نشرة الإنسان والتطور
الخميس: 20-5-2021
السنة الرابعة عشر
العدد: 5010
تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) (1)
وهكذا نواصل نشر “الأصداء” مع “أصداء الأصداء”
بقلم: “يحيى الرخاوى” واحدة واحدة (21)
الفصل الأول: الطفل يرحب بالشيخوخة ويغازل الموت
الأصداء
21 – قطار المفاجأت
فى عيد الربيع يحلو اللهو ويطيب، وقفنا جماعة من التلاميذ فى بهو المحطة بالبنطلونات القصيرة، وبـيد كل سلة من القش الملون مملوءة بما قسم من طعام، وكان علينا أن نختار بين رحلتين وقطارين، قطار يذهب إلى القناطر الخيرية، وآخر يمضى إلى جهة مجهولة يسمى بقطار المفاجآت، قال أحدنا: القناطر جميلة ومضمونة
فقال آخر: المغامرة مع المجهول أمتع ولم نتفق على رأى واحد.
ذهبت كثرة إلى قطار القناطر، وقلة جرت وراء المجهول.
أصداء الأصداء
ليست عودة حادة – مثـلما كان يتحرك البندول فجأة- إلى دنيا الطفولة، فقد بدت الحكمة عادية لأول وهلة، فمن اختار الأضمن اختار الأضمن، وهم غالبية الناس الذين يتصورون أن اختياراتهم هى “المعابر الخيرية”، أو ” القناطر الخيرية” أو “المنازل الخيرية”، أما الذى يريد أن يعيش فهو لا يملك إلا مغامرة الإبداع بما تحمل من مفاجأة غير معروفة مسبقا.
ولكن لماذا جعلهما محفوظ اختيارين لا ثلاثة؟
لقد نشأنا من قديم والمطروح علينا فى الحواديت والحقيقة ثلاثة سكك : سكة السلامة (القناطر الخيرية هنا)، وسكة الندامة (وهى ما افتقدتها هنا) ثم سكة ”إللى يروح ما يرجعشي” (وهى الجرى وراء المجهول هنا”)، وكان الاختيار الأصعب يقع ما بين سكة الندامة، وسكة إللى يروح ما يرجعش، وكنا نتعجب كيف يمكن أن يختار الواحد (لاحظ: يختار) سكة يعلم أن نهايتها الندامة، المهم أن محفوظ هنا سهلها علينا، فحدد الاختيار بين الدعة والمغامرة.
هذا وقد ظللت عمرا لا أستطيع أن أعرف تحديدا ما هو الفرق بين سكة الندامة وسكة “إللى يروح ما يرجعش”، كانت الأولى عندى سيئة، وكانت الثانية مرعبة، لكن الرعب كان سوءا أيضا، و كان من البديهى أن الذى يذهب ولا يعود لا بد وأن يندم (أيضا) فما الفرق؟، لكن ممارستى لمهنتى، ومعايشتى لخبراتى بعد ذلك علمتنى أن التغيير النوعى الذى يخاطر به الكيان البشرى النامى (أو المتدهور) هو تغيير لارجعة فيه، بل إن ثمة نوعا من الإبداع لا يترك صاحبه كما كان قبله أبدا، فلا تقتصر فيه خبرة المبدع على نتاج عملية الإبداع بل إنه يعيد -بإبداعه- صياغة نفسه، وبالتالى فمتى خاض الإنسان مثل هذه التجارب فهو يذهب ولا يعود، وعرفت من خلال ذلك أن سكة إللى يروح ما يرجعشى ليست بالضرورة هى سكة الندامة، وفى العلاج المكثف حين يسألنى المريض متلهفا: “هل سأعود كما كنت؟ “أرد عليه أن: “أبدا”، نحن تورطنا فى طريق اللاعودة، فإما إلى أحسن أو إلى أسوأ.
فقرأت هذه الفقرة هكذا: طريق النمو الواعى والإبداع لا تسلكه إلا “قلة تجرى وراء المجهول”، وتعرض نفسها للهلاك، وهذا هو الثمن، وهو طريق يستأهل المخاطرة.
[1] – يحيى الرخاوى “أصداء الأصداء” تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) (الطبعة الأولى 2006 – المجلس الأعلى للثقافة)، و(الطبعة الثانية 2018 – منشورات جمعية الطب النفسى التطورى) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net