الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الدستور المصرية / …. تجاوزٌ للعلم، ووشمٌ للمرضى !! (تعتعة سياسية)

…. تجاوزٌ للعلم، ووشمٌ للمرضى !! (تعتعة سياسية)

نشرت فى الدستور

18-1-2006

…. تجاوزٌ للعلم، ووشمٌ للمرضى !!

ليكن ما يكون فى البلطجة وتزوير الانتخابات، وألعاب السياسة، وموقعة السودانيين فى ميدان مسجد محمود، فهذه أمور تترواح بين السياسية والتجاوز الأمنى، والضبط والقتل،  لكن المسألة امتدت إلى مجالى العلم والقانون، المسألة كلها – إذن– هى نمط فى التفكير ونمط فى الأداء، واستهانة بالعقول .

راعنى أن يصل الاستسهال والتسرع  إلى اختزال حادث جنائى، وراءه ما لا ندرى،  بتصوير المريض العقلى (تحديدا: الفصام)  على أنه يحمل كل هذا الخطر وكأنه لغم مدفون فى الصحراء ينفجر فى أى وقت فى أى اتجاه، أو كأنه كلب مسعور ينطلق على غير هدى يعض أو يؤذى أو يصيب كل من يلقاه. مهما أشارت الأحداث إلى أن الجريمة ملغزة غير مفهومة، فليس هناك ما يدعو، ولا حتى مبرر سياسى جيد، إلى اختزالها باعتبارها  نزوة عدوانية من مريض مسكين قبل التيقن من كل شىء.

ثمة حقائق علمية أولية لابد أن يعلمها الناس:

(1) ليس معنى أن شخصا مصابا بمرض نفسى، فصام أو غير فصام، أنه مجرم محتمل هكذا تلقائيا

(2) إن نسبة احتمال حدوث القتل  من مرضى الفصام لا تزيد كثيرا عن نسبة  جرائم الأسوياء

(3) إن المرضى الذين يهيمون على وجوههم فى الشوارع ليسوا خطرا على أحد مهما بدا منظرهم.

(4) إن التعامل مع هؤلاء الهائمين على وجوههم فى الشوارع لا يكون  بلمهم فى عربة قسرا  ما لم يثبت علميا أنهم خطر، وبقرائن قانونية وطبية تؤكد ذلك .

(5) إن الفصامى المزمن المتدهور بالذات نادرا ما يرتكب جريمة القتل ، نظرا لتفسخه الذى لا يمكّنه عادة من الاستجابة لأفكاره الشاذة مهما بلغت حدتها.

 (6) إن الفصام ليس مرضا واحدا، وإنما هو طيف ممتد من مظاهر شديدة الرقة والدماثة، برغم إمراضيتها ، إلى تدهور شديد العجز والتناثر، وبالتالى فالكلام على ما يتميز به الفصام كمرض واحد، هو خطأ جسيم

 (7) ليس معنى أن مريضا فصاميا يعالج ومعه “روشتة”،أنه ذاهل مشوش خطير، ومشروع قاتل

 (8) إن فعل القتل بالذات حين يصدر من الفصامى  يصدر غالبا بشكل نزوى اندفاعى أعمى، ومؤقت

(9) القتل بالجملة من مرضى أو أسوياء (مثلا: تلاميذ مدرسة ما) يحدث عادة بسبب تجمعهم معا. وليس بالتتالى الواحد تلو الآخر على مدى ساعات

 (10) إن بعض أعراض الفصامى، هو أن تفكيره يختل لدرجة أن اعترافاته (وهو ما يحتاج إلى تفكير منظم وبصيرة مرتبة ) لا بد أن تؤخذ بحذر شديد.

(11) توجد أعراض أخرى عند الفصامى مثل الطاعة العمياء، حيث يقوم الفصامى أحيانا بترديد ما يقال أمامه بالحرف الواحد دون فهم، كما أنه قد يحاكى ما يجرى أمامه كالصدى بدون  قصد. مما ينبغى أن يؤخذ فى الاعتبار عند تقييم تمثيل فعل الجريمة، والاعتراف.

(12) إن تقييم الطبيب للخطورة واحتمالاتها عند المريض العقلى، هو أصعب من التشخيص ألف مرة.

(13) إن فعل الجريمة الأولى الذى يتم فى دقائق (فى سلسلة من الجرائم استغرقت ثلاث ساعات) جدير بأن يفيق الفصامى من مرضه بعد أول جريمة وفزع .

 (14) إذا ثبت أن الفصامى معاق عن التمييز أو معطل الإرادة أو مختل الوعى وقت ارتكاب الجريمة، ثبت بفحص قد يستغرق شهورا، حكم عليه بالبراءة، وأودع للعلاج، فهو ليس مذنب ولا جان.

(15) إن ثقافة مجتمعنا تسمح باستيعاب هؤلاء المرضى الطيبين بتحمل رائع، وأحيانا باعتباره “بركة” أقرب إلى الطبيعة وإلى الله، بل إن هؤلاء المرضى لمن يعرفهم  أطيب وأجمل وأرق وأحكم  وأسلس من كثير منا.

(16) إن مثل هذه الاتهامات والتوجسات الظالمة العشوائية التى تخيف الناس من “ثلاثة أرباع مليون” فصامى فى مصر (1% من السكان فى العالم) هى وصمة للمرضى، وإفساد لمشاعر التعاطف الطبيعية التى يمارسها ناسنا  الطيبون. إن الأولى بالفرار منهم هم المتأنقون الذين يظهرون على شاشات التلفزيون، ويقتلون الأبرياء آحادا وآلافا دون محاكمة ،  بقنابلهم الذكية، ومخابراتهم الغبية.

(17) كان على من أراد اختصار المسألة لأى سبب (هيبة الدولة، أو تجنب فتنة طائفية استجابة لإشاعة غبية، أو لسبب لا نعرفه) كان عليه أن يستشير من يعرف، حتى لا يظلم المرضى، ولا يثير الذعر بين الناس، ثم ليترك للقضاء ما للقضاء.

ياسادتى:

قليل من العلم، وكثير من الدقة، وبعض احترام المنطق، كان يمكن أن يغنيكم عن هذه الورطة العشوائية ، وعن هذا المنظر الذى ليس هو.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *