الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / بعض معالم علاج النفس من خلال الاستشارات عن بُعد: الاستشارة التاسعة : “نتعلم من امرأة أمية، ونتألم لقهرها سحقا!” (2 من 2)

بعض معالم علاج النفس من خلال الاستشارات عن بُعد: الاستشارة التاسعة : “نتعلم من امرأة أمية، ونتألم لقهرها سحقا!” (2 من 2)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 2-6-2019

السنة الثانية عشرة

العدد:  4292

بعض معالم علاج النفس

من خلال الاستشارات عن بُعد

الاستشارة  التاسعة

نتعلم من امرأة أمية، ونتألم لقهرها سحقا! (2 من 2)

مقدمة:

رجاء:

من لم يقرأ نشرة أمس فليتفضل بقراءتها أولا

شكراً

………….

 د. أميمة: 

بدأت علاجها منذ عام و نصف تقريبا،  وأدخلتها العلاج الجمعى وكانت معذبة بشدة  بحبه، وتظن أنه لو يمكن الرجوع بالزمن لكانت زوجة مطيعة محبة تستطيع الاحتفاظ به إلى الأبد، فقد كانت تشعر بالذنب و لم تستطع الخروج من هذه الدائرة. ثم خرجت “ش” من المستشفى بعد ستة أشهر من العلاج الجمعى ولم أشعر أنها استفادت أى شىء، أو أنها تحسنت بأى صورة.

د. يحيى:

أعتقد أن هذه ملاحظة شديدة الدلالة والأهمية، فما أصابها من مرض شديد هكذا قد يبدو لأول وهلة نتيجة مباشرة للظلم الذى وقع عليها، لكن ها نحن نتبين أنه أقرب إلى أن يكون – فى الظاهر على الأقل- نتيجة لخلل علاقاتى يسمى “الحب” (الذى يبدو أنه استمر عشرين عاما بعد كل ما حدث !!)، وهو هنا يبدو خليطا من الهوان، والتقمص (ربما للانتقام لاحقا)، والامّحاء، وعقاب الذات، والاعتمادية، وقبول التحدى، والاستسلام للتأثيم (الإشعار بالذنب)  تصورى؟؟، ومع ذلك قد يجتمع كل هذا معا ويسمى”حبا”، تصورى – مرة أخرى ! ؟!!!  وبالتالى كما نعلم، أو نتصور أننا نعلم، يطيع المحب محبوبه ويتفانى فى إرضائه، ولكن ليته رضى !! لقد  طلقها، ثم زودها فمات (رضى أن يموت خائنا مقتولا !!) فهو قد تخلى عنها نهائيا، وبذلك  قـَـتـَـل – بموته- أملها فى الرجوع أصلا (ولو بعد عشرين سنة!!)، وأيضا ربما أملها فى الانتقام،  لقد  رفضت موته فأبقته حيا فى وعيها،  ربما لتنتقم منه كما ذكرت، وهنا قد نفهم دلالة تعبيرك: الاحتفاظ به “إلى الأبد”، أنا لست متأكدا هل هذا كان تعبيرها هى، بنفس الألفاظ (إلى الأبد) أم أنه وصفك أنت لموقفها المتعلق بالحبيب الطارد ثم الراحل!!؟

بالله عليك هل رأيت ذلا أكبر من ذلك؟ ألم تشعرى أنها تواصل ما كان يفعله هذا الطاغى التافه مضاعفا عدة مرات، ألم تلاحظى كيف تذل نفسها بحبه  هكذا حتى بعد رحيله، إياك يا أميمة أن تعملى مثلهم وتقولى إنها فعلت وتفعل ذلك “لأنها مجنونة”، فالمجنون يرينا مصيبتنا بتكبير لا نستطيع أن نغفله إلا بوصفه بالجنون،

أحسب أننى بالغت، ما رأيك؟ ربما.

ثم عندك يا أميمة: ستة أشهر يا أميمة فى المستشفى، والحالة ذهانية، اكتئاب ذهانى؟ ولا تذكرين لنا هل كانت تأخذ مضادات للذهان أم لا؟ مضادات للاكتئاب أم لا؟ هل أخذت جلسات تنظيم الإيقاع (كهربية !!)، صحيح أنك ذكرت فيما بعد إشارات  حول هذا الشأن  لكن هذا كان أكثر  بالنسبة لدخولها الثانى!!

أنا لا أعرف شيئا عن حقيقة وعمق وتفاصيل العلاج الجمعى الذى تقومين به، لكننى – كما تعلمين أحترمه أبلغ الاحترام وأشكرك عليه – أنا لم أجد داعيا للاستغراب فى مثل هذه الحالة حين  لا يظهر عليها أى تحسن (ظاهر) بعد ستة أشهر من هذا العلاج. إن خبرتى فى العلاج الجمعى تؤكد أن التحسن الظاهر ليس من مميزات هذا العلاج بالذات،  ولا هو من علامات نجاحه فى كثير من الأحوال، فإن ما يصل من خلال هذا العلاج – مما لا نعرفه تفصيلا- يصل برغم المريض (وأحيانا برغم حسابات الطبيب المعالج)، وقد لا تظهر نتيجة “هذا الذى وصل” إلا بعد وقت طويل،  كما سنرى فى حالتك.

 ثم ماذا؟

د. أميمة  

بعد أربعة أشهر، رجعت ثانية وهى فى حالة يرثى لها،  لا تأكل ولا تنام ولا تتحرك ولا ترد على أى إنسان وأقرب ما تكون إلى حالة سُبات Stupor ، أردت أن أضيف إلى علاجها علاج بالصدمات ( تنظيم إيقاع المخ)، ولكننى بدلا من أن أفعل ذلك وجدتنى أجلس أمامها وأتناول يديها بين يدى و أطلب منها أن تحضر أول جلسة فى مجموعة العلاج الجمعى الجديدة،  لم ترد وأخذتها معى …و قبل أن توبخنى يا سيدى فقد وبخت نفسى فى الطريق بشدة ونعت نفسى بالإندفاع والغباء ولكننى لم أستطع التراجع.

د. يحيى:

أوبخك على ماذا يا أميمة بالله عليك؟ أى اندفاع وأى غباء تتحدثين عنه؟ هم ينهون عن مثل ما فعلت (أعنى التحليليين) بالنسبة للعصابيين واضطرابات الشخصية لأسباب من وجهة نظرهم لا مجال لمناقشتها الآن، أما مع مريضة ذهانية، لها تاريخ سابق معك بكل هذا العمق وهذه الإحاطة، ترجع إليك وهى فى حالة سبات أشبه بعودتها إلى الرحم، فتفعلين معها  بتلقائية حانية ما ينبغى أن تفعله أية أم تستعيد جنينها لتحميه حتى يكمل نموه، فى انتظار مخاض جديد، فهذا تصرف مسئول على أعلى مستوى من المسئولية، وفى هذا دليل جديد على أننا نعالج المرضى “بما هو نحن”، أكثر مما نعالجهم بما “نعلم” أو نقرأ،  إن الذى يحدد صحة ما نفعل أو خطأه هو نتيجة ما نفعل حالا أو لاحقا. وها أنت تكملين بما يسمح لنا بتقييم نتيجة خطوتك تلك

د. أميمة

… ما حدث كان مفاجأة ..فبعد حوالى ربع ساعة من الجلسة بدأت ترد وتستجيب بصوت خفيض أولا ثم تكلمت و أطالت، بل وآخر خمس دقائق إشتركت فى دور مينى دراما

د. يحيى:

هذا هو،

 هذا الذى حدث بعد ربع ساعة هو فى حقيقته قد حدث بعد ستة أشهر وربع ساعة، إنه جُمّاع ما تراكم خلال ستة أشهر انتهت وأنت تقررين أنها لم تستفد أى شىء منها، وهذا هو ما أشرتُ إليه فى الفقرة قبل السابقة من أن:  ” ….  ما يصل من خلال هذا العلاج – مما لا نعرفه تفصيلا- يصل برغم المريض (وأحيانا برغم حسابات الطبيب المعالج)، وقد لا تظهر نتيجة “هذا الذى وصل” إلا بعد وقت طويل”،   إن مريضتنا التى رجعت إليك  فى حالة سبات ذهولى راحت  تشترك فى مينى دراما حاضرة مع مجموعة جديدة، ونحن نعرف ما تحتاجه المينى دراما من حضور وانتباه وإبداع، وهذا هو  خير دليل على أن مسيرة علاجها تمضى فى اتجاه إيجابى مهما بدا الظاهر أحيانا غير ذلك.

فماذ كان تصرفك بعد ذلك ؟

د. أميمة:

لم أعطها الصدمات و بدأت فى التحسن.. فى العلاج الجمعى حدث تغيرات كثيرة، فقد بدأت تميز أنها لا تحب زوجها فقط و لكنها أيضا تكرهه بشدة و بدأت تتعجب  لتبادل الشعورين عندها.

د. يحيى:

ما زال من حق من يتابعنا أن يتعجب، كيف لهذه المرأة أن تحب هذا الزوج طوال عشرين عاما حتى بعد قتله، لكن هذا وارد ما دامت هى قد قالت ذلك، وما دمنا لم نضع تعريفا جامعا مانعا لما هو “الحب” !!! أما أنها تكرهه فى نفس الوقت، فهذا أيضا مهم، خصوصا فى مثل هذه الحالات، بل وفى الأحوال العادية.

 أما تبادل الشعورين فهو أمر أكثر قبولا وفهما عن وجود الشعورين معا، والأخير (وجود الشعورين معا) هو أكثر دلالة وأهمية علمية وإمراضية، وتعجُّب مريضتنا  لذلك هو شىء إيجابى على مسار العلاج  أيضا، وهو قد يدل على نوع جيد من البصيرة التى اكتسبتها بالعلاج.

د. أميمة

ربما يجب علىّ هنا أن أنوه أن هذه المريضة بالذات لديها قدرة غير عادية على استخدام الكلمة و اللفظ فى مكانهما الصحيح، كما تستطيع سبر غور نفسها وغور زميلاتها بحساسية شديدة و تشرحه و كـأنها تقرأه من كتاب.  ففى إحدى  الجلسات مثلا كانت تعيد إحياء موقف حدث مع مريضة أخرى وبعد أن انتهت قالت أن ما وصلها  أن هذا الجزء من السلوك قام به الطفل الذى بداخلها والجزء الآخر  قامت به “ش”الكبيرة العاقلة التى تريد أن تحتوى الموقف…!!!

د. يحيى:

ألم أقل لك يا أميمة كيف أننى تعلمت من مريضاتى ومرضاى، وخصوصا الأميين والأميات، أكثر مما قرأت ونظّـّرت بشكل مباشر؟ لكننى بعد حماسى المبدئى لمثل هذه الأقوال من مرضاى فى بداية خبرتى فى العلاج الجمعى فى أوائل السبعينات، وكنت متأثرا أيامها بإريك بيرن والعلاج الجشتالتى (بيرلز) معا، “تراجعت” عن حماسى هذا، أو لعلى ” تقدمت” فأخذت أقلل من التركيز على مسألة الطفل الذى فى داخلنا (والوالد .. فى وعينا إلخ)، ورحت أعامل تعدد كياناتنا (فى حالة الصحة وبعض المرض)  بشكل أكثر رحابة وأكثر صعوبة وتعقيدا فى نفس الوقت (1)، وقد أرجع إلى ذلك حين أعرض ما تيسر من تفاعلات العلاج الجمعى لاحقا.

أما عن مريضتنا “ش”،  وقدرتها على الكشف السريع هكذا بعد نكستها ثم إفاقتها، فيمكن إرجاع أغلب ذلك للخبرة السابقة معك فى العلاج الجمعى (ستة أشهر) التى كنتِ قد اعتبرتيها بلا جدوى، طبعا بالإضافة إلى حدس الذهانى الذى نتعلم منه كل شىء.

د. أميمة

…. المهم، أنه فى جلسة أخرى كان حديث المريضات عموما عن أزواجهن

د. يحيى:

فى خبرتى، نحن – فى العلاج الجمعى-  نحول دون التمادى فى ذلك (الحديث عن أزواجهن) ما أمكن ذلك اللهم إلا كبداية (جرّ  كلام) ذلك لأننا  نلتزم تماما بالـ “هنا والآن” كما تعلمين، ثم إن مجموعتك (مجموعاتك) هى من الإناث فقط (على ما يبدو)، وقد رفضتُ مثل ذلك من بداية خبرتى، فأنا لم أمارس العلاج الجمعى إلا مع مجموعات من الجنسين، وكان ذلك وما زال موقفى ليقينى أن المجتمع ليس نساء فقط، ولا رجالا فقط، وأن العلاج الجمعى ليس إلا عينة من المجتمع، وأن هذا الفصل، حتى لو كان له مبرر تارخى، فهو أبعد عن الطبيعة البشرية، وكنت أعجب بصديقى وزميلى أ. د. رفعت محفوظ حين يمارس (مضطرا)  العلاج الجمعى فى المنيا مع الإناث فقط، وهأنذا ابلغك موقفى واحترامى لهذا التخصيص الذى ما زلت لا أوافق عليه بالنسبة لشخصى،

 نرجع إلى مريضتك..

د.أميمة

….. وبكت “ش” بشدة وكانت هذه على ما يبدو آخر صفحة فى قصتها المؤلمة وأغلقت ملف الزوج،  فتكلمت لأول مرة عن موته،  و بموضوعية عن مميزاته وعيوبه،  ولم تعد مشاعرها ناحيته موجعة ..

د. يحيى:

لا ..لا ..لا… عندك، ليس هكذا، طبعا أصدقك كما قلت لك قبلا ولن أكرر ذلك، لكن ما هكذا تنتهى مثل هذه الحالات (ولا القصص) حتى لو انتهت هكذا، بمعنى: أنه حتى لو قالت المريضة ذلك بكل تأكيد فعلينا أن نقبله منها، ثم نعود إليه حتى رغما عنها حتى لا تكون المسألة مجرد كبت أو هرب لاشعورى يبدو وكأنه الشفاء التام من الذل الزؤام، الحديث عن موت الزوج (الذى مات مقتولا، لا ينبغى نسيان ذلك !!) قد يساعد فى تفسير بعض هذا الاقتراب من الواقع، لكن أن يصل الامر – فى مثل هذه الحالة- إلى وصف حديثها عن ميزاته وعيوبه بالموضوعية،  فهذا ما أدهشنى حتى الرفض، خصوصا أنك فى حكيك عنها لم تذكرى لنا أية مزية فى هذا الرجل يمكن أن تتحدث عنها، وقد تصورت أن هذه الميزات السرية  هى التى كانت مبررا لحبها له، لكننى عدلت تقريبا.

ثم كيف لم تعد مشاعرها ناحيته موجعة؟

 بصراحة، أنا مشاعرى تجاهه وأنا مجرد قارئ لحالتها من خلالك ما زالت موجعة جدا، ثم لا تنسى أنه مات مقتولا، وفى هذه الطبقة الاجتماعية ذات الثقافة الخاصة – وحتى عموما – يصبح لهذه الميتة وضع خاص (قد أرجع له حين أكتب عن “العديد” ودلالاته النفسية فى التراث المصرى خاصة)،

 المهم ..؟؟  

د. أميمة

..بدأ الحوار يصبح محوره هى شخصيا بدلا من زوجها. فوصفت الحالة التى دخلت بها المستشفى كالآتى “الدنيا ضاقت فى وشى ومش عاوزة أعيش لكن مش عاوزة أأذى نفسى تانى، لما الجسم يموت كل حاجة تانية بتموت،  مددت على السرير وقفلت عينى وبطلت حركة خالص لغاية ما بدأت أحس إن جسمى بيموت،  لكن مرات أخويا غسلت شعرى وحمتنى وقالت لى ريحتك بقت معفنة و أخذونى المستشفى”

… الحقيقة أنه أقشعر بدنى، فهذه أول مرة أسمع شخصا يصف إماتته لنفسه هكذا….

د. يحيى:

بصراحة، أنا معجب بذاكرتك يا أميمة !! !! يا ترى هل تقومين بتسجيل المقابلات والجلسات كما أفعل أنا أحيانا، أم أن هذه النصوص من الذاكرة؟ هذا المقتطف بالذات يؤكد قضية إمراضية (سيكوباثولوجية) شديدة الأهمية، وهى دور المريض فى مسألة  اتخاذ “قرار المرض”، أو “اختيار العرض” كحل لمأزق ما، أو تعبير عن موقف ما، وهى قضيتى المحورية التى كلما تكلمت فيها تصور العامة وربما أغلب الأطباء أننا نتهم مرضانا بصناعة المرض، وأننا بذلك نحرمهم من الشفقة التى يحتاجون إليها، هذه قضية تناولها شولمان Shulman فى كتابه “مقالات فى الفصام Essays in Schizophrenia (2) كما أننى شرحتها طويلا فى كتابى “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” (3)، إننى أعتبرها قضية جوهرية فى فهم الجنون من ناحية، واحترام اختيار المريض للمرض من ناحية أخرى، برغم أنه اختيار سلبى، لكنه احتجاجىّ قوى.

 إن احترام هذا الاختيار يتضمن تلقائيا احترام المريض لا اتهامه، ثم إنه يمهد الطريق إلى علاج المريض بمشاركته، بمعنى:  أن من اختار المرض، يمكنه أن يختار الصحة إذا ما أعاد النظر معنا ونحن نحترم احتجاجه، ولا نحترم سلبيته، نحترم رفضه ولا نحترم هربه ..إلخ

(على فكرة أشكرك على تعبيرك: ” .. فهذه أول مرة أسمع شخصا يصف إماتته لنفسه هكذا…. “)

عموما، فإن الحكم على مدى إيجابية مثل هذه النقلة يعتمد على المتابعة

د. أميمة

…بعدها انتقلت “ش”  إلى مرحلة أخرى، فقد بدأت تبحث لنفسها عن هدف فى الحياة وبرغم تخبطها وخلطها بين الهدف والعائق للهدف فقد كانت متحمسة. رأيتها مقبلة على الحياة منطقها سليم،  واقعية إلى حد ما،  محبة للجميع، سعيدة، مشرقة الوجه بالرغم من ندوبها، (وبدت) كالطفلة  التى تريد أن تبدأ حياة جديدة،  فظننت أنه قد آن الأوان لخفض جرعات الأدوية والبحث عن ذويها لأخذها فى إجازة و كان قد مرت سبعة أشهر على العلاج دون أى زيارة من أهلها .

 و كم كنت مخطئة ..

د. يحيى:

لا عندك، مخطئة ماذا؟

            أنت تشيرين إلى العلاج الدوائى لأول مرة بهذه الصورة، ولى ملاحظة اعتراضية عابرة، فقد دأبت حين يسمّى المريض الحبوب التى يتناولها “العلاج” أن أرفض ذلك، وأصر أن يعيد جملته ويسميها الدواء أو الأدوية أو الحبوب، وأفهمه بإصرار أن العلاج هو ما نفعله فى العلاج الجمعى هذا (أو التأهيل أو غيره) وأن الأدوية هى إحدى وسائلنا فى ذلك، (وليست هى العلاج) ولا أملّ من دخول هذا النقاش الذى يصل إلى درجة الشجار فى بعض الأحيان،

ثم إنى لم أفهم حكاية “الخلط بين الهدف والعائق إلى الهدف”، لكننى فرحت بالتعبير

وأيضا، ولا تؤاخذينى، توقفت عند وصفك لها هكذا: “… منطقها سليم،  واقعية إلى حد ما،  محبة للجميع، سعيدة، “، قلت فى نفسى  ” واحدة واحدة والنبى يا أميمة”،

 ومع ذلك: أى خطأ فى خفض جرعات العلاج (أتمنى أن يكون العلاج هو النيورولبتات أكثر من مضادات الاكتئاب، برغم التشخيص المبدئى  أنه اكتئاب ذهانى) ماالمبرر لاستمرار العلاج كما هو بعد كل هذا التحسن كما وصفتيه ؟ أين الخطأ؟

 أميمة

…. لقد أخذت ترتد و تفقد حيويتها،  فأسرعت بإعادة الجرعات السابقة دون فائدة،  مر أسبوع وكنت قد أجلت جلسة العلاج الجمعى لأسباب خارجة عن إرادتى،  والمريضة تتدهور، وفى آخر الأسبوع الذى يليه وجدتها الممرضة فى الصباح الباكر ممدة كالجثة بلا حراك تحت السرير. للمرة الثانية أقرر علاج الصدمات،  ثم لا أعطيه،  ودخلت جلسة العلاج الجمعى، وكما حدث تماما فى المرة الأولى تفاعلتْ وتحسنت وحالتها الآن مستقرة منذ أسبوعين

د. يحيى:

ألا يدل ذلك على أن مريضتك تواصل المسيرة العلاجية بكل تقلباتها، وإيقاعاتها المعاودة، الدالة على عناد إرادة الصحة للعدول عن اختيار المرض، وفى نفس الوقت: شدة حركية المرض؟

 ما هى تساؤلاتك تحديدا يا أميمة؟

د. أميمة:

(1) ما التفسير (على مستوى السيكوباثولوجى) لاستجابة المريضة السريعة للعلاج الجمعى؟.

(2) وهل يمكن الإستفادة من ذلك فى منع دخولها فى نوبات اكتئاب أخرى.

(3) وهل كان يفيد علاج الصدمات بالرغم من تحسنها؟ وهل تنصحنى به الآن مثلا؟

(4) ولماذا ترتد المريضة إلى هذه الحالة بالرغم من كل هذا التغيير الذى طرأ عليها؟

د. يحيى:

أولا:  أحترم سؤالك الأول إذْ تضمن تعبير، “على مستوى السيكوباثولوجى”، فبينى وبينك لا يوجد تفسير حقيقى جدير بالنظر والمناقشة إلا على مستوى السيكوباثولوجى (دعينا نعيدها لمن لا يتابعنا: إننا نعنى بمستوى السيكوباثولوجى:  مستوى “كيف الأعراض؟” كيف تتكون الأعراض؟، و”كيف الصحة” The “how of”، “كيف تعود الصحة”، وليس فقط:  ما هى الأعراض، وما السبب؟ ولا أن الصحة هى أن الأعراض اختفت (وخلاص).

ثم إننى أرجح أنه قد وصلتك- يا أميمة- بعض الإجابة على الأقل مما سبق مناقشته، طوال عرض الحالة والتعقيب عليها جزءا جزءا،  ودعينى أضيف الآن، ولو ببعض التكرار ما يلى:

* كما أن المرض “عملية” انسحابية هروبية، فالعلاج “عملية” تشكيلية إبداعية.

* المسيرة العلاجية الحقيقية هى التى تترجح هكذا، وليس التى تختفى فيها الأعراض فجأة، لتنقضّ هى أو ألعن منها فيما بعد

* الخبرة التى تتم فى العلاج الجمعى (الستة أشهر الأولى خاصة، ثم كل العلاج، هى – عادة- خبرة تراكمية إيجابية (إذا كان العلاج جادا صبورا، وهذا هو ما وصلنى من اجتهادك.

* معاودة التحسن بسرعة بعد معاودة العلاج الجمعى بالذات (وأحيانا علاج الوسط milieu therapy) فى مدة قصيرة تدل على أمرين: أن العلاج السابق كان جيدا، وأن التغير الإيجابى قد لا يظهر إلا لاحقا، وقد يحتاج لظهوره إلى ما نسميه “مُطلق” releaser ليطلق الخبرة العلاجية الإيجابية الكامنة من خلال العملية التى  أسميها “البسط” unfolding  

* معاودة النكسة بهذه السرعة وبهذا القصر (زمنا) فى نفس الوقت، يمكن أن تكون علامة إيجابية أيضا، وهى أفضل مما يسمى الهروب إلى الصحة، أو إلى ما يشبه الصحة Flight into health (or pseudo health)،

(أنت لا تعرفين، ولا جيلك، ما كنا نمارسه فى أواخر الخمسينات – قبل ظهور الأدوية الحديثة-، وكان يسمى علاج الصدمات مع العلاج الحمّىECT & Fever Therapy، حين كنا نعطى للمريض ثمان جلسات (كهربية) فتختفى الأعراض، فنعطيه المصل المضاد للتيفود حقنا فى الوريد بدءا بجرعات تتضاعف باستمرار (ثمان جرعات  نعطيها  بالتبادل مع ثمان جلسات أخرى، وكان المريض يصاب بهذه الحمى المصطنعة وترتفع درجة حرارته، بين كل جلسة من الجلسات الثمانية الأخرى، فتظهر الأعراض بسبب ذلك، فنعطيه الجلسة، وهكذا

 أظن أنه لا أنت ولا جيلك يمكن أن تصدقى ذلك بعد ما عملته شركات الأدوية  فى أمخاخنا، المهم: إن ما حدث لمريضتك هو أقرب إلى هذا المفهوم التاريخى الرائع الذى لم يكن يستسلم ويعلن انتهاء المعركة مع المرض  لمجرد اختفاء الأعراض الظاهرة )،

ثانيا: طبعا يمكن الاستفادة من كل ذلك، بل ينبغى الاستفادة من كل معلومة وتحسن ونكسة، ولكن الاستفادة ليست لمجرد منع دخول المريضة  فى نوبات اكتئاب أخرى، وإنما الإستفادة لا بد أن تشمل أبعادا أخرى مثل:

عدم اختزال الحالة إلى تشخيص “اكتئاب”(حتى لو أضفنا له صفة “ذهانى”)

عدم اختزال الحالة إلى مجرد تفاعل لما حدث لها من قهر ورفض وطرد وظلم (مع أن ما حدث لها يجنن بلدا بأكمله)

احترام النكسات، وليس مجرد تجنبها، والاستعداد لاستيعابها كما فعلتِ يا أميمة تماما

أن نتذكر أن ضبط خفض جرعات الأدوية، لا يتم  فقط بالنظر إلى  اختفاء الأعراض، وإنما أساسا يعاد النظر فى جرعة الأدوية مع نجاح التأهيل لاستيعاب طاقة المريض الحيوية فى “عمل له معنى” و “علاقة بالموضوع – بآخر” (4)

ثالثا: إسمحى لى يا أميمة  أن أؤجل الرد على السؤال الخاص بعلاج تنظيم إيقاع المخ، لأن الرد قد يستغرق مساحة تماثل  كل ما كتبت حتى الآن وأكثر،

لكن بصفة مبدئية دعينى  أقول لك:

إن توقيت إعطاء هذه المنظمات لإيقاع الدماغ  هو أهم قرار فى ترجيح فائدة هذا الذى يسمى صدمات، التى هى  بمثابة “إعادة التشغيل re-start التى نمارسها مع الكمبيوتر، وكأن إعادة التشغيل يمكن أن تصحح ما كان سببا فى لجوئنا إلى تلك المحاولة (إعادة التشغيل)، وهى  – فى حالة الكمبيوتر- يمكن أن تصيبه بالسكتة أو بربكة أكبر، حسب سبب العطل، لكنها غالبا  تستطيع أن ترتب المعلومات والبرامج وتصحح الخطأ.

كذلك المخ البشرى، لا بد أن نحاول أن نضمن كيف أنه جاهز لتكون نتيجة إعادة التشغيل إيجابية، من خلال:

 (أ) الإعداد لذلك بكل التمهيد العلاجى،

 و(ب) التهيئة بعقاقير معينة تثبط غلبة طغيان المخ البدائى،

 و(ج) بداية تأهيل مناسب للحالة،

 و(ء) ظهور ملامح قرار إرادى فى اتجاه إيجابى، وكل ذلك يحتاج إلى شرح طويل، وهو موجود فى الموقع (الهوامش)

(مرحليا أرجو الرجوع فى الموقع إلى بداية كتابتى فى هذا الموضوع باسم “صدمة بالكهرباء أم تنظيم للإيقاع” (5) 

مؤقتا أقول لك: لقد فعلتِ أنت ما ينبغى فى الوقت المناسب، وأرى أن تتأكدى من احتمال عودة مريضتك إلى حياة أطيب وأقدر، فيها ناس “بحق وحقيق”، يرونها، مثلما رأيتِها أنت وزميلاتها، ثم قد تحتاج تنظيماية (جلسة) أو اثنتين (لتنطلق)، ولكن هذا يحتاج لمعلومات عنها وعن المرحلة الحالية  أكثر كثيرا جدا  قبل أن أفيدك برأيى تحديدا.

رابعا: سؤالك الرابع، أظن أننى أجبت عنه  ضمنا فى أولا وثانيا.

شكرا.

 

[1] – نشرة الإنسان والتطور بتاريخ: 10-12-2007 عن التعدد  www.rakhawy.net

[2] –  Shulman  B. H. (1968) Essays in schizophrenia. Baltimore: the Williams & Wilkins

[3] – كتاب “دراسة فى علم السيكوباثولوجى”   1979 منشورات جمعية الطب النفسى التطورى

[4] – برجاء الرجوع إلى اطروحة:”استعمال العقاقير والعلاج النفسى: خاصة للذهانيـين فى العلاج الجمعى” P.P.T    

[5] – “صدمة بالكهرباء أم تنظيم للإيقاع” عدد ابريل 1982 مجلة الإنسان والتطور www.rakhawy.net   

 

admin-ajax (4)admin-ajax (5)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *