الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ترحالات يحيى الرخاوى: الترحال الأول: “الناس والطريق”: الفصل الأول: “… وإلا، فما جدوى السفر؟” (1)

ترحالات يحيى الرخاوى: الترحال الأول: “الناس والطريق”: الفصل الأول: “… وإلا، فما جدوى السفر؟” (1)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 15-3-2023

السنة السادسة عشر 

العدد: 5674

الأربعاء الحر:

ترحالات يحيى الرخاوى

الترحال الأول: “الناس والطريق” [1] 

إهــداء الترحال الأول

إلى رفـاق الرحلة الأولى

فوزية داود، مايسة السعيد، منى يحيى، مى يحيى،  منى السعيد،

مصطفى يحيى، أحمد رفعت، على عماد،  يحيى الرخاوى.

عام (1984)

****

الفصل الأول

وإلا، فما جدوى السفر؟

“… وأخرُج بين الحين والحين إلى سطح السفينة، لأجد البحر، أصل كل شىء، وقد احتوانى من كل جانب..

 أفتح  وعيى  للانهائى،  فأتلاشى بإرادة أعمق، وتتضاءل  الأفكار  والطموحات،  ويخفت الغرور، ليرفرف الشك – دون رفض – على ما فات.

 ولـِمَ  لا ؟ ؟

****

قبيل 21 أغسطس 1984

لظروف خاصة، وفاء لوعد قديم، قررت أن أقوم بهذه الرحلة المحدودة (رحلة الأسابيع الأربعة)، فالتمست لها هدفين، علّهما يخفيان ـ ولو عنّى ـ الدافع الأصلى: أولهما: تجديد الوعى بمثيرات طازجة عهدتُها مع التَّرحال. وثانيهما: التعرف على أولادى أكثر، فى محاولة جديدة لكسر الوحدة.

قبل أن تبدأ الرحلة، تيقّنت من فشل الهدف الثانى؛ حيث أُجهض فى محاولات تمهيدية، وذلك حين تبيّن لى حجم المسافة التى بينى وبينهم، وأن هذا الهدف، الاقتراب الذى أنشُده، هو نوع من الحلم الخاص المتكرر، حلم يطفو على السطح فى أوقات الضعف القهرى، حين أكون أقرب إلى اهتزازى، وفى الوقت ذاته، أكثر وعيا بطبيعة نهايتى كفرد؛ فأستشعر الموت يزحف فى يقين الواثق من غلبته فى النهاية، فأعمّق وعيى به، وإذا بى أندفع نحو الآخرين بشغف أكثر، وحاجة أشد. فى هذه المرة، تصوّرت أن الفرصة متاحة للاختلاء بأولادى بعيدا عن رتابة العلاقة الفوقية من جانبى، والاعتمادية من جانبهم. إلا أننى قبل أن نبدأ أدركت ـ بلا جديد ـ أن محاولة عبور مثل هذه المسافة، بينى وبينهم، قفزاً أو قسراً، ليس وراءها إلا أوخم العواقب، فتراجعت.

لم يبق، فى ظاهر الأمر، إلا الهدف الأول. تـُـرى هل هو هدف أم نتيجة مرجوّة؟

 قبل أن أستطرد، أستأذن القارئ فى الحديث عن ظروف كتابة هذا العمل: فما دعانى إلى ذلك إلا ورطة جديدة تتعلق بما وعدت به من إكمال كتابة موضوع “ماهية الوجدان”؛ لنشره فى مجلة “الإنسان والتطور. كنت قد وعدت بذلك مرارا ولم أفِ بوعدى، فتصورت أن فى هذا السفر فرصة للنظر الأعمق، والترتيب الأنسب، وذلك بفضل بعدى عن العمل اليومى (المزدحم بالروشتات، والتليفونات، والإلحاح، والعدَّ، والمشورة، والمجامـلة، والأهداف الصغيرة، الجيدة، والقبيحة). هكذا أوهِمُ نفسى أبداً: بأننى قادر على إكمال بعض كتاباتى العلمية، والأدبية المتوقفة، حين أبتعد؛ ربما لأبرر لنفسى حق الترويح والانطلاق، وربما لأن السفر فعلا يسمح بذلك، حيث يسمح بنوعية مختلفة من اليقظة القادرة على التنظيم والتسجيل. وتذكرت طه حسين وهو يكتب كتابه الضخم المهم عن أبى العلاء فى أعلى جبال الألب “شامونى”، قلت إن طه حسين قد اقترب من أبى العلاء كل هذا القرب حين فرّ به بعيدا عنا، فلمَ لا أحذو حذوه لعل الله يفتح على قلمى فينجز ما وعد؟

(واقع الحال أننى رجعت من الرحلة وأنا لم أخط حرفا عن مسألة الوجدان  هذه كما وعدت، وحتى الآن يوليو 2000. بعد عودتى، رحت أحكى لزملائى فى المجلة بعض ما مرّ بنا فى هذه الرحلة، وطبيعة إيقاعها مما حال دون وفائى بوعدى، فاقترح علىّ بعضهم – تعويضا أو عقابا – أن أكتب هذا الذى حكيته لهم فى المجلة. قلت أجرّب. فكان ما ظهر بعنوان “الناس والطريق” فى المجلة عبر سنوات، وهو ما يشغل التّرحال الأول وبعض التّرحال الثانى من هذا العمل).

حملتُ كتبىِ وناسىِ ونفسىِ وتوكلت. تفتحت مسامى. عرفت أننى فى حالة انتظار إيجابى لأمورٍ تستأهل.

علاقتى بالكتب حالة كونى مسافرا تحتاج إيضاحا خاصا. فأنا أشعر أنى بغير كتاب فى صحبتى، كالذى يمشى عاريا فى شارع مأهول بالغرباء. ودائماً آخذ معى من الكتب ما يثقل الوزن حتى يهدد المسموح به فى الطائرة، وقد تضيق بذلك زوجتى (سراً عادة)، وقد تتوقع ـ لا شعوريا فى الأغلب ـ أن يكون هذا الثقل على حساب ما تأمل فى شرائه، على الرغم من وعدها بغير ذلك. أنا لا أطمئن إلا وفى صحبتى عدد متنوع من هؤلاء الأصدقاء الكتب، ثم إن السفر هذه المرة كان بالباخرة، ومعى حافلة (أتوبيس-ميكروباص) صغيرة، فلا مشكلة وزن أو حجم شاذ، ذهابًا وعودة، ولا تنافس بين كتبى ومشترياتها. فأعددت حقيبة مستقـلة للكتب، وبها من المراجع ما يلزم. لكننى، ولأول مرّة، وجدت نفسى أفتحها عنوة ليلة السفر، بعد تيقنى من خبرتى السابقة، وطبيعة المسافة التى تنتظرنى لأقطعها قائدا الحافلة الصغيرة، أننى لن أستطيع أن أمس هذه الكتب طول الرحلة. فى حسمٍ مؤلم: تركت الحقيبة بما فيها مغـلقة، لكننى استدرتُ فمددت يدى إلى ملحمة حرافيش محفوظ، وجمعت البطاقات التى كنت قد سجّلت عليها ملاحظاتى على هذه الملحمة، وقدرت أن يمكننى  أن أرحل فى زمان هذه الملحمة حالة كونى مرتحلا فى أرض الله الواسعة، ويا حبذا لو صحبنا  جارثيا (مائة عام من العزلة)، فحملت الملحمتين معاً، وقلت لعلى واجد فيهما ما يصلح للمقارنة أو الإلهام بالتبادل.

تذكرت علاقة نجيب محفوظ بالسفر، ففهمتها أكثر؛ إذ يبدو أن أستاذنا يقنع ويثرى “بالسفر الداخلى” المتصل، الذى نصاحبه فيه أطول وأعمق.  السفر الظاهرى قد يكشف أو لا يكشف. تذكرت له حوارا يقول فيه إنه لا يميل إلى السفر ولا يسعى إليه، ولكنه إذا فُرض عليه لظرف أو لآخر، فإنه ـ بعد رهبة البداية ـ يجد نفسه متطهراً متجدداً، أو مثل ذلك. تذكرته وفهمته أكثر فأكثر، وأنا أنظر فى نفسى  (أُنظر أيضا  الترحال الثالث إن شئت). أنا أقيم حتى أشعر أنه ليس ثَمَّ داع لأىة حركة أخرى. فكل شئ هنا فى مصر قائم جاهز متاح، بل هنا فى حجرتى على مكتبى، فلماذا شد الرحال، فإذا ما سافرت تقلّبتُّ حتى فزعت من نظرتى الساكنة ـ حالة كونى مقيما ـ لـِمَا كنت أظنّه الدنيا (داخليا ـ وخارجيا)، فالقعدة المغلقة تهددنى باحتمال التسليم إلى االاستكانة الغامضة، والأفكار الثابتة، و ضعف الحوار مع الناس والطبيعة، وكذا تلوّح لى بأوهام التفوق، وتغرقـنى فى عاديّة المشكلات، واحتمالات خبث التنافس، وأوهام أحلام التطور (الـخاصة والعامة)، كل ذلك يتبدى لى بأثر رجعى ـ متى سافرت ـ أنه كان قد أحاط حياتى بإيقاع شبه ثابت، مما يعرضنى عادة لـلبعد عن “الآخر” الحقيقى، ولاحتمال التعصب المعلن أو الخفى،

وهكذا: كلما ألقيت بنفسى ـ أو ألــقِىَ بى ـ فى الطريق، خارج النفس الغالبة، وخارج الديار، رحت أعيد النظر فى نفسى وفى الناس – لا كما رسمتُهم لنفسى ولا كما اعتدت عليهم، فأستسلم لاقتحامهم  الرائع، فأتجدد. ويتحرك الوعى إلى ما يمكن.

ليكن. وليكن من بين ما يتحرك هذا القلم بيدى.

فهل يا ترى هذا هو ما يسمى “أدب الرحلات؟

أدب الرحلات أدب حديث قديم، وصورته الحديثة آخذة فى التقدم بين صنوف الأدب، أصبح نشاطا أدبيا مستقلا. ومنذ رفاعة الطهطاوى حتى خيرى شلبى، وأوربا بالذات تحظى بنصيب وافر من انبهار واعتراض من كتبوا هذا النوع من الأدب من أدباء مصر. وفى تصورى أن كتابة الرحلة بصفتها أدباً هو من قبيل السيرة الذاتية أكثر منها نوعا من وصف المدائن والناس، وبالتالى يسرى على هذا النوع من الأدب، ما يسرى على السير الذاتية من تحفظات.

كتابة السيرة الذاتية مستحيلة أصلا، على عدة مستويات، فالشخص الذى يجرؤ على هذه المحاولة هو محكوم عليه برؤيته أولاً. ورؤيته ليست مرادفة لما “هو”، وحتى صورته التى غامر فرأى ما أمكن منها ليست دائما صالحة “للإذاعة” والنشر، فهو يُخضع هذه المحاولة لأحكام المجتمع، وقيود الفكر ومرحلة التاريخ، فضلا عن قيود النشر (فى بلادنا خاصة). هذا، لـو أنه وُهـِب الشجاعة لـقول مارأى، وأيضا لو أنه وُهـِب البصيرة لرؤية ما هو كائن فعلا، وليس مجرد تصوره عن نفسه. ومن هنا، ينبغى أن نعتبر أن أية سيرة ذاتية، ليست إلا “وجهة نظر”، بل إنها ليست إلا “وجهة النظر المسموح بإعلانها” فى حدود ما يسمح صاحبها، وما يسمح الناس، لا أكثر.

كتابة السيرة الذاتية فى بلادنا العربية ـ بشكل خاص ـ أمر غريب على طبيعتنا، وعلى عاداتنا؛ حيث لا يُظهرالكاتب ـ أى كاتب ـ من نفسه إلا مواضع الفخر والتفوق، فإذا أظهر ضعفا أو خطأ أو تشوها أو انحرافا.. فإنه إنما يفعل ذلك ليعلن بعده مباشرة أنه إنما ” عرف الشر لا للشر لكن لتوقّيه!!” (ومن لا يعرف الشر من الخير يقع فيه!!). مصطفى محمود يعلن إلحاده حين يصل إلى بر الأمان، والإيمان. أنور السادات (يجزيه الله خيرا، ويسامحه) يكتب قصة حياة خيالية يبحث فيها عن ذاته (البحث عن الذات)، فيشط به الخيال حتى يصدقه نفسه، ويفرضه علينا. جمال عبد الناصر (يرحمه الله، ويغفر له) لا يشط إلى هذا المدى. وإن كان ما كتبه عن نفسه قليلاً وسطحىاً، فإن ما كتبوه عنه قد أرضاه حيّا (غالبا)، وآذاه ميتا، أو قدّسه “أملا أو حلما “حتى نفاه “شخصا”، ثم طه حسين، والعقاد، وتوفيق الحكيم، ومصطفى أمين، حتى محمد حسنين هيكل، كل أولئك كتبوا صدقا وأمانة وخيالا وأحلاما معا، وبعضهم وثـَّق ما يقول بوثائق لا تثبت حقيقةً ، ولا تنفيها(عادة).

أديب السفر يعامَل باعتباره أديبا، لا مؤرخا، ولا رحالة مسجِّلا، فهو يكتب نفسه ابتداء، وينجح ـ مثل كل أديب ـ بقدر ما يستطيع أن يعرِّض نفسه لـلتجارب، وبقدر ماتسمح له مسام وجوده باستنشاق الآخرين، وبقدر ما تتيح له مرونة أفكاره بإعادة النظر وتفجير شرارات التغيير من خلال تصادم الاحتكاك، وبقدر ما يستطيع أن يصوغ كل ذلك بأدوات مهارته، حالة كونه مسافراً.

أما السفر الذى يسجـِّل الأحداث العابرة، ويصف عادات من يلقاهم هنا أو هناك، وكأنها العادة المتأصلة فى هذا “الشعب” أو ذاك!! فهو عادة ما يقع فى خطأ المبالغة فى التعميم، وكأن من قابله الكاتب مصادفة (فى الأغلب) هو “ممثل نموذجى” للبلد الذى زاره. عجزتُ دائماً عن فهم كيف يحكم كاتبُ رحلة على شعب بأكمله؛ لأنه التقى بنادلٍ فى مقصف صفته كذا، أو قابل صاحبة فندق شكلها كيت، أو بائع تحف، أو فتاة هوى التقى بها بضع دقائق أو بضع ساعات، ثم يجرؤ أن يقول: أما الرجل السويدى أو المرأة الفلبينية فهو كذا أو هى كيت…إلخ. كما أنى عجزت عن فهم كيف يعتبر كاتبٌ ما أن قـُطراً ما هو عاصمته، أو هو أكبر مدنه، أو هو أشهر آثاره، فى حين أن نبض الشعوب، وأصالة الفروق بين ناس وناس لا تظهر إلا كلما ابتعدنا عن المدن عامة، والعواصم خاصة. ولنا أن نتصور أن كاتباً أجنبياً قابل مواطنا مصريا من الزمالك، وآخر قابل مواطناً آخر من عزبة القصيّرين (فى غمرة) أو من منشاة الجمال مركز طامية، أو من أم قمص (جمّص) مركز مـلوى، أو كفر عليم مركز بركة السبع، فكيف يصف أى من هؤلاء من قابله باعتباره “الرجل المصرى” النموذجى، وأنه يمثل طبيعة “الشعب المصرى”،.. وهات يا كتابة، إن أغلب زوارنا العرب ـ مثلاً ـ لا يعرفون من مصر إلا حى المهندسين، وشارع الهرم، ومصر الجديدة على أحسن الفروض.

ومع علمى بكل ذلك، وبسبب علمى هذا، أقدمتُ على هذه المغامرة بالكتابة فى هذا النوع من الأدب، وأنا خائف من كل ذلك، مشفق على قارئى من أن يأخذ كلامى مأخذا لم أقصد إليه، فأنا أتصور أنى لا أكتب إلا استجابتى الشخصية المحدودة لمؤثرات جديدة، ومتلاحقة، لا أكثر ولا أقل. وما الأحكام والآراء والرؤى الواردة فى هذا العمل خاصة إلا زاوية محدودة لرؤية كاتب يحاول أن يكون يقظا فى استيعابه وتمثله لما رأى من ناس وطبيعة وأشياء، وقبل ذلك وبعد ذلك، لما رأى فى نفسه، ومن نفسه.

هذا السفر الذى أنتزع نفسى إليه، أو ترغمنى الظروف أو المصادفات عليه، هو الذى يحرك وعىى إلى حيث لا أعلم. اكتشفتُ بمحض الصدفة أنّ أكثر من نصف ما كتبته مما قد يسمّى شعراً، كتبته فى “حالة سفر”(أنظر الترحال الثالث إن شئت). استطعت أن أرجح من خلال ذلك أننى بمجرد أن أتخلص من الإغارة السرية المتسحبة المستمرة على وعيى بالمؤثرات الرتيبة الباهتة، وأيضا بالضغوط الملحّة الجاثمة، تتفجّر من داخلى الرؤى المؤجَّلة، والمهمَــَََلة، والكامنة، والعنيدة، فأعيد تنظيمها “لأقول” بالأداة التى تحضرنى.

انتبهت من كل ذلك إلى وظيفة السفر عندى، وقلت لعل ورطتى فى سفرتى هذه، تكون فرصة جديدة أتعرف من خلالها على بعض أبعادى، لا على بعض أولادى كما تصورت أولاً، وأمِلتُ -ربما كبديل – أن أسمح لبعض نفسى، مما أعرف ومما لا أعرف، أن تنساب منى، وأنا أجرب هذه الأداة الجديدة، والتى قد تسمى أدب الرحلات ستراً وتحايلاً، وإن كانت قد انتهت لتكون أقرب إلى السيرة الذاتية، أو لعلها تتراوح بين هذا وذاك، فهى ترحال بين الداخل والخارج طول الوقت، (ثم تطور الأمر لأسميها “أدب المكاشفة”، وليس حتى “أدب الاعتراف”).

 أنا شديد النفور من أغلب أنواع السفر الأخرى، لا أكاد أعرف لها معنى يبررها، مهما بلغ حماس أصحابها لها. لا أفهم  أسفار المشتريات الاستهلاكية، ولا أسفار المؤتمرات العلمية (شبه العلمية). بل إننى لا أفهم أسفار السياحة بمعنى زيارة التاريخ والآثار؛ حيث يكون الهدف الأهم هو التجوال “حول الأطلال” و “داخل المتاحف”. كم من مرّة مازحتُ فيها مرافقىّ فى بعض أسفارى، ونحن نزور الأماكن “المقررة” (مثلا: عمارة الإمپاير ستيت أو تمثال الحرية) فأقول ونحن نلتقط الصور بجوار هذا المَـعـْلمِ أو ذاك: “وهكذا تم التوقيع فى سجل تشريفات “سيدنا الأثر “الفلانى” بعد دفع المعلوم فى صندوق النذور”، فلزم التنويه!!. حتى إذا سأَلـَنا سائل عند العودة عن هذه الأماكن، أو إذا ذُكِــرَتْ أسماؤها بانبهار أمامنا، شاركنا بإيماءةِ رأسٍ أو نظرة أُلفة، وبالتالى ننضم ـ ولو منتسبين أو أعضاء شرف ـ إلى فصيلة من يعرف هذه الأسماء المشهورة التى يدور حولها الأكابر والمثقفون والساسة المسافرون فى فخر وزهو فوقيّـين.

نعم، كل هذه الأسفار لا تستأهل لدىّ شد الرحال، ومع ذلك فإنه حتى لو شاركتُ فى مثلها لبضعة أيام، فإنى أمارس خبرة تفجير الداخل، وتفتح المسام، بطريقة تجعلنى أعود ـ حتى رغما عنى ـ مهزوزاً منتعشاً مفكِّراً أبحث عن بدايات جديدة، أو أعيد وزن أفكار قديمة، أو كليهما.

حين كنت فى باريس (1968/1969)، فى مهمة علمية، (هكذا يسمّونها) تعلمت من الفاقة والنشاط أنه لا يعرف المرء بلدا إلا إذا مَشاها، ما إستطاع، على قدميه، شارعا شارعا، جالسا على مقاهيها (بالذات) ما طال له الجلوس، متأملا، مشاركا فى كل حين، بقدر ما تمكّنه اللغة وتحفزه الدهشة. حتى أنى كنت- أحيانا أرحب بالتوْهِ وفقد المعالم، وأتلكأ فى إخراج الخريطة؛ مادمت أسير حيث لا أدرى، فأعيش كما لم أحسب، وألاقى من لم أتوقع، وقد كدت أصبح فى نهاية العام الذى قضيته هناك شيخ حارة باريس بالنسبة إلى زملائى فى أعضاء المهمة العلمية المزعومة، وأيضاً بالنسبة إلى بعض الأصدقاء الذين يحضرون إلى باريس عابرين. كان من بين ما يستهوينى أن أذهب من أقصى الشمال حيث أسكن فى المونمارتر، إلى أقصى الجنوب حيث أعمل فى مستشفى سانت آن، مخترقا ميدان الأوبرا، عابرا السين، ثم محاذيا له، ثم مخترقا الحى اللاتينى حتى أصل إلى محطة جلاسيير (الحى -الدوّار الـ- 13). يستغرق ذلك عادة أكثر من ساعتين أستمتع بكل دقيقة منهما. لا يمنعنى من ذلك مطر أو برد، بل يزيدانى انتعاشاً، وأعيد أثناء ذلك تأمل كل شىء، وكأنى أراه من جديد، فأشعر بالدفء والقدرة. وكانت نـشوتى تزداد فى أيام الشتاء مصحوبة بقدر مناسب من التحدى وأنا أواجه الـصقيع، أتحسس أنفى فلا أجده، وكنت أتساءل : مِن أين جاءنى هذا الحب العارم لـلشتاء والمطر والصقيع، وأنا ابن التراب والحر والعرق والتلوث المصرى الأصيل؟. أتذكر كيف كان جارثيا يفضل (أو يصر) أن يكتب رواياته أثناء تواجده فى باريس فى نفس درجة حرارة بلده القائظ، وأعجب لارتباط كتابته بما أتصوره من عرق وأنفاس ثقيلة. لكننى عكسه تماما، أسارع فأحتضن اللفحات الباردة المثيرة، وأمضى أحسد هؤلاء الناس فى جميع الأحوال، وأقول لنفسى: إن بعض الكسل الذى يثقل خطانا وتفكيرنا ـ فى بلدنا ـ قد يرجع قليلاً أو كثيراً إلى المناخ الحار المغبر الذى يخدرنا ضمن بقية المخدرات الحديثة والقديمة. لكن سرعان ما أراجع نفسى ـ دون أن يخف حقدى عليهم ـ فأقول: “.. ولو، فنحن قادرون، أو ينبغى أن نقدر، على أن نخترق أجواءنا إذا أحسنَّا تحديد الهدف، وضبط الإيقاع، ومواصلة التحدى”، وأعرف أننى أضحك على نفسى (غالباً).

أقول إنى لم أعرف باريس ـ أو غيرها ـ إلا سائرا على قدمىّ، وما سخرت ملء عقلى، إلا من هذه الجولات السياحية التى اضطررت فيما بعد إلى المشاركة فيها؛ حين كنت أزور بعض البلاد فى عجالة، تلك الجولات التى يسمونها “الرؤية السياحية العابرةsight seeing “؛ حيث تجلس فى حافلة (أتوبيس) مكيفة الهواء، ويحكى لك السائق، أو المرشد، أسماء الأماكن والشوارع، والمعارك، والقُوَّاد.

تيقنت من موقفى هذا، أثناء إحدى الجولات حول مدينة بوسطن، فى صيف العام الماضى، حيث شعرت أنى أشاهد فيلما تسجيليا رديئا لا أكثر، لولا أن أنقذنا السائق بوقفةٍ فى “ركن الشاى”. فى سفينة تاريخية تؤرِّخ لبدء تحرير الولايات المتحدة من الشمال، بإعلان الثورة على زيادة الضرائب على الشاى، من قِبَل الحكومة البريطانية المستعمِرة. الشعور نفسه راودنى بدرجة أقل فى سان فرنسيسكو، لولا تنوع الطبيعة، وخفة ظل المرشد، وركن الشاى اليابانى (مع الفارق بين ركن شاى وركن شاى!!(.

خرجت دائما من المقارنة بين الجولة على الأقدام ضائعا داخل المدينة، والجولة داخل حافلة سائحين مع مرشد، أنه: لا سبيل إلى معرفة الناس من وراء زجاج داخل حافلة سياحية مكيفة الهواء، وأنه لا سبيل إلى مغامرة معرفة النفس ـ بالسفر ـ وأنت تتلقى معلومات جاهزة، وفكاهات مكررة، من مرشد موظف. لذلك فإنى رجّحت، أن الإيقاع البطئ فى السفر هو أساسٌ لا غنى عنه لمن يريد أن يعرف الأمكنة والناس، من خلال انصهاره بها: تمشى وتسأل. تمشى وتتوه. تمشى وتتعب، فتجلس فى المقهى الأقرب أو البستان الأجمل أو محطة المترو الأدفأ أو الأبرد. تمر ببائع الزهور والصحف والفاكهة واللحوم والدجاج المشوى و “الآيس كريم”، وألعاب الحظ، فلا يفوتك تعبير الوجه ومساومات الشراء، وإغراءات الجذب الصغيرة، وطباع الناس البسطاء. يدخل كل ذلك إليك عبر أرضية وعيك، حتى لو وجَّهوا بؤرة انتباهك إلى شئ آخر، أكثر تفاهة ـ فى العادة ـ رغم ظاهر أهميته – التاريخية مثلا.

هذا بالنسبة إلى داخل المدينة. أما بالنسبة إلى التنقل بين البلاد وبعضها، فما أعظم الطائرات وأسخفها. هذه الثورة التى جعلت العالم قرية صغيرة، هى هى التى حرمت المسافر (ابن السبيل) من الاستيعاب البطئ للنقلة الجغرافية / الحضارية / الثقافية، التى هى ثروته الحقيقية وحصيلته الباقية من أى سفر. إن هذه الحركة بالسرعة البطيئة هى المسئولة عن نقلات الوعى وتقلب المشاعر، ومن ثَم تجَدُّد الأفكار واتساع الأفق، أما أن تضع نفسك فى طائرة حديثة، ثم تجدك بعد ساعات تقل أو تكثر، فى بلد غير البلد، مع تشابه الخدمة والمطارات والإجراءات  وفنادق “العواصم”، فهذا ليس سفرا.

أتذكر أول قصّة قرأتها: وكنت لم أبلغ العاشرة، وجدتها فى مكتبة والدى باسم “الشيخ الصالح”. لا أذكر مؤلفها، ولا تفاصيلها الآن. أذكر أن الغلاف الخارجى والورقة الأولى لم يكونا هناك (عكس ما وجدتُ عليه ثانى رواية وقعت فى يدى: كان اسمها  “أزميرالدا” (فى الأغلب). كانت رواية الشيخ الصالح هذه تدور حول رجل “شيخ” ظاهر التقوى، ينتقل من بلد إلى بلد على بغلة، ويجرى وراءه طول الرواية “عبدٌ” حافى القدمين، ونكـتشف ـ فى النهاية ـ أن هذا الشيخ ليس سوى قاطع طريق. حضرتنى هذه الصورة بوضوح شديد، حتى أننى تذكرت أنى حين تقمّصتُ بعض شخوص الرواية، لم أتقمص إلا ذلك العبد دائم العدو وراء سيّده!!. وكم أحسست بحبات كالعرق يتفصد بها جبينى وأنا فى حالة التقمص هذه، وأنا لا أكف عن الجرى وراء سيدى “الشيخ النصاب” لحراسته، وخدمته، دون شكوى أو تعب. أما رواية “أزميرالدا” فلم يبق فى ذاكرتى منها إلا صورة بطلها وهو يقطع حجرة التدخين ذهابا وجيئة مئات المرّات. الحجرة تقع فى جانب بعيد من حديقة قصرٍ ما، وهذا الذى تبقَّى لا علاقة له بالتدخين، وإنما بخطى هذا الشخص ذهابا وإيابا طول الوقت. لماذا “ذهابا وإيابا”، “ذهابا وإيابا” بالذات؟ لا أعرف. (سوف أعرف).

ثم يقفز فكرى إلى تداع آخر، فأفهم لماذا كان “ابن السبيل” (فى فقه الإسلام وآدابه) أهلا لـلصدقة والزكاة والبر، مهما كان موسِرا فى الأصل، قادرا فى موطنه وبين أهله.

تذكرت ما كنت أسمعه عن جدى لأبى وهو يرسل رجاله إلى  كل الطرق المارة ببلدتنا، أو حولها، يدعون المسافرين، أبناء السبيل، (وخاصة بعد عصر أيام رمضان) إلى النزول ضيوفا للإفطار والنوم، ولايجوز البدء فى الأكل (خاصّة ما نابهم ـ “منابهم”ـ من نصيب فى اللحم) إلا بعد عودة هؤلاء المندوبين بالضيوف أو بدونهم، فيطمئن جدى وصحبه إلى أن أحدًا لم يعبر منطقتهم وهو جائع، أو مُجهد، أو بلا مأوى. ثم يأكلون: “منابهم”.

فهمتُ كل ذلك من جديد، وعرفت كم كان السفر قاسيا ومرعبا قديما، ولكنى ما رضيت أبداً عن أن نستبدل به ـ تماما ـ كل هذه الرفاهية بهذه التكنولوجيا الفائقة من طيران وتكييف؛ لأن ثمن ذلك هو أن ننسى الطريق أصلا، الطريق خارجنا، الموازى والمؤدى إلى طرق الداخل المتعـِـبة، والرائعة، والمتشعّبة. (ربما لهذا ابتدعوا مؤخرا ما يسمّى مغامرات “سفارى”. من يقدر عليها؟).

جاء قدرى الجميل هذه المرة، أن تكون رحلتى هذه بالباخرة، والسيارة، مع صحبتى هذه من الأصدقاء والصديقات فى هذه الأعمار المتباعدة المحرِّكـة، فاستبشرتُ خيرا، وانتظرت الجديد.

  أثناء وجودى فى فرنسا أيضا ذلك العام،  قمت برحلات قصيرة كل نهاية أسبوع، وصلت إلى أسبوعين أحيانا، كان، بعضها بالسيارة الصغيرة مع الإقامة فى الفنادق الشديدة التواضع (نجمة واحدة، أو أقل إن وجد ما هو أقل) أو التخييم فى المخيمات المعدة لذلك، هذا فضلاً عن الرحلات الجماعية بالحافلات الكبيرة مع زملاء المنح من العالم الثالث (ضيوف فرنسا آنذاك 1968).

كل ذلك علّمنى ما هو سفر.

 إذا كان المشى هو السبيل الأمثل لمعرفة داخل المدن، فإنه لا بديل عن السيارة للتعرف على الطبيعة والحوار معها فيما هو بين المدن وبعضها، وبين القرى وحولها، ثم إنه لا سفر دون إطلاق عنان التداعى الطليق لزيارة داخل النفس المهجور أو المنسى، يتم هذا أو ذاك بعيدا عن العواصم والحوانيت العملاقة (السوبرماركت، والمُولاَتْ!!) التى تلتهم الوقت والوعى والنقود والانتباه جميعاً، وأيضاً بعيداً عن وصاية المؤسسات الفكرية، والعقائدية، وعن غلبة الذاكرة الحاضرة المسطّحة.

فإذا كنتَ أنت قائدا لـلسيارة الساعات الطوال، وجدت نفسك فى حالة من الانتباه تفرض على بصرك ووعيك ووجودك ـ فى نهاية الأمرـ تفاصيل مناظر الطبيعة المتلاحقة، بما فى ذلك سباق الناس على الطريق، وأنواع حمولاتهم، وحوارهم بالأضواء والإشارات، وأماكن انتظارهم، ثم دورات الراحة فى الموتيلات والمطاعم والمعسكرات. كل ذلك يعيد إليك، أو يعرّفكَ بمعنى “ابن السبيل”، وإن اختلفت الوسائل واللغات. فإذا سمحتَ، أو حتى إذا لم تسمح، فسوف تجد نفسك فى رحلات الداخل الموازية، حين تعود إلى طبقات ذاتك وناس عالَمك، وحوارات زمانـك، فتزورها أو ترتبها أو تتبينها من جديد، فتُفَاجأ بما لم تكن تحسب.

………….

…………..

ونواصل الأسبوع القادم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] –  يحيى الرخاوى: الترحال الأول: “الناس والطريق” (الطبعة الأولى 2000)، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net 

 

تعليق واحد

  1. كيف حالك يامولانا ؟!
    المقتطف:… فإنى أمارس خبرة تفجير الداخل، وتفتح المسام، بطريقة تجعلنى أعود ـ حتى رغما عنى ـ مهزوزاً منتعشاً مفكِّراً أبحث عن بدايات جديدة، أو أعيد وزن أفكار قديمة، أو كليهما.
    التعليق : هذه فائدة للسفر ” العظمى فى رأيى ” أظنها ليست مكتوبه ضمن فوائده السبع التى قالوا عنها ،أثرت لدى الفضول للبحث عن تلك السبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *