نشرة “الإنسان والتطور”
16-1-2011
السنة الرابعة
العدد: 1234
تعتعة
قراءة فى “ظاهرة تونس”
وصلنى اليوم من الشبكة العربية للعلوم النفسية رسالة من الإبن والزميل “وائل أبو هندى” أستاذ الطب النفسى بجامعة الزقازيق، رسالة تعقيبا على ما جرى فى تونس مؤخرا، وانتهى برحيل رئيس الجمهورية، وانتصار أصحاب المصلحة، الناس.
وعلى الرغم من أننى كنت قد توقفت فعلا عن المشاركة الملاحقة فى تحريك الوعى تحت اسم التعتعة، فقد وجدت فى الرد الذى رددت به على الزميل الكريم ما يشبه ما اعتدت عليه قبل أن أتوقف، ففكرت أن أقدمه لأصدقاء الموقع، منتهزا هذه الفرصة من خلال تساؤلك الذى يقول “هل بالإمكان فتح نقاش واسع لدراسة ما اسميه “ظاهرة تونس” التى بدأت حتما من تونس، لكنها ليست خاصة بهذا البلد العربي؟
منذ انطلاقة أحداث “سيدى بوزيد” بتونس، التى بدأت عفوية وبعيدة عن أى توظيف سياسى (أظنها ما تزال كذلك رغم محاولات كثيرين استغلالها)، وما تلاها من تداعيات متلاحقة بشكل متسارع، وجدنا أنفسنا أمام جيل جديد من أبنائنا: مثقف، متعلم، يحمل الشهادات العليا، ثائر لحرمانه من أبسط حقوقه: حقه فى العمل الشريف والحياة الكريمة، لا أكثرمن ذلك… وأنا اتساءل:
– ماذا علينا كأخصائيى العلوم النفسية من أطباء أساتذة عرب، فعله أو تقديمه لهؤلاء وأى دعم هم فى حاجة إليه.
– هل بالإمكان فتح نقاش واسع لدراسة ما اسميه “ظاهرة تونس” التى بدأت حتما من تونس، لكنها ليست خاصة بهذا البلد العربي.
أتمنى أن تمدونى بآراءكم
أ. د. وائل ابوهندى
Dr. Wa-il AbouHendy
Professor of Psychiatry Zagazig University
Head of Emergency and Disaster Psychiatry Unit
Arab Federation of Psychiatrists
****
الأستاذ الدكتور وائل أبو هندى
بعد السلام عليكم: صباح الخير
أشكرك يا وائل أن أتاحت لى هذه الفرصة من خلال تساؤلاتك السالفة الذكر، وإليك بعض رأيى:
1- أظن أنه من المستحسن ألا نعطى ما أسميته “ظاهرة تونس”، أكبر من حجمها، وألا ننسى احتمالات ما وراءها، ومَنْ وراءها، ربما وصلتك فى حدود ما صوَّرها الإعلام على أنها ثورة شباب مثقف يطالب بتحقيق ما يسمى “مستوى الضرورة“، “…. لحرمانه من أبسط حقوقه: فى العمل الشريف والحياة الكريمة”، ليكن!! ولتكن خطوة أولى نحو “مستوى الحرية” ولكننى أنبهك ألا نكتفى بذلك، ونحن يحضرنا المثل المصرى جاهزا: “دى مش دبانة، دى قلوب مليانة!!” وبالتالى: فأنا لا أوافقك على اعتبارها بعيدة عن السياسة المعلنة والخفية، وأشاركك فى احتمال استغلالها
2- كذلك أحذر من تصورك أن المسألة قد تخص الأخصائيين النفسيين (أطباء وغير أطباء) بشكل أكثر مما تخص أى مواطن من أى تخصص آخر، فأنا أصبحت شديد الحساسية ضد ما يسمى “علم النفس السياسى” و”الطب النفسى السياسى” برغم احترامى الشديد للاجتهادات فيه، ذلك لأن ما يجرى تحت الأرض مما يسّير العالم هو أقرب إلى مناورات المافيا، منه إلى ظاهر سلوك الناس، فعذرا، وليشترك كل من موقعه بما يمكنه، ولنحترم العامة أكثر فأكثر باستمرار
3- تمثل لى تونس “الخضراء” – يا وائل – وضعا خاصا، به جرعة شخصية أخجل أن أتمادى فى الحديث عنها، لكن من حق صاحب الفضل أن يُـذكر فضله فهو السبب فيها، ذلك أن أول من عرّفنى أن بعض فكرى يصل إلى بعض أهلى العرب كان شابا تونسيا اسمه “جمال التركى”، حين دعانى لزيارة تونس لبضعة أيام، (6-10 فبراير سنة 2002)، فكان ما كان من استقبال طيب، أحيا فينا معا آمالا ليست قليلة، أظن أنها كانت مسؤولة بشكل أو بآخر عن إنشاء الموقع الخاص بى، ثم عن كتابة نشرتى اليومية فيه “الإنسان والتطور”، بتشجيعه أيضا، وكان ذلك – وما زال – مرتبطا بذكريات طيبة غامضة، وحنين آسرـ لأسرة جميلة، وبيت أنيق، به زاوية للصلاة والذكر، فى بلدة آمنة برغم القهر والقمع: اسمها “صفاقس”، وظل ما فعله ويفعله “جمال” للغة العربية، والوطن العربى، والتخصص النفسى، فالناس، يمثل لى أمرا مهما جدا، لم يعد شخصيا، وأصبحت صورة هذا الشاب (مع أنه غالبا سوف يصبح جدا قريبا)، تحضرنى فى بؤرة وعيى، كلما سمعت لفظ “تونس”، حتى لو لم تلحقة صفة “الخضراء”، فقد كانت فى وجدانى دائما خضراء، سواء جاء هذا الذكر بمناسبة مباراة كرة قدم، أو نقد لممارسات قمعية، أم تذكرة بسحر سياحى خاص.
4- تابعت الأحداث الأخيرة فى تونس ولم أستقبلها كما فعلتَ أنت يا وائل، فبرغم من نهايتها المفرحة الراقصة، فقد تزامنتْ مع رقص آخر لجنوبيى السودان فى شوارع تل أبيب (الصورة)
5- تواكبتْ هذه الأحداث أيضا مع حادث كنيسة الإسكندرية البشع، وما تلاه من أحداث أبشع، مع أن ضحاياها كانت أقل، لكن دلالاتها وصلتنى أخطر.
6- ثم خذ عندك فشل الوساطة السعودية السورية فى لبنان والرعب من اندلاع الحرب…إلخ إلخ
وبعد
فى المرور الإكلينيكى الذى أدرتُه يوم الثلاثاء الماضى، وكان أول مرور بعد حادث كنيسة الإسكندرية، بدأته يا وائل بأن أعلنت مسئوليتى الشخصية عن هذا الحادث بشكل مباشر، وكأننى أنا الذى ارتكبته شخصيا، ثم حمّلت بناتى وأولادى (زملائى) فردا فردا مسئولية ما حدث وما سوف يحدث، حتى لا يكتفون بالأحضان وتصور التسامح ..أوالإنكار النعامى، إلخ، ثم إنى كررت ذلك فى الندوة العلمية التى عقدت أمس (الجمعة عن: فن الصمت فى المقابلة الإكلينكية) فى دار المقطم للصحة النفسية، هذه التوصية لا تـُنقص من الفرحة بل تحفز على تحمل مسئوليتها، إننى أقرأ الآية الكريمة “..ولا تفرحوا بما آتاكم” بهذا الشكل، فلا تنسى يا وائل أن ما تم فى تونس ليس إلا بارقة أمل علينا أن نتعهدها قبل أن نعتبرها “ظاهرة تونس”
أنا لا أعتقد يا وائل أنك فى حاجة إلى تذكّر قول جيفارا “ الثورة يصنعها الشرفاء، ويرثها ويستغلها الأوغاد“، وعندنا والحمد لله ما يكفى من أوغاد ليرثوا كل جهد الثوار، وليلوثوا كفاحهم فى كل بقاع العالم العربى، بل عبر العالم كافة،
“ظاهرة تونس” عندى تكتمل بمثل جهد هذا الشاب الذى اسمه “جمال التركى” فى إنشاء واستمرار هذه الشبكة النفسية العربية برغم كل شىء.
أرجوك أن تدعو معى أن يتحمل كل واحدة وواحدة منا على حدة، ثم معاً، كلٌّ فى مجاله، لقد شبعنا فتح باب النقاش وقفله، ولتتذكر كيف لم تتحمل أنت شخصيا النقد، وأهدرت الجهد الذى بذل فيه بسهولة فائقة، لمجرد لحرصك على نشر عملك الرائع عن الوسواس القهرى، وقد أجلت عتابك كل هذه السنين، ثم هأنذا أجد المناسبة لأذكرك أن مثل هذا التعلم من هذا الحدث الصغير، هو مرتبط بظاهرة تونس، وظاهرة جنوب السودان معا، ولتواصل يا وائل، نواصل معا، مع كل الناس دوام السعى والكدح، فالإبداع الحقيقى، مع كل الحذر من الاختزال أو التعميم أو الكسل أو التأجيل، فلى هناك سبيل آخر. هكذا تصبح ظاهرة تونس بوجهيها نافذة أمل حقيقية .
أعذرنى يا وائل، لم أعد أستطيع أن أقرأ حدثا منفردا عن ما يحدث عبر العالم، ولا أن أفصل الماضى عن الحاضر، ولا اللمم عن الحسيم، ولا الشخصى عن العام.
الطريق طويل، والرحلة شاقة، والعدو قذر ونذل وغادر، والضحايا أكبر بكثير من ضحايا كنيسة الإسكندرية أو مظاهرات تونس، والمجرمون الحقيقيون يسيّرون العالم سرا وعلينا، ويعلنون الحروب استباقيا، ويقتلون الأبرياء بغير محاكمة، ويستعملون الفيتو ليحموا به القتلة الرسميين، وغير الرسميين، ويقودون الإنسان عبر العالم إلى الانقراض من أجل حفنة أصوات انتخابية، تملؤ خزائنهم بما لا يحتاجونه
لتكن “ظاهرة تونس” ذات وجهين،
ولنتحمل مسئولية الوجهين معا، ليتكاملا،
ولنحذر أن يسرق الثورة الأوغاد كما فعلوا عبر التاريخ.
وسوف ننتصر
شكرا،
وعليك السلام
يحيى الرخاوى