“نشرة” الإنسان والتطور
الأربعاء: 24-12-2014
السنة الثامنة
العدد: 2672
الوجود بلا قضية (1)
مع تزايد الصحف والخطب والمسلسلات والاجتماعات،المناقشاتية .. يتراجع الحوار والمواجهة والتحدى القادر على إعادة خلق الحياة مع إعادة تشكيل الوعى، فيصبح العقل صندوقا مظلما محكم الاقفال رغم ظاهر الزركشة، لا يصلح إلا لترديد الأصوات النابغة من النقر على السطح، وأنا أشير فى ذلك الى حال الفرد العادي، ولا أخص بالذكر ولا أستثنى المثقف البراق.
والمتلفت حوله متأملا فى الشارع الثقافى (وينبغى أن يكون ثمة شارع ثقافى وهو ما يقابل الشارع السياسى وهو مختلف عن البرج الثقافى والمؤسسة الثقافية) لابد أن يلاحظ أنه لاتوجد قضية حقيقية تؤرق اعماق الناس وتحفزهم فى ان تؤرقهم فردا فردا كلا على حده، حتى اذا التفوا ظهرت حتما فى حوارهم وأعلنتهم همهم المشترك الناتج عن مأزق شامل مهدد أو أمل غائب ملوح.
ولابد ان اوضح أن ما أعنيه هنا بقضية هو امر يختلف عن السب الايديولوجى والنكتة السياسية والتعليق السريع على مسلسل لحوح، فكل هذه أمور أصبحت تبدو وكأنها واجبات ملحة، وأن من حقها أن تحتل فكرنا وتستحوذ على اهتمامنا وتقتل وقتنا حتى يغلبنا النوم أو الموت، الا أن وراء كل ذلك وأمامه يوجد مطلب اساسى يتعلق بنوع الوجود الخليق بأن ينشط فينا غريزة احترام كائنات ذات وعى فائق تنتمى إلى فصيلة الإنسان وهذا ما أسمية بالقضية.
وأنا لا أفرح بتبرير “اختفاء القضية” بالتفسيرات الاقتصادية والإسقاط العدوانى على الغير ولا أزعم فى نفس الوقت آن أزمات التموين والاسكان لا ينبغى أن تأتى فى المقام الأول وإنما أمل فى نفس الوقت ايضا ان تكون هذه الازمات هى مجرد الجسم الخارجى لقضية الوجود المتحدى المعاصر.
ان اللعبة التى استدُرجنا اليها هى ان المشاكل الفرعية حلت محل القضايا الاساسية بدعوى أنه يستحيل تناول القضايا قبل المشاكل ولكن المتابع الأمين يستطيع ان يلاحظ ان القلة التى نجحت فى حل مشاكل التموين والاسكان والمواصلات الخاصة لم تنتقل من المستوى المشاكلى الى قضيتها وإنما انتقلت الى ما يمكن ان يسمى مشاكل الرفاهية وكأنه كتب علينا ان نقضى نصف حياتنا فى مشاكل التأمين الاساسى والنصف الثانى فى مشاكل الرفاهية فأين القضية؟
وقد تصورت ان الكهرباء قد انقطعت عن عائلة مجتمعة حول تليفزيون أو جماعة تسمر فى نادى هيئة تدريس أو ثلة شباب فى حلقة رقص او مجموعة تسمع كاسيت للريس جرجاوى على مصطبة الدوار وتصورت ان النوم والانصراف كانا متعذرين لسبب او لآخر، فما هو محتوى الحديث الذى سيتبادله الجلوس فى الظلام بعد الدعابة والخوف من الفئران، وأخبار الدورى والجمعية وطابور السوبر والأسعار، لم أجد أن الحديث يمكن أن يخرج عن مواعيد العمرة والسفر “بره” حتى يأتى النور فنعاود الاستقبال دون الإرسال أو يأتى النوم فنعاود الغيبوبة دون الحلم لم أجد شيئا أخر واكد لى خيالى انه ليس ثمة قضية عامة نعيشها فردا فردا بمسئولية خاصة، قضية تؤرق الناس فيما يتعلق بماهم وبمصيرهم وبحقهم فى الوعى وبتهديدهم بالعمى بعيدا، أية قضية جوهرية إلا مقتصرين على قضايا تبدأ من المشاكل اليومية ولا تتعداها
فاذا انتقلنا محيرين مستنقذين الى مجتمع المثقفين فى لقاءاتهم ومعاركهم وتنافسهم وخلافه .. لوجدنا أن ثمة قضايا تطفو على سطح الوعى ليست كافية، أو ليست هى، فثمة قضية للمسرح وقضية للشعر وقضية للتراث وقضية للبحث العلمى ولكن قاريء الوجوه المتحمسة قد يكتشف أن هذه القضايا إنما تمثل مسائل خارجية أكثر منها مؤرقات شخصية ومسئولية ذاتية (اذهى عامة فى نفس الوقت) وحتى اولئك الأعلى صوتا وأوضح ايديولوجية لايبدو انهم يعايشون الأمور بعمق وجودى خاص وإنما هم يدافعون عن انتمائهم لحل مسكن مأمول ورد الى عقولهم جاهزا كاملا لا يشكّون فى نجاحه ولا يفكرون فيما بعده لا يعانون الهم المبدع ولا يواجهون التحدى المراجع.
ولا يمكن ان اختم حديثى دون الإشارة الى تبرير هروبى شائع يصور لنا القضايا باعتبارها دينية “من أمر ربى “أو فلسفية من أمر الصفوة “المتحدثة” – فينسون بذلك ان الدين قد حمّلنا مسئولية كل فرد على حدة (افلا يتفكرون) بقدر ما حمّلنا مسئولية كل الناس “وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيْعًا”.
كما ينسون أيضا أن الفلسفة هى فعل يومى وليست وجاهة عقلية
ليس مهربا ما أدعوا اليه أو لعله كذلك
ولم لا؟!
[1] – هذا المقال نشر بنصه فى الأهرام بتاريخ: 21/12/1982 ومّر ثلث قرن، فهل جدّ جديد؟