نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 1-6-2019
السنة الثانية عشرة
العدد: 4291
بعض معالم علاج النفس
من خلال الاستشارات عن بُعد
الاستشارة التاسعة
نتعلم من امرأة أمية، ونتألم لقهرها سحقا! (1 من 2)
د. أميمة رفعت
عرض الحالة كلها أولا:
” ش” ذهانية مريضة بالاكتئاب، عمرها 44 سنة، فلاحة أمية من قرب الإسكندرية، مطلقة، تزوجت لمدة عام واحد أو أقل قليلا، ليس لديها أولاد .عندما كان عمرها 22 عاما تزوجت شابا مزواجا، لديه بالفعل زوجتان، طلق الأولى ليتزوج منها. “ش” حملت منه بعد الزواج مباشرة، وفى شهرها السابع ضبطته فى وضع جنسى مع أخرى خلف الدار. غضبت وتشاجرت معه ولكن حماتها نهرتها بشدة وأسكتتها لأن (الرجل من حقه أن يفعل ما يشاء ووظيفتها خدمته وإنجاب أطفاله فقط). بعد بضعة أيام قامت مشاجرة بالأيدى والأرجل بينها و بين ضرتها كانت نتيجتها إجهاض الجنين، فدخل الزوج عليها غاضبا وأوسعها ضربا لفقدها الطفل ثم طلقها فى اليوم التالى. إنهارت ” ش” وبدأت تسمع أصواتا تحثها على التخلص من حياتها فسكبت على رأسها الجاز وأشعلت فى نفسها النار، فتشوه وجهها وصدرها وذراعاها وكفاها تشوها شديدا. أثناء علاجها فى قسم الحروق كانت مكتئبة بشدة ولازمتها الأصوات والهلاوس فكادت ترمى نفسها من شرفة المستشفى لولا أن التمريض منعها، ومنذ ذلك اليوم و هى مترددة على مستشفى النفسية ظل الزوج على عادته من زواج وطلاق حتى قـُتِل منذ عامين بيد صعيدى تزوج أخته ثم خانها مع أخرى، وبذلك تكون قد طويت آخر صفحة من حياته.. ولكن لم يغلق ملفه عند “ش”، بدأتُ علاجها منذ عام و نصف تقريبا، وأدخلتها العلاج الجمعى وكانت معذبة بشدة بحبه، وتظن أنه لو يمكن الرجوع بالزمن لاستمرت زوجة مطيعة محبة تستطيع الإحتفاظ به إلى الأبد، فقد كانت تشعر بالذنب و لم تستطع الخروج من هذه الدائرة. خرجت “ش” من المستشفى بعد ستة أشهر من العلاج الجمعى ولم أشعر أنها إستفادت أى شىء، أو أنها تحسنت بأيه صورة. بعد أربعة أشهر رجعت ثانية وهى فى حالة يرثى لها، لا تأكل ولا تنام ولا تتحرك و لا ترد على أى إنسان وأقرب ما تكون إلى حالة السبات أردت أن أضيف إلى علاجها علاج بالصدمات ( تنظيم إيقاع المخ)، ولكننى بدلا من أن أفعل ذلك وجدتنى أجلس أمامها وأتناول يديها بين يدى و أطلب منها أن تحضر أول جلسة فى مجموعة العلاج الجمعى الجديدة، لم ترد و أخذتها معى …وقبل أن توبخنى يا سيدى فقد وبخت نفسى فى الطريق بشدة ونَعتُ نفسى بالإندفاع والغباء ولكننى لم أستطع التراجع. ومع ذلك فما حدث كان مفاجأة ..فبعد حوالى ربع ساعة من الجلسة بدأت ترد وتستجيب بصوت خفيض أولا ثم تكلمت و أطالت بل وآخر خمس دقائق إشتركت فى دور مينى دراما !!لم أعطها الصدمات و بدأت فى التحسن… فى العلاج الجمعى حدثت تغيرات كثيرة، فقد بدأت تميز أنها لا تحب زوجها فقط و لكنها أيضا تكرهه بشدة، وبدأت تتعجب لتبادل الشعورين عندها..وربما يجب علىّ هنا أن أنوه أن هذه المريضة بالذات لديها قدرة غير عادية على إستخدام الكلمة و اللفظ فى مكانهما الصحيح، كما تستطيع سبر غور نفسها وغور زميلاتها بحساسية شديدة و تشرحه وكـأنها تقرأه من كتاب. ففى إحدى الجلسات مثلا كانت تعيد إحياء موقف حدث مع مريضة أخرى وبعد أن انتهت قالت أن ما وصلها أن هذا الجزء من السلوك قام به الطفل الذى بداخلها والجزء الآخر قامت به “ش” الكبيرة العاقلة التى تريد أن تحتوى الموقف…!!! المهم أنه فى جلسة أخرى كان حديث المريضات عموما عن أزواجهن وبكت “ش” بشدة وكانت هذه على ما يبدو آخر صفحة فى قصتها المؤلمة و أغلقت ملف الزوج، فتكلمت لأول مرة عن موته، و بموضوعية عن مميزاته وعيوبه، ولم تعد مشاعرها ناحيته موجعة …وبدأ الحوار يصبح محوره هى شخصيا بدلا من زوجها. فوصفت الحالة التى دخلت بها المستشفى كالآتى “الدنيا ضاقت فى وشى ومش عاوزة أعيش لكن مش عاوزة أأذى نفسى تانى، لما الجسم يموت كل حاجة تانية بتموت، مددت على السرير وقفلت عينى وبطلت حركة خالص لغاية ما بدأت أحس إن جسمى بيموت، لكن مـِـرَات أخويا غسلت شعرى وحمتنى وقالت لى ريحتك بقت معفنة وأخذونى المستشفى”… الحقيقة أنه أقشعر بدنى، فهذه أول مرة أسمع شخصا يصف إماتته لنفسه هكذا…. إنتقلت “ش” بعدها إلى مرحلة أخرى، فقد بدأت تبحث لنفسها عن هدف فى الحياة وبرغم تخبطها وخلطها بين الهدف والعائق للهدف فقد كانت متحمسة. رأيتها مقبلة على الحياة منطلقة، واقعية إلى حد ما، محبة للجميع، سعيدة، مشرقة الوجه بالرغم من ندوبها، تبدو كالطفلة التى تريد أن تبدأ حياة جديدة، فظننت أنه قد آن الأوان لخفض جرعات الأدوية والبحث عن ذويها لأخذها فى إجازة وكان قد مر سبعة أشهر على العلاج دون أى زيارة من أهلها. وكم كنت مخطئة .. فقد أخذت ترتد وتفقد حيويتها وأسرعت بإعادة الجرعات السابقة دون فائدة، مر أسبوع وكنت قد أجلت جلسة العلاج الجمعى لأسباب خارجة عن إرادتى، والمريضة تتدهور، وفى آخر الأسبوع الذى يليه وجدتها الممرضة فى الصباح الباكر ممدة كالجثة بلا حراك تحت السرير. للمرة الثانية أقرر علاج الصدمات، ثم لا أعطيه، ودخلت جلسة العلاج الجمعى، وكما حدث تماما فى المرة الأولى تفاعلت وتحسنت وحالتها الآن مستقرة منذ أسبوعين.. السؤال هو:
ما التفسير (على مستوى السيكوباثولوجى) لاستجابة المريضة السريعة للعلاج الجمعى؟
وهل يمكن الإستفادة من ذلك فى منع دخولها فى نوبات إكتئاب أخرى؟.
وهل كان يفيد علاج الصدمات بالرغم من تحسنها؟ فهل تنصحنى به الآن مثلا؟
ولماذا ترتد المريضة إلى هذه الحالة بالرغم من كل هذا التغيير الذى طرأ عليها؟ (من السخف الإعتذار كل مرة عن الإطالة ولكننى فعلا لم أستطع الإختصار أكثر من ذلك(
د. يحيى:
شكرا د. أميمة، وهيا بنا واحدة واحدة
د. أميمة:
ش” ذهانية مريضة بالاكتئاب، عمرها 44 سنة، فلاحة أمية من كفر الدوار،
د. يحيى:
أصبحت أتحفظ يا أميمة على تعبير”مريضة بالاكتئاب”، من كثرة استعماله فى موضعه وغير موضعه، لكننى أرحب بتعبير “ذهانية، علما بأن محاولات التصنيف والتوصيف الأحدث للذهان ليست أفضل على كل حال.
ثم إنى أفيدك، وأفيد الجميع، أننى تعلمت من الأميات ما هو إمراضية “سيكوباثولوجى” Psychopathology أكثر مما تعلمت من المتعلمات والمتعلمين، ناهيك عن المثقفين، وأعتقد أننا فى مصر، وفى البلاد التى مثلنا، عندنا هذه الفرصة – لمن احترَمَ ونَظر – أكثر من البلاد التى محت الأمية الكتابية القرائية بالسلامة، حيث لا توجد عندنا – بفضل الجهل– شبهة أصلا لتشويه حركات وتقلبات التراكيب النفسية الأعمق نتيجة للقراءة عنها، فأغلب ما نسمعه من هؤلاء المرضى الأميين والأميات الثقات، هى معايشة طليقة غير ملوثة بما نشيعه عن المرض النفسى، أو حتى نعتقده عنه.
الأمى يا أميمة يقول ورزقه على الله، وعلاجه على من يحترمه ويفهمه ويواكبه بفضل الله.
ما زلت أذكر – يا أميمة- خبرة باكرة جدا، حين عاد من أنجلترا زميل حصل على شهادة عُليا وتدريب جيد، وبدأ تجربة العلاج الجمعى مع مجموعة من طلبة الجامعة، (ربما لضمان عدم أميتهم!!)، ثم توقف هذا الزميل الفاضل عن تكملة التجربة، بحجة أن هؤلاء المرضى – مع أنهم جامعيون- يفتقرون إلى الرطانة أو الطلاقة النفسية، أو التحليلية النفسية، أو بتعبيره not psychologically (or psychoanalytically) sophisticated، وقد تعجبت ساعتها، وبلعتها احتراما لجهلى، ولجهد محاولته معا، وظل حالى كذلك حتى مارستُ شخصيا العلاج الجمعى مع ناسنا “كما هم”، وذلك طوال الثمانى والثلاثين سنة الماضية([1]) فى قصر العينى بوجه خاص، مع مجموعات عيادة خارجية، مجانا، وأغلبهم مرضى من الطبقة التى تسمى “أدنى”، وأكثرهم ذهانيون وأميات..إلخ، فكانوا – وما زالوا- أساتذتى بحق طول الوقت، هؤلاء الأميين والأميات دافعوا عنى حين أقروا –بتفاصيل مرضهم- رؤيتى من خلال تلقائيتهم العفوية وألفاظهم البسيطة، فرحمونى من اتهام أننى اوحى لمرضاى بتنظيرى فيرددونه،
أنا مدين لهم تماما يا أميمة،
ليس معنى هذا أننى أصفق للأمية أو للتخلف، لكن الاستطلاع العلمى شىء آخر، وعلينا ألا نخجل من فقرنا أو جهلنا، فعندنا ما يكمل ما عندهم، حتى لو كان بالصدفة، فهم مثلا يحاولون دراسة الحالات الذهانية الشديدة التى تتواتر فى مجتمعاتنا دون مجتمعاتهم والتى لم تتعاطَ عقاقير أصلا (بسبب الفقر غالبا) ليعرفوا المرض قبل أن تلعب فى صورته العقاقير (!!)، لكن هذه مسائل أخرى، خلنا فى حالتك:
د. أميمة:
هى مطلقة، تزوجت لمدة عام واحد أو أقل قليلا، ليس لديها أولاد .عندما كان عمرها 22 عاما تزوجت شابا مزواجا، لديه بالفعل زوجتان، طلق الأولى ليتزوج منها. “ش” حملت منه بعد الزواج مباشرة، وفى شهرها السابع ضبطته فى وضع جنسى مع أخرى خلف الدار .غضبت وتشاجرت معه ولكن حماتها نهرتها بشدة وأسكتتها لأن “الرجل من حقه أن يفعل ما يشاء و وظيفتها خدمته و إنجاب أطفاله فقط”..
د. يحيى:
ألم تقولى يا أميمة أن عندها 44 سنة؟ إذن فقد مضى على هذا الحادث اثنتان وعشرين سنة، إن عرضك هكذا يوحى أن ما أصابها هو عقب زواجها مباشرة، أما علاجها فهو الآن، صعب متابعة هذه الحالة دون أن نعرف تفاصيل هذه الاثنتين وعشرين سنة (بصراحة: فى أول قراءة لم أنتبه إلى هذه المدة، وتصورت أن الحالة بدأت منذ وقت قريب!!) ومع ذلك: أعتقد أن هذا مدخل مهم ننظر فيه سويا ونحن نراجع بعض تشكيلات هذا القهر الساحق الذى لا يزال يجرى فى مجتمعنا اليوم (2008)
هذه صورة عشوائية لوضع المرأة عندنا هنا والآن، وهى طبعا لا تمثل كل النساء، كما أن بعضنا يظن أنها تراجعت قليلا أو كثيرا عن ذى قبل، وربما يكون هذا البعض على حق نسبيا، أو لعله يأمل فى تراجعها فصدقها، لكن واقع الأمر أنها صورة مازالت موجودة، وبكل هذه القسوة.
لا مجال للتعقيب عليها بالحديث عن مدى ظلم المرأة فى مجتمعنا وقهر الرجل لها، فالصورة أوضح من أى تعليق، فقط: أريد الإشارة إلى موقف حماة المريضة، وهى امرأة، أليس كذلك؟، ثم موقف الضرة، التى لم نعلم عنه شيئا، وهى امرأة، ثم موقف الأخرى التى ارتضت أن تستسلم أو تشارك فى هذا الوضع الجنسى خلف الدار، وهى امرأة، ناهيك عن موقف الزوجة الثانية التى طُلقت ليتزوج زوجها من مريضتنا! أربعة نساء جاؤوا فى حكايتك يا أميمة: زوجة ثالثة، وضرتها، وحماتها، والرابعة امرأة “خلف الدار”، وكلهن مقهورات مقهورات مع اختلاف التشكيل، نعم، كلهن بما فى ذلك الحماة، فقد تصورت أنها تنتقم من نفسها بما قالت، وليس فقط من زوجة ابنتها، هذا ما وصلنى، بشكل ما، يا ساتر !! هل لهن خيار أصلا هكذا؟ لست أدرى.
برغم كل ذلك، لا يصح أن نختزل سبب مرض “ش” إلى هذا السبب المباشر، وإلا بدت المسألة مسلسلاتية مسطحة، لأن كل مقهورة (ومقهور) يمكن أن يصيبه ما هو ألعن من المرض النفسى، ثم إنه من منطلق علم النفس الضحية victimology مشارك فيما يحدث له.
ما علينا، دعينى أوقف هذا الاستطراد قسرا. وأرجع إلى تفاصيل حالتك،
ثم ماذا؟
د. أميمة
بعد بضعة أيام قامت مشاجرة بالأيدى والأرجل بينها وبين ضرتها كانت نتيجتها إجهاض الجنين، فدخل الزوج عليها غاضبا وأوسعها ضربا لفقدها الطفل ثم طلقها فى اليوم التالى.
د. يحيى:
لا أعرف يا أميمة موقع الإنجاب هنا، ولا سبب حرص الزوج على هذا الطفل، هل يا ترى زوجته الحالية، بعد أن طلق الأولى، كانت عاقرا، فتزوج من مريضتنا للإنجاب؟؟
أما أنه ضربها فقد ضربها، بعد أن ضربتها ضرتها بالأيدى والأرجل،
لكننى توقفت عند احتمال ضربها لفقدها طفلها، فهى لم تجهض نفسها، بل ضرتها – على حد قولك- هى التى ضربتها، فأجهضتها، وكان الأوْلى من هذا الزوج الذى اقتنى مفرخة جديدة، أن يضرب ضرتها أو يطلقها ،أو حتى أن يطلقهما جمعا!!
بصراحة لقد افتقدت هذه المعلومات وأعذرك لاضطرارك الاختصار، فاعذرينى للتساؤل. ثم ماذا؟
د. أميمة:
إنهارت “ش” تماما و بدأت تسمع أصواتا تحثها على التخلص من حياتها فسكبت على رأسها الجاز وأشعلت فى نفسها النار، فتشوه وجهها وصدرها وذراعاها وكفـّاها. أثناء علاجها فى قسم الحروق كانت مكتئبة بشدة ولازمتها الأصوات والهلاوس فكادت ترمى نفسها من شرفة المستشفى لولا أن التمريض منعها،
د. يحيى:
الإيقاع سريع، يا أميمة، وقد بدا لى خطـّيا أكثر مما توقعت، وغياب التوقيت الزمنى تحديدا يزيدنى ربكة، ثم إن فشل الانتحار مع ترك هذه التشوهات خصوصا فى الوجه، هو أقسى مما لو كان قد نجح، وتكرار محاولة الانتحار فى المستشفى له دلالته كنذير حقيقى لخطر حقيقى.
ظهور الهلاوس السمعية (الأصوات) بدا لى أيضا يحتاج إلى بعض الإيضاح: هل كانت هلاوس آمِرة هى التى أمرتْها فحرقت نفسها، أم أنها كانت هلاوس اكتئابية عدمية مثلا، أو ربما كانت هلاوس الذنب لو أنها صدقت أنها –شخصيا- كانت السبب فى الإجهاض، وهذا وارد فى هذا النوع من الاكتئاب، حتى لو خالف الحقيقة تماما؟
ثم إنكِ أشرتِ لاحقا أنها كانت تحب زوجها هذا، وهو مَن هو كما ذكرتِ، وهذا قهر جديد، وبالتالى تكون صدمة الطلاق ليست أقل من صدمة الإجهاض، وذل القهر، وحب القاهر الطاغى كل هذا محتمل للأسف،
الأمور غير واضحة لى، ثم ماذا؟
د. أميمة:
منذ ذلك اليوم وهى تتردد على مستشفى النفسية. وقد ظل الزوج على عادته من زواج وطلاق حتى قتل منذ عامين بيد صعيدى تزوج أخته ثم خانها مع أخرى، وبذلك تكون قد طويت آخر صفحة من حياته..، ولكن لم يغلق ملفه عند “ش”.
د. يحيى:
تعرفين يا أميمة أننى أصدق كل حرف تقولينه، ومع ذلك شعرت أننى أمام مسلسل مثير سريع درامى صارخ مباشر للأسف، ما علينا، إذن فقد قتلوا الزوج منذ عامين، أى بعد الطلاق بحوالى عشرين سنة، لعله انتقام من الله، أو غير ذلك،
الذى شدنى فى حالتنا هذه – بما يتيح لى فرصة شرح معلومة هامة – هو إشارتك التى تفيد أن نتذكر أن الوفاة الجسدية (بالقتل أو بغيره) لا تعنى اختفاء المتوفى من وعينا، فقد يظل حضوره الحقيقى قائما فاعلا كـ….”ذاتٍ” منطبعة فاعلة فى أى طبقة من طبقات وعينا، يحدث هذا حتى فى الأحوال السوية، خصوصا بين الآباء الطغاة القساة الشكاكين وأبنائهم، خصوصا إذا حضرالإبن وفاة والده وهو يحمل تجاهه تلك المشاعر المتناقضة،، يحدث هذا أيضا فى أية علاقة حميمة حين يحل الموت دون أن تأخذ العلاقة مسارها فى النضج من الطرفين قبل أن يختفى أحدهما
ولكن عندك، نحن فى ماذا أم ماذا؟ أى نضج وأى أطراف أصلا؟ ما هذا؟ نحن فى حرب قهر وإذلال وحب غبى وعلاقة غير متكافئة، تقولين ” لكن لم يغلق ملفه (ملف الزوج الحبيب القتيل) عند “ش”، هذا صحيح
فكيف كان ذلك؟
د. أميمة:
بدأت علاجها منذ عام و نصف تقريبا، وأدخلتها العلاج الجمعى وكانت معذبة بشدة بحبه، وتظن أنه لو يمكن الرجوع بالزمن لكانت زوجة مطيعة محبة تستطيع الاحتفاظ به إلى الأبد، فقد كانت تشعر بالذنب و لم تستطع الخروج من هذه الدائرة. ثم خرجت “ش” من المستشفى بعد ستة أشهر من العلاج الجمعى ولم أشعر أنها استفادت أى شىء، أو أنها تحسنت بأى صورة.
د. يحيى:
أعتقد أن هذه ملاحظة شديدة الدلالة والأهمية، فما أصابها من مرض شديد هكذا قد يبدو لأول وهلة نتيجة مباشرة للظلم الذى وقع عليها، لكن ها نحن نتبين أنه أقرب إلى أن يكون – فى الظاهر على الأقل- نتيجة لخلل علاقاتى يسمى “الحب” (الذى يبدو أنه استمر عشرين عاما بعد كل ما حدث !!)، وهو هنا يبدو خليطا من الهوان، والتقمص (ربما للانتقام لاحقا)، والامّحاء، وعقاب الذات، والاعتمادية، وقبول التحدى، والاستسلام للتأثيم (الإشعار بالذنب) تصورى؟؟، ومع ذلك قد يجتمع كل هذا معا ويسمى”حبا”، تصورى – مرة أخرى ! ؟!!! وبالتالى كما نعلم، أو نتصور أننا نعلم، يطيع المحب محبوبه ويتفانى فى إرضائه، ولكن ليته رضى !! لقد طلقها، ثم زودها فمات (رضى أن يموت مقتولا !!) فهو قد تخلى عنها نهائيا، وبذلك قـَـتـَـل – بموته- أملها فى الرجوع أصلا (ولو بعد عشرين سنة!!)، وأيضا ربما أملها فى الانتقام، لقد رفضت موته فأبقته حيا فى وعيها، ربما لتنتقم منه كما ذكرت، وهنا قد نفهم دلالة تعبيرك: الاحتفاظ به “إلى الأبد”، أنا لست متأكدا هل هذا كان تعبيرها هى، بنفس الألفاظ (إلى الأبد) أم أنه وصفك أنت لموقفها المتعلق بالحبيب الطارد ثم الراحل!!؟
بالله عليك هل رأيت ذلا أكبر من ذلك؟ ألم تشعرى أنها تواصل ما كان يفعله هذا الطاغى التافه مضاعفا عدة مرات، ألم تلاحظى كيف تذل نفسها بحبه هكذا حتى بعد رحيله، إياك يا أميمة أن تعملى مثلهم وتقولى إنها فعلت وتفعل ذلك “لأنها مجنونة”، فالمجنون يرينا مصيبتنا بتكبير لا نستطيع أن نغفله إلا بوصفه بالجنون،
………………..
ونكمل غدًا
أنا آسف
[1] – الآن 47 سنة 2019