الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / تواصل الإصرار والمثابرة

تواصل الإصرار والمثابرة

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 8-9-2018

السنة الثانية عشرة

العدد: 4025

تواصل الإصرار والمثابرة

مقدمة:

ابتداء من هذا الأسبوع، وبإصرار العناد والأمل: تم تنسيق ما ينشر فى هذه الأيام الثلاث (السبت/الأحد/الإثنين) على الوجه التالى:

يوم السبت: مقتطف من العينات العملية التى استلهمت منها والفروض التى تعتبر إرهاصات أو أساس هذا الفكر الدائم النمو والتطوير.

يوم الأحد: مقتطف من حالة إكلينيكية، أو إعادة نشر جلسة من جلسات “الإشراف على العلاج النفسى” سواء بالتعقيبات التى وردت عليها فى بريد الجمعة والرد عليها أو بدونها.

يوم الإثنين: مقتطف من أعمالى النقدية والإنشائية (الإبداعية) عامةً،

 كل ذلك مع إشارة دائمة للأصول التى تم الاقتطاف منها سواء وجدت فى الموقع أو فى مكان التوزيع الورقى لمن شاء أن يرجع إلى الأصل مكتملا.

*****

عن الصحة النفسية والمرض

وهذا بعض ما تعلمته من صديق مريض مبدع رائع

“حين‏ ‏تصبح‏ ‏الاهتزازة‏ ‏نبضة”  

“………………

…..كانت‏ ‏هذه التفرقة‏ ‏تشتد صعوبة ‏حين‏ ‏أقابل‏ ‏فنانا‏ ‏خالقا‏ ‏فى ‏أزمة‏ ‏عميقة‏ رائعة، ‏وأروح أبحث‏ ‏عن‏ ‏الحد‏ ‏الفاصل‏ لأحدد نوع مرضه فلا أستطيع، وبما أننى لست فى موقف امتحان لشهادة مزركشة، كنت أفضل ان أواصل مساعدته وعلاجه دون تشخيص‏، ‏وكان‏ ‏فضل‏ ‏الفنان التشكيلى‏ ‏المرحوم‏ ‏كمال‏ ‏خليفة‏ ‏علىّ ‏فضلا‏ ‏ما‏ ‏زال‏ ‏يهزنى ‏من‏ ‏الأعماق‏، ‏فقد‏ ‏صاحبته‏ ‏فى ‏أزمته‏ ‏عدة‏ ‏سنوات‏ ‏وتعلمتُ‏ ‏منه‏ ‏ما‏ ‏لم‏ ‏أتعلمه‏ ‏فى ‏كتاب‏ ‏أو‏ ‏من‏ ‏استاذ‏، ‏وتساءلت‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏شفى – ‏وقبل‏ ‏أن‏ ‏يشفى – ‏أين‏ ‏أضعه‏ ‏بين‏ ‏السواء ‏والمرض‏، ‏ولكنه‏ ‏هدانى ‏أثناء‏ ‏بعض‏ ‏مناقشاتنا‏ ‏إلى تعبير رائع الدلالة‏ ‏عن‏ ‏الشفاء‏ ‏حين قال‏ “إطمئن: فقد‏ ‏أصبحت‏ ‏الاهتزازة‏ ‏نبضة‏” ‏فعرفت‏ ‏أن‏ ‏الفرق‏ ‏بين‏ ‏السواء‏ ‏والمرض‏ ‏ليس‏ ‏فرق‏ ‏درجة‏ ‏أو‏ ‏تماثل‏ ‏مع‏ ‏الآخرين‏، ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏فرق‏ ‏فاعلية‏ ‏وقوة‏ ‏حياة‏، ‏فالنبضة‏ ‏مثل‏ ‏ضربة‏ ‏القلب‏ ‏تدفع‏ ‏الدم‏ ‏إلى ‏الشرايين‏ ‏وتحافظ‏ ‏على ‏الحياة‏، ‏أما الاهتزازة‏ ‏أو‏ ‏الرعشة فهى‏ ‏مثل‏ ‏تذبذب‏ ‏شعيرات‏ ‏عضلات‏ ‏القلب‏ Fibrillation  ‏فلا‏ ‏انقباض‏ ‏ولا‏ ‏دفع‏.

المقاييس التقليدية الثلاثة:

‏إلا‏ ‏أن‏ ‏ألفاظا‏ ‏مثل‏ “الحياة”‏، ‏و”الاطمئنان”‏، ‏و”العمل”‏، ‏و”السعادة”‏، ‏و”الرضا”‏، و”التكيف” وهى الألفاظ التى تتواتر لوصف ما هو صحة نفسية، ‏تحتاج‏ ‏إلى ‏توضيح‏ ‏وتحديد‏ ‏حتى ‏نستطيع‏ ‏فهم‏ ‏هذه‏ ‏المشكلة‏، فالشائع والمتفق عليه – مثلا- هو أنه ينبغى توافر ثلاث أبعاد بدرجة مناسبة حنى نحكم على شخص ما بأنه يتمتع بصحة نفسية طبيعية، وهذه الأبعاد الثلاث هى العمل، والرضا والتكيف، وهذا صحيح، ولكن ‏ ‏الناس‏ ‏تختلف‏ ‏كأفراد‏ ‏وكجماعات‏ ‏على ‏معنى العمل – مثلا –  بل ومعنى ‏الحياة‏، ‏وإذا‏ ‏قلنا‏ ‏أن‏ ‏العمل‏ ‏وحده‏ ‏لا‏ ‏يكفى ‏وإنما‏ ‏لابد‏ ‏من‏ ‏وجود‏ ‏الرضا‏ ‏والتكيف‏ ‏ ‏فان‏ ‏مجرما‏ ‏مثل‏ ‏الخط‏ “يرحمه الله”! ‏يتكيف‏ ‏مع‏ مَنْ ‏حوله‏ ‏من أتباع‏ ‏ومجرمين‏ ‏وحتى ‏مواطنين‏ ‏يدفعون‏ ‏الإتاوة‏، ‏وبذلك‏ ‏لا‏ ‏يوجد‏ ‏خلل‏ ‏فى ‏علاقته‏ ‏مع‏ ‏بيئته‏ ‏المباشرة‏، ‏وهو‏ ‏منتج‏ ‏فى ‏عمله‏ ‏يجنى ‏المال‏ ‏ويقتل‏ ‏الناس‏ ‏بفاعلية‏ ‏ناجحة‏، ‏ثم‏ ‏هو‏ ‏راض‏ ‏عن‏ ‏نفسه‏ ‏فخور‏ ‏بها‏، ‏فهل‏ ‏هذه‏ ‏هى ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏بالمقاييس‏ ‏السالفة‏ ‏الذكر؟‏ ‏وهل‏ ‏الأمثلة‏ ‏التى ‏أوردتها‏ ‏عن‏ “الفصام‏ ‏فى ‏الحياة‏ ‏العامة‏” مع ما فيها من أخطاء ومبالغة: ‏هى ‏من‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية؟

إذن‏ ‏فالأمر‏‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏تحديد‏ ‏أكثر‏:‏

وتزيد‏ ‏حيرتى ‏وتلاحقنى، ‏فمن‏ ‏المسرحيات‏ ‏القليلة‏ ‏التى ‏شاهدتها‏ ‏فى ‏باريس‏ 1969(‏وهى ‏عدد‏ ‏قليل‏ ‏لصعوبة‏ ‏اللغة‏ ‏أولا،‏ ‏ثم‏ ‏لضيق‏ ‏ذات‏ ‏اليد‏ ‏دائما‏) ‏كانت‏ ‏مسرحية‏ “لكلٍّ ‏حقيقته‏” Chacum Sa Verite، ‏وهى ‏مسرحية‏ ‏‏تأليف‏ ‏لويجى ‏بيراندللو‏ Luigi Pirandello ‏يختلط‏ ‏فيها‏ ‏الأمر‏ ‏على ‏المشاهد‏ ‏حين‏ ‏يتهم‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏شخص‏ ‏فى ‏المسرحية‏ ‏الآخر‏ ‏بالجنون‏، ‏فيخرج‏ ‏الزوج‏ ‏مثلا‏ وهو يبدو ‏فى ‏تمام‏ ‏الصحة‏ ‏يتكلم‏ ‏عن‏ ‏حماته‏ ‏وعما‏ ‏تفعله‏ ‏من‏ ‏تصرفات‏ ‏شاذة‏ ‏حتى ‏نقتنع‏ ‏بجنونها‏ ‏المطبق‏، ‏ثم‏ ‏يخرج‏ ‏لتدخل‏ ‏الحماة‏ ‏فى ‏كامل‏ ‏عقلها‏ ‏تتكلم‏ ‏عنه‏ ‏بدورها‏ ‏مشفقة‏ عليه وهى تخاطب ‏المشاهدين‏ ‏أنها‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏تسايره ‏اعتقاده‏ ‏فى ‏أنها‏ ‏هى ‏المجنونة‏، ‏وهكذا‏ ‏تتبدل‏ ‏الأحداث‏ ‏ونحن‏ ‏نحتار‏ ‏ولا‏ ‏نصل‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏إلى ‏الحقيقة‏، ‏أو‏ ‏يصل‏ ‏كل‏ ‏منا‏  ‏إلى ‏حقيقته (إذْ: لكلٍّ حقيقته، كما يقول عنوان المسرحية)، ‏ونخرج من كل ذلك بأن‏ ‏الحقيقة‏ ‏ليست‏ ‏مطلقة‏ ‏وأن حكم‏ ‏الناس عليها بأنها كذلك‏ ‏ليس‏ ‏إلا‏ ‏وجهة‏ ‏نظر‏.‏

وأجد‏ ‏فى ‏ممارستى ‏الخاصة‏ ‏أن‏ ‏الدافع‏ ‏للحضور‏ ‏إلى ‏استشارتى – ‏كطبيب‏ ‏نفسى – ‏ليس‏ بالضرورة ‏درجة‏ ‏المرض‏ ‏أو‏ ‏شدته‏ ‏وإنما‏ ‏عوامل‏ ‏أخرى ‏لا‏ ‏ترتبط‏ ‏ارتباطا‏ ‏مباشرا‏ ‏بدرجة‏ ‏المرض‏ ‏أو‏ ‏نوعه‏، ‏فكثيرا‏ ‏ما‏ ‏جاءتنى ‏إحدى ‏المستشيرات‏ ‏من‏ ‏بقايا‏ “الذوات‏” ‏تريد‏ ‏أن‏ ‏تتكلم‏ ‏بعض‏ ‏الوقت – وتتفرج علىّ بالمرة – لتتأكد من رأى‏ ‏صديقتها‏ “فلانة‏” ‏التى ‏أعالجها والتى أوصتها بالحضور إلىّ‏، ‏أو ربما تأتى‏ ‏طالبة‏ ‏تكف‏ ‏عن‏ ‏الاستذكار‏ ‏فيُحضرها‏ ‏أهلها‏ ‏اسوة ‏ببنت‏ ‏خالتها‏ التى حضرت إلىّ وحكت عنى، ‏وبذلك‏ ‏تتفرج‏ ‏على ‏الطبيب‏ ‏الذى ‏يعالج‏ ‏قريبتها‏….الخ

……………..”

 

[1] – من كتاب “حيرة طبيب نفسى” (1972) الذى تم تحديث بعضه فى كتاب (“مستويات الصحة النفسية” من مأزق الحيرة إلى ولادة الفكرة) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (2017)، والكتاب يوجد فى الطبعة الورقية  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net 

النشرة السابقة 1النشرة التالية 1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *