحيانا‏ ‏بالسنين‏، ‏وهو‏ ‏مايشار‏ ‏إليه‏ ‏باسم‏ ‏الجنون‏ ‏الدورى Periodical ‏وأيضا‏ ‏المتفتر‏ Intermittent (‏وهذا ‏هو‏ ‏الأساس‏ ‏لكل‏ ‏الأنواع‏ ‏الأخرى من الجنون ‏من‏ ‏منظور‏ ‏معين‏) (*)

(*)- المعنى ‏المقصود‏ ‏هنا‏ ‏هو‏ ‏التأكيد‏ ‏على ‏أن‏ ‏الاضطرابات‏ ‏العقلية‏ (فيما عدا ما استبعدناه سالفا من أمراض عضوية تشريحية) يمكن ‏ ‏أن‏ ‏ترجع‏ ‏إلى ‏خلل‏ ‏فى ‏الإيقاع‏ ‏الحيوى وهو ما نـَـحـَـتـْـنـا له مصطلح “سيكوباثوجينى” Psychopathogeny ، وبالتالى: ‏فالمتوقع أن تظهر فى شكل دورى، وهذا ما كان شائعا عبر التاريخ، وهو وارد حالا بصورة أقل وخاصة فيما يسمى ‏الجنون‏ ‏الدورى،  ‏وتعتبر ‏ ‏سائر‏ ‏أنواع‏ ‏الجنون، من هذا المنطلق، بمثابة ‏ إيقاع حيوى  فاشل أو منحرف أو مشوه يعلن ‏عجز‏ ‏الإيقاع‏ ‏الحيوى ‏العادى ‏والإبداعى عن ‏أن‏ ‏يستوعب‏ ‏حركية‏ ‏دورية‏ ‏الوجود‏ ‏البيولوجية‏، ‏ويمكن‏ ‏أن‏ ‏يرجع‏ ‏فى ‏تفاصيل‏ ‏ذلك‏ ‏إلى‏ “‏دراسة‏ ‏فى ‏علم‏ ‏السيكوباثولوجي‏”، ‏هامش‏(3) هذا‏  المنظور يفترض امتداد القانون الحيوى Biogenic law هكذا:

 الميكروجينيا (لحظة إبداع الفكر) تعيد الماكروجينيا (أزمة النمو) التى تعيد الفيلوجينيا (نمو الفرد برمته) التى بدورها تعيد مسار الفيلوحينيا،

 أما أن يكون مسار المرض متفترا Remittent فهذا يشير أيضا إلى نوابية المرض، غير أن مآل كل نوبة يكون سلبيا، بمعنى أنه يترك اندمالا (خفوتا، ورمادية، وانسحابا) فى الشخصية بصفة متكررة مع تكرار النوبات.

إن أهم‏ ‏ما‏ ‏يعنينا‏ ‏هنا‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏وجه‏ ‏الشبه‏ ‏بين‏ ‏الحلم‏ ‏والجنون‏ ‏يزداد‏ ‏كلما‏ ‏اقتربنا‏ ‏من‏ ‏بداية‏ ‏العمليتين‏: ‏بداية‏ ‏الحلم‏، ‏وبداية‏ ‏الجنون‏؛ ‏أو‏ ‏بتعبير‏ ‏أدق‏، ‏كلما‏ ‏اقترينا‏ ‏من‏ ‏عمق‏ ‏المستوى ‏الأول‏ ‏لنشاط‏ ‏كل‏ ‏منهما‏، ‏ثم‏ ‏يظهر‏ ‏الاختلاف‏ ‏مع‏ ‏تقدمنا‏ ‏إلى ‏المستويات‏ ‏التالية‏. على ‏أن‏ ‏غلبة‏ “‏السلبية‏” (‏غاية‏ً ‏وناتجاً‏) ‏فى ‏حالة‏ ‏الجنون‏، ‏وغلبة‏ “‏الإيجابية‏” ‏فى ‏حالة‏ ‏الحلم‏، ‏لا يعنى ‏بالضرورة‏ ‏أن‏ ‏الجنون‏ ‏كله‏ ‏تناثر‏ ‏وهزيمة‏ ‏وانسحاب‏، ‏أو‏ ‏أن‏ ‏الحلم‏ ‏كله‏ ‏إبداع‏ ‏وولاف‏ ‏ونمو‏؛ ‏فقد‏ ‏يتعدل‏ ‏المسار‏‏، ‏فى ‏أية‏ ‏لحظة‏، ‏تلقائيا‏، ‏أو‏ ‏بتدخل‏ ‏علاجى ‏تكاملى خلاّق، ‏كما‏ ‏قد‏ ‏لايعدو‏ ‏الحلم‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏نشاطا‏ ‏دائريا‏ ‏منغلقا‏ ‏يفرغ‏ ‏الطاقة‏ ‏عشوائيا‏ ‏وهو‏ ‏يحافظ‏ ‏على ‏توازن‏ ‏هش‏ ‏فى ‏محله‏، ‏أى ‏بنفس‏ ‏طبيعة‏ ‏التركيب‏ ‏القائم‏ ‏الثابت‏، ‏دون‏ ‏نمو‏ ‏أو‏ ‏إبداع‏.‏

أما‏ ‏الإبداع‏، ‏فهو‏ ‏يشترك‏ ‏مع‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏الحلم‏ ‏والجنون‏ ‏فى ‏البدايات‏ ‏أيضا‏ (‏المستويات‏ ‏الأولى‏)، ‏ولكن‏ ‏مساره‏ ‏ونِتاجه‏ ‏يختلفان‏، ‏مع‏ ‏اختلافات‏ ‏نوع‏ ‏الوعىوتكامل‏ ‏مستوياته‏، ‏واتساع‏ ‏المسؤولية‏، ‏واتجاه‏ ‏الغائية‏، ‏وفعل‏ ‏الإرادة‏، ‏وأخيرا‏ ‏الطبيعة‏ ‏الولافية‏ ‏للناتج‏ ‏وآثاره‏ (‏وهذا‏ ‏ما سنعود‏ ‏إليه‏ ‏فى ‏الفصل الثانى من هذه الدراسة).

‏الخلاصة المرحلية‏:‏

نوجز – ‏فى ‏خطوط‏ ‏عامة‏‏ -‏ ‏ما‏ ‏قدمناه‏، ‏حتى ‏الآن‏، ‏بما‏ ‏يسمح‏ ‏بالمقارنة‏ ‏حين‏ ‏ننتقل‏ ‏إلى ‏الجزء‏ ‏التالى‏:‏

1- إن‏ ‏المخ‏ ‏البشرى، ‏والجسد البشرى، والوجود‏ ‏البشرى، ‏من‏ ‏أبسط‏ ‏مستوى ‏داخل‏ ‏خلوى (‏بما‏ ‏يشمل‏ ‏تمثيل‏ ‏البروتينات‏)، ‏فى ‏حالة إيقاع حيوى نوبى‏ ‏بما‏ ‏يحقق‏ ‏تنظيم‏ ‏تركيبه‏، ‏والحفاظ‏ ‏على ‏دفع‏ ‏النمو‏. ‏وما الحلم‏ ‏والجنون‏ ‏والإبداع‏ ‏إلا ‏بعض‏ ‏مظاهر‏ ‏هذه‏ ‏النوابية‏ ‏الحتمية‏ ‏سلبا‏ (‏الجنون‏) ‏وإيجابا‏ (‏الحلم‏ ‏والإبداع‏).‏

2- إن‏ ‏مايحكى‏عن‏ ‏محتوى ‏الحلم‏ ‏ليس‏ ‏هو‏ ‏هو‏ ‏النشاط‏ ‏الحالم كله،‏ ‏بل‏ ‏هو‏ ‏جزء‏ ‏يسير‏ ‏جدا‏ ‏من‏ ‏نهاية‏ ‏عملية‏ يكاد ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏رصد‏ ‏تفاصيلها‏ ‏السابقة‏ بما يربطها بعضها ببعض، وإن أمكن رصد والتقاط بعض علامات مايدل عليها.

3- إن‏ ‏الحلم‏ ‏ليس‏ ‏ظاهرة‏ ‏تفريغية‏ ‏بديلة‏ ‏تحدث‏ ‏أثناء‏ ‏النوم‏، ‏بل‏ ‏هو‏ ‏تنشيط‏ ‏بيولوجى ‏معرفى ‏منتظم‏ ‏يمثل‏ ‏جرعة‏ ‏إبداع‏ ‏مكثف‏ ‏فج‏ ‏معا‏.‏

4- إن‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏حلما‏ ‏إنما‏ ‏يتم‏ – بشكل عام – ‏على ‏مرحلتين‏ (‏درجتين‏ ‏من‏ ‏درجات‏ ‏الوعى‏) : ‏مرحلة‏ ‏تشكيله (‏وفى ‏الواقع‏ ‏أنها‏ -‏جزئيا‏-‏ عملية‏ ‏تخليقية‏ ‏فى ‏الذاكرة‏ الأعمق = ‏الحلم‏ ‏الفعل‏)، ‏ثم‏ ‏مرحلة‏ ‏روايته‏ ‏أو‏ ‏تسجيله، أى‏‏ ‏مرحلة‏ ‏إعادة‏ ‏تخليقه‏ ‏ومراجعته‏ ‏(ا‏لحلم‏ ‏المحكى/ ‏المُبدع،‏ ‏أو‏ لعله ينقلب إلى: ‏الحلم المزيف‏ ‏البديل‏: ‏حسب‏ ‏درجة‏ ‏ونوع‏ ‏علاقته‏ ‏بالحلم‏ ‏الفعل‏).‏

5- إن‏ ‏المعطيات‏ ‏الحديثة‏، ‏من‏ ‏معامل‏ ‏الأحلام‏، ‏لا تولى ‏اهتماما‏ ‏خاصا‏ ‏لما‏ ‏يسمى “‏سبب‏ ‏الحلم‏” ‏أو‏ “‏دافع‏ ‏الحلم‏”، ‏بمعنى ‏تحقيق‏ ‏رغبة‏، ‏أو‏ ‏تعويض‏ ‏نقص‏، ‏إذ‏ ‏أنها‏ ‏تؤكد‏ ‏على ‏الفهم‏ ‏الأعمق‏ ‏للطبيعة‏ ‏التلقائية‏ ‏الإيقاعية‏  الإبداعية التشكيلية ‏للنشاط‏ ‏الحالم‏ ‏أساسا‏.‏

6- إن‏ ‏لغة‏ ‏الحلم‏، ‏ليست‏ ‏كلاما‏ ‏ناتجا‏ ‏عن‏ ‏بنية‏ ‏لغوية‏ ‏راسخة‏، ‏ولاهى ‏لغة‏ ‏مصورة‏ ‏رمزية تحتاج إلى‏ ‏إعادتها‏ ‏إلى ‏مفاهيمها‏ ‏اللفظية‏ ‏أو‏ ‏الرمزية‏ ‏ليمكن‏ ‏شرحها‏ ‏وتفسيرها‏، ‏ولاهى ‏نتاج‏ ‏العمليات‏ ‏الأولية‏ ‏البدائية‏ ‏تماما‏، ‏لكنها‏ ‏لغة‏ ‏حيوية‏ ‏جديدة‏، ‏متجددة‏، ‏يختلط‏ ‏فيها‏ ‏العيانى ‏بالمجرد‏، ‏وتتكثف‏ ‏فيها‏ ‏المفردات‏ ‏المتنوعة‏، ‏فتقوم‏ ‏صياغة‏ ‏الحلم‏ ‏الإبداعية‏ ‏بترتيبها‏ ‏بالقدر‏ ‏الممكن‏ ‏لروايتها‏،‏ وهكذا ‏تختلف‏ ‏جرعة‏ ‏الأصالة‏ ‏والإبداع‏ ‏فى ‏رواية‏ ‏الحلم‏ ‏بقدر‏ ‏قدرة‏ ‏الحالم‏ ‏الراوى ‏على ‏تحمل‏ ‏الغموض‏ ‏واحتواء‏ ‏التناقض‏ ‏واستيعاب‏ ‏المعلومات‏ ‏المحركة‏ ‏فى ‏كل‏ ‏اتجاه‏، ‏وأيضا‏ ‏بقدر‏ ‏تماسك‏ ‏توجهه‏، ‏وعمق‏ ‏حرية‏ ‏حركية‏ ‏إبداعه‏ (‏انظر‏ ‏الفصل‏ ‏الثالث‏ عن الحرية والإبداع).‏

7- إن‏ ‏نشاط‏ “الحلم‏ ‏بالقوة‏” ‏يقوم‏ ‏بوظيفة‏ ‏تعليمية‏ ‏معرفية‏ ‏تنظيمية‏، ‏كما‏ ‏أن‏ ‏نشاط‏ ‏الحلم‏ ‏المروى (‏حقيقةً ‏- ‏لا‏ ‏المـُـسـْـتـَـبدَل‏ ‏تزييفا‏) ‏هو‏ ‏إبداع‏ ‏فج‏ ‏عميق‏ ‏الدلالة‏ (‏فى ‏حالة‏ ‏السواء‏ ‏النامي‏)، ‏وهو‏ ‏يقوم‏ ‏بوظيفة‏ ‏دفع‏ ‏عجلة‏ ‏النمو‏ ‏الذاتى، ‏ويعمق‏ ‏الوعى، ‏ويؤصـل‏ ‏حركية‏ ‏التطور،‏ ‏ولكن‏ ‏فى ‏جرعات‏ ‏لا‏ ‏تصل‏ ‏إلى ‏الوعى ‏الذاتى ‏الظاهر‏ ‏بالضرورة‏.‏

8- إن‏ ‏علاقة‏ ‏الحلم‏ ‏بالجنون‏ ‏بالإبداع‏ ‏هى ‏علاقة‏ ‏مركبة؛ ‏حيث‏ ‏يجمع‏ ‏بينهم‏ ‏منبع واحد‏، ‏ثم‏ ‏تفرقهم ‏ظروف‏ ‏تناسب‏ ‏جرعة‏ ‏التنشيط‏ ‏مع‏ ‏فعل‏ ‏الإبداع‏ ‏القادر‏ ‏على لمّ وتوليف وتكامل ‏هذا‏ ‏الفيضان‏ ‏الدورى ‏المناسب‏ (‏الحلم‏) ‏أو‏ ‏المفرط‏ ‏العشوائى (‏الجنون‏ ‏النشط‏).‏

9- إن‏ ‏ظاهرة‏ “‏الحلم‏” (‏بغض‏ ‏النظر‏ ‏عن‏ ‏حكى ‏محتواه‏) ‏تمثل‏ ‏حتم‏ ‏الإيقاع الحيوى‏، ‏ونوابية‏ ‏التنشيط‏، ‏ونـُـظم إطلاق‏ ‏الطاقة‏، ‏ونشاط حركية‏ ‏التناقض‏، التى نتاجها هو ما نسميه “إبداع الشخص العادى”، بمعنى “تغيـّره المستمر المتراكم الموزع على مدار الإيقاع الحيوى على مدى حياته”.

‏ ‏فروض‏ ‏الدراسة‏ ‏من منطلق الإبداع‏‏:‏

لا‏ ‏أنوى ‏هنا‏ – ‏ولا‏ ‏أستطيع‏- ‏مراجعة‏ أهم ‏نظريات‏ ‏الإبداع‏، ‏أو‏ ‏مناقشتها‏، ‏لكنى ‏سأحاول‏ ‏مباشرة‏ ‏أن‏ ‏أتقدم‏ ‏بوجهة‏ ‏نظر‏ ‏تناسب‏ ‏ما‏ ‏قدمنا‏ ‏من‏ ‏فروض‏ ‏فى ‏تناول‏ ‏ظاهرة‏ ‏الحلم‏، ‏من‏ ‏حيث‏ ‏إن‏ ‏تعدد‏ ‏مستويات‏ ‏الحلم‏، ‏بصفته‏ ‏الإبداع‏ ‏البيولوجى ‏اليومى كما تتناوله هذه المداخلة، ‏تقابل‏ ‏تعدد‏ ‏مستويات‏ ‏الإبداع‏.‏

ولنبدأ‏ ‏بتحديد‏ ‏معالم‏ ‏فروض‏ ‏هذه‏ ‏الدراسة‏ ‏بلغة‏ ‏الإبداع‏ ‏على ‏الوجه‏ ‏التالى‏:‏

1) إن‏ ‏الإبداع‏ ‏هو‏ ‏حتمٌ‏ ‏حيوىّ (‏بيولوجى‏) ‏حياتى (‏وجودى‏).‏

2) إن‏ ‏ثمّ‏ ‏إبداعا‏ ‏أكثر‏ ‏دلالة، ‏‏وألزم‏ ‏حدوثا،‏ ‏وأعم‏ ‏تواترا‏ ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏أخفى ‏ناتجا‏: ‏هو‏ ‏الإبداع‏ ‏اليوماوى(4) ‏ ‏لكل‏ ‏الناس،‏ ‏باعتبار‏ أن الإيقاع الحيوى إذ يتجلى فى الحلم خاصة كل ليلة، إنما يحافظ على ‏إعادة‏ ‏التشكيل‏ ‏البيولوجى، ‏على ‏مستوى ‏غير‏ ‏ملموس‏ ‏عادة‏، ‏وأيضا‏ ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏الوعى ‏الذاتى ‏الظاهر‏ ‏فى ‏أغلب‏ ‏الأحوال‏، كما أن استقبالنا لذلك والحيلولة دون إجهاضه بعلم سطحى أو تفسير متعجل هو إسهام فى دعم آلية طبيعية على مسار التطور.

3) من هنا ‏ ‏يمكن‏ ‏اعتبار‏ ‏أن‏ ‏الإبداع‏ ‏حتمٌ‏ ‏تطورى ‏للنوع‏ ‏البشرى ‏على ‏مسار‏ ‏تطوره‏ ‏النوعى ‏والفردى ‏على ‏حد‏ ‏سواء‏، (بدءًا من أن ‏الأنتوجينيا‏ ‏تعيد‏ ‏الفيلوجينيا‏).‏

4) إن‏ ‏الإنسان‏ ‏الفرد‏ ‏فى ‏دورات‏ ‏نموه‏ ‏وقفزات‏ ‏تغيره‏ ‏الكيفى، ‏يعيد‏ ‏إبداع‏ ‏ذاته‏ ‏بإيقاع‏ ‏منتظم‏، (‏الإيقاع‏ ‏الحيوى ‏على ‏كل‏ ‏المستويات‏).

5) إن‏ ‏ما‏ ‏يظهر‏ ‏فيما‏ ‏أسميناه‏ “‏ناتج‏ ‏الإبداع‏” ‏فى ‏الفن‏ ‏والأدب‏، ‏مثلا‏، ‏هو‏ ‏بعض‏ ‏مظاهر‏ ‏الإبداع‏ ‏البشرى ‏وليس‏ ‏كلها‏، ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏يبقى ‏ويسجل‏ ‏خارج‏ ‏الذات‏ ‏التى ‏انتجته‏ ‏عادة‏ “‏ناتج‏ ‏الإبداع‏ ‏الُمفَعْلنَ‏”.‏

وبعد

 لا‏ ‏يخفى ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏التعميم‏ ‏القياسى ‏من‏ ‏مخاطر،‏ ‏لكن‏ ‏البديل‏ ‏التجزيئى ‏أخطر‏، ‏وأضل‏.‏ ‏فائدة‏ ‏المخاطرة بهذا ‏‏التعميم‏ ‏القياسى ‏ ‏ ‏هى ‏أننا‏ ‏قد‏ ‏نتمكن‏ ‏من‏ ‏الإلمام‏ ‏بمعالم‏ ‏ظاهرة‏ ‏ما‏ (‏تستحيل‏ ‏دراستها‏ – ‏بسبب‏ ‏تكثيف‏ ‏الزمن‏ ‏أو‏ ‏امتداده‏-‏ فى ‏مجال‏ ‏ما‏) ‏بدراسة‏ ‏ظاهرة‏ ‏موازية‏ ‏يمكن‏ ‏رصدها‏ ‏أو‏ ‏تتبعها‏ ‏بشكل‏ ‏أبطأ‏ ‏وأكثر‏ ‏تفصيلا؛ ‏فدراستنا‏ ‏لـ‏ “‏الأنتوجينيا‏” (‏تاريخ‏ ‏تطور‏ ‏الفرد‏)، ‏مع‏ ‏المقارنات‏ ‏اللازمة‏ (‏علم‏ ‏الأجنة‏ ‏المقارن‏، ‏وعلم‏ ‏التشريح‏ ‏المقارن‏..‏إلخ‏) ‏تتيح‏ ‏لنا‏ ‏فهم‏ ‏مسار‏ ‏الـ‏ “‏فيلوجينيا‏” ‏التى ‏يستحيل‏ ‏دراستها‏ ‏إلا‏ ‏استنتاجا من تاريخها وآثارها‏.‏ ودراستنا‏ ‏لأطوار‏ ‏الفيلوجينا‏ ‏قد‏ ‏تكون‏ ‏هادية‏ ‏لمعرفة‏ ‏أطوار‏ ‏أزمات‏ ‏النمو الواحدة بعد الأخرى فى الفرد الواحد وهى‏ ‏التى ‏تتم‏ ‏فى ‏بـُـعـْـدٍ‏ ‏زمنى ‏أقصر‏، كذلك‏ ‏دراستنا‏ ‏لأزمات‏ ‏النمو‏ ‏قد‏ ‏تكون‏ ‏مؤشرا‏ ‏قياسيا‏ ‏لما‏ ‏يجرى ‏فى ‏مراحل‏ ‏الإبداع، من هنا جاءت فكرة أن‏ ‏دراسة‏ ‏مراحل‏ ‏الإبداع‏ ‏قد‏ ‏تكون‏ ‏هى ‏مفتاح‏ ‏فهمنا‏ ‏لتجليات‏ ‏مراحل‏ ‏الحلم‏ ‏التى ‏هى ‏بعيدة‏ ‏عن‏ ‏التناول‏ ‏بشكل‏ ‏مباشر،‏ ‏لخفائها‏ ‏وقصر‏ ‏زمنها‏.

أما‏ ‏أن‏ ‏الإبداع‏ ‏هو‏ ‏عملية‏ ‏طبيعية‏ ‏من‏ ‏صلب‏ ‏الحياة‏، ‏وقوانينها‏، ‏فهذا‏ ‏ما‏ ‏تؤكده‏ ‏مشاهدات‏، ‏ومسار‏ ‏الظاهرة‏ ‏الحيوية‏ ‏عبر تاريخها التطورى حتى أفرزت البشرية‏ بما هى، بفضل الله،  وبما يتجلى فى بعض ‏ ‏نتاجها‏ ‏الخارج ‏عنها‏ مما يسمى إبداعا‏. ‏إن‏ ‏بعض‏ ‏ما‏ ‏ألمحنا‏ ‏إليه‏ ‏فى ‏إبداع‏ ‏الحلم‏، ‏يشير‏ ‏بالضرورة‏ ‏إلى ‏حتمية‏ ‏دورات‏ ‏التنشيط‏، ‏فالتفكيك‏، ‏فالتناقض‏، ‏فاحتمال‏ ‏التوليف‏ ‏للتصعيد‏.‏ وإذا‏ ‏كان‏ ‏الحلم‏ ‏هو‏ ‏الإبداع‏ ‏المكثف‏ -‏ بناتج‏ ‏مُدْرَك‏ ‏أو‏ ‏بدونه‏-‏ فإن‏ ‏تاريخ‏ ‏الفرد‏ ‏العادى (‏إذا‏ ‏لم‏ ‏يُجهض‏ ‏نموه‏) ‏هو‏ “‏الإبداع‏ ‏الممتد‏” ‏دون‏ ‏ناتج‏ ‏منفصل‏ ‏عنه‏ ‏بالضرورة‏.‏

 ‏وما‏ ‏بين‏ ‏”إبداع الحلم” ‏الذى ‏يتم‏ ‏فى ‏بعض‏ ‏الثانية‏ ‏أو‏ ‏بضع‏ ‏ثوان‏، ‏وإعادة إبداع‏ ‏الحياة‏ ‏الذى ‏يتم‏ ‏عبر‏ ‏طول‏ ‏عمر‏ ‏الفرد‏، ‏يظهر من بعض الأشخاص‏ ‏الإبداع‏ ‏المسجل‏ ‏بأدوات‏ ‏الفن‏، ‏والآداب‏ ‏والعلوم‏، ‏ولغاتها‏.

الخلاصة الحالية:

من أهم أهداف هذه المداخلة هو ألا نقصر ما هو إبداع على هذا النشاط المفعلن خارج الكائن البشرى.

إن‏ ‏الإبداع‏ ‏على ‏كل‏ ‏المستويات‏ ‏إنما‏ ‏ينبع‏ ‏من‏ ‏الطريقة‏ ‏المتميزة‏ ‏للحركية‏ ‏البيولوجية الكيانية الإيقاعية‏ ‏النوابية‏ ‏للمادة‏ ‏الحية‏ ‏عموما‏، ‏التى ‏تسمح‏ ‏باستيعاب‏ ‏التنشيط‏ ‏الدورى (‏وأحيانا‏ ‏باستدعائه‏ ‏لاستيعابه‏)، ‏إذ‏ ‏تسمح‏ ‏بالتعامل‏ ‏مع‏ ‏مستويات‏ ‏الوعى، ‏ومتناقضات‏ ‏الوجود‏ ‏الداخلى ‏والخارجى “‏معا‏”، ‏وذلك‏ ‏بطريقة‏ ‏جدلية‏ (‏ديالكتيكية‏) ‏تخلق‏ ‏الجديد‏: ‏فى ‏كل‏ ‏مجال‏ ‏بحسبه‏.‏

[1] –  يحيى الرخاوى  كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع”[جدلية الحلم والشعر والجنون] المجلس الأعلى للثقافة الطبعة الأولى 2007- القاهرة، والكتاب يوجد فى الطبعة الورقية  بمكتبة الأنجلو المصرية، وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net 

[2]– يمكن مراجعة مفهوم الزمن استلهاما من الممارسة الإكلينيكية والنقد الأدبى لـ يحيى الرخاوى “إشكالية الزمن: فى الحياة والمرض النفسى، والعلاج الجمعى” ص (12 – 22). عدد ابريل – سبتمبر 1998 – مجلة الإنسان والتطور الفصلية.

[3] – نجيب محفوظ: “أحلام فترة النقاهة” – دار الشروق – عام 2005. (أضيف هذا الهامش فى الطبعة الأخيرة مؤخراً 2019)

[4] – circadian

admin-ajax (4)admin-ajax (5)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *