نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 26-8-2015
السنة الثامنة
العدد: 2917
جدلية الاستبداد والاستضعاف (2 من 2)(1)
تجليات الاستبداد:
ومن واقع ما سبق، بدءًا من أصل المضمون (الانفراد والغلبة) وقبولا بمشروعية البدايات، وتحذيرا من التوقف والتمادى والتعميم، يمكن رصد فشرح عدد غير قليل من مجالات ومظاهر الاستبداد من أول درجة من إيجابياته النفسية فى تربية الأطفال حتى دوره السلبى فى تفرد شركات الدواء بزرع أفكار مطلقة شبه علمية فى عقول الأطباء (لاسيما صغارهم)، مرورا باستبداد بعض المناهج العلمية – دون سواها – لاحتكار تعريف ما هو علم، انتهاء باستبداد القوة العالمية الجديدة لاحتكار الحرية تحت اسم الديمقراطية (أو العولمة حديثا)، ثم احتكار الحضارة تحت اسم التقدم، واحتكار أمل الوجود البشرى فى التطور تحت مسميات مثل مجتمعات الوفرة والرفاهية.
الاستبداد فى الحب دعوة لجدل محتمل:
يقول عمر بن أبى ربيعة:
ليت هندًا أنجزتنا ما تعدْ وشفت أنفسنا مما تجد
واستبدت مرة واحدة إنما العاجز من لا يستبد
هل كان عمر بن أبى ربيعة يمزح أو يناور وهو يتمنى على هند أن تستبد به ولو مرة واحدة، أم أنه كان ينبهنا إلى عمق هذه الحاجة ومشروعيتها وهو يعلنها بلسان رجل خبير?
إننا نميل إلى تفخيم رجولة الرجل بإطراء خشونته أو التلميح بفحولته، فكيف نفهم أمنية عمر بن أبى ربيعة أن تستبد به هند وهو يعلنها صريحة هكذا? إننا- أيضا – نصوّر ونتصور أنوثة المرأة بشكل إن دل على شيء فهو يدل على طغيان المفهوم الاجتماعى (المحلي) على المفهوم البيولوجي/الوجودى للأنوثة، إن التركيز على تصوير أنوثة المرأة، من خلال البعد الاجتماعى المتخلف باعتبارها تمارس موقف المتلقى الناعم السلبى المستجيب بأقل قدر من المبادأة، هو موقف خاطئ ناقص. المرأة لا تتفجر أنوثتها الفطرية، إلا إذا احتوت ذكورتها فى تكامل خلاق.
ذكورة المرأة ليست استرجالا، بل هى تأكيد لأنوثتها، حتى من وجهة نظر هرمونية. إن اللقاء الأنجح والأكمل بين المرأة والرجل يكون لقاء رباعيا بين أربعة وليس اثنين، وذلك حين يسمح الرجل لأنثاه الداخلية أن تحضر لتحتوى ذكورة شريكته، فى حين تسمح المرأة لذكورتها الكامنة أن تخترق تردُّدَ شريكها. إن جاذبية المرأة الجسور، (المستبدة)، التى لا تنتقص من أنوثتها بل تُضاعفها، لا تخفى على المبدعين والمؤرخين عبر التاريخ. أشير استطرادا إلى مثالين من السينما: الغجرية: لندادارنيل في: فيلم “عنبر إلى الأبد” فى أواخر الأربعينيات أو أوائل الخمسينيات ثم فيلم (شباب امرأة)، وفيه تحية كاريوكا، تجسّد هذا الدور بكفاءة، ربما تتسق مع سمات شخصيتها بشكل أو بآخر. هكذا قدمت السينما للشخص العادى حضور المرأة المستبدة فائقة الأنوثة.
دورات التبادل:
لا يمكن أن نستوعب معنى الجدل دون مسخه، إلا ونحن نعايش حركيته مع الزمن وحيوية الإيقاع. إذا اعترفنا ابتداء – كما حاولنا فى البداية – أن علينا أن نعطى للاستبداد مشروعية مبدئية تمهيدا لتجاوز مضاعفاته، ثم أن نقر اعترفنا أيضًا بمشروعية مبدئية للاستضعاف على مسار تجاوز سلبياته، وهكذا نقبل دورات التبادل حيث يصبح المستضعف مشروع مستبد، فى حين يتراجع المستبد إلى مشروع مستضعف وهكذا. لعل هذا هو ما أشارت إليه الآية الكريمة: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا فى الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) ، كما لعل هذه الدورات أيضا تكمن فيما تلوّح به الديمقراطية من (تداول السلطة).
حتى الوالد الذى أشرنا إلى حاجة الطفل إلى استبداده، حين يعمّر ليصبح كهلا جميلاً، يصبح أحوج ما يكون إلى من يستبد به ليعينه.
وانطلاقا من هذا التبادل يتحفز الجدل وقد يتحقق مع استمرار الدوران.
الخلاصة:
أخلص من كل ذلك إلى تحديد الفروض التى حضرتنى من خلال هذه الإحاطة المتنوعة على الوجه التالى:
أولاً: إن كلا من الاستبداد والاستضعاف طبيعة بشرية عامة.
ثانيًا: إن ظهور، وقبول أى منهما يتوقف على المرحلة، التى تظهر الظاهرة فيها، ثم على توظيف أى منهما لغرض بذاته، فى طور بذاته، من أطوار الوجود والنماء.
ثالثا: إن الاستبداد (بالمعنى الذى ورد فى المقال كله) ضرورة مبدئية مرحلية، لكن التمادى فيه فعل شمولى جامد، يحقق عكس ما تعد به بداياته.
رابعاً: إن (الاستضعاف) حق مرحلى مشروع، لكن التوقف عنده هو ظلم المستضعف لنفسه، بل وللمستبد به، لأنه يوقف الحركة للاثنين معًا.
خامسًا: إنه بتبادل الأدوار، من خلال الإيقاع الحيوى للأفراد، ومن خلال تداول السلطة للجماعات، ومن خلال دورات الحضارة للأمم، بهذا التبادل تضطرد حركية جدلية تسمح باستيعاب هذه الحاجات الأساسية لتتخلق منها حيوية نابضة واعدة باطّراد التطور دون اختزال أو استقطاب.
[1] – نشرت فى مجلة العربى الكويتية، عدد أبريل-2004