الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / تعتعة الوفد: مستشفى العباسية: وييبقى الجنون داخلنا نرعاه ونتعلم منه!

تعتعة الوفد: مستشفى العباسية: وييبقى الجنون داخلنا نرعاه ونتعلم منه!

نشرة “الإنسان والتطور”

1-1-2011

السنة الرابعة

العدد: 1219

 

تعتعة الوفد

تمهيد

يبدو أن المقالات (التعتعات) السياسية والمتصلة بآلام وإشكالات وتحديات الواقع الراهن تتراجع من الموقع رغما عنى، وأتذكر أن ذلك كان مطلبا لبعض الأصدقاء فى وقت ما، مثل د. محمد أحمد الرخاوى، وربما د. أميمة رفعت (لا أذكر تحديدا)، المهم توقفت تعتعة الدستور بعد أن مات الدستور، ثم تكرر حجب مقال (تعتعة) الوفد، فقررت من ناحيتى التوقف عن الكتابة فيه حتى يعودوا إلى الطلب بعد التوضيح.

تعتعة اليوم كتبتها للوفد مشاركة منى فى حملة رفض هدم مستشفى العباسية لحاجة فى نفس أصحاب الغرض، وكنت حريصا على نشرها فى وقت مناسب قبل تراجع (او توضيح) وزير الصحة وقبل قرار لجنة الحفاظ على الآثار وقبل توجيهات الرئيس، وقد تعمدت أن أنبه إلى معركتنا السابقة سنة 1993/1994 حول نفس الموضوع وأننا اتبعنا حينذاك مثل نفس الأسلوب الذى انتهجته فى هذا المقال للالتفاف حول القرار ليبدو التراجع كأنه جاء من أهل من يملك حق التراجع، لكن الوفد – لسبب لا أعرفه – فوّت علىّ هذه الفرصة فقلت أنشر المقال اليوم فى موقعى المتواضع، خاصة وقد بلغتنى شائعة أننى كنت مع هدم مستشفى العباسية – رأيت كيف-؟!! سبحان الله!

ومازال عندى تحفظ أن يكون سبب العدول عن الهدم هو المحافظة على الآثار!!! وليس على الإنسان، أو تنفيذ التوجيهات العليا وليس احترام الجنون داخلنا والمجنون وسطنا، وفى بؤرة وعينا.

وسوف أعود لتفصيل ذلك قريبا.

مستشفى العباسية: وييبقى الجنون داخلنا نرعاه ونتعلم منه!

 لماذا نخاف أن نرى الجنون داخلنا؟ لماذا نخاف أن نرى المجنون وسطنا؟ لماذا نسمى الجنون اسما غير هذا الاسم الرائع “الجنون” ؟ لماذا نختبئ من الحقيقة، ونغمض أعيننا عن ما نكتمل به؟ حين كتب أفلاطون جمهوريته لم ينتبه الكثيرون إلى أنه كان يتحدث عن النفس الإنسانية، وأنه لجأ إلى هذا “التكبير” برسمها دولة وجمهورية لتوضيح العلاقة بين مكونات النفس البشرية أساسا فاختزلها الناس وكثير من الباحثين والنقاد، إلى جمهورية وطبقات…الخ، أفلاطون فى جمهوريته يشبه أجزاء الدولة بأجزاء الإنسان… الدولة تنقسم إلى: طبقة الحكام ، طبقة الجيش، طبقة الصناع والعمال ويقسم الانسان إلى: الرأس وفيه العقل، وفضيلته هى الحكمة، والقلب، وفيه العاطفة…الخ إذن فهذه الجمهورية المزعومة ليست إلا النفس البشرية، أساساً وابتداءً.

روح يا زمان تعالى يا زمان أعدت اكتشاف هذه الحقيقة البدئية وأنا أقدم أطروحاتى الواحدة تلو الأخرى عن العقل والجنون والحكمة والناس والسياسة، وكان آخرها “الجنون فى رحاب العقل”: نشر فى موقعى www.rakhawy.org10/11/2010

فى سياق هذا التوجه كتبت سنة 1993 حين هموا بنقل مستشفى العباسية آنذاك، إلى مدينة بدر أيضا، كتبت، فى الأهرام مقالا بعنوان “المبنى والمعنى”، وكان المرحوم أ.د. على عبد الفتاح وزيرا للصحة، وقامت حملة طيبة مثابرة من كل الأطباء والعقلاء والمبدعين المجانين لتوضيح المسألة ، وطرحوا ما خطر لهم من شكوك حول حقيقة أسباب النقل لاستغلال هذه الأرض بواسطة بعض رجال الأعمال لكذا وكيت، وانتهت الحملة بفضل يقظة الدولة، وتفهم وزير الصحة لما طرح من أفكار بديلة، وكانت الديمقراطية أيامها تتحسس طريقها بشكل أفضل، وفرحنا، ليس فقط بكسب المعركة، ولكن بأن المسئولين أحسنوا الاستماع، وصَدَقوا فى الاستجابة، ثم كتبت مقالات تاليا فى الأهرام أيضا بعنوان “احترام الجنون.. وواجب الجامعات” بتاريخ 28/9/1994، شاكرا، مضيفا: قلت فيه بالحرف الواحد: “….. (هاهى) ‏‏مستشفى ‏العباسية‏ ‏ما‏ ‏زالت‏ ‏قائمة‏ ‏فى ‏مكانها‏ ‏شامخة‏ ‏تعلن‏ ‏عراقة‏ ‏التاريخ‏ ‏وشجاعة‏ ‏الواقع‏، ‏وقد‏ ‏قــسمت‏ ‏إلى ‏ست‏ ‏مستشفيات‏، ‏وأعيد‏ ‏تنظيم‏ ‏إدارتها‏ ‏فأصبح‏ ‏لها‏ ‏ست‏ ‏مدراء‏، ‏ومدير‏ ‏عام‏ ‏….، ‏كما‏ ‏أصبحت‏ ‏تدار‏ ‏بقدر‏ ‏مناسب‏ ‏من‏ ‏اللامركزية‏، ‏ثم‏ ‏هذه‏ ‏هى ‏أرضها‏ ‏لم‏ ‏تبع، ‏ولم‏ ‏تكن‏ ‏مجالا‏ ‏للمساومة‏ ‏أو‏ ‏الاتجار‏ ‏كما‏ ‏زعمنا‏- ‏أو‏ ‏كما‏ ‏خشينا‏- ‏نحن‏ ‏الناقدين، ‏أو‏ ا‏لخائفين‏ ‏الحريصين‏، ‏بل‏ ‏تحلت‏ ‏واجهتها‏ ‏بحديقة‏ ‏من‏ ‏أجمل‏ ‏الحدائق‏، ‏حديقة‏ ‏لا‏ ‏تحقق‏ ‏المثل‏ ‏القائل‏ “من‏ ‏برة‏ ‏هلا‏ ‏هلا، ‏ومن‏ ‏جوة‏ ‏يعلم‏ ‏الله‏’، ‏لأن‏ ‏الذى ‏يجرى ‏بالداخل، ‏رغم‏ ‏تواضعه‏ ‏وأنه‏ ‏مجرد‏ ‏بدايات‏، ‏هو‏ ‏أعظم‏ ‏وأعمق‏ ‏مما‏ ‏حدث‏ ‏فى ‏الحديقة‏.‏..إلخ”،

كما حملت فى هذا المقال مسئولية الاستمرار فى التطوير والتعديل ليس فقط على وزارة الصحة بل أيضا على أقسام الطب النفسى بالجامعات حيث قلت بالحرف الواحد (خل بالك : مازلنا سنة 1994)

“فمن‏ ‏الناحية‏ ‏العلمية‏ ‏بدأ‏ ‏النشاط‏ ‏العلمى ‏المنتظم‏، ‏كما‏ ‏تم‏ ‏التخطيط‏ ‏للتآخى ‏مع‏ ‏الجامعات‏ (‏القاهرة‏ ‏وعين‏ ‏شمس‏ ‏والأزهر‏ ‏وقناة‏ ‏السويس‏)، ‏‏وكذلك‏ ‏تم‏ ‏الاتفاق‏ ‏مع‏ ‏الكلية‏ ‏الملكية‏ ‏البريطانية‏ ‏للطب‏ ‏النفسى ‏للتعاون‏ ‏فى ‏التدريب‏ ‏وتبادل‏ ‏الزيارات‏، ‏كما‏ ‏يجرى ‏التحديث‏ ‏والتطوير‏ ‏بخطى ‏عملاقة‏، كل‏ ‏ذلك‏ ‏تم‏ ‏بفضل‏- ‏وليس‏ ‏بالرغم‏ ‏من‏ – ‏الأستاذ‏ ‏الدكتور‏ ‏وزير‏ ‏الصحة‏ ‏ومعاونوه‏ ‏الكرام

…..إلى أن قلت “

“… إلا‏ ‏أن‏ ‏مجرد‏ ‏الاعتراف‏ ‏بهذه‏ ‏الإيجابيات‏ ‏لا‏ ‏يكفى ، ‏فخليق‏ ‏بنا‏ ‏جميعا‏، (‏وعلى ‏وجه‏ ‏الخصوص‏ ‏خليق‏ ‏بمن‏ ‏انتقد‏ ‏وهاجم‏ ‏وصرح‏ ‏وألمح، ‏وشكَّك‏ ‏وتوجس‏)، ‏خليق‏ ‏بنا‏ ‏جميعا‏ ‏أن‏ ‏نسارع‏ ‏بالإسهام‏ ‏فيما‏ ‏يجري‏: ‏ليس‏ ‏فقط‏ ‏بالاعتراف‏ ‏والشكر‏، ‏وإنما‏ ‏بالمشاركة‏ ‏فى ‏الجهد‏ ‏والفعل..، فبالرغم‏ ‏‏ ‏مما‏ ‏تنظم‏ ‏وتتابع‏ ‏وزيد‏ ‏وتحسن‏، ‏بالرغم‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏كله‏ ‏فإن‏ ‏الإمكانيات‏ ‏البشرية‏ ‏المحدودة‏ ‏التى ‏تقوم‏ ‏على ‏خدمة‏ ‏المرضى ‏يستحيل‏ ‏عليها‏ ‏أن‏ ‏تستمر‏ ‏تعمل‏ ‏فوق‏ ‏طاقتها‏ ‏هكذا‏ ‏لمدة‏ ‏طويلة‏ ‏بأى ‏قدر‏ ‏من‏ ‏الكفاءة‏ ‏المطلوبة‏، ‏وما‏ ‏لم‏ ‏تتضاعف‏ ‏الإمكانيات‏ ‏أضعافا‏ ‏كثيرة‏، ‏وما‏ ‏لم‏ ‏نقدر‏ ‏العاملين‏ ‏ونجزيهم‏ ‏على ‏ما‏ ‏فعلوا‏ ‏ويفعلون‏، ‏فسوف‏ ‏ينتهى ‏كل‏ ‏شيء‏ ‏إلى ‏زوال‏ ‏أو‏ ‏انهيار‏ ‏لا‏ ‏قدر‏ ‏الله، ‏نعم‏: ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏مناسبا‏ ‏أن‏ ‏نكتفى ‏بالنقد‏ ‏والتربص‏، ‏أو‏ ‏حتى ‏بالنصح‏ ‏والإرشاد‏، ‏دون‏ ‏إسهام‏ ‏فعلى ‏أو‏ ‏عون‏ ‏عينى ‏جوهري‏، ‏وما‏ ‏لم‏ ‏نفعل‏ ‏ونبادر‏ ‏ونتعاون‏ ‏ونتحمل (من الجامعات خاصة)‏ ‏فإن‏ ‏الحماس‏ ‏سيهمد‏، ‏والإجهاد‏ ‏سوف‏ ‏يتصاعد‏، ‏حتى ‏الإنهاك‏ ‏فيجهض‏ ‏الخير..الخ.

حتى جاء معالى الأستاذ الدكتور حاتم الجبيلى فحقق كل ذلك وزيادة، واستعان برجال الجامعة، بل وببعض الثقاة من القطاع الخاص دون تردد، وأصبحت أحلام 1994 هى حقائق 2010.

خلاصة القول:

من واقع الخبرة السابقة، وثقة فى المسئولين حالا، فإننى أرجح أنها مجرد إشاعة، وأن امتناع وزارة الصحة عن نفيها أو تأييدها ليس دليلا على موافقتها، فهى سوف تستجيب للحق كما استجاب المسئولون من قبل، ولا أظن أن نكسة الديمقراطية قد أصابت وزارة الصحة الأقرب إلى آلام الناس، وحقوق المرضى، وفهم الأطباء.

قبل أن أختم أملى المتفائل جدا ثقة فى الوزير ورجاله أوجز الأفكار القديمة التى جاءت فى المقالين السابقين منذ حوالى عشرين عاما، فبالإضافة إلى الحجج العملية التى يطرحها زملائى الآن وعلى رأسهم الأخ القائد أ.د. أحمد عكاشة عن عدد المرضى، وضرورة قربهم من مسكنهم، ورفض عزلهم، وحقوق المريض النفسى، وكلها إنذارات واجبة أولا، أقول: بالإضافة إلى كل ذلك فإنى كنت قد  بينت وجهة نظر سيكوباثولوجية فى المقالين السابق الإشارة إليهما فى محاولة توضيح: “معنى وجود الجنون داخلنا، وما يقابله من وجود المجانين بيننا “على مرمى من بؤرة وعينا” ومن ذلك:

أولا: إن وجود مستشفى للأمراض العقلية وسط المدينة Down Town هو من أرقى علامات تحضّر دولة ما، (وقد استشهدت بمستشفى ” سانت آن” التى عملت بها لمدة عام فى باريس 1968/1969 وهى تقع  فى الدوران الثالث عشر، فى مقابل المركز الدولى لاستقبال زوار باريس وضيوفها FIAP، وهو دوران يقع فى “سرة” باريس فعلا

ثانيا: إن وجود من يسمون المجانين وسطنا، فى قرة عيوننا، وفى متناول وعينا اليومى، هو دليل عملى على مدى احترامنا لهذه الخبرة الشديدة الثراء، برغم أنها محنة شديدة الابتلاء .

ثالثا: إن اعترافنا بأن “حالة الجنون” (وهى هى حالة الحلم فى الشخص العادى) هى حالة دورية يمر بها كل واحد منا كل ليلة ربع ساعات نومه، هو الانطلاق العلمى السليم نحو فهم الجنون كأحد دورات الإيقاع الحيوى لكل منا، مما يمكننا من احتوائه ونحن نحترمه.

خاتمة شعرية:

ثم أختم مقالى الآن بمقتطف من بداية كتابى الأم “دراسة فى علم السيكوباثولوجى”

هل يعرف أحدكمو ما يحمل داخله من “جنّه”

هل يقدر أىٌّ منكم أن يمضى وحده لا يذهب عقله

هل يعرف كيف يصارع قهر الناس، والحب الغامر يملؤ قلبه …إلخ

ثم بالتأكيد من شعرى بالعامية على أن المجنون هو استاذى الأول فعلا، فكيف أبعد أستاذا له كل هذا الفصل، قلت:

المريض‏ ‏خلاّنى ‏أتـْلـَمـْلمْ‏ ‏وافَـكـَّـرْ‏.‏

المريض‏ ‏عـَدِّلـِّى ‏مـُخـِّى،‏

نضَّفُهْ‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏واغشْ‏، ‏كانوا‏ ‏فارضينُهْ‏ ‏عليهْ‏.‏

من‏  ‏ملاعيب‏ ‏اللى ‏بايع‏ ‏ذمته‏ ‏بـْمعَـَرفـِشى ‏إيـِهْ‏.‏

……. (الخ)

وأخيراً:

فإننى على يقين من أن معالى وزير الصحة حاتم الجبيلى لا يحتاج إلى وقفة احتجاجية، ولا إلى قضية دولية، لأنه يقينا، بما فعل ويفعل، ليس أقل من سلفه وعيا بكل هذه الحقائق، وليس أيضا أقل حرصا على المرضى والأطباء ، وليس أقل إدراكا للمعنى الحضارى، والإنسانى، والوقائى لبقاء الجنون داخلنا، نرعاه وننموه به، أعنى لبقاء مجانينا بالقرب منا نعالجهم ونتعلم منهم كل شىء، نعم كل شىء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *