الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / تعتعة الوفد ومازال نجيب محفوظ يعلمنا …هوه ده يخلّص من الله ؟!

تعتعة الوفد ومازال نجيب محفوظ يعلمنا …هوه ده يخلّص من الله ؟!

نشرة “الإنسان والتطور”

 8-1-2012

السنة الخامسة

 العدد:  1591

تعتعة الوفد

ومازال نجيب محفوظ يعلمنا

…هوه ده يخلّص من الله ؟!!

الذى يعرف من هو الشعب المصرى، جموع الشعب المصرى، لا بد أن يدرك – أمام الله عز وجل- أن هؤلاء ليسوا هم الشعب المصرى حصريا !!!  ليسوا  الذين ذهبوا إلى مجلس الوزراء، ولا حتى إلى ميدان التحرير، ولا العباسية، بل ولا إلى صناديق الانتخابات، ربما من الأفضل أن أستعمل تعبيرا أفضل يقول: ليسوا هؤلاء فقط ! الشعب عامة الشعب، ومن بينهم هؤلاء، ما زال يقف فى انتظار الفرج، وهو يتابع بوعى غامض كل من يتصدى للفتوى أو للحكم أو ليسوس الناس وهو يعد بما لا يملك، ثم هو لا يبين لنا سبيلا لصد من يخرِّب ما نملك.

رحت أراقب عجوزا مصرية طيبة وهى تشاهد صبية وناس وبلطجية وعسكر مجلس الوزراء، وهم يجرون، ويتصايحون، ويلعبون، ويصرخون ويقذفون الحجارة وقطع الخرسانة، ثم تتابع النار فى فزع بالغ، وهى تندلع فى قلب مصر وتاريخها، ثم الرصاص والدماء والسحل، فراحت  تحاول أن تخفى وجهها حتى لا يرى أحفادها الدموع وهى تنساب على خديها، ثم أغلقت التليفزين، واتجهت بعينيها إلى أعلى، وراحت تنظر إلى السماء بحب وعتاب وثقة معا وهى تقول: “ياربى!! دى مصر، دى مصر: يخلَّصَكْ كده”؟ لم أشعر أنها أخطأت، بل لعلها كانت تدعو ربنا أن يلحق مصر برحمته، وفى نفس الوقت تدعونا أنه بالرغم من كل هذا، علينا أن نستمر ونتعلم، ونصحح، ونحن نحمل الأمانة مهما ثقلت، فلا رجعة، ولا ندم،  بل تعلم ونقد، ومحاولة وخطأ، حتى تصل مصر إلى ما تستأهله من رب العالمين عن طريق جهد أبنائها وشجاعتهم ووعيهم، ورحمته تعالى.

ولم لا؟ ثم إنى وجدت كلماتها ترجعنى مرغما إلى عنوان هذا المقال، وأنا أعرف اختلاف السياق والمقام، ولكن ماذا أفعل؟

“هوه ده يخلص من الله”!!!

 هو قول سائر قبل ان يكون أغنية، يقوله العامة بعشم شديد فى ربنا أن يتفضل علينا فيرحمنا من امتحان أكبر من قدراتنا، نحن – العامة –  لا ننحى باللائمة بهذا العتاب على ربنا عز وجلّ، وإنما نطمع فى كرمه ربما  أكثر مما نستحق.

بحب شديد التقط  أحمد رامى هذا القول الشائع، وصاغ منه تلك الأغنية الشديدة الرقة، لتتغنى بها أم كلثوم بلحن زكريا أحمد سنة 1931 إحدى أجمل أغانيها القديمة، روح يا زمان تعالى يا زمان تحضر الأغنية فى أحلام فترة النقاهة لمحفوظ، إذ تظهر فى  الحلم رقم “53” فى صورة تشكيلية من أجمل  صور إبداع محفوظ تكثيفا وصدْما، ولكن الذى كان يغنيها فى هذا الحلم هو الشيخ زكريا أحمد، كان يغنيها وهو مضطجع على أريكة محتضنا عوده، فيتجرأ العبد لله كاتب هذه السطور ناقدا، ليكتب نصا على نص، من موقع أن الشعر لا ينقد إلا شعرا، فقد تعاملت ناقدا مع هذه الأحلام بمنهجين، واستعنت فى نقدى لأغلبها (آخر 150 حلما تقريبا) بما وصلت إليه من مبدأ أن “الشعر لا ينقد إلا شعرا”.

وصلنى ذلك المبدأ النقدى منذ ملأنى الإعجاب بقصيدة القوس العذراء التى شكلها شيخى الأول عبقرى الفصحى وحارسها المرحوم محمود محمد شاكر، على قصيدة الشماخ بن ضرار الذى كان فيها يخاطب قوسا قطعها وقوّمها وسواها وأحبها وظلت رفيقة دربه وعمره، ثم وافى الشماخ موسم الحج فاضطر لبيعها فباعها، كنت فى الخامسة عشرة حين أهدانيها شيخى الأول محمود شاكر، ومنذ ذلك الحين، وأنا أعزف عن نقد الشعر بعد محاولات فاشلة، بل وأكاد أرفضه، حتى وصلت إلى هذه النتيجة التى تقول:  “الشعر لا يترجم أصلا، وهو أيضا لا ينقد  إلا شعرا”، لا أريد التعميم، لست متأكدا

المهم اتبعتُ فى نقدى للخمسين حلم الأولى من أحلام فترة النقاهة لمحفوظ منهج قراءة النص تفسيرا وتأويلا حتى خفت أن أسُتدرج إلى التعسف وأنا أبحث عن الرموز، وأقلب فى المعانى، ثم غيرت المنهج كلية حين انتبهت أن هذه الأحلام وبعض الأصداء، وكثير من ملحمة الحرافيش ليست إلا شعرا خالصا، فجربت أن أنقدها بحسب نفس القاعدة، فأنطلق منها إلا ما استلهمتُه من قصائدها الشديدة الإيجاز، وأكملت قراءة الأحلام – كما قلت – نقدا  بما يشبه التقاسيم على اللحن الأساسى (وقد جُمع جميع النقد بمنهجيه فى كتاب صدر عن دار الشروق مؤخرا).

 لكن دعونا نقرأ النص، ثم النقد، ثم نرى:

****

النص (المتن)

(حلم “53” – 2005)

سألت‏ ‏عن‏ ‏صديقى ‏فقيل‏ ‏لى ‏إن‏ ‏الموسيقار‏ ‏الشيخ‏ ‏زكريا‏ ‏أحمد  ‏يسهر‏ ‏فى ‏بيته‏ ‏كل‏ ‏ليلة‏ ‏شاديا‏ ‏بألحانه‏ ‏حتى ‏مطلع‏ ‏الفجر‏ ‏فقلت‏ ‏يا‏ ‏بخته‏ ‏ودعيت‏ ‏لحضور‏ ‏سهرة‏ ‏فذهبت‏ ‏إلى ‏الحجرة‏ ‏الواسعة‏ ‏المزخرفة‏ ‏جدرانها‏ ‏بالأرابيسك‏ .. ‏ورأيت‏ ‏الشيخ‏ ‏زكريا‏ ‏جالسا‏ ‏على ‏أريكة‏ ‏محتضنا‏ ‏عوده‏ ‏وهو‏ ‏يغنى ‘‏هوه‏ ‏ده‏ ‏يخلص‏ ‏من‏ ‏الله‏’ ‏وفى ‏حلقة‏ ‏جلست‏ ‏الأسرة‏ ‏نساء‏ ‏وأطفالا‏ ‏وبينها‏ ‏رجل‏ ‏معلق‏ ‏من‏ ‏قدميه‏ ‏وتحت‏ ‏رأسه‏ ‏على ‏مبعدة‏ ‏ذراع‏ ‏طست‏ ‏ملئ‏ ‏بمية‏ ‏النار‏.‏

‏ ‏وضاعف‏ ‏من‏ ‏ذهولى ‏أن‏ ‏الجميع‏ ‏كانوا‏ ‏يتابعون‏ ‏الغناء‏ ‏دون‏ ‏أدنى ‏التفات‏ ‏إلى ‏الرجل‏ ‏المعذب‏.‏

****

التقاسيم (نصَُ على نص: بتاريخ 8-5-2008):

… قالت المرأة المنتقبة للرجل الأملس، إن هذا هو آخر ما كنت أتصوره من الشيخ زكريا بالذات، ردّ الرجل بصوت عالٍ مع أنه كان يتلفت: ما عليك، المهم هو ما سيكون بيننا بعد السهرة، فقالت هامسة: إخفض صوتك.

وصاح طفل من المتحلقين حول الرجل المعلّق صياحا غامضا كأنه يطلب ماء أو أماناً، فزع الجميع لأن صياحه أخذ يتصاعد حتى بدا كعواء ذئب جائع، بل مسعور، وتحرك العطش فى الجميع دون استثناء.

 نبه الشيخ سيد درويش  أنه “ما هكذا يكون الغناء”،  سأله محمد عبد الوهاب: إذن كيف يكون؟

قال السيد أحمد عبد الجواد: يا جماعة دعونا نستمع الله يخليكم، هل هذا وقته؟

ويلاحظ الجميع، أن الرجل المعلق مازالت تدب فيه الحياة جدا. ويسأل جار جاره: ألا يشبه وجهه وجه “أحمد عاكف”، فيرد: لست متأكدا، لكن صوت سعاله يشبهه.

ثم خطف الأطفال طست ماء النار وجروا به وهو يترجرجر بين أيديهم إلى خارج الدار فرحين مهللين، فولولت النسوة وهرولت إحداهن  وراء الأطفال، فاصطدمت بالرجل المعلق الذى ابتسم وغمز بعينه اليسرى برغم رعبه وألمه، فزغردت بقية النسوة ورحن يتراقصن وهن يصنعن كورسا مع المحيطين بالشيخ، مرددين من جديد:

 “هوا دا يخلص من الله”.

****

 تحديث: (يناير2012):

نرجع مرجوعنا إلى دموع العجوز فى أول المقال وعشمها فى ربنا ووعوده لمصر، وأملنا فى رحمته، ثم رقة أحمد رامى وذوبانه حبا وشعرا فى قصيدته الجميلة التى ورد بها هذا الشطر “هوه ده يخلص من الله”، ثم كيف ظهرت فى إبداع محفوظ  للحلم 53 ثم كيف انطلقت منها تقاسيمى نقداً ليواكب هذا وذاك ما يجرى حولنا الآن.

جمعت حدس النص إلى حدس النقد وعدت إلى كلمات الأغنية، ونسيت أم كلثوم، ونسيت أحمد رامى، بل والشيخ زكريا (الذى كان شيخى محفوظ يصف ألحانه أن لها نكهة “التقلية” المصرية) فانتهبت إلى حدس محفوظ الباكر، وهو يخرج بالأغنية من عذابات رامى وعبقرية أم كلثوم وتقلية الشيخ زكريا، فيشكل لنا هذه الصورة الاستباقية التى تكاد تصف ما يجرى بنا وحولنا الآن بهذا الحدس الفائق، فيلهمنى نقدا يكمل ما يجرى الآن أيضا: يقول شطر من الأغنية حد يحرق بس داره؟ اوعى تجنيها بايديك”، ولا أكمل حتى لا يسمعنى المجلس العسكرى، ويتصور أننى أريد منه أن يخاطب هؤلاء الأطفال الذين جروا بطست ماء النار، وحرقوا دارهم/دارنا، يخاطبهم بهذه اللهجة التى جاءت فى نهاية الأغنية، لأنها أبعد ما تكون عن المقام.(حوش حلاوتك من شقاوتك واتهدى وخليك لطيف)، لا يا عم، يفتح الله، ما هكذا تساس الأمور؟!!

وأرجع أستنقذ بتفاؤلى العنيد الذى وصفته ذات مرة بأنه مرض مستعص.

وأنظر إلى السماء، وأدعو الله أن ينقذ الأمة،

ويزيل الغمة،

لتتواصل المسيرة،

ونحن وشطارتنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *