الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / تعتعة الوفد “سلامة”: إذهب يا رجل بالسلامه، ولا تحمِلْ هـمّـنا، سنفعلها..!!!

تعتعة الوفد “سلامة”: إذهب يا رجل بالسلامه، ولا تحمِلْ هـمّـنا، سنفعلها..!!!

نشرة “الإنسان والتطور”

22-7-2012

السنة الخامسة

 العدد: 1787  

تعتعة الوفد

“سلامة”: إذهب يا رجل بالسلامه، ولا تحمِلْ هـمّـنا، سنفعلها..!!!

…. كنت أعرف من الإبن والصديق أيمن الصياد أنه تخلى عن رئاسة “وجهات نظر” لأسباب صحية، ولم أسأل عن التفاصيل ودعوت له، وحين واصل الكتابة فى الأهرام، فرحت، لأنه أبقى لى على علاقة سريه بينى وبين الأهرام أحافظ عليها بالكاد، لم أعرف تفاصيل ظروف رحيله الأخير إلا أنه كان مفاجأة ربما هادئة، وهذا لا يتفق مع تصورى للمرض الأصلى الذى حال دون استمراره فى رئاسة تحرير وجهات نظر.

ومع ذلك فبمجرد أن قرأت النبأ، قلت “لا”، “ليس الآن”، أنا لا أعترض على قضاء الله، لكنى – من عمق معين- أرفض أن يحرمنى هذا المنقض من الظلام ممن أحب، حين رحل نجيب محفوظ اختيارا، وقد وصلنى قراره قبلها بأسابيع دون أن ينطقه، كتبت عنه راثيا محتجا  معاتبا قائلا: “لمَ قلتـَها شيخى “كفى”؟!….، كان قد بلغنى منه فى الأيام الأخيرة، دون أن ينطقها، أنه ” شبع منها، مع دوام حبه لها”، وأنه أحب لقاءه وهو على يقين أنه ناداه للقائه، وحين تذكرت كل ذلك فى نهاية قصيدة رثائه، أنهيتها قائلا :  ” شيخى الجليل: ما دمتَ أنتَ فَعَلتْهاَ، فانعم بها، واشفعْ لنا، أن نَحمل العهدَ الذى أوْدَعْتنَاَ. شيخى الجليل: نمْ مطمئنا، وارجع إليه مُبْدعاً، عبر البشر، وادخل إليها راضيا، أهلا ً لهاَ.”

لم تغمرنى مشاعر مماثلة حين بلغنى نبأ رحيل هذا المصرى النبيل سلامة أحمد سلامة، أنا لم أره – شخصيا- إلا مرة واحدة، لكننى تعلمت من العلاج الجمعى أن “نظرة واحدة قد تكفى” ، المسألة ليست طن من الكلمات، وإنما هى لمسة بين وعى ووعى، أكاد أتذكر أنها كانت أثناء مناقشة رسالة دكتوراة أ.د. ممدوحة سلامة، لكن دعونى أعترف أن كل من عرفته ممن له علاقة به : تلميذا أو قريبا أو زميلا له، من أول أ.د. ممدوح سلامة ذلك الجراح المبدع الحكيم العظيم حتى الإبن أيمن الصياد، ذى العقل الناقد والذكاء اللامع  كان يُحضره معه فى خلفية وعيى.

فجأة – أيضا-، حضرتنى ذكرى أخرى لا أعرف ما علاقتها برحيل هذا المصرى الجميل بالذات، كان ذلك سنة 1948، وكنت فى سنة رابعة ثانوى (ما يقابل ثانية ثانوى الآن) حين قرأت خبر وفاة رئيس تحرير الأهرام انطون الجميل وأنه أغفى مستأذنا على مكتبه، ثم أكمل المشوار ولم يرجع أبدا، ولم أكن أقرأ له فى تلك السن، بل أظن أننى لم أكن أحفظ اسمه، مع أنه كان، وهو لبنانى الأصل، عضوا منتخبا فى مجلس الشيوخ المصرى، وأصبح رئيسا لتحرير الأهرام منذ 1933 حتى وفاته، المهم ،أقول: حين بلغنى رحيل سلامة اليوم، لا أعرف ما الذى جعل مطلع قصيدة العقاد فى رثاء الجميل ينقض على ذاكرتى، وهو يقول “محب السلام مضى فى سلام، وهمّ بنومٍ فأغفى ونام”، وصلنى الموت ساعتها، وكأنه استئذان طيب من رجل طيب، مثلما شعرت من استئذان محفوظ “أنْ كـَفـَى”، وكذا سلامة!!.

يحل بى تاريخى مع الأهرام وأنا أودع هذا الرجل الآن، هل “سلامه أحمد سلامة” هو من يمثل الأهرام حين كان أهراما؟ وهل هو ومثله الذى حافظ على خيط جيلى معه؟ تعرفت على الأهرام مع تعرفى على الحرب العالمية الثانية وأنا أتعلم القراءة، كنت أطالعه وكأنه نشرة لأخبار الحرب، كما لم أسمع من  الأخبار آنذاك فى المذياع القابع منتصبا فى الصالة إلا أخبار الحرب، حتى سألت والدى حين سمعت أن الحرب على وشك النهاية، ماذا سيكتبون فى الأهرام، ويذيعون فى الأخبار بعد انتهاء الحرب، بمجرد أن يذكر اسم “سلامة أحمد سلامة” يطل الأهرام معه ومن خلاله وضده وحوله، كان الأهرام هو الصحيفة الوحيدة التى تعرفنا منها على معنى “الجرائد” حتى أننا كنا نطلق على “بتاع الجرايد” “بتاع الأهرام”، وصدرت أخبار اليوم سنة 1944 فلاحت مثل شابه تريد أن تنافسه بألوانها وعناوينها، ولما فشلت أنجبت ابنة أكثر شبابا وأقل جاذبية!! “ولو”!! من اعتاد على الأهرام قد اعتاد الأهرام، وكلما هم أحد أبناء جيلى أن يكف عن شرائه لما ألم به مؤخرا، شعرت أن “بتاع الجرائد” يتحدانى ويحضره، بل إننى شعرت يوما أننى لو أوقفت اشتراكى فيه، فسوف يحضر هو ساعيا بنفسه دون مقابل،  ثم إنى صاحبت أهرام هيكل بكل احترام وحذر، وأنا – كقارىء موضوعى بقدر ما أستطيع – لا أملك إلا أن أحترم هذا الرجل هيكل احتراما لا حدود له، وأعجب بترتيب عقله هكذا إعجاب من يعرف فضل العقل، وأغار من ذاكرته وفرص اتصالته غيرة إنسان يعرف كيف يغار  وهو معجب، لكن الغيرة تصل إلى حد الحقد أحيانا، واسمح لنفسى أن اختلف معه، جذريا، وأفند عيوبه وغروره وحيله وذاتويته وأكتب عنها بحذر، وأشفق عليه كثيرا كلما تمايل طويلا، وأتباهى به – بينى وبين نفسى – حين أقارنه بالصحفيين الكبار الأجانب، ولا أذكر بعد ذلك ما لا أحب أن أذكره فى هذه المناسبة: (فكان ما كان مما لست أذكره، فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر”،) ثم تظهر مجلة الكتب وجهات نظر، وأجدنى فى غاية السعادة أن يكون رئيس تحريرها هو هذا المصرى جدا، الناقد جدا، الرافض جدا، العاقل جدا، سلامة أحمد سلامة وأقول أخيرا تظهر مجلة تعلم الناس كيف يقرأون الكتب نقدا، ويحل هيكل ضيفا منتظما منظما فى سنواتها الأولى، وأكاد ألوم – بينى وبين نفسى–  سلامة على ذلك ليس مهما، لماذا؟ هو أدرى، ويتصل بى الابن الصديق أيمن الصياد مدير التحرير، ويطلب منى اسهاما فى المجلة الجديدة انطلاقا مما يتوقعه منى، وهو أن تكون فيه “فكره جديدة مغيّره”، وأتعجب لهذا الشاب كيف وصله موقف وجودى وأنه نقد خالص، حتى العلاج الذى أمارسه اسميه: “نقد النص البشرى”، وأستجيب وأكتب، وكلما رحب أيمن بما أكتب، أشعر أن رئيس التحرير وراء هذا السماح، حتى نشروا لى مقالا بعنوان “‏طـَلـَبِ‏ ‏الغـنَـى ‏شـَقـفَـْة‏، ‏كـَسَـْر‏ ‏الفقيرْ ‏زِيـُرهْ، ‏كاتِ‏ ‏الفَـقـِيْر‏ ‏وَكـْسـَهْ، ‏يا‏ ‏سـَوّ‏ ‏تدبيرُهْ‏”

وحين بلغنى أنه سلم الراية لأيمن الصياد، فرحت لأيمن وللمجله بقدر ما دهشت لقدرة رئيس التحرير على مثل ذلك ونحن نعلم أن القاعدة فى مصر هى ألا يسلم أى رئيس الرايه إلا بعد أن يسلم الروح، وأسأل أيمن لماذا؟ فيقول لى لأسباب صحية، فافجع، لكننى أطمئن وهو يواصل الكتابة فى الاهرام حتى أخر لحظة.

ما هذا؟ ماذا أكتب الآن؟ هل أكتب عن نفسى، أم عن الراحل، أم عن الأهرام، أم عن مصر؟ بصراحة لم اجد فرقا كبيرا، إلا أننى حشرت نفسى فى مكان قد لا أستحقه.

سلامة أحمد سلامة هو مصر، هو الأهرام، هو هيكل، هو يونان لبيب رزق،  هو أحمد يوسف القرعى وهو فاروق جويده الأول والشاعر، وهو ليس أخرون فى الأهرام أيضا، لأنهم ليسوا الأهرام، (غالبا).

ماذا أقول يا صديقى الذى لم أره إلا مرة واحدة؟

كلما رحل عزيز، (أو حتى غير عزيز) وأنت عزيز جدا، توقفت، وراجعت نفسى متسائلا : كم عمره، وما هو الفرق بين عمرى وعمره، (على فكرة : أنا فى مثل عمركّّ): ثم كم تبقى لى من أيام أو أسابيع أو أكثر؟ وكيف لا أعيش عظة الموت بحقها، وأسارع لحظة الفراق بكتابتها حتى لا أنسى، وأسجل ما ينبغى أن أتمه، وما آن الأوان أن أغيره، غدًا، غدًا؟ غد!! والموت أقرب! ولا أنسى أن أوصى من حولى بما ينبغى انجازه بعدى مما أنا على يقين أننى لن أنجزه، وكذا وكيت، ثم تمر الأيام، وتتسرب هذه العظة العظيمة من بين اصابع وعيى، وقد بلغ من تكرار هذا النص (سكريبت: تسرب “عظة الموت”) أن كتبت قصيدة تعرّينى وأنا أهرب من هذه العظة إلى حضن “الغانية” الحياة فى السر، جاءت نهاية القصيدة وأنا فى حصنها تقول:

…. وأخْجَلُ‏ ‏أَنْ‏ ‏تستبينَ‏ ‏الأمورُ‏ ‏فُأُضْبَطُ‏ ‏فى ‏حُضْنِها الغانية‏.‏ فأزعم‏ ‏أنّى ‏انتبهت‏ٌٌ، ‏استعدتُ‏، ‏استبقتُ‏، ‏استبنتُ‏،..‏ ‏(‏إلى ‏آخره‏!!)‏ ويرقُصُ‏ ‏رقّاصُها‏ ‏فى ‏عنادٍ‏، ‏فتنبشُ‏ ‏لحْدَ‏ ‏الفقيدِ‏ ‏العزيزِ‏، ‏ُتُسَرّب‏ ‏منه‏ ‏خيوطَ‏ ‏الكَفَنْ‏.‏ أخبِّئها‏ ‏فى ‏قوافى ‏المراثى ‏لأُغْمِدَ‏ ‏سَيْف‏ََ ‏دنوّ‏ ‏الأجَل‏ْ.‏ فياليته‏ ‏ظلَّ‏ ‏طىَّ ‏المحالِ‏،‏ وياليتَها‏ ‏أخطأتها‏ ‏النبالُ‏،‏‏ ‏وياليتنى ‏أستطيب‏ ‏العمى (10/5/1986)

فى الأيام/ الاسابيع/الشهور الأخيرة كنت شخصيا، مثل كثيرين جدا أحوج ما نكون إلى ما يكتب سلامة وسط هذا الكم الهائل من الثرثرة والصياح حتى التشنج، وكنت أختلف معه طبعا فى تقديسه (الضرورى مرحليا) للديمقراطية وحقوق الانسان وما أشبه، لكننى أتعلم منه مثلما تعلمت من محفوظ أمرين: شعرة معاوية، وأن احسن الأسوأ هو الأحسن، حتى يقضى الله أمراً أخر.

مع السلامة، يا سلامة، أنهكتَ يا أخى، وما عاد يصلح أن ترهق نفسك بالبقاء أكثر من هذا، مع السلامة، ولا تشغل بالك أنت أو محفوظ أو انور عبد الملك، ومثلكم فسوف نعملها بفضلكم يا شيخ

إذهب، وربنا معنا، ومصر بفضلك وأمثالك، أخطأنا أو أبطأنا أو تعثرنا، سوف تظل مصر، لتكون هى هى مصر التى أحببتَ وخططت لها خيرا أبدا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *