الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الكتاب فى حلقات: حركية الوجود وتجليات الإبداع [جدلية الحلم والشعر والجنون] (3 من ؟)

الكتاب فى حلقات: حركية الوجود وتجليات الإبداع [جدلية الحلم والشعر والجنون] (3 من ؟)

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 22-6-2019

السنة الثانية عشرة

العدد:  4312

الكتاب فى حلقات:       

حركية الوجود وتجليات الإبداع (1)

[جدلية الحلم والشعر والجنون] (3 من ؟)

بدءًا من هذه النشرة سوف يكون الرقم مسلسلا

حتى تتم متابعة حلقات الكتاب بشكل تسلسلى.

ما زلنا فى الفصل الأول بعنوان: “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع”

……….

……….

قد‏ ‏نقابل‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الأحلام‏ ‏المزيفة‏، ‏عندما‏ ‏نوقظ‏ ‏النائم‏ ‏فى ‏فترة‏ ‏النوم‏ ‏غير‏ ‏الحالم‏ (‏بدون‏ ‏الريم) ‏NREM، ‏فنجده‏ ‏يحكى ‏حلما‏ ‏يقال‏ ‏عنه‏ ‏إنه‏ “‏مثل‏-‏التفكير‏ ‏المفهومى ‏فى ‏اليقظة‏” (2)، ‏ويقصدون‏ ‏أنه‏ ‏مرتب‏، ‏ومنطقى، و‏مسلسل‏، و‏واضح‏. ‏وهذا‏ ‏يؤكد‏ ‏ماذهبنا‏ ‏إليه‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏الحالم‏ ‏حين‏ ‏أوقظ‏ ‏لم‏ ‏تكن‏ ‏فى ‏مواجهته‏ ‏مادة (معلومات)‏ ‏مفككة‏ ‏متزاحمة‏ ‏متحركة‏ ‏أصلا‏، ‏وبالتالى ‏لم‏ ‏تتحرك‏ ‏العين‏ ‏بسرعة‏ ‏لتتبعها‏، ‏فانشق‏ ‏وعى اليقظة‏ ‏ونسج‏ ‏ما‏ ‏يتلاءم‏ ‏مع‏ ‏شقه‏ ‏الواعى، ‏مثلما‏ ‏تعّود‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏اليقظة (بما فى ذلك أحلام اليقظة)‏.

الحلم‏ ‏نشاط‏ ‏معرفى (3) (‏معرفى‏/‏إبداعى‏)‏

أكدنا‏ ‏فيما‏ ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏الحلم‏ ‏ليس‏ ‏مجرد‏ ‏تفريغ‏ ‏دوافعى، ‏أو‏ ‏انفعال‏ ‏موجه‏، ‏أو‏ ‏إدراك‏ ‏سلبى، ‏وقد‏ ‏نوقش‏ ‏ذلك‏ ‏فى ‏الأدبيات‏ ‏المنشورة‏ ‏بتفصيل‏ ‏مسهب‏، ‏ثم‏ ‏إن‏ ‏النظر‏ ‏الأحدث‏ ‏إلى ‏نشاط‏ ‏الحلم‏ ‏ينفى ‏أنه‏ ‏نشاط‏ ‏بدائى ‏يستعمل‏ ‏العمليات‏ ‏الأولية‏ ‏فحسب‏ (‏كما‏ ‏زعم‏ ‏فرويد‏) ‏تلك‏ ‏العمليات‏ ‏التى ‏تغلب‏ ‏على ‏تفكير‏ ‏الطفل‏، ‏والمجنون‏، ‏والشخص‏ ‏البدائى (‏كما‏ ‏يزعمون‏)، ‏فى ‏مقابل‏ ‏العمليات‏ ‏الثانوية (4) ‏التى ‏تصف‏ ‏تفكير‏ ‏الناضج‏ ‏الممنطق‏ (‏منطق‏ “‏أرسطو‏، وليس منطق ‏فون‏ ‏دوماروس‏”(*)، ‏فإلى ‏أى ‏نوع‏ ‏من‏ ‏النشاط‏ ‏العقلى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏ينتمى ‏الحلم؟

(*)- يقابل‏ “‏سيلفانو أريتي‏” ‏بين‏ ‏قواعد‏ ‏منطق‏ ‏أرسطو‏، ‏ومنطق‏: ‏فون‏ ‏دوماروس‏ ‏وخاصة‏ ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بتفكير‏ ‏الفصامى، من حيث أن منطق فون دوماروس يقبل اجتماع الأضداد، وتداخل المقدمات فى التوالى، وغير ذلك، مما يناقض منطق أرسطو الذى يراجَع مؤخرا بنقد شديد فى مواقع شتى

إن‏ ‏الحلم‏ ‏يستعمل‏ ‏مزيجا‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏العمليات‏ ‏العقلية‏: ‏الأولية‏ ‏فى ‏مراحله‏ ‏الأولى، ‏والثانوية‏ ‏فى ‏مراحله‏ ‏المزيفة‏ ‏والإبدالية‏، ‏لكنه‏ ‏أيضا‏ ‏يستعمل‏ ‏العمليات‏ ” ‏الثالثوية‏” (5) ‏التى ‏قال‏ ‏بها‏ “‏أريتى S .Arieti”  ‏وهى ‏العمليات‏ ‏التى تجمع‏ ‏بين‏ العمليات ‏الأولية‏ ‏والثانوية‏ ‏فى ‏ولاف‏ ‏ضام‏ (6)، ‏وقد‏ ‏أشار‏ ‏إلى ‏مثل‏ ‏هذه المرحلة‏ “‏ديستويفسكى‏” ‏نصا‏ ‏حين‏ ‏قال‏: “… ‏تتميز‏ ‏الأحلام‏ ‏ببروز‏ ‏قوى، ‏وشدة‏ ‏خارقة‏، ‏وتتميز‏ ‏كذلك‏ ‏بتشابه‏ ‏كبير‏ ‏مع‏ ‏الواقع‏، ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏مجموع‏ ‏اللوحة‏ ‏عجيبا‏ ‏شاذا‏، ‏ولكن‏ ‏الإطار‏، ‏ومجمل‏ ‏تسلسل‏ ‏التصور‏ ‏يكونان‏ ‏فى ‏الوقت‏ ‏نفسه‏، ‏على ‏درجة‏ ‏عالية‏ ‏من‏ ‏المعقولية‏، ‏ويشتملان‏ ‏على ‏تفاصيل‏ ‏مرهفة‏ ‏جدا‏، ‏تفاصيل‏ ‏غير‏ ‏متوقعة‏، ‏تبلغ‏ ‏من‏ ‏حسن‏ ‏المساهمة‏ ‏فى ‏كمال‏ ‏المجموع‏ ‏أن‏ ‏الحالم‏ ‏لا‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يبتكرها‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏اليقظة‏، ‏ولو‏ ‏كان‏ ‏فنانا‏ ‏كبيرا‏، ‏مثل‏ “‏بوشكين‏”، ‏أو‏ “‏تورجنيف‏”(*) (‏وسوف‏ ‏أرجع‏ ‏إلى ‏تفصيل بعض‏ ‏ذلك‏ ‏عند‏ ‏التطبيق‏ ‏المقارن‏).‏

(*)-‏ وحين‏ ‏رجعت‏ ‏إلى ‏الأصل‏ علما بأن ‏وجدت‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الوصف‏ ‏خصه‏ ‏دستويفسكى فى الجريمة والعقاب ‏بـ‏ “‏حالات‏ ‏المرض‏” (‏ترجمة‏ ‏سامى ‏الدوربى ‏ص‏120، ‏الهيئة المصرية‏ ‏العامة‏ ‏للتأليف‏ ‏والنشر‏ 1970) ‏إذْ تبدأ‏ ‏الفقرة‏ ‏بـ‏ “‏فى ‏حالات‏ ‏المرض‏، ‏تتميز‏ ‏الأحلام‏… ‏الخ‏، ‏وتنتهى ‏الفقرة‏ ‏نفسها‏ ‏بأنه‏: “… ‏وهذه‏ ‏الأحلام‏، ‏أعنى ‏الأحلام‏ ‏المرضية‏، ‏تخلِّف‏ ‏دائما‏ ‏ذكرى ‏باقية‏….‏الخ‏”، ‏ ‏دقة‏ ‏وصف‏ ‏ديستويفسكى ‏لإبداع‏ ‏الحلم‏ ‏هو‏ ‏المراد‏ ‏هنا‏ ‏من‏ ‏المقتطف‏، ‏أما‏ ‏قصر‏ ‏ذلك‏ ‏على ‏الأحلام‏ ‏المرضية‏ ‏فهذا‏ ‏مالا‏ ‏تؤيده‏ ‏الملاحظات‏ ‏التالية‏، ‏وبخاصة‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏جزء‏ ‏أساسى ‏من‏ ‏مجال‏ ‏ملاحظاتى ‏المهنية‏، ‏وقد اقتطفت من ديستويفسكى ليس باعتباره المرجع الذى يصنف حالة المرض من عدمها، فرأيه الشخصى الإبداعى هو بالغ الأهمية، لكنه ليس رأيا ملزما لمعنى المرض والصحة كما تقدمه هذه المداخلة.

إذن‏، فالحلم‏ ‏ليس‏ ‏مجرد‏ ‏خلط‏ ‏عشوائى، ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏أحد‏ ‏تجليات‏ ‏الإبداع‏ ‏الخاص‏ ‏فى ‏ظروف‏ ‏لا‏ ‏تسمى ‏إبداعا‏ ‏أصلا‏، ‏ذلك‏ ‏لأنه‏ ‏يحضر فجّا‏ ‏ ‏نتيجة‏ ‏سرعته‏ ‏الهائلة، وتناهى قصر وحدته الزمنية‏، ‏مما‏ ‏يجعل‏ ‏احتمالات‏ ‏تشويهه‏ ‏وتسطيحه‏ ‏أكثر‏ ‏تواترا‏ ‏من‏ ‏الإبداع‏ ‏المصقول‏، لكنه إبداع بمعنى أن ناتجه، فى حالة كفاءة وظيفته ولو على المدى الطويل، هو إعادة تنميط (7)،  أى أنه تنسيق تلقائى دورى راتب (انظر بعد)، مقارنة بالإبداع الذى هو إعادة تشكيل فى حالة من الوعى الفائق والإرادة الغامضة المشتمِلة.

‏‏مادة‏ ‏الحلم‏ (‏أبجديته‏)، ‏وظروف‏ ‏إبداعه‏، ‏ولغته‏:‏

النشاط‏ ‏الحالم‏ ‏الأساسى ‏يعلن‏ ‏حالة‏ ‏حركية‏ ‏من‏ ‏صور‏ ‏متداخلة‏ ‏وكيانات‏ مقلقلة ‏‏‏نشطة‏، ‏وتفكيك‏، ‏وتناثر‏، ‏ومستويات‏، ‏وتداخل.‏ ‏هذا‏ ‏كله‏ ‏هو‏ ‏المادة‏ ‏التى ‏ينسج‏ ‏منها‏ ‏الحالم‏ ‏موضوع‏ ‏إبداعه‏، ‏هذا‏ ‏ما‏ ‏يخص‏ ‏نشاط‏ ‏الحلم‏ ‏أثناء‏ ‏حركة‏ ‏العين‏ ‏السريعة‏ نوم “الريم”‏ ‏دون‏ ‏نشاط‏ ‏الحلم الخطى المفهومى (إن صح التعبير)‏ ‏ ‏ ‏الذى ‏يحدث‏ ‏فى ‏غياب‏ ‏”الريم”(*).

(*)- الأحلام‏ ‏التى ‏سجلت‏ ‏أثناء‏ ‏النوم‏ ‏العادى ‏دون‏ ‏نشاط‏ ‏حركة‏ ‏العينين‏ ‏السريعة‏ (‏نوم‏ ‏دون‏ ‏”ريم”‏ اقترح نوم “دريم”) ‏أقل‏ ‏علاقة‏ ‏بموضوع‏ ‏هذه‏ ‏المداخلة‏، ‏حيث‏ ‏تقترب‏ ‏من‏ ‏التسجيل‏ ‏المعاد‏ ‏أكثر‏ ‏مما‏ ‏تتصف‏ ‏بالتنشيط‏ ‏المبدع‏.‏

‏”‏أبجدية‏ ‏الحلم‏” ‏وطبيعتها‏ ‏البيولوجية‏ ‏والتركيبية‏.‏

يتطلب‏ ‏ذلك‏ ‏منا‏ ‏عددا من الاعتبارات أهمها‏:‏

1) عدم اختزال‏ ‏الدال‏ ‏فورا‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏يدل‏ ‏عليه (8)‏.‏

2)  العزوف عن معاملة‏ ‏المعلومة(*) ‏باعتبارها‏ ‏رمزا‏ ‏لا‏ ‏كيانا‏.‏

(*)- كلمة‏ “‏المعلومة‏” ‏فى ‏هذه‏ ‏الدراسة‏ ‏تعنى ‏كل‏ ‏ما‏ ‏يصل‏ ‏إلى ‏الوجود‏ ‏البشري‏-‏المخ‏ ‏البشري‏- ‏من‏ ‏رسائل‏ ‏ومثيرات‏، ‏تاريخا‏ ‏أو‏ ‏حالا‏، ‏وما‏ ‏يختزن‏ ‏فيه‏، ‏علما‏ ‏بأن‏ ‏علاقة‏ ‏المخ‏ ‏بما‏ ‏فيه‏ ‏ليست‏ ‏علاقة‏ ‏الإناء‏ ‏بالمحتوى، ‏وإنما‏ ‏تركيب‏ ‏المخ‏ ‏نفسه‏ ‏ليس‏ ‏سوى ‏بنية‏ ‏معقدة‏ ‏من‏ ‏المعلومات‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏، ‏بعضها‏ ‏تُـتـَمـثـل‏ ‏تماما‏، ‏والبعض‏ ‏الآخر‏، ‏وهو‏ ‏الأهم‏ ‏فى ‏موضوعنا‏ ‏هذا‏، ‏مازال‏ ‏فى ‏سبيله‏ ‏إلى ‏التمثيل‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏النبض‏ ‏الدورى ‏المستمر‏ ‏بكل‏ ‏أنواعه‏، ومستوياته ‏فى ‏الحلم‏، ‏والنمو‏، ‏والإبداع‏.‏

3) تجنّب تغليب‏ ‏العلامة‏ ‏على ‏الصورة‏ ‏المباشرة‏.

على ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏صعوبة‏ ‏هذه‏ ‏المتطلبات‏، ‏إلا‏ ‏أنها‏ ‏ضرورية ‏ ‏للتقدم‏ ‏لاستيعاب‏ ‏اعتبارات‏ ‏أساسية‏ ‏عن‏ ‏كل‏ ‏من‏:‏

1- ‏تعدد‏ ‏الكيانات‏/الذوات/مستويات الوعى/حالات العقل (*) (‏بلا‏ ‏حصر‏) ‏فى ‏كلية‏ ‏الوجود‏ ‏البشرى (9)

(*)- كل هذه مصطلحات مترادفة، إلى أن اختيار إحداها دون الأخرى يتم حسب السياق المناسب، فاستعمال مصطلح “حالات العقل”  mental statesهو المناسب  فى العلم المعرفى العصبى فى حين أن استعمال مصطلح “حالات الذات” ego state هو المناسب فى التحليل التركيبى structural analysis والتفاعلاتى transactional analysis وهكذا.

2- ‏حضور‏ ‏المعلومات‏ ‏باعتبارها‏ ‏كيانات‏ ‏مُـدخلة‏ ‏من‏ ‏الخارج‏، ‏ومستثارة‏ ‏من‏ ‏الداخل‏، ‏قابلة‏ ‏للتمثيل‏ (‏الهضم‏ ‏فالولاف‏) ‏على ‏مراحل‏.‏

3- ‏التعامل‏ ‏مع‏ ‏هذه‏ ‏الكيانات‏/‏المعلومات‏ ‏من‏ ‏منطلق‏ “‏بيولوجى/نفسى/كيانى” ‏ ‏فى ‏آن‏.‏

هذا‏ ‏المدخل‏ ‏يعلّـمنا‏ ‏كيف‏ ‏نتعامل‏ ‏مع‏ ‏الكيان‏ ‏البشرى ‏باعتباره‏ ‏جـُّمـّاعا‏ ‏حركيا‏ ‏من‏ ‏الكيانات‏/المعلومات‏ ‏فى ‏تشكيل‏ ‏مستمر‏، ‏كما‏ ‏يمكننا‏ ‏أن‏ ‏نتمثل‏ ‏المعلومة‏ ‏المُـدخلة‏ ‏والمستثارة‏، ‏باعتبارها‏ ‏فى ‏حركية‏ ‏جدلية‏ ‏نوابية‏ ‏متصلة‏ ‏بين‏ ‏الاستقلال‏ ‏من‏ ‏ناحية،‏ ‏ومشروع‏ ‏التلاشى ‏بالتمثل‏ ‏- ‏‏ولافيا ‏‏- ‏ ‏فى ‏الكل‏ ‏النامى (‏حالة كونه فى إبداع متصل تلقـِّـيا، فتمثـُّلا، فحركيَـة‏) ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى. يتم‏ ‏هذا‏ ‏فى ‏دورات‏ ‏الإبداع‏ ‏اليومى (‏اليقظة‏/‏النوم‏/‏الحلم‏)، ‏كما‏ ‏يتم‏ ‏بشكل‏ ‏أكثر‏ ‏إحاطة‏ ‏وأطول‏ ‏زمنا‏ ‏فى ‏دورات‏ ‏النمو‏ ‏الدورى ‏على ‏مسار‏ ‏النمو‏ ‏الفردى، ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏حركية‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏”الإيقاع‏ الحيوى” ‏والذى ‏تتكون‏ ‏دوراته‏ ‏معرفيا‏ ‏من‏ ‏طور‏ ‏يغلب‏ ‏عليه‏ ‏التزود‏ ‏بالمعلومات، هو طور التلقى أو الملء (*)، ثم دور البسط، ‏ حيث‏ ‏يتم‏ ‏بسط‏ ‏هذه‏ ‏المعلومات – مع‏ ‏غيرها‏- ‏لإمكان‏ ‏تمثلها (10)

(*)- طور الملء هو أقرب ما يكون إلى ما يتميز به دور ملء القلب بالدم Filling phase   حتى إذا تناوب مع طور الدفق  Ejectionبانقباض عضلة القلب  Systoleوجد القلب ممتلئاً بما يدفعه، وهو الطور المقابل لما أسميناه هنا طور “البسط” Unfolding . هذا القياس كان أساسا مهما فى تطبيق مبدأ الإيقاع الحيوى فى فهم إمراضية الأمراض النفسية ، ودوريتها الأساسية ابتداء، وحتى فى فهم  بعض العلاجات النفسية والعضوية الفيزيقية.

‏ ‏هذا‏ ‏التحريك‏ ‏الحيوى يتجلى فى نشاط‏ ‏الحلم‏ ‏الأقرب إلى  ‏طور‏ ‏البسط‏، ‏ذلك‏ ‏الطور‏ ‏الذى ‏يقلقل‏ ‏هذه‏ ‏الكيانات‏، ‏وينشط‏ ‏المعلومات‏ ‏التى ‏لم‏ ‏تُتَمثل‏ ‏تماما‏ ‏بهدف‏ ‏استكمال‏ ‏سعيها‏ ‏إلى ‏الاندماج‏ ‏التام‏ ‏فى ‏الكل‏ ‏الحيوى، ‏فيصبح‏ ‏المخ‏ ‏فى ‏طور‏ ‏البسط‏ ‏هذا عالَمًا ‏يموج‏ ‏بالناس‏ (‏ناس‏ ‏الداخل‏)، ‏والمفاهيم‏، ‏والموضوعات، والأجزاء‏، ‏والحروف‏، ‏واللغات‏.‏

هنا‏ ‏يجب‏ ‏أن‏ ‏ننبه‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏التحريك‏ ‏لا‏ ‏يتوقف‏ ‏على ‏المعلومات‏ ‏المكتسبة‏ ‏بالخبرة‏ ‏فحسب‏، ‏بل‏ ‏يمتد‏ ‏أيضا‏ ‏إلى ‏المعلومات‏ ‏الموروثة‏ ‏عبر‏ ‏تاريخ‏ ‏الفرد‏، ‏بل تاريخ‏ ‏النوع‏، ‏فتصبح‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏المادة‏ ‏الكامنة‏ ‏سابقا، ‏و إلى درجة أكبر كثيرا: المُـدخله‏ ‏حديثا، ‏ ‏فى ‏متناول‏ ‏مستوى ‏ما‏ ‏من‏ ‏وعى ‏الحالم‏ ‏فى ‏أثناء‏ ‏عملية‏ ‏الاستيقاظ‏.‏

يختلف‏ ‏كل‏ ‏شخص‏ ‏عن‏ ‏الآخر‏ ‏فى ‏كيفية‏ ‏التعامل‏ ‏مع‏‏ ‏المادة‏ ‏المستثارة‏ ‏فى ‏طور‏ ‏البسط (التنشيط) اختلافا هاما من حيث ما يلى‏:

1- حسب‏ ‏قدر‏ ‏تصالحه‏ ‏مع‏ ‏الداخل‏ (‏التصالح‏ ‏مع‏ ‏الداخل‏: ‏بمعنى ‏تناغم‏ ‏المعلومات‏، ‏معا‏، ‏مع‏ ‏تحمل‏ ‏الناشز‏ ‏منها‏ ‏سعيا‏ ‏للتقابل‏ ‏فالجدل‏)،

2- وكذلك:‏ ‏حسب‏ ‏قدرته‏ ‏على ‏قبول‏ ‏لغة‏ ‏أخرى ‏دون‏ ‏الإسراع‏ ‏بترجمتها‏ ‏إلى ‏اللغة‏ ‏السائدة‏،

3- وأيضا‏: ‏باختلاف‏ ‏نوع‏ ‏المادة‏ ‏المثارة‏، ‏ومدى ‏عمق‏ ‏انغراسها‏ ‏فى ‏تاريخ‏ ‏الشخص‏ ‏أو‏ ‏تاريخ‏ ‏النوع،‏

4وأخيراً: حسب‏ ‏ما‏ ‏تمثله‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏العمليات‏ ‏من‏ ‏تهديد‏ ‏لتماسك‏ ‏ذات‏ ‏الشخص‏ ‏الكلية‏، ‏سواء‏ ‏أثناء‏ ‏الحلم،‏ ‏أم‏ ‏أثناء‏ ‏النمو‏، ‏أم‏ ‏فى ‏خبرة‏ ‏الإبداع‏.

‏إن‏ ‏تناسب‏ ‏جرعة‏ ‏المادة‏ المتاحة بفعل البسط ‏مع‏ ‏قدرة‏ ‏السماح‏ ‏بمثولها‏ ‏فى مستوى ما من مستويات ‏وعى ‏اليقظة‏، ‏هو‏ ‏الذى ‏يسمح‏ ‏باستيعابها‏ ‏من‏ ‏جديد‏ ‏حسب‏ ‏القدرة‏ ‏النمائية‏ (‏الإبداعية)‏ ‏للفرد‏ ‏فى ‏وقت‏ ‏بذاته‏ (أو مرحلة بذاتها أو ‏لحظة‏ ‏بذاتها‏).‏

‏‏لغة‏ ‏الحلم

اختلف‏ ‏المفسرون‏ ‏والحالمون‏ ‏جميعا‏ ‏على ‏”أبجدية و‏طبيعة‏ ‏لغة‏ ‏الحلم‏”، ‏ولكنهم‏ ‏اتفقوا‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏، ‏على ‏أن‏ ‏ثمة‏ ‏لغة‏ (‏مع لزوم تكرار‏ ‏أن‏ ‏اللغة‏ ‏غير‏ ‏الكلام‏، ‏فاللغة‏ ‏بنية‏، ‏والكلام‏ ‏بعض‏ ‏مظاهرها‏). ‏وقد‏ ‏كاد‏ ‏الاتفاق‏ ‏ينعقد‏ ‏على ‏أن‏ ‏لغة‏ ‏الحلم‏ ‏هى ‏لغة‏ ‏مصورة‏ ‏أساسا‏، ‏لها‏ ‏نحوها‏ ‏وبلاغتها‏ ‏الخاصة‏، ‏وأنه‏ ‏يمكن‏ ‏حل‏ ‏شفرتها‏ ‏نسبيا‏ ‏بجهد‏ ‏منظم‏.‏

هنا‏ ‏تثار‏ ‏قضية‏ ‏إنكار‏ ‏حق‏ “‏الصورة‏” ‏فى ‏المثول‏ “‏هكذا‏” ‏من‏ ‏حيث‏ ‏هى ‏كيان‏ ‏دال‏ ‏قائم‏ ‏بذاته‏، ‏كيان‏ ‏قادر‏ ‏على ‏التشكيل‏ ‏الحر،‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏لم‏ ‏يُـفِـد‏ ‏ما اعتدنا أن نستقبله باللغة المفهومية. ‏هذا‏ ‏الإنكار‏ ‏إنما‏ ‏يعلن‏ ‏قدرا‏ ‏هائلا‏ ‏من‏ ‏التحيز‏ ‏للرمز‏ “‏المفهومي‏”، ‏على ‏حساب‏ “‏المثول‏ ‏العيانى‏”؛ ‏الأمر‏ ‏الذى ‏حاول‏ ‏الشعر‏ ‏أن‏ ‏يعدله‏ ‏ويرد‏ ‏عليه‏، ‏حتى ‏وصل‏ ‏إلى ‏ماسمى ‏بـ ‏”‏الشعر‏ ‏العيانى‏” (11)‏. على ‏أن‏ ‏الفرض‏ ‏المطروح‏ ‏هنا‏ ‏يتجاوز‏ ‏مجرد‏ ‏فهم‏ ‏أو‏ ‏احترام‏ ‏ما‏ ‏هو‏ “‏صورة‏” ‏إلى ‏اعتبار‏ ‏الصور‏ ‏المتاحة‏ ‏لتأليف‏ ‏الحلم‏ ‏ليست‏ “‏صورا‏”، ‏بل‏ ‏واقعا‏ ‏حيا‏: ‏كيانات‏ ‏متحركة‏ ‏مشحونة، نحن‏ ‏ننفى ‏بذلك‏ ‏أن‏ ‏الحلم‏ ‏لكى “‏يقول‏”، ‏أى ‏لكى ‏يتشكل/يتألف،‏ ‏فإنه‏ ‏يتحتم‏ ‏عليه‏ ‏أن‏ ‏يقلب‏ “‏الأفكار‏” ‏إلى “‏هلاوس‏”، ‏لتكون‏ ‏صورا‏، ‏ومن‏ ‏ثـم‏ ‏لا‏ ‏يصح‏ ‏أيضا‏ ‏أن‏ ‏نفعل‏ ‏نحن‏ ‏عكس‏ ‏الشئ ‏ونحن نتصور اننا نقوم  بتفسير‏ ‏الحلم‏، ‏أى:  ‏لا يصح أن‏ ‏نقلب‏ ‏الصور‏ ‏برمـتها‏ ‏إلى ‏أفكار‏ ‏ومفاهيم‏. هذا‏ ‏هو‏ ‏خطأ‏ ‏فرويد‏، ‏وابن‏ ‏سيرين‏ ‏معا‏ (‏كمثالين‏ ‏مختلفين‏). الصور‏ ‏كما‏ ‏تحضر‏ ‏فى ‏الحلم‏ ‏هى ‏كيانات‏ ‏قائمة‏، ‏هى ‏الأصل‏، ‏ويمكن‏ ‏التعامل‏ ‏معها‏ ‏بما‏ ‏هى ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏.‏

‏ ‏أسهمت‏ ‏الأبحاث‏ ‏الفسيولوجية‏ ‏الأحدث‏ ‏فى ‏تأكيد‏ ‏الطبيعة‏ ‏الأولية‏ ‏للصور‏ ‏المنشطة‏ ‏فى ‏الحلم‏ ‏حتى ‏أسمت‏ ‏النشاط‏ ‏الحالم‏ “‏نوم‏ ‏حركة‏ ‏العين‏ ‏السريعة‏” REM (‏نوم‏: ‏حرعس‏ = نوم الريم)، ‏الذى يعلن كيف‏ ‏أن‏ ‏العين‏ ‏تتحرك‏ أثناء هذا النشاط  ‏بسرعة‏ ‏فائقة‏، ‏كأنها‏ ‏تتابع‏ ‏حشدا‏ ‏‏من‏ ‏الصور‏ ‏المتحركة‏، ‏أمامها، ‏ولكن‏ ‏علينا‏ ‏ألا‏ ‏نتمادى ‏فى ‏الحماس‏ ‏لتأكيد‏ ‏حق‏ ‏الصورة‏ ‏فى ‏المثول‏ ‏تجسيدا‏ ‏عيانيا‏ ‏فى ‏الحلم‏، (‏وإن‏ ‏كان‏ ‏ذلك‏ ‏يرجحه‏ ‏منهج‏ ‏تسجيل‏ ‏الأحلام‏ ‏بالرسم‏) (*)

(*)- كان‏ ‏ليونج‏ ‏الفضل‏ ‏أساسا‏ ‏فى ‏محاولات‏ ‏رسم‏ ‏الحلم‏ ‏كخطوة‏ ‏من‏ ‏خطوات‏ ‏تفسيره

 ‏لأننا‏ ‏عادة‏ ‏نتكلم‏ ‏عن‏ ‏لغة‏ ‏الحلم‏ ‏المحكى، (‏وليس‏ ‏الحلم‏ ‏بالقوة‏). ‏الحلم‏ ‏المحكى بمجرد أن يُحكَى لا يعود‏ ‏صورا‏ ‏كله‏، ‏وعملية‏ ‏نقل‏ ‏الحلم‏ ‏من‏ ‏معاينة‏ ‏حركة‏ ‏كيانات‏ ‏على ‏مسرح‏، ‏إلى ‏قصة‏ ‏تُحكى ‏بألفاظ‏، ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏تقلب‏ ‏بعض‏ ‏الصور‏، ‏إلى ‏مفاهيم‏، ‏فتتداخل‏ ‏الصورة‏ “‏كما‏ ‏هى‏” ‏بالصورة‏ ‏”الرمز”‏. ‏إن هذا‏ ‏الخلط‏ ‏والتكثيف‏ ‏بين‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏صورة‏ ‏فعلية‏ ‏وما‏ ‏هو‏ “‏تعيين‏ ‏نشط‏”  ‏للمفهوم (*) هو‏ ‏من‏ ‏الأمور‏ ‏التى ‏تزيد‏ ‏من‏ ‏صعوبة‏ ‏فهم‏ ‏لغة‏ ‏الحلم‏.‏

(*)- التعيين النشط active concretization  هو ما قصد به سيلفانو أريتى أن اللغة المفهومية تنقلب إلى تجسيد عيانى فى صورة هلوسة صريحة، كأن يقلب مفهوم أن “الناس تأكل بعضها”، إلى تجسيد بصرى، مثلا: حين يقول مريض أنه رأى امرأة تلتهم ذراع امرأة أخرى تقف فى صف طابور الخبز، فهى الهلوسة البصرية. وفى السواء يعتبر فن النحت بالذات من أهم ما يقابل هذا التعيين النشط، حين يجسد الفنان معنى تجريديا مثل “الحرية”، أو “نهضة مصر” فى نحت مجسد.

 

[1] –  يحيى الرخاوى  كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع”[جدلية الحلم والشعر والجنون] المجلس الأعلى للثقافة الطبعة الأولى 2007- القاهرة، والكتاب يوجد فى الطبعة الورقية  بمكتبة الأنجلو المصرية، وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net 

[2] – Castaldo V. Shevrin H. (1968): Different Effects of an Auditory Stimulus as a Function of REM and NERM Sleep Psychophysiology 5: 219،‏ (After Hall J).

[3]- Secondary

[4]- Tertiary Processes

[5] – Arieti, S. (1976) Creativity. The Magic Synthesis. p12.-13, Basic Books, Inc. Publishers، New York,

[6]- Converging synthesis

[7]- Repatterning

[8] – A Guide to Psychology and its Practice  Copyright © 1997-2005 Raymond Lloyd Richmond, Ph.D. San Francisco, California USA

أورد هذا المرجع تعليقا شديد الأهمية عن قراءة جاك لاكان لقصة إدجار ألان بو “الرسلة المسروقة ” وهى من أهم إضافات جاك لاكان فى سيميناره، وهو توضيح ضرورة وضع المدلول فى حجمه المتواضع مقارنة بالدال، ومن أهم ما جاء فى هذا التعقيب مقتطف شارح يقول: نحن نرقص فى دائرة ونفترض ما يعن لنا، لكن السر يكمن فى وسطها وهو الذى يعرف.

We dance round in a ring and suppose, but the secret sits in the middle and knows.  Robert Frost

[9]- يحيى ‏الرخاوى ‏”الوحدة‏ ‏والتعدد‏ ‏فى ‏الكيان‏ ‏البشرى” ص‏ 19-33، عدد‏ ‏أكتوبر (1981) ‏مجلة الإنسان‏ ‏والتطور‏. ‏ ‏ ‏ ‏

[10]- (أنظر مقالة: يحيى الرخاوى  “صدمة بالكهرباء أم ضبط للإيقاع” – عدد أبريل 1982 – مجلة الإنسان والتطور).

[11]-  Concrete Poetry

admin-ajax (4)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *