الرئيسية / الأعمال الأدبية / كتب أدبية / الكتاب الثانى: فى شرف صحبة نجيب محفوظ

الكتاب الثانى: فى شرف صحبة نجيب محفوظ

 

الكتاب الثانى

 

فى شرف صحبة 

 نجيب محفوظ

                

من الأحد: 5/2/1995

حتى الجمعة:‏ 21/4/1995

  

د. يحيى الرخاوى

  

الطبعة الأولى

2018

مقدمة:

هذا هو الجزء (الكتاب) الثانى الذى أود من خلاله أن أقدم إنسانا مصريا يكاد يمثل أجمل وأعظم ما كرم الله به بنى آدم.

وهو ليس من واقع تسجيل صوتى أو أى تسجيل تقنى وإنما هو رصد حركية مشاركة “وعى بينشخصى” عن مريد (أنا) لشيخ طيب مبدع جميل وهو يرصد فترة محدودة يمكن قراءتها مستقلة، كما يمكن  وصلها بالكتاب الأول (من الأربعاء: 19/11/1994 حتى الجمعة: 3/2/1995) وما بعدها الكتاب الثالث (من الأثنين 24/4/1995  حتى الجمعة: 18/8/1995) وتبلغ كل المدة التى رصدت فيها حوارات الوعى هذه عدة شهور فقط  (من 11 ديسمبر 1994 حتى 17 أغسطس 1995) مع أننى عاشرته بنفس الإيقاع تقريبا إثنى عشر عاما (من 1996 حتى 2006).

والحمد لله أننى توقفت عند هذا الحد، وإلا ما كان يمكن لهذا العمل أن يرى النور، كل ما أرجوه هو أن تكون هذه الكتب “عينات” ممثله تتجاوز حوار السؤال والجواب، كما تتجاوز أيضا مستوى مجرد تسجيل المواقف والآراء.

لكنها هى..

الإهداء:

إلى نفس من أهديتم الكتاب الأول والثالث!!

الحلقة الثامنة والعشرون

 الخرافة والأسطورة والغيب تعدد الذوات

الأحد: 5/2/1995

الآن‏ ‏أكتملت‏ ‏الأيام‏ ‏الستة، اليوم الأحد‏- ‏أول‏ “‏أحد‏” فى خطة ‏خروج‏ ‏الأستاذ إلى الشارع والناس، ‏يعيش‏ ‏الأستاذ‏ ‏كل‏ ‏يوم‏ ‏وهو ينتظر‏ ‏موعد‏ ‏الخروج‏ ‏فى ‏اليوم‏ ‏التالى، نادرا ما كنت أدخل عليه بيته فأجده جالسا ينتظر، كان عادة ينتظر وهو يمشى رائحا غاديا فى الصالة، ‏عودُه‏ ‏مُشهر – إلا قليلا -‏ ‏كالسيف‏ ‏فى ‏الردهة،‏ ‏ينتظر‏ ‏ساعة‏ ‏الخروج‏ ‏بالثانية،‏ ‏لينطلق‏ ‏على ‏الفور، ذهبت اليوم لاصطحابه إلى بيتى بصفة استثنائية برغم أننى كنت اتفقت مع توفيق صالح أن يحضرا معاً، لم يكن الرأى قد استقر بعد على أن يخصص يوم الجمعة فقط لبيتى، ‏وجدته مع‏ ‏توفيق‏ فى المنزل ‏وهما‏ ‏ينتظرانى، ‏سألنى ‏توفيق‏ “‏لـِمَ‏ ‏أتعبت‏ ‏نفسك‏ ‏لقد‏ ‏كنا‏ ‏قادمين”، ‏قلت‏ ‏له‏ “‏إننى ‏خشيت‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏قد‏ ‏شُغلت‏ ‏لأنك‏ ‏لم‏ ‏تكلمنى ‏فى ‏التليفون‏ لتؤكد‏ ‏علىّ ‏أنك‏ ‏ستصحب‏ ‏الأستاذ”، ‏قال‏ ‏”إنك‏ ‏حرفوش‏ ‏جديد، ‏نحن‏ ‏الحرافيش‏ ‏لا‏ ‏نتكلم‏ ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏تغير‏ ‏ما‏ ‏اتفقنا‏ ‏عليه، ‏أما‏ ‏ما‏ ‏اتفقنا‏ ‏عليه‏ ‏فهو‏ ‏سارٍ‏ ‏بالثانية‏ ‏الواحدة”، ‏وفرحت‏ – ‏رغم‏ ‏ما‏ ‏سبق‏ ‏ذكره‏ – ‏من‏ ‏حكاية‏ ‏حرفوش‏ ‏جديد‏ ‏هذه، ‏كنت‏ ‏أخشى ‏ألا‏ ‏نجد‏ ‏فى بيتى، واليوم الأحد، صحبة‏ ‏كافية، ‏محمد ابنى‏ ‏معتذر‏ – ‏وحافظ‏ عزيز ‏معتذر، ‏ولم‏ ‏أجد‏ د.‏سيد‏ ‏رفاعى الذى كان قد وعد أن يغنى لنا الليلة أيضا لــ سيد درويش، ‏وزكى سالم: ‏الله‏ ‏أعلم، ‏ثم إن اليوم هو الأحد، وأنا عندى ‏عيادة، ‏طلبت‏ ‏من‏ ‏مصطفى إبنى ‏أن‏ ‏ينتظرنا فى الدور الأسفل‏ ‏ليكون‏ ‏فى ‏استقبال‏ ‏الأستاذ‏ ‏لو‏ ‏حضر‏ ‏وحده‏ ‏مع‏ ‏توفيق‏ ‏أثناء‏ ‏ذهابى ‏إليه، ‏أتعجب‏ ‏من‏ ‏مصطفى ‏إبنى ‏هذا، ‏كيف‏ ‏لا‏ ‏يحرص‏ ‏على ‏كل‏ ‏ثانية‏ ‏تتاح‏ ‏له‏ ‏حتى ‏ينهل‏ ‏من‏ ‏حضور‏ ‏الأستاذ‏ ‏ووجوده‏ ‏ووعيه‏ ‏مثلما‏ ‏يفعل‏ ‏أخوه، ‏ومثلما‏ ‏أفعل‏ ‏أنا، ‏ومثلما‏ ‏يتمنى ‏كل‏ ‏الناس‏ ‏بلا‏ ‏استثناء، ‏غريب‏ ‏هذا‏ ‏الفتى، ‏عنيد‏ ‏ومتفرد، ‏والأرحج أنه يريد‏ ‏بعد‏ ‏هذه‏ ‏السنوات‏ ‏العشر طبيبا،‏ ‏أن‏ ‏يترك‏‏ ‏مهنة‏ ‏الطب!! ‏هو‏ ‏حر، ‏أنا‏ ‏مالى‏.‏

وصلنا:‏ ‏الأستاذ‏ ‏وتوفيق‏‏ ‏وأنا‏ ‏ووجدنا‏ ‏فى ‏إنتظارنا‏ ‏يوسف‏ ‏عزب‏ ‏ود‏. ‏سعاد‏ ‏موسى، (‏دون‏ ‏موعد‏ ‏سابق‏)، ‏عرفت‏ ‏الأستاذ‏ ‏أن‏ ‏د‏. ‏سعاد‏ ‏موسى، ‏هى ‏إبنة‏ ‏أخت‏ ‏أ‏.‏د‏. ‏سامح‏ ‏همام‏ ‏الذى ‏أجرى ‏له‏ ‏العملية، ‏وسألها‏ ‏توفيق‏ ‏صالح‏ ‏هل‏ ‏أنت‏ ‏متخصصة‏ ‏نفسية‏ ‏أيضا؟‏ ‏فأجابت‏ ‏أنها‏ ‏متخصصة‏ ‏فيما‏ ‏تعلمته‏ ‏من‏ ‏د‏. ‏يحيى ‏فضحك‏ ‏الأستاذ‏ ‏توفيق‏ ‏بما‏ ‏فهمت‏ ‏معه‏ كيف وصلته دلالة إجابتها، فأنا علّمت سعاد أكثر مما يسمى طب نفسى قطعا، بصراحة، فرحت بإجابتها لأطمئن أنى أعلم أبنائى وبناتى ما هو قبل وبعد التخصص.

كالعادة‏ ‏بدأ‏ ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏الموجة‏ ‏الإسلامية الزاحفة، ‏إن‏ ‏مجرد‏ ‏عودة هذا الموضوع‏ ‏هكذا‏ ‏تلقائيا فى كل مرة فى‏ ‏هذا‏ ‏المجتمع‏ ‏الخاص، الذى هو ليس سياسيا بالضرورة، ‏هى ذات ‏دلالة‏ ‏هامة‏ ‏تشير‏ ‏إلى ‏أى ‏فترة‏ ‏نعيشها، ‏وأى ‏مواجهة‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نتصدى ‏لها، ‏قلت‏ ‏للأستاذ‏ ‏لقد‏ ‏خطر‏ ‏ببالى ‏تفسير‏ ‏إضافى ‏لمسألة‏ ‏تنامى ‏هذه‏ ‏الموجة، ‏وذلك‏ ‏بالإضافة‏ ‏إلى ‏الفراغ‏ ‏السياسى، ‏والحاجة‏ ‏إلى ‏مرجعية واضحة، وكلام من هذا، قلت له لقد ‏خطر‏ ‏ببالى ‏أن‏ ‏الشعب‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏أنقسم‏ ‏إلى ‏شعبين‏ (‏وليس‏ ‏فقط‏ ‏طبقتين، ‏وهذا‏ ‏التعبير‏ “‏شعبين‏” ‏استعمله‏ ‏الأستاذ‏ ‏فى ‏إحدى ‏لقطاته‏ ‏فى ‏أهرام‏ ‏الخميس ذات وجهة نظر‏) ‏قلت‏: ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏أصبحنا‏ ‏شعبين، ‏وانفصلنا‏: ‏الأعلى ‏أعلى ‏سلطة‏ ‏أو‏ ‏ثراء، ‏والأدنى ‏أدنى ‏فقرا وتهميشا، ‏كان‏ ‏لزاما‏ ‏أن‏ ‏يجد‏ ‏الشعب‏ ‏الثانى ‏وسيلة‏ ‏يرد‏ ‏بها‏ ‏على ‏هذا‏ ‏التميز‏ ‏الفوقى ‏الذى ‏يميز‏ ‏الشعب‏ ‏الأول‏، ‏وقد‏ ‏لاحظت‏ ‏أنه‏ ‏بمجرد‏ ‏إنتماء‏ ‏الواحد‏ (‏أو‏ ‏الواحدة‏) ‏إلى ‏الإسلامية‏: ‏تجده‏ ‏على ‏الفور‏ ‏قد‏ ‏شعر‏ ‏أنه‏ ‏واحد من‏ ‏الأغلبية، ‏وأنه‏ ‏أكثر‏ ‏احتراما‏ ‏وأعمق‏ ‏صوابا‏ و‏أوثق‏ ‏هدى، فهو ‏يجد‏ ‏نفسه‏ ‏فى‏ ‏موقع‏ ‏التميز بشكل ما، ‏يجد‏ ‏نفسه‏ ‏فوق، ‏ومن أظهر‏ ‏مظاهر‏ ‏التفوق‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏يدعو‏ ‏لك‏ بالهداية وهو يخاطبك مشفقا، وحين يقول لى أحدهم‏ “ربنا يهديك”، تصلنى قاسية فوقيه برغم أنها دعوة بألفاظ  طيبة، لكننى أشعر أنه قد صعّد نفسه أعلى منى ‏لمجرد‏ ‏اختلافى ‏عنه، أشعر أنه يدمغنى بها ويعايرنى بأنى “على ضلال”.

اعترض‏ ‏زكى ‏سالم،‏ كان قد حضر متأخرا قليلا، ‏على ‏مسألة‏ ‏التمايز‏ ‏هذه، ‏وقال‏ ‏إن‏ ‏كل‏ ‏صاحب‏ ‏دين‏ ‏يشعر‏ ‏بهذا‏ ‏التمايز، ‏وقالت‏ ‏د‏. ‏سعاد‏ ‏إن‏ ‏موضوع‏ ‏التمايز‏ ‏هذا‏ ‏لا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏ينسينا‏ ‏حاجة‏ ‏الناس‏ ‏والشباب‏ ‏خاصة‏ ‏للإنتماء، فوافقت أنا لكننى أضفت‏ ‏أن‏ ‏أى ‏دين‏ ‏ينمى ‏الفطرة‏ ‏كما‏ ‏وصفتها‏ ‏لابد‏ ‏وأن‏ ‏يكون‏ ‏مميزا لمن ينتمى إليه خاصة ‏فى التفاصيل، لكنه فى النهاية ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يلتقى ‏بأى ‏دين‏ ‏آخر‏ فى غاية موحدة ما دام ‏يسير‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الإتجاه‏ برغم تميزه الذاتى، وأضفت كذلك أن ذلك يصح حتى بالنسبة ‏ ‏للأديان‏ ‏غير‏ ‏السماوية، ‏وأضفت‏ ‏أن‏ ‏الإسلام‏ ‏عندى ‏يتلخص‏ ‏فى (1) ‏الحرية‏ (‏ان‏ ‏لا‏ ‏اله‏ ‏إلا‏ ‏الله‏)،   (2) والمباشرة‏ “‏العلاقة‏ ‏المباشرة‏ ‏بين‏ ‏العبد‏ ‏وربه‏ ‏دون‏ ‏كهنوت‏ ‏أو‏ ‏وصاية، (3) ‏والعمل‏ ‏قل‏ ‏آمنت‏ “‏بالله‏ ‏ثم‏ ‏استقم‏” “وأنْ ليس للإنسان إلا ما سعى” – ‏كان‏ ‏الأستاذ‏ ‏يتابع‏ ‏كل‏ ‏هذا، ‏فتدخل مضيفاً‏:” ‏إن‏ ‏الدعائم‏ ‏الأساسية‏ ‏التى ‏تصله‏ ‏من‏ ‏الإسلام‏ ‏هى ‏الحرية‏ ‏فعلا، (‏لا‏ ‏إله‏ ‏إلا‏ ‏الله‏)، ‏والعدل‏: ‏حيث‏ ‏لا‏ ‏يفرق الاسلام‏ ‏بين‏ ‏أى ‏أحد‏ ‏وأى ‏أحد، ‏لا‏ ‏النسب، ‏ولا‏ ‏اللون‏ ‏ولا‏ ‏الدين‏ ‏أو‏ ‏الجنس‏ ‏أو‏ ‏أى ‏شىء، ثم ‏يضيف الأستاذ: أيضا أنه يتميز عنده‏ بالتنظيم ‏الاجتماعى، لأنه يركز على ‏التأكيد‏ ‏على ‏العلاقات‏ ‏الإنسانية‏ ‏المادية‏ ‏مثل‏ ‏الزكاة‏ ‏وفى نفس الوقت على العلاقات الإنسانية مثل التراحم‏ًَ، ‏قال‏ ‏يوسف عزب‏ معقبا: “‏عندى‏ ‏إضافة إلى‏ ‏فكرة‏ ‏التمايز، ‏إنهم‏ ‏لا‏ ‏يتميزون‏ ‏فقط‏ ‏بالتفضل بمنح عطايا الدعوات بالهدى استعلاءً، وإنما‏ ‏باحتكار الجنة مكافأة‏ ‏للفكر‏ ‏الميتافيزيقى الأسطورى ‏الذى ‏يحتكرونه‏ ‏بمجرد‏ ‏شعورهم‏ ‏بالإنتماء‏ ‏إلى ‏هذه‏ ‏المنظومة‏ ‏الدينية، ‏وتساءل‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏واحد‏ ‏كيف‏ ‏يرادف‏ ‏يوسف بين‏ ‏الوعود‏ ‏الدينية‏ ‏التى ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏الجزم‏ ‏بنفيها، ‏وبين‏ ‏الأسطورة؟ ‏شرح يوسف‏ ‏وجهة‏ ‏نظره‏ ‏بأنه يعنى‏ ‏بالأسطورة‏ ‏أنها‏ مقولة ‏غيبية‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏إثباتها الآن، ‏وهنا‏ ‏تدخلت أنا لأوكد‏ ‏ضرورة‏ ‏التفريق‏ ‏بين‏ ‏الخرافة‏‏ ‏والأسطورة، ‏والغيب:‏ ‏فالغيب علم‏ ‏كامن يقينا، ‏وهو‏ ‏علم‏ ‏له‏ ‏قوانينه‏ ‏وتشكيلاته‏ ‏وتركيبه، حتى قبل أن نعرفها أو دون أن نعرفها، ‏لكن‏ ‏الوعى ‏العادى ‏فى ‏فترة‏ ‏بذاتها‏ ‏قد‏ ‏لا‏ ‏يصل‏ ‏إليه، ‏على النقيض من ذلك فإن‏ ‏الخرافة‏ ‏هى ‏حشو‏ ‏عشوائى ‏يملأ‏ ‏فجوات‏ ‏الوعى ‏بطريقة‏ ‏فجة، ‏بحيث‏ ‏يتم‏ ‏التواصل‏ ‏بالقص‏ ‏واللصق‏ ‏فى ‏جـو‏ ‏من‏ ‏الظلام‏ ‏والتخبيط، ‏أما‏ ‏الأسطورة، ‏فهى ‏نتاج‏ ‏تعامل‏ ‏الوعى الجمعى الغامض ‏مع‏ ‏شطحات‏ ‏الخرافة‏ ‏عن‏ ‏طريق‏ ‏إعمال‏ ‏الخيال‏ ‏الضام‏ ‏لأجزاء‏ ‏متباعدة، ‏قلت‏ ‏هذا‏ ‏الكلام‏ ‏ومثله‏ ‏وأنا‏ ‏خجلان‏ ‏من عجزى عن شرح ما أريد، ‏وحين‏ ‏اكتشفت‏ ‏ذلك‏ ‏أسرعت‏ ‏بالإيجاز والتلخيص‏ ‏قائلا‏: ‏الغيب‏ ‏علم‏ ‏يقينى ‏لم‏ ‏يُعرف‏ ‏بعد، ‏والخرافة‏ ‏جهل‏ ‏يبدو وكأنه يشبه اليقين لفرط تماسك زيفه، أما ‏الأسطورة‏ فهى ‏تاريخ وعى جماعى سجّله‏ ‏الخيال‏ الجمعى ‏بحبكة‏ ‏نسبية، ‏ولست‏ ‏أدرى ‏إن‏ ‏كنت‏ ‏قد‏ ‏شرحت‏ ما سبق ‏بهذا‏ ‏الإيجاز‏ ‏أم‏ ‏أنى ‏زدت‏ ‏الأمر‏ ‏غموضا‏.‏

سألت الأستاذ هل وصله شىء مما قلت، قال بتواضع – مجامل غالبا- “شوية”، ورضيت بهذه “الشوية” ولم أزدْ.

يسألنى ‏زكى ‏سالم‏ ‏عن‏ ‏رأيى ‏الذى ‏ذكرته‏ ‏بالنسبة‏ ‏لرفض‏ ‏الاعتقاد‏ ‏السائد‏ ‏أن‏ ‏الأمراض‏ ‏النفسية‏ ‏هى ‏نتيجة‏ ‏تغييرات‏ ‏كيميائية‏ ‏محددة، ‏وما معنى قولى أن‏ ‏هذا‏ ‏الإعتقاد‏ ‏سوف‏ ‏يثبت‏ ‏أنه‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏الخرافة‏ ‏فى المستقبل القريب، ‏وأجيب‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏ليس‏ ‏رأيى فقط ‏ولكنه‏ ‏رأى ‏صاحب‏ ‏كتاب‏ مرجعى ‏فى‏ ‏تاريخ‏ ‏الطب‏ ‏النفسى، ‏وهو‏ ‏خواجة‏ ‏لا‏ ‏أذكر‏ ‏اسمه‏ ‏الآن، ويتطرق الشرح إلى أنى أعتبر أن “الجان” هم ذواتنا الداخلية، وهم المقابل لتعدد الذوات الذى قال به كارل يونج وإريك بيرن وأخرون، وأننا ‏نلاحظ‏ ‏تعدد‏ ‏الذوات‏ ‏هذا‏ ‏عند‏ ‏المبدعين، ‏وقد‏ ‏تناولت ذلك ‏فى ‏أبحاثى ‏النقدية‏ ‏لأعمال‏ ‏الأستاذ، ‏وخاصة‏ ‏فى “‏رأيت‏ ‏فيما‏ ‏يرى ‏النائم‏”، ‏وليالى ‏ألف‏ ‏ليله‏”، ‏وأن‏ ‏الأستاذ‏ ‏حين‏ ‏يتكلم‏ ‏فى ‏رواياته‏ ‏عن‏ ‏أنه‏ “‏حلَّ‏ ‏وجود‏ ‏ثقيل‏” ‏أو‏ “‏وُلِدَ‏ ‏فيه‏ ‏مارد‏ ‏آخر‏” ‏إنما‏ ‏يستشعر‏ ‏بحدسه‏ ‏الإبداعى ‏هذا‏ ‏التعدد‏ ‏الذى ‏أشير‏ ‏إليه، ‏كنت أقول‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏بسرعة‏ ‏وإيجاز ‏خشية‏ ‏أن‏ ‏أدخل‏ ‏فى ‏تفاصيل‏ ‏تخصصية‏ ‏غير‏ ‏مناسبة، ‏فيعاودنى الحرج السابق، نظرت فى الوجوه من حولى فوجدت‏ ‏توفيق‏ ‏صالح‏ ‏متململا‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏الحديث، ‏وكأنه‏ ‏رافض‏ ‏للفكرة، ‏وفعلا سأل سؤالا أكد لى أنه لم يلتقط ما أتحدث عنه،‏ ‏قال‏: ‏ولكن‏ ‏قل‏ ‏لى ‏عن‏ ‏ذلك‏ ‏الجندى ‏الذى ‏يعانى ‏من‏ ‏صدمة‏ ‏فى ‏الحرب، ‏حين‏ ‏يصاب‏ ‏بصمت‏ ‏أو‏ ‏اكتئاب‏ ‏أو‏ ‏رعب‏ ‏إلى ‏حد‏ ‏المرض،‏ ‏أين‏ ‏تعدد‏ ‏الذوات‏ ‏من‏ ‏هذا؟ ‏كيف‏ ‏يفسر تعدد الذوات الذى تتحدث عنه ‏هذا‏ ‏الذى ‏له‏ ‏سبب‏ ‏واضح‏ ‏هكذا؟ ‏فأرد‏ ‏وأنا‏ ‏أشعر‏ ‏أننى ‏أسـْتـَدَرْج‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏لا‏ ‏أريد، وأن توفيق يسأل بعيدا عن القضية التى أتحدث فيها غالبا لأنها لم تصله، ‏وأقول‏ ‏إن‏ ‏فكرة‏ ‏تعدد‏ ‏الذوات‏ ‏هذه، ‏ثم‏ ‏تفككها‏ وإعادة تشكيلها ‏لا‏ ‏تفسر‏ ‏كل‏ ‏الأمراض، وفى نفس الوقت هى ليست بعيدة عن الأسوياء، وهى ‏تفسر‏ ‏أمراض‏ ‏الإنشقاق‏ ‏وبعض‏ ‏الأمراض‏ ‏العقلية‏ ‏الخطيرة، ‏لكن‏ ‏ثمة‏ ‏أمراض‏ ‏أخرى ‏تحدث‏ ‏ليس‏ ‏نتيجة‏ ‏لتفكك‏ ‏الذوات، ‏بل‏ ‏ربما‏ ‏تحدث‏ ‏نتيجة‏ ‏لتكدس‏ ‏الذوات‏ ‏أو‏ ‏تجمدها‏ ‏أو‏ ‏قمعها‏ معا، ‏حتى ‏لا‏ ‏يتبقى ‏مسيطرا‏ ‏إلا‏ ‏ذات‏ ‏ظاهرة‏ ‏واحدة، ‏وهذا‏ ‏المثل‏ ‏الذى ‏ضربه توفيق ‏لمسألة‏ ‏التفاعل‏ ‏للحرب‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏وُصِفَ‏ ‏فى ‏الحرب‏ ‏العالمية‏ ‏الأولى وكان يسمى “صدمة الخندق”([1]) حيث ‏ ‏كان‏ ‏الجنود‏ ‏يصابون‏ ‏بالبكم‏ ‏والذهول‏ ‏والتجمد‏ ‏إثر‏ ‏القصف‏ ‏المرعب‏ ‏المهلك‏ ‏بجوارهم، ‏فإذا‏ ‏ما‏ ‏انتهت‏ ‏الغارة‏ ‏وظلوا‏ ‏على ‏هذه‏ ‏الحال‏ ‏من‏ ‏الجمود‏ ‏صاح‏ ‏بهم‏ ‏الضابط‏ ‏أن‏ “‏اصرخوا، ‏تألموا‏” ‏”لماذا‏ ‏لا‏ ‏تصرخون‏”، ‏وكانت‏ ‏هذه‏ ‏أول‏ ‏إشارة‏ (‏من ضابط‏ ‏غير‏ ‏طبيب‏) ‏تعلن‏ ‏فائدة‏ ‏ما‏ ‏سمى ‏فيما‏ ‏بعد‏ ‏التفريغ، ‏وأتوقف برغم أننى أشعر أن الأستاذ يتابع باهتمام، لكنه لم يطلب لا التوقف ولا مواصلة الكلام المتخصص هكذا. هز‏ ‏توفيق‏ ‏رأسه‏ ‏دون‏ ‏اقتناع‏‏ ‏على ‏ما يبدو ‏وهنا‏ ‏مال‏ ‏الأستاذ‏ ‏إلى ناحيتى، فاكتشفت أنه كان‏ ‏يتابع‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏رغم‏ ‏الصعوبة‏، ‏وقال فجأة ضد توقعى‏: ‏نعم‏ ‏قد‏ ‏تكون‏ ‏نظرية‏ ‏تعدد‏ ‏الذوات‏ ‏وتفكيكها، ‏سليمة‏ ‏أو‏ ‏معقولة‏ ‏فى ‏الصحة‏ ‏والمرض‏ ‏والإبداع، ‏وأنا‏ ‏أشهد‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏وارد‏ ‏تماما، ‏لكن‏ ‏هذا‏ ‏لا‏ ‏يمنع‏ ‏أن‏ ‏يحدث‏ ‏التفكك‏ ‏نتيجة‏ ‏لاضطراب‏ ‏كيمياء‏.‏

ما‏ ‏أروع‏ ‏هذا‏ ‏الرجل، كيف يلتقط – برغم كل الصعوبات – ما رفضه توفيق بهذا الشكل،‏ ‏سارعت‏ ‏بالتأكيد‏ ‏على ‏أننى ‏لا‏ ‏ألغى ‏إطلاقا‏ ‏دور‏ ‏التغيرات‏ ‏الكيميائية‏ ‏فى ‏المرض‏ ‏ولا‏ ‏دور‏ ‏التعديلات‏ ‏الكيميائية‏ ‏فى ‏العلاج، ‏كل‏ ‏ما‏ ‏أرجوه‏ ‏وأفعله‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏ضبط‏ ‏الكيمياء‏ ‏هو‏ ‏عملية تهدف إلى‏ ‏توازن‏ ‏الطاقة‏ ‏والفاعلية لكل من ‏مستويات‏ ‏المخ المتعددة‏ ‏وبانتقاءات‏ ‏محددة،‏ ‏فى ‏إطار‏ ‏عملية‏ ‏علاجية‏ ‏متكاملة، ‏وهادفة‏ ‏لإعادة‏ ‏تمحور‏ ‏الذوات‏ ‏حول‏ ‏محور‏ ‏غائى ‏فى ‏لحظة‏ ‏بذاتها، ‏وهذه‏ ‏هى ‏الصحة‏.‏

أنتبه‏ ‏من جديد‏ ‏إلى ‏أننى‏ ‏وصلت‏ ‏إلى‏ ‏تفاصيل‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تعتبر‏ ‏تزيدا‏ ‏سخيفا‏ ‏فى ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الجلسة، ‏لغير‏ ‏المتخصص،‏ ‏فأعلن‏ ‏للأستاذ‏ ‏مباشرة ‏أنى ‏اضطررت‏ ‏للدخول‏ ‏فى ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏الاسهاب نتيجة لإلحاح أسئلة زكى وتدخل توفيق، ‏فيقول‏ ‏جادا، ‏ولكن‏ ‏كلامك‏ ‏فيه‏ ‏فائدة‏ ‏شخصية، ‏ويصمت‏ ‏قليلا‏ ‏ليدعنى ‏أبحث‏ ‏عن‏ ‏الفائدة‏ ‏التى ‏قدرت‏ ‏لها‏ ‏على ‏المستوى ‏العقلى ‏تصورات‏ ‏عديدة، ‏فيكمل‏ ‏ضاحكا، ‏”وهو‏ ‏أنك‏ ‏شغلتهم‏ ‏عن‏ ‏تناول‏ ‏مكسرات‏ ‏وحلويات‏ ‏رمضان‏ ‏التى ‏وضعت‏ ‏على ‏المائدة،‏ ‏لأن‏ ‏الجميع‏ ‏شُدَّ‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏تقول‏ ‏ونسوا‏ ‏الأكل”، ‏ويقهقه، ‏ويكون‏ ‏هذا‏ ‏إيذانا‏ ‏طيبا‏ ‏وسماحا ‏ضاحكا‏ ‏بأن‏ ‏ننتقل‏ ‏إلى ‏موضوع‏ ‏أبسط‏ ‏وأظرف، ‏ولكن‏ ‏‏ ‏يبدو اننا لم ننجح، فسرعان ما أعادنا، جرنا زكى بالقوة الجبرية لنجد أنفسنا ندور من جديد‏ ‏حول‏ ‏المسألة‏ ‏الاسلامية‏.‏

يعود‏ ‏زكى ‏سالم‏ إلى رأيه ‏أن‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏دين‏ ‏حق، ‏له‏‏ ‏هذه‏ ‏الميزات‏ ‏التى ‏ذكرتها‏ أنا أو الأستاذ ‏للاسلام، ‏ولا‏ ‏أعترض،‏ ‏وأكرر‏ ‏استشهادى بالآية ‏”‏إن‏ ‏الدين‏ ‏عند‏ ‏الله‏ ‏الإسلام‏”، ‏وحتى ‏الأديان‏ ‏غير‏ ‏السماوية‏ ‏والتى ‏لا‏ ‏تعترف‏ ‏بالآخرة‏ ‏تكاد‏ ‏تشمل‏ ‏نفس‏ ‏الخطوط‏ ‏العريضة، ‏فينبهنى ‏الأستاذ‏ ‏أن‏ ‏البوذية‏ ‏فيها‏ ‏توحد‏ ‏بالمطلق‏ ‏وهذه‏ ‏هى ‏الآخرة‏ ‏عندهم، ‏ويدور‏ ‏نقاش‏ ‏حول‏ ‏جنة‏ ‏المسيحية‏ ‏والملكوت، ‏وأذهب‏ ‏لبعض‏ ‏شئونى الخاصة وحين أعود‏ ‏لا‏ ‏أسمع‏ ‏إلا‏ ‏بقية‏ ‏حديث‏ ‏من‏ ‏الأستاذ‏ ‏رجحت أن‏ ‏يكون‏ ‏ردا‏ ‏على ‏تساؤل‏ ‏عن‏ ‏مدى ‏صحة‏ ‏أن‏ ‏الاستاذ‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏الإنطوائية، ‏أو‏ ‏شىء‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏القبيل،‏ ‏وأعرف‏ ‏أن‏ ‏السائل‏ ‏هو‏ ‏يوسف،‏ و‏وجدت‏ أن ‏الأستاذ‏ ‏يجيب‏: “… ‏لا‏ ‏طبعا، ‏أنا‏ ‏بتاع‏ ‏قهاوى، ‏ثم‏ ‏إننا‏ ‏كنا‏ ‏ثلة‏ ‏كبيرة، ‏ولم‏ ‏يكن‏ ‏هناك‏ ‏بيت‏ ‏من‏ ‏بيوتنا‏ ‏يسعنا‏ ‏جميعا، ‏وكنا‏ ‏نلتقى ‏فى ‏القهوة، ‏وأنا‏ ‏أحب‏ ‏جلوس‏ ‏القهوة‏ ‏حتى ‏وحدى، ‏فهناك‏ ‏الناس‏ ‏الآخرون‏ ‏الذين‏ ‏لا‏ ‏أعرفهم‏ ‏وهم‏ ‏جالسون‏ ‏معى ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر، ‏كما أننا كنا‏ ‏لا‏ ‏نسأل‏ ‏بعضنا‏ ‏البعض‏ ‏حتى ‏عن‏ ‏عناوين‏ ‏منازلنا، ‏حتى ‏أن‏ ‏أدهم‏ ‏رجب‏ ‏(أ‏. ‏د‏. ‏أدهم‏ ‏رجب‏ ‏استاذ‏ ‏الطفيليات‏ ‏قصر‏ ‏العينى ‏وصديق‏ ‏الاستاذ‏ ‏عبر ‏سبعين‏ ‏سنة‏) ‏كان‏ ‏فى ‏زيارتى ‏قريبا‏ ‏وجاء‏ ‏ذكر‏ ‏صديقنا‏ “‏عبد‏ ‏المنعم‏ ‏الشوفى‏”، ‏فسألته‏ ‏عن‏ ‏أحواله‏ ‏فقال‏: “‏لست‏ ‏أدرى”، ‏وسألت‏: “‏ألا‏ ‏تزوره”، ‏فقال:‏ “‏أنا‏ ‏لا‏ ‏أعرف‏ ‏عنوان‏ ‏بيته”، ‏واكتشفت‏ ‏أننى‏ ‏أيضا لا‏ ‏أعرف‏ ‏بيته‏ ‏حيث ‏كنا‏ نلتقى ‏فى ‏الخارج‏ دائما، فما حاجتنا إلى العناوين.

أستأذنت‏ ‏على ‏عينى، ‏لأذهب ‏ ‏للعيادة‏، فاليوم هو الأحد لا الخميس.

 

الحلقة التاسعة والعشرون

على عزت بيجوفتشي

الثلاثاء‏: 7/2/1995

لم‏ ‏يعد‏ ‏الثلاثاء‏ ‏يومى، ‏لكن‏ ‏يبدو‏ ‏أنه‏ ‏أصبح‏ ‏من‏ ‏الصعب‏ ‏علىَّ ‏أن‏ ‏يمر‏ ‏يوم‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏أرى ‏الأستاذ، أعفانى الأستاذ من الانتظام يوميا، أصدر فرمانا بذلك بطريقته، حرصا منه ألا أهمل عيادتى، ومع ذلك لم ألتزم تماما بأوامره، اليوم الثلاثاء، لم يعد يومى إلزاما، ‏مررت‏ ‏عليه‏ ‏فى ‏”فرح بوت”‏ ‏كانت‏ ‏الثلة‏ ‏مجتمعه‏ ‏بكاملها‏ ‏رغم‏ شهر ‏رمضان، ‏بالإضافة‏ ‏إلى ‏أ‏.‏د‏. ‏إبراهيم‏ ‏كمال، ‏وهو‏ ‏استاذى (‏أمراض‏ ‏نسا‏) ‏وابنه‏ ‏م‏. ‏محمود‏ ‏كمال‏، ‏أحد‏ ‏أفراد‏ ‏الجناح‏ ‏الرأسمالى ‏لجماعة‏ ‏العوامة، ‏وقد‏ ‏استقال‏ ‏من‏ هيئة تدريس ‏كلية‏ ‏الهندسة‏ ‏ليتفرع‏ ‏لمصنعه‏ ‏وأعماله‏. ‏وحضر‏ ‏واحد‏ ‏اسمه‏ “‏يحيي‏” ‏على ‏ما‏ ‏أذكر‏ ‏مدير‏ ‏توزيع‏ ‏فى ‏الأخبار، ‏وكان يحيى هذا يذيع الأخبار بطريقته، إلا أننا، مع الأستاذ، كنا قد اعتدنا على إذاعه يوسف القعيد، فتوجه أحدهم إلى يوسف، وطلب منه أخبارا طازجة بطريقته الفوقية الساخرة عادة، وقال: “‏والآن‏ ‏سيداتى ‏سادتى ‏تسمعون‏ ‏نشرة‏ ‏أخبار‏ ‏يوسف‏ ‏القعيد‏ السرية‏، أما صفة السرية، فلأننا عادة كنا نعتبر يوسف عالما ببواطن الأمور بطريقته أيضا.

قال‏ ‏عماد‏ ‏العبودى ‏ ‏مِلـْحـَةْ‏ ‏وهى ‏أن‏ ‏أحد‏ ‏المصريين‏ ‏الطيبين‏ ‏أراد‏ ‏أن‏ ‏يرسل‏ ‏خطابا‏ ‏إلى ‏أخ‏ ‏له‏ ‏كان‏ ‏يعمل‏ ‏معه‏ ‏فى ‏ليبيا،‏ ‏فكتب‏ ‏على ‏العنوان‏ “‏إلى ‏فلان‏” ‏بالجماهيرة‏ ‏العربية‏ ‏الاشتراكية‏ ‏الليبية‏ ‏القومية‏ ‏المتحدة‏…، ‏بجوار‏ ‏مرسى ‏مطروح‏.‏

وضحك‏ ‏الأستاذ‏.‏

ولم أضحك مع أننى استحسنت النكتة.

ذكر‏ ‏جمال‏ ‏الغيطانى ‏أن‏ ‏خطابا‏ ‏من‏ ‏د‏. ‏صفر‏ (لا أعرفه‏؟‏) ‏بالاسكندرية‏ ‏وصل‏ ‏إليه‏ ‏للنشر‏ ‏فى ‏أخبار‏ ‏الأدب‏ ‏ردا‏ ‏على ‏عادل‏ ‏حمودة‏ ‏الذى ‏كتب‏ ‏فى ‏روزاليوسف‏ ‏مقالا‏ ‏يهاجم‏ ‏فيه‏ ‏الأستاذ‏ ‏بعنوان‏ “‏نجيب‏ ‏محفوظ، ‏لقد‏ ‏خذلتنا‏”، ‏وذلك‏ ‏بمناسبة‏ ‏رفض‏ ‏الأستاذ‏ إعادة ‏نشر‏ ‏أولاد‏ ‏حارتنا فى مصر (أو تأجيل النشر)، ‏وحين‏ ‏هم‏ ‏القعيد‏ ‏أن‏ ‏يقرأ‏ ‏المقال‏ ‏بنفسه‏، ‏قال‏ ‏الأستاذ‏ “‏لا‏ ‏داعى ‏مادام‏ ‏جمال‏ ‏سوف‏ ‏ينشره‏”.‏

الأربعاء 8/2/1995

اليوم‏ ‏هو‏ ‏يوم‏ ‏حضور‏ ‏الأستاذ‏ إلى ‏منزلى مرة أخرى (قبل أن نستقر على تخصيص يوم الجمعة لبيتى)، ‏كم‏ ‏هو‏ ‏شرف‏ ‏متجدد‏ ‏بحق، ‏الحمد‏ ‏الله،

حضر‏اللقاء ‏للمرة‏ ‏الأولى ‏د‏. ‏أحمد‏ ‏تيمور‏ ‏الشاعر‏ ‏الطبيب‏ ‏الذى له وعليه، وكان يصحبه‏ ” ‏نعيم‏ ‏صبري‏” أحد زبائن “فرح بوت” وهو شاعر قاص مهندس ‏وكان‏ ‏معهما‏ ‏د‏. ‏أحمد‏ ‏عبد‏ ‏الله، ‏أحد‏ ‏تلاميذى وصديق د.تيمور، ‏كذلك‏ ‏حضر‏ ‏يوسف‏ ‏عزب، ‏ورجل الأعمال قدرى (صاحب سلسلة أدريان للأجهزة الالكترونية) ومعه ابنه.

 ‏بدأتُ‏ ‏الحديث‏ ‏بالإشارة‏ ‏إلى ‏مقالة‏ ‏هويدى ‏أمس‏ ‏الثلاثاء‏ ‏فى ‏الأهرام‏ ‏التى ‏أشار‏ ‏فيها‏ (‏دون‏ ‏ادعاء‏ ‏تلخيص‏) إلى ‏كتاب‏ ‏على ‏عزت‏ ‏ بيجوڤيتش‏ ‏المعنون‏ ‏باسم‏ “‏الإسلام‏ ‏بين‏ ‏الشرق‏ ‏والغرب‏”، ‏قلت‏ ‏للأستاذ‏: ‏أود‏ ‏أن‏ ‏أذكر‏ ‏أنى ‏اكتشفت‏ ‏وجه‏ ‏شبه‏ ‏بين‏ ‏شطحاتى ‏الإسلامية‏ ‏التى ‏يعترض‏ ‏عليها‏ ‏محمد‏ إبنى ‏وبين‏ ‏هذا‏ ‏الكتاب‏ ‏الذى ‏كتبه‏ ‏ بيجوڤيتش‏ ‏منذ‏ ‏عشرين‏ ‏عاما‏ ‏والذى ‏كاد‏ ‏ينساه‏ ‏بعد ذلك، فهو قد أقر أنه‏ ‏لا‏ ‏يعطيه‏ ‏الأهمية‏ ‏التى ‏نستقبله‏ نحن ‏بها‏ ‏الآن، ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏وجد‏ ‏نفسه‏ ‏فى ‏بؤرة‏ ‏مستنقع‏ ‏السياسة‏ ‏والحرب، ‏رئيسا‏ ‏لدولة‏ ‏تنهار‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏تتكون، ‏لقد‏ ‏سمحوا‏ ‏للبوسنة‏ ‏أن‏ ‏تستقل‏ ‏حتى ‏ينقضوا‏ ‏عليها‏ ‏بسهولة‏ ‏ونذالة، ‏قلت‏ ‏للأستاذ‏ ‏تصورى ‏على ‏الوجه‏ ‏التالي‏:‏

أولا‏: أعتقد ‏أن‏ ‏الذى ‏أعان‏ ‏على ‏عزت على أن‏ ‏يكتب‏ ‏هذا‏ ‏الكتاب‏ ‏المتميز‏ ‏هكذا‏ ‏هو‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يعرف، ‏أو‏ ‏لا‏ ‏يتقن‏ ‏العربية، ‏وبالتالى ‏فقد‏ ‏كان‏ ‏أكثر‏ ‏تحررا‏ ‏من‏ “‏النص”‏ ‏بصورته‏ ‏الجامدة‏ ‏كما‏ ‏يصر‏ ‏أهل‏ ‏الاختصاص‏ ‏على ‏فرضها‏ (‏وذكرت‏ ‏ملاحظة‏ ‏هويدى ‏أن‏ ‏الكتاب‏ ‏قليل‏ ‏الاستشهاد‏ ‏بالنصوص‏).‏

ثانيا‏: ‏إن‏ ‏عقل‏ ‏الكاتب‏ ‏ترعرع‏ ‏فى ‏رحاب‏ ‏الغرب، ‏ورغم‏ ‏أنه‏ ‏عاش‏ ‏أغلب أيامه فى ‏بلد‏ ‏شيوعى ‏قاهر، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏التركيبة‏ ‏الغربية‏ ‏للحرية‏ ‏هى ‏التى ‏كانت‏ ‏تكمن‏ ‏وراء‏ ‏قدرته‏ ‏على ‏رؤية‏ ‏الإنسان‏ الحر ‏والإسلام‏ الحرية، واعتقد أن هذا هو حال ‏ ‏كل‏ ‏منشق‏ عاش‏ ‏وراء‏ ‏الستار‏ ‏الحديدى، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏مثل‏ ‏هؤلاء‏ ‏الناس‏ ‏يتمتعون‏ ‏بأحلام‏ ‏ورؤى ‏للحرية‏ ‏الغربية‏ ‏أكثر‏ ‏بكثير‏ ‏من‏ ‏الذين‏ ‏يمارسونها‏ فعلا فى الغرب، ‏ويكتشفون‏ ‏عيوبها‏ ‏وجها لوجه‏.‏

ثالثا‏: ‏إن بيجوڤيتش‏ ‏حين‏ ‏كتب‏ ‏الكتاب‏ ‏راح يجمع‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏خير‏ ‏وحركة‏ ‏وتكامل‏ ‏فيما‏ ‏رآه‏ ‏إسلاما، فكان‏ ‏فردا‏ ‏صادقا، ‏ومنظِّر‏ا ‏جيدا‏ ‏وفيلسوفا‏ ‏وشاعرا‏ ‏كما‏ ‏وصفه‏ ‏هويدى أيضا.

رابعا‏: ‏إن بيجوڤيتش ‏حين‏ ‏اخُتبر‏ ‏ليضع‏ ‏أفكاره‏ ‏موضع‏ ‏التنفيذ‏، غامر بما هو كما هو، فوجد ‏ ‏نفسه‏ ‏فى ‏مستنقع‏ ‏الدم‏ ‏والتعصب‏ ‏والتطهير‏ ‏العرقى، ‏بل‏ ‏إنى ‏اعتبره‏ ‏مسئولا بدرجة ما‏ ‏عن ما‏ ‏لحق‏ ‏بناسه‏ ‏وشعبه، ‏حين‏ ‏شطح‏ ‏وتصور‏ ‏أنه‏، ‏بشاعريته‏ ‏وحسن‏ ‏نيته‏ – ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يقيم‏ ‏دولة‏ ‏من‏ ‏المسلمين‏ ‏لا‏ ‏يبلغ‏ ‏فيها‏ ‏المسلمون‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ 45%، ‏وهذه‏ ‏هى ‏المصيبة‏ ‏حين‏ ‏يتولى ‏شاعر‏ ‏أو‏ ‏فيلسوف‏ ‏تطبيق‏ ‏أفكاره، ‏ثم أضفت أنى ‏أتصور‏ ‏أنه‏ ‏لو‏ ‏عاش‏ ‏المسلمون فى البوسنة‏ ‏مع‏ ‏حكم‏ ‏ذاتى ‏معقول،‏ ‏فى ‏إطار‏ ‏حتى ‏دولة‏ ‏صربيا‏ ‏الكبرى ‏لأخرجوا‏ ‏مئات‏ ‏من‏ ‏أمثال‏ ‏على ‏عزت‏ ‏ بيجوڤيتش مع احتمال اشراق كافٍ لإنارة‏ ‏الصرب‏ نحو الحق ‏بدلا‏ ‏من‏ ‏فصل‏ ‏المسلمين‏ ومن ثم ‏ ‏إبادتهم‏ ‏بهذا‏ ‏الإنتحار‏ ‏الذى ‏يجرى‏.‏

مرة أخرى: ضبطت نفسى وأنا أتحدث كأننى أتحدث عن ‏إسلامى أنا، وانبه نفسى ضمنا بالعزوف عن الأمل فى تحقيقه على أرض الواقع، ‏ليس‏ ‏فقط‏ ‏بواسطة‏‏ ‏المسلمين‏ ‏المتطرفين، ‏ولا‏ ‏حتى بواسطة‏ ‏المسلمين‏ ‏المعتدلين، ولكن ‏أيضا ويقينا ليس‏ ‏بواسطتى ‏أنا‏ ‏شخصيا‏ بما أعرفه عن طبعى وقدراتى، حتى ‏لو‏ ‏أتيحت‏ ‏لى ‏الفرصه،‏ ‏لاحظتُ فرحة‏ ‏محمد‏ ‏يحيى، باعلانى بعض عجزى هذا بعد ما طلب منى، ‏أطرق‏ ‏الأستاذ‏ ‏صامتا‏ ‏بما‏ ‏جعلنى ‏أكمل‏: “‏إن‏ ‏أفلاطون‏ ‏حين‏ ‏رسم‏ ‏جمهوريته‏ ‏وحلم‏ ‏بتحقيقها‏ ‏فشل‏ ‏فشلا‏ ‏ذريعا، ‏وحين‏ ‏دفع ‏أرسطو‏ ‏الإسكندر‏ ‏الأكبر‏ ‏ليكون‏ ‏ممثل‏ ‏فكره‏ ‏ومحققه‏ ‏على ‏أرض‏ ‏الواقع‏ ‏فشل‏ ‏أيضا فى نهاية النهاية، ‏ويبدو‏ ‏أن‏ ‏الفكر‏ ‏والشعر‏ ‏والفلسفة‏ ‏وحتى الإيمان‏ على ‏مستوى ‏الفرد، ‏هم‏ ‏شىء‏ ‏آخر‏ ‏مختلف‏ ‏تماما‏ ‏عن‏ ‏التطبيق‏ ‏الجماعى ‏على ‏أرض‏ ‏الواقع‏.‏

شمت ‏محمد ابنى فىّ‏ ‏أكثر فأكثر، ‏وقد‏ ‏كان‏ ‏يشك‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏ ‏فى ‏تنظيرى الخاص،‏ ‏ويتوقع‏ ‏أننى ‏سأتراجع‏ ‏عن‏ ‏حماسى‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏أكمل‏ ‏حديثى‏.‏

أطرق‏ ‏الأستاذ‏ ‏وقال‏ “.. ‏سمعت‏ ‏عن‏ ‏أحد‏ ‏أفراد‏ ‏الدولة‏ ‏العباسية‏ – ‏لا‏ ‏أذكر‏ ‏من‏ ‏هو‏ ‏تحديدا‏ – ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏يكثر‏ ‏من‏ ‏قراءة‏ ‏القرآن، ‏وحين‏ ‏جاءته‏ ‏الخلافة‏ ‏نظر‏ ‏مليا‏ ‏فيما‏ ‏حوله‏ ‏وما‏ ‏ينتظره‏ ‏وما‏ ‏عليه، ‏وأغلق‏ ‏القرآن‏ ‏ولم‏ ‏يعد‏ ‏يقرأه‏ ‏وذهب‏ ‏يدير‏ ‏أمور‏ ‏حكمه، ثم أضاف: “إن ‏هذا‏ ‏لا‏ ‏يعنى ‏أن‏ ‏هناك‏ ‏تناقضا‏ ‏بين‏ ‏قراءة‏ ‏القرآن تعبدا واستلهاما، وبين‏ ‏إدارة‏ ‏الحكم، ‏مصالحاً والتزاماً، وصلنى من إشارة الأستاذ أن الفرد يقرأ‏ ‏كلام‏ ‏الله‏ ‏ليوازن‏ ‏به‏ ‏نفسه‏ ‏ويصقل‏ ‏إيمانه، أما الحاكم المسئول فهو يجد نفسه ‏أمام‏ ‏إيقاع‏ ‏يومى واقعىّ ‏متغير، ‏وهو‏ ‏بحكم‏ ‏موقعه‏ ‏مكلف‏ ‏برعاية‏ ‏مصالح‏ ‏ناس‏ ‏بلا‏ ‏حصر‏ ‏وحل‏ ‏مشاكل‏ ‏متنوعة‏ بلا ‏حدود، وكان محمد ابنى ‏مازال‏‏ ‏متحفزا‏ ‏ينتظر‏ ‏تراجعى، ‏وقد‏ ‏كان، ‏فمضيت‏ ‏أقول‏: ‏ومع‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏فأنا‏ ‏لا‏ ‏أملك‏ ‏إلا‏ ‏رؤيتى ‏أدافع‏ ‏بها‏ ‏عن‏ ‏إيمانى، ‏وأحلم‏ ‏بتحقيقها، ‏ولا‏ ‏أجد‏ ‏لها‏ ‏اسما‏ ‏آخر‏ ‏غير‏ ‏الإسلام‏”

‏قال‏ ‏محمد‏ ‏هذا‏ ‏ما‏ ‏توقعته‏، ولا‏ ‏حول‏ ‏ولا‏ ‏قوة‏ ‏إلا‏ ‏بالله‏.

غيرت‏ ‏الموضوع‏ ‏بمناسبة‏ ‏الحضور‏ ‏الجدد، ‏خاصة‏ ‏أنهم‏ ‏لم‏ ‏يشاركونا‏ ‏نفس‏ ‏الحديث‏ ‏فى ‏المرات‏ ‏السابقة، ‏قلت‏ ‏للأستاذ‏: “… ‏ننتهز‏ ‏فرصة‏ ‏وجود هذه الصفوة من‏ ‏المثقفين‏ ‏بيننا‏ ‏لنعرف‏ ‏رأيهم‏ ‏فى ‏موقف‏ ‏الإبداع‏ ‏لو‏ ‏ساد‏ ‏هذا‏ ‏الحكم‏ ‏الإسلامى ‏المغترب‏” ‏أنكر‏ ‏د‏. ‏أحمد‏ ‏تيمور‏ ‏وكذلك ‏ ‏نعيم‏ ‏صبرى، ‏أنهما‏ ‏مثقفان، فتواتر ‏ ‏المزاح‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الإتجاه، ‏ورغم‏ ‏عزوفى ‏عن‏ ‏فكاهة‏ ‏القافية‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏الأستاذ‏ ‏يحبها‏ ‏كشأن‏ ‏أولاد‏ ‏البلد‏ ‏جلوس‏ ‏المقاهى، ‏فصالحتها‏ ‏حبا‏ ‏فيه، و‏قلت‏ ‏إذا‏ ‏كانت‏ ‏كلمة‏ “‏مثقف‏” -ولا‏ ‏مؤاخذة‏- ‏لا‏ ‏تعجبكم‏ – ‏فنحن‏ ‏معنا‏ ‏شعراء، ‏ملتزمون “بوزن” الأمور، ‏فقال‏ د.‏تيمور‏ ‏مكملا: إذن نحافظ‏ ‏على ‏الوزن‏ “‏بَلَا‏ ‏قافية‏”… ‏وضحك‏ ‏الأستاذ‏ ‏رائقا‏، وأعجبتنى القفشة.

عدنا‏ ‏إلى ‏تعريف‏ ‏المثقف‏ ‏وكان‏ ‏الأستاذ‏ ‏قد‏ سبق أن ‏ذكر‏ ‏له‏ ‏تعريفا‏ بناء عن تساؤلى ‏فى ‏أوائل‏ ‏خروجى معه‏،‏ ‏لا‏ ‏أذكر‏ ‏إن‏ ‏كنت‏ ‏قد‏ ‏سجلته فى هذه الكتابة‏ ‏أم‏ ‏لا،‏ ‏وحين‏ ‏سألت‏ ‏الأستاذ‏ ‏عنه‏ ‏من‏ ‏جديد‏ ‏لم‏ ‏يذكره أيضا، ‏ولم‏ ‏يحاول‏ ‏التعريف‏ ‏ثانية، ‏حاولت أن أتذكره فجاءنى‏‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏رؤيتى ‏أو‏ ‏رأيى، ‏حيث‏ ذكرت ‏أنه‏ ‏لم‏ ‏يركز‏ ‏على ‏المعلومات‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏أشار‏ ‏إلى ‏علاقة‏ ‏من‏ ‏هو‏ ‏مثقف‏ ‏باستيعاب‏ ‏الوعى ‏العام‏ ‏أو‏ ‏شىء‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏القبيل‏، ‏قلت‏ ‏ساخرا، لقد أصبح‏ ‏المثقف كما يصل إلى وعى الأكثرية‏ ‏هو‏ ‏المعقلـِنُ‏ ‏الذى ‏ينجح‏ ‏فى ‏الانفصال‏ ‏عن‏ ‏نبض‏ ‏الناس‏ ‏وعن‏ ‏الوعى ‏العام‏ “‏أضاف‏ ‏الاستاذ‏ ‏مازحا‏‏: “‏وفى نفس الوقت، ينشر‏ ‏آراءه‏ ‏لتحرير‏ ‏الفكر‏”

 ‏ ثم سرى ‏لمز‏ ‏حول‏ ‏سعد‏ ‏الدين‏ ‏وهبه‏ ‏ورابطة‏ ‏المثقفين‏ ‏التى ‏تكونت‏ ‏حديثا‏ ‏لتحرير‏ ‏الفكر، ‏فأضاف أحدنا ساخرا: إنه‏ ‏يشترط‏ ‏فى ‏العضو‏ ‏فيها‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏فكره‏ ‏غير‏ ‏محرر‏!! ‏حتى تساهم‏ ‏الرابطة‏ ‏فى ‏تحريره‏.‏

وضحك‏ ‏الأستاذ‏!!‏

ثم‏ ‏جرى ‏نقاش‏ ‏مؤداه‏ ‏أنه‏ ‏إذا‏ ‏قُهر‏ ‏الفكر‏ ‏فى ‏مجتمع‏ ‏إسلامى (‏أو‏ ‏غير‏ ‏إسلامى‏)، ‏فقد‏ ‏تقل‏ ‏فرص‏ ‏النشر، ‏ولكن‏ ‏ذلك‏ ‏قد‏ ‏يعوَّض‏ ‏بمزيد‏ ‏من‏ ‏فرص‏ ‏الحوار‏ ‏المباشر‏ ‏ونشاطات الشلل‏ ‏الصغيرة‏ ‏المتعددة، ‏واللقاءات‏ ‏الخاصة‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏اللقاء‏ ‏الذى ‏نحن‏ ‏فيه، ‏فلا‏ ‏أحد‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يقهر‏ ‏فكرا‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏ ‏لكل‏ ‏الناس، ‏وسوف‏ ‏تتراكم‏ ‏آثار‏ ‏هذه‏ ‏اللقاءات‏ ‏وهذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ “‏الإبداع‏ ‏الشفاهى” ‏تمهيدا‏ ‏لثورة‏ ‏مناسبة‏ ‏تعدل‏ ‏الأوضاع‏ ‏وتطلق‏ ‏حرية‏ ‏الفكر‏ ‏منشورا‏ ‏كما‏ ‏نعرفه‏ ‏هذه‏ ‏الأيام‏ ‏أو‏ ‏بالأسلوب‏ ‏الذى ‏يليق‏ ‏بعصره‏ ‏حينذاك‏.‏ شبهت هذه التجمعات الصغيرة بما يجرى فى اليمن من العصر حتى العشاء أو بعدها، أعنى تجمعات بعد القيلولة، ولذا تسمى “المـَقـْيـَلْ”، وأن هذه التجمعات تحافظ على حركية رأى عام سياسى بشكل تلقائى، برغم أنها تجمعات اجتماعية ثللية ودود، تواصل تخزين أوراق “القات” المنبـِّهة ربما لتنشيط الوعى اصطناعا لا أكثر. أطمأننا‏ ‏إلى ‏هذا‏ ‏الحل، ‏واستشهد الأستاذ‏ ‏بانتشار‏ ‏شعر‏ ‏بشار بن برد‏ ‏والحسن‏ ‏بن‏ ‏هانى (أبو نواس) ‏فى ‏عز‏ ‏الحكم‏ ‏الإسلامى ‏والمنع‏ ‏الشرعى، ‏ووسط‏ ‏هذه‏ ‏الطمأنينة‏ ‏شبه‏ ‏الكاملة‏، عاد الأستاذ ‏يتساءل‏‏ ‏عن مزيد من الإيضاح عن تجمعات اليمن هذه، فيسميها ‏د‏. ‏رفعت‏ ‏محفوظ‏ ‏” ‏المـَقـْيـَل‏ ‏السياسى”، ويتمادى الأستاذ فى حب استطلاعه ويسأل المزيد أكثر، ‏فحكيت‏ ‏له‏ ‏كيف‏ ‏أنه‏ ‏فى ‏صنعاء‏ ‏وحدها‏ ‏يعقد‏ ‏يوميا‏ ‏حوالى 15000 ‏مقيل‏ ‏للرجال‏ ‏على ‏ما‏ ‏أذكر‏ ‏وعدة ‏مئات‏ ‏للنساء، ‏وأن‏ ‏المقيل‏ ‏يستغرق – على الأقل -‏ ‏ثلاث‏ ‏ساعات إلى عشرة أحيانا:‏ ‏يوميا، ‏وأنه‏ ‏تجرى ‏ ‏فيه‏ ‏كل‏ ‏الحوارات‏ ‏على ‏كل‏ ‏المستويات‏ حول القضايا الساخنة ‏حسب‏ ‏مستوى ‏الحضور‏ ‏بما‏ ‏يعتبر‏ ‏تحريكا‏ ‏ديمقراطيا‏ ‏شعبيا‏ ‏هائلا‏ ‏طول‏ ‏الوقت، ‏بغض‏ ‏النظر‏ ‏عن‏ ‏النشر‏ ‏أو‏ ‏التوظيف‏ ‏المباشر، ‏وبالتالى ‏فإنى أطمئن نفسى أنه لو‏ ‏حدث‏ ‏قهر‏ ‏من‏ ‏الذى‏ ‏نتصوره‏ ‏نتيجة‏ ‏لحكم‏ ‏إسلامى ‏قادم، ‏فقد‏ ‏يلجأ‏ ‏الناس‏ ‏إلى ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الحلول‏ ‏الشخصية‏ ‏حفاظا‏ ‏على ‏أنفسهم‏ ‏وانتظارا‏ ‏للانتفاضة‏ ‏التالية‏ (‏وربما‏ ‏الثورة‏)،

 ‏فجأة‏ ‏قاطعنا‏ ‏محمد‏ ‏يحيى ‏مغيظا، “.. ‏هل‏ ‏هذا‏ ‏تبرير‏ ‏للإستسلام؟‏”، ‏فأرد أنا عليه: ‏وهل‏ ‏عندك‏ ‏بديل‏ ‏غير‏ ‏ما نقول ونسميه استسلاما؟، ‏إننا‏ ‏نتكلم‏ ‏عن‏ ‏توقع‏ ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏هناك‏ ‏شك‏ ‏فى ‏احتماله نظرا لقوة‏ ‏شيوعه، ثم إن‏ ‏الاستسلام‏ ‏الواعى ‏ليس‏ ‏بالضرورة‏ ‏هزيمة‏ ‏مطلقة، ‏بل‏ ‏لعله‏ ‏ذكاء‏ ‏مناسب‏ ‏تمهيدا‏ ‏لنصر‏ ‏قادم‏”

‏ويقرأ‏ ‏أحمد‏ ‏تيمور‏ ‏قصيدة‏ ‏جيدة‏ ‏للأستاذ‏ ‏فى ‏الاستاذ‏:‏

فيعقب‏ ‏الأستاذ‏ ‏عليها‏ ‏أنها‏ ‏قصيدة‏ ‏رقيقة‏ ‏ويمكن‏ ‏أن‏ ‏تلحن‏ ‏وتغنى ‏فيقول‏ ‏أحمد‏ ‏تيمور‏ ‏إن‏ ‏الدكتور‏ ‏سيد‏ ‏الرفاعى – ‏صديقه وتلميذى الذى سبقت الإشارة إليه فى([2]) ‏وسوف‏ ‏يحضر‏ ‏الليلة‏ – ‏قد وعد‏ ‏أن‏ ‏يلحنها‏ ‏أو‏ ‏لعله‏ ‏لحنها‏ ‏بالفعل، ‏ويلقى ‏أحمد‏ ‏تيمور‏ ‏قصيدة‏ ‏أخرى ‏من‏ ‏وحى ‏الثلاثية، ‏وملحمة الحرافيش‏، ‏يذكر‏ ‏فيها‏ ‏خديجة‏ ‏وياسين‏ ‏وعاشور‏ ‏الناجى، ‏ويفرح‏ ‏الأستاذ‏ ‏به، ‏ويحضر‏ ‏د. سيد‏ ‏الرفاعى، ‏متأخراً وبعد التحيات والترحيب يسارع بإمساك عوده‏ ‏ليغنى ‏للأستاذ‏ ‏أغنية‏ ‏أعرف‏ ‏أنه‏ ‏يحبها‏ “‏يا‏ ‏حلاوة‏ ‏الدنيا‏ ‏يا‏ ‏حلاوة، ‏يا‏ ‏حلاوْلَوْ،‏ ‏يا‏ ‏حلاوة‏”، ‏أكتشف‏ ‏أن‏ ‏الأستاذ‏ – ‏رغم‏ ‏علو‏ ‏الصوت‏ ‏واقتراب‏ ‏العود‏ – ‏لا‏ ‏يميزها‏ ‏جيدا، ‏وأتذكر‏ ‏قول‏ ‏توفيق‏ صالح ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يميز‏ ‏إلا‏ ‏ما‏ ‏يحب‏ ‏من‏ ‏أغانى ‏الشيخ‏ ‏سيد‏ ‏وبالذات‏ “‏سالمة‏ ‏يا‏ ‏سلامه‏” ‏و‏””‏أغنيه‏ ‏عن‏ ‏العمل‏ ‏والعمال.. ويسأل الأستاذ فى ذلك ‏فيقول‏: ‏”‏إن‏ ‏طبيب‏ ‏الأنف‏ والأذن‏ ‏لم‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يفسر‏ ‏له‏ ‏هذه‏ ‏الظاهرة‏ ‏بالذات، ظاهرة أنه يسمع ما يحب فقط”!!‏

وتحضر‏ ‏د‏. ‏إجلال‏ رأفت زوجة د. حلمى نمر مدير جامعة القاهرة، وهى ‏حماة‏ ‏محمد‏ إبنى ‏وتشارك‏ ‏فى ‏الجلسة‏ ‏بطيبة‏ ‏وحب، ‏وعلى ‏رجلها‏ ‏حفيدتها / حفيدتى،‏ ‏وتصبح‏ ‏الجلسة‏ ‏مزدحمة، ‏وأطمئن‏ ‏وأنصرف‏.‏

‏أختم‏ ‏هذه‏ ‏اليومية‏ ‏بذكر حوار جانبى نسيت أن أسجله، وقد دار أثر ‏سؤال‏ ‏سأله‏ ‏أحمد‏ ‏تيمور‏ ‏للأستاذ‏ ‏عن‏ ‏عادل‏ ‏إمام، ‏بمناسبة‏ ‏ذكر‏ ‏حسين‏ ‏فهمى ‏وما‏ ‏قاله‏ ‏فى ‏البرنامج‏ ‏الرمضانى ‏”حوار‏ ‏صريح‏ ‏جدا”، ‏فقد ذكر‏ الأستاذ فهمى ‏أثناء‏ ‏الحوار‏ ‏أن‏ ‏عادل‏ ‏إمام‏ “‏فوق‏ ‏المنافسة”، ‏ويسأل‏ ‏دكتور‏ ‏تيمور‏ ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏شخصا‏ – ‏ممثلا‏ – ‏يصبح‏ ‏هكذا‏ ‏فوق‏ ‏المنافسة، ‏فيقول‏ ‏الأستاذ‏ ‏ذلك‏ ‏مدهش‏ ‏لكنه‏ ‏واقع‏ ‏فعلا، ‏فنحن‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏ننكر‏ ‏ما‏ ‏وصل‏ ‏إليه‏ ‏عادل‏ ‏إمام‏ ‏من‏ ‏جماهيرية‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏تشير‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏عنده‏ ‏الموهبة‏ ‏التى ‏تمكنه‏ ‏من‏ ‏ذلك‏، ‏يا‏ ‏لهذا‏ ‏الرجل‏ ‏-الأستاذ-‏ ‏يحترم‏ ‏رأى ‏الجماهير‏ بشكل مزعج (لى) ‏سواء كان رأيهم هذا‏ ‏فى ‏سعد‏ ‏زغلول، ‏أم‏ ‏فى ‏عادل‏ ‏إمام، ‏وأقول‏ ‏له‏: أليس من الممكن أن ‏يكون‏ ‏انتشار‏ ‏عادل‏ ‏إمام‏ ‏هكذا‏‏ ‏دليلا‏ ‏على ‏المستوى ‏الذى ‏وصل‏ ‏إليه‏ ‏ذوقنا، ‏فلا‏ ‏يتراجع‏ ‏الأستاذ عن رأيه‏ ‏ويؤكد‏ ‏أنه‏: ‏”ليكن، ‏ولكن‏ ‏موهبته‏ ‏هى ‏التى ‏سمحت‏ ‏له‏ ‏أن‏ ‏يمثل‏ ‏نفس‏ ‏الدور‏ ‏وحده‏ ‏تقريبا‏ “‏لمدة‏ ‏سبع‏ ‏سنوات أو عشرة‏ ‏مثلا”، ‏ويصر‏ ‏د‏. ‏تيمور‏ ‏على ‏معرفة‏ ‏رأى ‏الأستاذ أكثر وضوحا، ‏فيقول‏ ‏الاستاذ‏: ‏إنه‏ ‏لم‏ ‏ير‏ ‏عادل‏ ‏إمام‏ ‏فى ‏أوج‏ ‏نجوميته، ‏وأنه‏ ‏أول‏ ‏ما‏ ‏سمع‏ ‏اسمه‏ ‏وكان‏ ‏مسئولا عن جانب من نشاط ‏ السينما‏ ويضيف جملة إعتراضية قائلا: “‏أنت‏ ‏تعرف‏ ‏طبعا‏ ‏أننى ‏كنت‏ ‏سينارست‏”، ثم يكمل: كنت‏ ‏مع‏ ‏رمسيس‏ ‏نجيب‏ ‏وإذا‏ ‏به‏ ‏يقول‏ ‏إن‏ ‏عنده‏ ‏موعد‏ ‏هام‏ ‏مع‏ ‏شاب‏ ‏ناشيء‏ ‏غير‏ ‏معروف، ‏لكنه‏ ‏يتوقع‏ ‏له‏ ‏مستقبلا‏ ‏متميزا، ‏ويصف الأستاذ‏ ‏رمسيس‏ ‏نجيب بأنه‏ كان ‏ذو‏ ‏قدرة‏ ‏فذة‏ ‏فى ‏اكتشاف‏ ‏المواهب‏ ‏والتنبؤ‏ ‏بمسارها، ‏وكان‏ ‏هذا‏ ‏الشاب‏ ‏صاحب‏ ‏الموعد‏ ‏هو‏ ‏عادل‏ ‏إمام، ‏ويكمل‏ ‏الأستاذ‏: ‏ولكن‏ ‏حين‏ ‏أتيحت‏ ‏لى ‏فرصة‏ ‏لمشاهدته ‏فى ‏باكر‏ ‏أعماله‏ ‏مع‏ ‏فؤاد‏ ‏المهندس‏ ‏مثلا‏ ‏فى ‏مسرحية‏ “‏أنا‏ ‏وهو‏ ‏وهي‏” ‏لم‏ ‏يعجبنى، ‏وحين‏ ‏اشتهر‏ ‏واستقل‏ ‏لم‏ ‏أعد‏ ‏أسمع‏ ‏ولا‏ ‏أرى ‏بما‏ ‏يسمح‏ ‏لى ‏بالحكم‏ ‏عليه”. سأل أحدنا الأستاذ عن ‏من‏ ‏يحب‏ ‏من‏ ‏الكوميديين،‏ ‏فلم‏ ‏يقبل‏ ‏التحديد‏ ‏أو‏ ‏التفضيل،‏ ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏قد‏ ‏وصف‏ ‏عبد‏ ‏المنعم‏ ‏مدبولى بكلام طيب ‏بشكل‏ ‏خاص،‏ ‏ويشير‏ ‏نعيم‏ ‏صبرى ‏إلى ‏عبد‏ ‏المنعم‏ ‏إبراهيم، ‏وإلى ‏أنه‏ ‏قام‏ ‏بدور‏ ‏ياسين‏ ‏فى ‏مسرحية‏ بين القصرين ‏أفضل‏ ‏من‏ ‏السعدنى ‏فى ‏المسلسل، ‏فأعترض، ‏وأقر‏ ‏أن‏ ‏أحدا‏ ‏لم‏ ‏يستطع‏ ‏أن‏ ‏يجسد‏ ‏لى ‏شخصية‏ ‏”يس‏ عبد الجواد” ‏أبدا، ‏مع‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏أقرب‏ ‏الشخصيات‏ ‏إلى ‏نفسى، ‏ففى ‏حين‏ ‏جسد‏ ‏يحيى ‏شاهين، ‏ومحمود‏ ‏مرسى، ‏شخصية‏ ‏السيد‏ ‏أحمد‏ ‏عبد‏ ‏الجواد‏ ‏بكفاءة‏ ‏كافية، فى الفيلم والمسلسل على التوالى، ‏وكذلك‏ جسدت كل من ‏آمال زايد ‏وهدى ‏سلطان ‏الست‏ ‏أمينة‏ ‏تماما‏، ‏لم‏ ‏ينجح‏ لا‏ ‏عبد‏ ‏المنعم‏ ‏إبراهيم، ولا السعدنى ‏فى ‏تجسيد‏ ‏صورة‏ ‏”يس”، ‏ويهز‏ ‏الأستاذ‏ ‏رأسه‏ ‏تلك‏ ‏الهزة‏ ‏إلى أسفل أكثر من كل الهزات النصف نصف، ‏فأفرح‏ ‏وقد‏ ‏تعلمت‏ أن أقيس درجة موافقاته بزاوية ميل رأسه على جسده!!

وأستأذن فقد أزف موعد عيادتى وأنصرف‏، ‏وأنا‏ ‏أحسد‏ ‏من‏ ‏بقى ‏مع‏ ‏الأستاذ،

وأتأكد‏ ‏أن‏ ‏الوقت‏ ‏الذى ‏أعطيه‏ ‏له، ‏ولو‏ ‏بلغ‏ ‏طول‏ ‏النهار، ‏هو‏ ‏لى ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏له‏ ‏طبعا،

 ‏يا‏ ‏أخى ‏ربنا‏ ‏يخليه‏.‏

الحلقة الثلاثون

عن الأحلام والإبداع

الخميس: 9/2/1995

‏ ‏مرة‏ أخرى أجد نفسى مع‏ ‏الأستاذ‏ ‏وحدى ‏على مدى‏ ‏ساعات، ‏سبق أن انفردت معه ذات ليلة، وحكيت عن ذلك (يوم الاتنين، يوم ما اتقابلنا احنا الاتنين،‏ ‏لكن اليوم شىء آخر، ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏اليوم‏ ‏هو‏ الخميس، يوم ‏الحرافيش، ‏ولا يوجد سواه وشخصى، إذن:‏ ‏فأنا‏ ‏لست حرفوشا احتياطيا كما أذكّر نفسى باستمرار، أنا فى هذه الليلة الحرفوش الوحيد معه، ولا يمكن الاستغناء عنى أو إبدالى، فأنا – الليلة على الأقل – لست احتياطيا بحال. توفيق‏ ‏صالح‏ أصابه الدور، ‏دور‏ ‏الانفلونزا‏ ‏السائد، ‏ومنعه‏ ‏من‏ ‏الحضور‏ ‏أمس، فاليوم، ‏بصراحة، دعوت الله أن يشفيه بسرعة، حتى يتمكن من أن يصحبنا اليوم، فأعـفى من هذا الامتحان الذى أتخوف منه هكذا.

وصلت‏ ‏بعد‏ ‏الميعاد‏ ‏بدقيقتين، ‏الأستاذ‏ ‏يقف‏ ‏وسط‏ ‏الردهة‏ ‏كالعادة، ‏لا‏ ‏يوجد‏ ‏أدنى ‏تردد‏ ‏فى ‏أننا‏ ‏سنخرج‏ ‏سنخرج، وهو يعرف أن الأستاذ توفيق لن يحضر اليوم، بادرنى ‏وهو يتأبط ذراعى ونحن‏ ‏نتوجه‏ ‏إلى ‏الباب‏ ‏بنفس السرعة (التى أصبحتُ أفهم مغزاها أكثر فأكثر)، بادرنى بإخبارى أن توفيق ‏مازال‏ ‏مريضا‏ ‏وملازما‏ ‏الفراش، ‏حاولت‏ ‏أن‏ ‏أبطئ من خطواته ولو ‏ ‏قليلا‏ ‏حتى ‏نتفق‏ ‏على ‏مسار الليلة، فليلة الحرافيش لا بد أن تبدأ بمكان عام (فندق عادة بعد تعذر الجلوس فى مقهى تبعا للظروف الجديدة)، ثم نعود إلى بيت توفيق فى النصف الثانى من الليلة، يا ترى هل يجوز أن نمضى الليلة كلها فى نفس المكان العام؟ بيتى لا يصلح أن يجمعنى أنا وهو فقط، وقد كنا فيه أمس، ركنى الخاص أعلى المستشفى أصبح مكانا غير لائق بعد ما انتبهت إلى احتمال سوء فهم الزوار والعاملين ومن لا يهمه الأمر لمعنى تردد الأستاذ على مستشفاى. أثناء الأسبوع حادثتنى من يومين صحفية من المصور وطلبت تحديد موعد لقاء تتحدث فيه معى عن صحة الأستاذ النفسية، والمصيبة أنها طلبت زيارته فى المسشتفى عندى، أفهمتها بلهجة غاضبة محذرة، أن عليها أن تراجع معلوماتها بأمانة وإتقان أكثر، وأن صحة الأستاذ النفسية مسألة غير مطروحة للمناقشة إلا فيما يخص كيف أنه يعالجنى نفسيا أنا شخصيا، حاولت الصحفية أن تقنعنى أن الحديث هو ‏عن‏ ‏تأثير‏ ‏الحادث‏ ‏نفسيا‏ ‏على ‏الأستاذ، ‏قلت لها هذا أمر ليس له علاقة بالنفسية كما تتحدث عنها الصحافة أو حتى الأطباء النفسيين، هذا أمر له علاقة بربنا، ولطفه، وشجاعة الأستاذ وبطولته، والأرجح أنها لم تـَفهم، فأنهت الحديث، ففرحت، لم أقل لها أن كل ما وصلنى من أثر هذا الحادث على الأستاذ هو ما عاينته كل لحظة من هذا الغمر بالطمأنينة، وحب الحياة، غمر امتلأ به حتى فاض على كل من حوله، تحريكا وإبداعا، (وهذا ما أسميته فى مقال نشر لى فى الأهرام :”إبداع “حى óحى”)([3])، نعم، رأيت بعينى رأسى معنى الرضا المتبادل بين العبد وربه، الحادث عمّق عندى ما وصلنى من الآية الكريمة ولم أفهمه جيدا إلا بعد أن عاينته من أنه “رضى الله عنهم، ورضوا عنه”، نعم عرفت كيف يرضى العبد على ربه إلى هذه الدرجة، خاصة بعد محنة بهذا الحجم، رأيت بعينى رأسى كيف يمكن أن‏ ‏تكون‏ ‏صلابة‏ ‏الإيمان بالحياة وخالقها ‏‏(لماذا نسميها الصحة النفسية؟) لها كل هذه القدرة على تجديد الوجود وتأكيد النقاء، أفقت من سرحتى وهو يكاد يجرجنى جرا نحو السيارة، وهو يقول ردا على تساؤلى: “لنتفق‏ ‏فى ‏العربة”، ‏ذكّــرته أننا لا بد أن نتفق على المكان لنخطر به رجال الأمن قبل أن نتحرك، لأنهم يتبدلون فى ساعة معينة أثناء اجتماعنا، ولا بد أن يخطروا رؤساءهم بالمكان قبلها بوقت كاف حتى يتمكن البدلاء من الحضور، قال لى: “قل لهم اسم أى مكان حتى نرى”، ‏أسرعت‏ ‏واقترحت عليه ‏فندق‏ ‏”الواحة” أول الصحراوى، ‏قال‏ ‏”كما‏ ‏تري”، لم اتعجل وأخبر الأمن وطلبت منهم أن يتبعونا ويمهلونا، فوافقوا.

 ‏أثناء‏ ‏الطريق‏ ‏غيرت‏ ‏رأيى، ‏فأنا‏ ‏لا‏ ‏أعرف‏ ‏أحدا‏ ‏هناك، ‏قلت‏ ‏فجأة “فورت‏ ‏جراند”، ‏فاستعادنى ‏مرات، ولم يعقب. ‏فى ‏بداية‏ ‏رحلة‏ ‏الليلة‏ ‏عرضت‏ ‏عليه‏ ‏أن‏ ‏نشترى ‏السودانى، ‏فلم يرفض وكأنه نسى أن السودانى لزوم بيت توفيق، ولكنه استدرك بسرعة وقال: “لا داعى”، (ولم يذكر السبب مثل المرة السابقة)، ‏سألته‏ ‏عن‏ احتمال أن يلحقنا أحمد‏ ‏مظهر‏ ‏حتى نخبره بمكاننا بمجرد أن نتفق عليه، فأجاب‏ ‏أن ‏توفيق أخبره‏ ‏أنه‏ ‏لن‏ ‏يحضر، ‏مع أننى كنت أتصور أن مظهر سوف يحضر إذا علم بغياب توفيق، ليس فقط ليكتمل اللقاء، لكن لأسباب وصلتنى دون أن يصرح بها أحد منهما.

أثناء اقتراب السيارة من بيت توفيق خطر لى فجأة أن أعرض على الأستاذ أن نعود أحمد مظهر ‏فى ‏منزله نطمئن على صحته، ‏قال فورا ‏(لا أعرف لماذا فورا): “‏زمانه‏ ‏نائم‏”، هذا رجل يعرف الناس من الظاهر والباطن طول الوقت.

فى ‏فندق فورت جراند([4])، ‏ ‏قرأت على وجهه راحة متسعة، فعرفت دون أن أسأل من جديد، أننا سوف ‏ ‏نمضى ‏النصف الثانى من السهرة‏ ‏حيث‏ ‏نحن، أعلنت له ‏ما وصلنى فأقره، واتسع الارتياح أكثر، فعرفت أن استنتاجى كان صائبا.

 هذا الرجل ‏علاقته‏ ‏بالأماكن‏ ‏مثل‏ ‏علاقته‏ ‏بالزمن، ‏يتعامل مع الزمن وكأنه مكون من “وحدات حياة”، لا دقائق ساعة، وهو يتعامل مع المكان وكأنه محراب يتخلق بصلوات ما يتلى فيه، وما يجرى فيه، وما ينبض به، حين خطر لى هذا الخاطر، نظرت إليه، ‏ولم‏ ‏أجرؤ‏ ‏أن‏ ‏أسأله‏: ‏لماذا‏ ‏ترك‏ ‏العباسية‏؟ بصراحة: أنا لم‏ ‏أحب‏ ‏ ‏شقته‏ ‏الحالية‏ ‏أبدا، ‏أشعر‏ ‏أنها‏ ‏لا‏ ‏تتسع‏ ‏لكتبه‏، لا تحيط بأوراقه،‏ ‏فكيف‏ ‏يجول‏ ‏فيها‏ ‏خياله‏ ‏ويتفجر‏ ‏إبداعه، ‏يبدو‏ ‏أنه‏ “‏يستعمل‏ ‏البيت‏ ‏كقاعدة‏ ‏إطلاق‏ ‏الصواريخ، ‏القاعدة‏ ‏قد‏ ‏تكون‏ ‏بضع‏ ‏عشرة مترا أو ما يقرب من ذلك، ‏لكنها‏ ‏قد‏ ‏تطلق‏ ‏صاروخا‏ ‏يعبر‏ ‏القارات، ‏وهو‏ ‏يطلق‏ ‏صواريخ‏ ‏إبداعه‏ ‏فى ‏كتاباته‏ ‏قمرا‏ ‏بشريا‏ ‏مضيئا‏ ‏حاديا‏ هاديا ‏للبشر‏ ‏أمثالنا، ‏أشرت‏ ‏إلى ‏مادار‏ ‏فى ‏خلدى ‏عن‏ ‏رأيى فى علاقته‏ ‏بالمكان، ‏ولم أذكر له طبعا مشاعرى نحو شقته فى الدور الأول التى يشاع أنها على النيل مع “حجب النيل ووقف المشاهدة”، ‏ حدثته‏ ‏عن‏ ‏كتاب‏‏ ‏جاستون‏ ‏بشلار‏ “‏شاعرية‏ ‏المكان‏” ‏قائلا‏ ‏إن‏ ‏وصف‏ ‏بشلار‏ ‏للأشياء‏ ‏الصغيرة‏ ‏والمـُخـَبـَّاة‏ ‏فى ‏مكان‏ ‏بذاته‏ ‏عند‏ ‏الأطفال‏ ‏قد‏ ‏ملأنى حتى حضرتْ أماكن طفولتى وملأت وعيى وأنا أقرأه، رجحت ‏أن‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏العلاقة‏ ‏بالمكان بأدق تفاصيله هى ‏من‏ ‏أخص‏ ‏خصائص‏ ‏إبداع‏ ‏الاستاذ، (‏وخاصة‏ ‏فى ‏الفترة‏ ‏الوصْفية‏ ‏الباكرة‏)، ‏هز‏ ‏رأسه موافقا تقريبا، ‏فانتقلت‏ ‏إلى ‏الإشارة إلى عمل آخر لجاستون‏ ‏بشلار‏ ‏أيضا كنا قد قدمناه فى ندوة المقطم الثقافية، وهو ‏”‏حدْس‏ ‏اللحظة‏”، ‏فطلب منى أن أحدد له ما وصلنى وبهرنى، أو أوجز له ما شدّنى، هذا الرجل لا يكف عن الاستزادة من المعرفة من أى مصدر فى أية مناسبة، رحت أشرح له كيف عرّفنى بشلار قيمة معايشة ‏هذه‏ ‏الأجزاء‏ ‏من‏ ‏الثانية، ‏ليس بالضرورة بأى درجة من الوعى، لكن باعتراف وإقرار على الأقل، ثم رحت أحكى له كيف اننى ألاحظ أهمية هذه الأجزاء من الثوانى أثناء نقلات مرضاى، ونفسى، وتلاميذى، فى العلاج الجمعى بالذات، وأننى حين أرصد ذلك، أو يخيل إلى أننى أرصده، أتابع هذا الفرض، وهو أن ثم شيئا قد حدث لنا، له (للمريض) ولى شخصيا فى هذه الثانية أو جزء منها، ولا استطيع طبعا أن أجزم ساعتها، أو أن أعلن شيئا، لكن مع مضى الزمن والمتابعة، يخيل إلى أننى أرى أثره فى مآل مرضاى، وعلى مسار نموى شخصيا. كان الأستاذ يستمع بإنصات مجتهد، لكن حواحبه ارتفعت فوضعْت احتمال أننى عجزت عن توصيل ما أريد كما قصدت، قال: “لم أفهم تماما”، المصيبة أننى فى محاولة الشرح: اضفت -كالعادة – ما زاد الأمر تعقيدا، قلت له “إن زويل حين اكتشف تناهى صغر زمن التفاعل الكيميائى حتى استطاع تصويره فيما سمى الفيمتوثانية طمأننى على ما وصلنى من بشلار، وما رأيته أو افترضته فى مرضاى، ونفسى”، لم يعقب، ولم يرفض، وإن وصلتنى حيرته، ولفنى صبره، سكت خجلا من عيّى، وطال صمته وهو مطرق، ففرحت أنه احترم محاولتى على الأقل.

 هو الذى سارع بتغيير الموضوع، فرجّحت أنه يريد أن يعفينى من خيبتى، أو أن يستريح من مبالغتى فى الحدس هكذا، قال: “‏‏حدثنى ‏توفيق عن مدى إعجابك بفيلم “المخدوعون”، فرحت أن رأيى له هذه القيمة هكذا، ‏ ‏قلت‏ ‏له‏ ‏يبدو‏ ‏أن‏ ‏توفيق‏ ‏يحب‏ ‏هذا‏ ‏الفيلم‏ ‏حبا‏ ‏شديدا‏ ‏لدرجة‏ ‏أنه‏ ‏حين صرحت له بإعجابى الشديد به، وحكيت له عن بعض المناقشات التى دارت حوله، كان كمن يسمع نقد الفيلم لأول مرة، مع أنه‏ ‏إنتاج‏ 1968، ‏قال‏ الأستاذ: هو‏ ‏كذلك، ‏إنه‏ ‏يحبه‏ ‏حبا‏ ‏شديدا، ‏وقد‏ ‏سافر‏ ‏معه‏ ‏وبسببه‏ ‏إلى الخارج لأكثر من بلد، فى أكثر من مناسبة، ‏كنت‏ ‏قد‏ ‏سألت‏ ‏الأستاذ‏ ‏فى ‏البداية‏ – ‏بمناسبة‏ ‏أننى ‏لاحظت‏ ‏أن‏ ‏توفيق‏ ‏صالح‏ ‏هو‏ ‏صاحب‏ ‏السيناريو‏ ‏والإخراج‏ ‏دون‏ ‏الحوار‏، ‏قال لى “لا تنسى أن الحوار كان باللهجة الشامية، الفلسطينية، ولا تنسَ أن الفيلم إنتاج سورى”، سألته سؤالا أكثر عمومية‏ ‏لو أن اللهجة كانت هى هى لهجة الممثلين والمخرج والسيناريست، كيف يمكن أن ينفصل السيناريو، وهو تشكيل المَشاهد، عن الحوار وهو نبض محتوى المَشاهد، وبالتالى كيف، يستقل كاتب السيناريو عن كاتب الحوار؟ ‏ ‏فأجاب‏ ‏”أنا‏ ‏كاتب‏ ‏سيناريو، ‏لكننى ‏لم‏ ‏أكتب‏ ‏حوارا‏ ‏أبدا، ‏ذلك‏ ‏لأننى ‏لا‏ ‏أستطيع‏ ‏أن‏ ‏أكتب‏ ‏بالعامية، ‏ففضلت‏ ‏أن‏ ‏أترك‏ ‏موضوع‏ ‏الحوار‏ ‏لمن يحذق ذلك، وأكتفى ‏بالسيناريو، ‏إن كاتب‏ ‏السيناريو‏ ‏يكتفى ‏بالإشارة‏ ‏إلى ‏موضوع‏ ‏الحوار‏ ‏فى ‏كل‏ ‏لقطة،‏ ‏أو‏ ‏قطع، ‏ ‏ثم‏ ‏يترك‏ ‏الألفاظ‏ ‏والتفاصيل‏ ‏لكاتب‏ ‏الحوار، ثم ذكر لى كيف أنه كان يفضل صلاح جاهين ليكتب الحوار للسيناريو الذى يشكله، فصلاح مثلا يعرف لغة المدبح أكثر منى مائة مرة، والحوار ينبغى أن يكون من واقع الواقع حسب الأحداث، والعامية ليست واحدة، وعرج بنا الحديث على احترامى للعامية، وأن لى ديوانا بالعامية، ومع ذلك فأنا أعجز عن كتابة حوار قصة أو رواية بها، فيخرج منى بالفصحى، ثم استشهدت بهذه الخواطر التى أكتبها الآن بعد لقاءاتنا، وكنت قد ألمحت إليها دون تفصيل، قلت له إننى ‏لا‏ ‏أستطيع‏ ‏أن‏ ‏أكتب‏ ‏حتى ‏هذا‏ ‏الحديث‏ ‏الذى يجرى بيننا الآن ‏ ‏بالعامية‏، وأننى ‏بمجرد‏ ‏أن‏ ‏أمسك‏ ‏بالقلم‏ ‏أجدنى ‏أكتب‏ ‏بالعربية الفصحى، ‏فعقب ‏قائلا‏ “‏أو‏ ‏بالعامية‏ ‏العربية‏”

عدنا بسرعة للحديث عن فيلم توفيق “المخدوعون”، قلت له إننى شاهدته وحدى لأعد تقديمى له، وأنه فيلم لا يمكن أن يشاهده أحد وهو مستلق مثلا، وأننى ‏بمجرد‏ ‏أن‏ ‏أكملته، ‏رحت‏ ‏أعيده‏ ‏من‏ ‏جديد‏ ‏لألتقط‏ ‏بعض‏ ‏الحوارات‏ ‏التى ‏فاتتنى ‏تفاصيلها، ‏وعندما‏ ‏وصلت‏ ‏إلى‏ ‏منتصف‏ ‏الفيلم‏ ‏لم‏ ‏أستطع‏ ‏أن‏ ‏أكمل‏ ‏خوفا‏ ‏من‏ ‏مشاعر‏ ‏الحزن‏ ‏التى ‏قد‏ ‏تغمرنى ‏من‏ ‏جديد، ‏مع أننى كنت أحاول أن أذكر نفسى طول الوقت أن هذا تمثيل، أن هذا تمثيل، وأنه من صنع صديق أعرفه الآن شخصيا، فأحداثه لم تحدث هكذا، ‏ولكن‏ ‏مشاعرى ‏لم‏ ‏تطاوعنى ‏أن‏ ‏أكمل‏ ‏الفيلم للمرة الثانية، ‏وأضفت: كم‏ ‏هو‏ ‏رائع‏ ‏أن‏ ‏يصبح‏ ‏الخيال‏ – ‏وهو‏ ‏خيال‏ – ‏أقوى ‏من‏ ‏الحقيقة‏ ‏أو‏ ‏فى ‏قوتها، ‏وأشرت‏ ‏للأستاذ‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏المشاعر‏ ‏كنت‏ ‏أقبلها‏ ‏وأنا‏ ‏طفل، ‏وأننى أحيانا كنت أقرص نفسى ‏ ‏وأنا‏ ‏أشاهد‏ ‏فيلما مؤثرا ‏ ‏حتى ‏أتأكد‏ ‏من‏ ‏أننى ‏خارج‏ ‏وليس‏ ‏داخل‏ ‏الكادر، ‏والتقط‏ ‏الأستاذ‏ ‏ما‏ ‏أريد‏ ‏واعتبره‏ ‏مديحا‏ ‏جيدا‏ ‏لهذا‏ ‏العمل‏ ‏المتميز لهذه الدرجة، حكى‏ ‏الأستاذ‏ معقبا ” ‏أنه‏ ‏مـر‏ ‏بما يقابل‏ ‏هذه‏ ‏الخبرة‏ تقريبا، وذلك أنه ‏حين‏ ‏يكون‏ ‏نائما‏ ‏ويصاب‏ ‏بالكابوس‏ ‏يروح ‏ ‏يكرر‏ ‏لنفسه‏ ‏أنه‏ ‏نائم‏ ‏وأن‏ ‏هذا‏ ‏كابوس‏ ‏وليس‏ ‏حقيقة، ‏وسألنى ‏كيف‏ ‏يدرك‏ ‏النائم‏ ‏أنه‏ ‏يحلم، ‏فحكيت‏ ‏له‏ ‏عن‏ ‏نظريتى ‏فى ‏الحلم، ‏وأن ‏الحلم‏ الذى نحكيه ليس هو الذى ‏ ‏يحدث‏ ‏أثناء‏ ‏النوم‏، وأن ما نحكيه وكأنه حدث فى أيام أو شهور، هو فى حقيقة الأمر ‏لا‏ ‏يستغرق‏ ‏سوى ثوان أو بعض ذلك، ثم أضفت أننى بعد تعرفى على أجزاء الثانية كما اشرت من “حدس اللحظة” ومن اكتشاف زويل، اطمأننت إلى سلامة فرضى الذى هو أساس نظريتى الإيقاعية التطورية وما بها من فهم جديد لظاهرة الأحلام، حيث افترضت أننا نؤلف أحلامنا التى يمكن أن تحكى أو لا تحكى، فى جزء من الثانية ونحن بين النوم واليقظة، عادة قرب الاستيقاظ، وقد نشرت هذه النظرية متكاملة فى مجلة فصول (للنقد الأدبى)([5])، وحسب هذه النظرية فإن أى إنسان عادى هو مبدع بالضرورة، حالة كونه يشكل من مادة معلوماته المتقلقلة أثناء ما نسميه النشاط الحالم، يشكل حلمه ‏ ‏فى ‏جزء‏ ‏من‏ ‏الثانية‏ ‏قبيل‏ ‏اليقظة، لم يستوقفنى الأستاذ، وفهمت من صمته وإنصاته وحاجبيه أنه ينتظر إيضاحا ما، حاولت أن أربط بين حديثنا السابق عن حدس اللحظة والفيمتو ثانية فعجزت، فانتقلت إلى حديث أكثر اتساعا عن حالات الوعى المتنوعة والمتبادله، وقبل ان أتمادى رحت أقرأ وجهه وصمته فتشجعت، حاولت أن أشرح كيف أنه بقدر النجاح ‏ ‏فى ‏الإبقاء‏ ‏على ‏حالة‏ “‏وعى ‏الحلم‏” ‏حتى تتم اليقظة أو نقترب منها جدا، يكون الحلم ممثلا فعلا لتقليب المعلومات وإعادة تشكيلها إبداعا، استفسر الأستاذ منى على مدى دقة استعمالى للفظ إبداع فى هذا السياق، ففرحت أنه يتابعنى، حاولت أن أعرّف الإبداع الذاتى وافرق بينه وبين الناتج الإبداعى فى أدب أو علم أو تشكيل، وأن أى إعادة تشكيل لتركيبنا الحيوى مهما بلغت ضآلته هو إبداع للذات، كنت أتكلم فى حماس مستغلا تشجيعه الصامت، لكن يبدو أن الأمر لم يزدد وضوحا، امتلأت غيظا من نفسى، حتى قلت: خلاصة القول إن الحلم يكون أكثر إبداعا حين يكون أقرب فأقرب إلى وعى النوم الذى بداخله وعى الحلم، وصلنى من حالة التلقى الصبور الذى غلف موقف الأستاذ انه ربما انتهز فرصة انفرادنا، وأن الجلسة برغم أنها حرافيشية، إلا أنها ممتدة ولن تقسم إلى جزأين، خيل إلى أن الأستاذ راح يتمادى فى الاستيضاح دون حرج عدم اهتمام آخرين، وبرغم خجلى من نفسى نتيجة عجزى عن الاستجابة لحب استطلاعه بما يكفى، إلا أننى فرحت وأنا أتعرف واتعلم عظمة موقفه هذا المتشوق إلى أية معرفة، وكل معرفة، تشجعت واستمررت قائلا: إن مفردات الحلم هى معلومات دماغية، تتحرك أثناء ما يسمى النوم النقيضى أو النوم الحالم،أو نوم حركة العين السريعة، حيث تتحرك العين عشرين دقيقة كل تسعين دقيقة وكأنها تتابع إعادة تشكيل المعلومات هذه، وهذا ما يرصد بانتظام إيقاعى رائع برسام المخ الكهربائى، سواء تذكرنا بعض هذا النشاط حين نستيقظ أم لا، ثم عرجت بسرعة إلى سؤاله الأول عن كيف يدرك النائم أنه يحلم وهو يحلم، وقلت له إنه بناء على فروضى تلك، فأنا أتصور أن بعضنا قد يستطيع أن يحتفظ بنشاط أكثر من مستوى من مستويات الوعى معا، وبالتالى فمثل هذا الشخص قد يتمكن أثناء نشاط وعى الحلم حالة كونه يحرك المعلومات ويعيد تشكيلها، من أن يسمح بنشاط جزء من وعى اليقظة، فيرصد هذا النشاط، ويعرف، أنه يحلم، واضطررت أن أذكـّره أن هذا كان سؤاله فى البداية، وهو الذى جرنا إلى كل هذا الغموض. تنهد الأستاذ أخيرا، وقال: “الآن فهمت بعض ما تعنى”، صدّقته وفرحت، ثم أضاف: وهل هذا له علاقة بنظرية تعدد الذوات التى شرحتها لنا من قبل؟  بصراحة كدت أقفز من الدهشة والبهجة معا، ومن حبى له أيضا. ما هذا؟ ما هذا يا ناس؟ إن تعدد الذوات – عندى على الأقل –  هو ليس إلا تعدد مستويات الوعى، هممت أن أقوم لأقبـّل رأسه من فرحتى أننى وجدت عقلا بشريا فى هذه السن يستطيع أن يتحمل هذا القدر من الشطح أو من الفروض أو من الحقائق بهذا السماح الصبور، وهو غير متخصص أصلا فى جوهر الموضوع، لكنه نجيب محفوظ، وبرغم أنه ليس النموذج الذى يمثل كل الناس، لكنه أيضا ليس إلا بشرا سويا، هذا كل ما فى الأمر، وهذا أيضا هو ما يعطيه جماله، إنه ليس إلا الاصل البشرى كما خلقه الله، وأفيق من فرحتى التى ألجمتنى وهو يبادر بسؤال جديد “وهل هذا يحدث لكل البشر حتى لمن لا يحلم، أنا أعرف ناسا يقولون أنهم لا يحلمون”، مزيد من الفرح بهذا الباحث النجيب، قلت: نعم، إن نشاط النوم أثناء حركة العين السريعة التى تشغل ربع ساعات النوم تقريبا، وهو ما يرصده رسام المخ، هو الدليل على أننا جميعا نحلم نفس القدر كل ليلة، أما إنكار أى شخص أنه يحلم، فهذا يشير إلى إقراره أنه يحلم، وليس إلى حقيقة أن النشاط الحالم لا يحتل هذه المساحة عنده مثله مثل غيره، وفى خبرتى وجدت أن مستويات وعى مثل هذا الشخص هى بعيدة عن بعضها البعض حتى تكاد تكون فى خصام استقطابى (إما…أو)، فبمجرد أن يستيقظ هذا الشخص، وفى جزء من ثانية قبل أن يفيق لدرجة التذكر أو الحكى، يقوم بإبعاد ما كان فيه من نشاط تشكيلىّ باستعمال آلية (ميكانزم) الإنكار بسرعة فائقة، ثم أضفت أننى فى خبرتى أثناء العلاج أعتبر اعتراف مثل هذا الشخص بأنه بدأ يحلم، أو بدأ يتذكر بعض أحلامه، أعتبر ذلك علامة تقدم نحو تصالحه مع نفسه أعنى اقتراب مستويات وعيه من بعضها البعض تتسع ابتسامة الأستاذ جدا، وهو يقول ما وصلنى أنه إقرار بأننى نجحت أخيرا أن أوصل بعض ما أريد، قال: “لا يا شيييييخ!!”، وضحك، فضحكت، بما سمح أن نرجع إلى حكينا عن توفيق صالح:

عاد الأستاذ يتساءل تساؤلا كم كررناه بالتبادل، ونحن معا دون توفيق حتى لا نقلب عليه المواجع، قال ما سبق أن قاله وقلتُه مرارا: “كيف‏ ‏أن‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏المصرى ‏الموهوب، ‏وقد‏ ‏عاد‏ ‏إلى ‏وطنه‏ ‏منذ‏ ‏عشر‏ ‏سنوات‏ ‏لا‏ ‏يجد‏ ‏من‏ ‏يدعوه‏ ‏لإخراج‏ ‏عمل‏ ‏جديد‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏البلد؟” وكنت قد ذكرت له من قبل رأيى فى تواضع أفلامه الأخرى غير “المخدوعون”، بما فى ذلك “يوميات نائب فى الأرياف”، لكننى لم أكرر ذلك الآن، فقد قدرت أن هذا غير لائق ونحن نحكى عن إبداع توفيق وتفوق إنتاجه واستغرابنا من موقف أهل الفن من قدراته حتى لم يعطوه فرصا تليق بتاريخه بعد عودته، لم أذكر فى هذه المرة رفضى الخاص لفيلمه “صراع الأبطال”، الذى وصلتنى منه جرعة خطابية أكثر منها سينمائية، عدت إلى مناقشة فيلم “المخدوعون” تجنبا لإعلان رأيى هذا، قلت للأستاذ أننى‏ ‏سمعت‏ ‏أن‏ ‏توفيق‏ ‏قد‏ ‏عـدّل‏ ‏فى ‏قصة غسان كنفانى ‏”رجال تحت الشمس” التى هى أصل الفيلم، وأنه مثلا رفض ‏ ‏أن‏ ‏يجعل الرجال الذين انحبسوا داخل صندوق العربة النقل يدقون بأيديهم على جدار العربة الداخلى كما جاء فى القصة، وأننى وافقت توفيق على هذا التعديل لأنه أقرب إلى الممكن واقعا، حيث أن ‏ ‏القابعين‏ ‏فى ‏صندوق‏ ‏العربة‏ ‏من‏ ‏الداخل‏ ‏أمام‏ ‏نقطة‏ ‏الجمرك كانوا فى حالة من الإعياء واليأس بحيث يكاد يستحيل أن يقوموا من أماكنهم، فضلا عن أن يدقوا على جدار العربة، فالذى ‏يموت‏ ‏من‏ ‏الحر‏ ‏والاختناق‏ ‏‏لا‏ ‏تسمح‏ ‏له‏ ‏الغيبوبة‏ وما قبلها بأى نوع ‏من‏ ‏الهياج‏ ‏الحركى، ‏ثم‏ ‏إن مثل هذا الدق على جدار العربة كان يمكن أن يلفت نظر رجال الجمرك حتى لو أنهم كانوا فى حالة تسمح به، ولهذا رفضت اعتراض من شاهدوا الفيلم حين عرض ‏ ‏فى ‏ندوة‏ ‏الجامعة‏ ‏الأمريكية‏ ‏مثلا، وقارنوا بينه وبين الرواية، ووافقنى الأستاذ بغير حماس، فتذكرت ما سبق أن نبهنى إليه من أن النص الروائى لا ينبغى أن يكون وصيا على العمل السينمائى الذى يستلهمه إلا فى حدود، ولم أعد إلى تساؤلاتى السابقة عن الفرق بين رواياته شخصيا والأفلام التى صدرت عنها.

هذا الرجل لا يكف عن النهل من المعرفة، ولا يترك كبيرة ولا صغيرة إلا وأخذها مأخذ الجد، حتى المعلومات المتخصصة البعيدة عنه يفتح لها ذراعىْ وعيه بكل ترحيب، أذكر اننى ذكرت ترحيبه بظهور مجلة الإنسان والتطور وخطابه التشجيعى لنا بعد أول عدد (يناير 1980)، ‏ ‏وأنه قال فى رده هذا أن العدد الأول قد فتح له ‏آفاقا ‏جديدة‏ ‏للتعرف على ما‏ ‏يسمى “‏علم‏ ‏النفس‏ ‏الإنسانى‏”([6])، الذى يعطى نهمه للمعرفة قيمة أكبر هو استمرار طزاجته هذه برغم كل هذه الإعاقات، والأحداث، كنت قد تصورت أنه خرج إلى موضوع فيلم المخدوعون ليبعدنا عن عجزى عن شرح نظريتى فى الأحلام، سألنى فجأة بشكل لم أتوقعه كما ذكرت، “إذن فما هى وظيفة الحلم من وجهة نظرك”؟ فـَرِحْـتُ بالسؤال فرحا بالغا، قلت فورا بأبسط ما حضرنى ” إنه ‏صمام‏ ‏أمن، ‏وأنه‏ ‏إعادة‏ ‏تنظيم‏ ‏رغم‏ ‏ما‏ ‏تمر به هذه العلمية ‏ ‏من‏ ‏تشوش‏ ‏فى بعض مراحلها، فهو تشوش مؤقت لا يمكن أن تتم إعادة التنظيم إلا بالمرور بمرحلته، وأن هذا هو تماما ما يحدث فى عمليات الإبداع الفائق”.

هز رأسه هذه المرة هزة أعمق، وأحسست أخيرا أننى استطعت أن أوصل شيئا يهمه، فلا بد، وهو المبدع الفريد، أنه يعرف بطريقة أسهل ما أقول على مستوى الإبداع، وذلك من خلال ممارسته الفائقة، وبالتالى يمكن أن يلتقط ما أعنى حين أصف الحلم بأنه إبداع موازٍ، أضفت متشجعا: إن إعادة التشكيل هذه التى هى حركية نمو، وفى نفس الوقت صمام أمن، لا تـُرْصد بشكل مباشر طبعا، وإنما نحن نعرفها من نتائجها، حين يقوم النائم من نومه مستشعرا أن نومه وأحلامه قد قاما باللازم، فيصحوا ممتلئا مختلفا، وكأنه البعث الإيقاعى الحيوى كل ليلة، وأذكر اننى كررت ذكر صلاة المسلم وحمده وهو يستقيظ أنه “الحمد لله الذى أحيانى بعد ما أماتنى وإليه النشور” فى مناسبات أخرى مرارا. سألنى الأستاذ عما إذا كان هناك دليل على حكاية أن وظيفة الحلم، حُـكـِىَ أم لم يُحك، هى ما قلته حالا من أنه “صمام أمن ضد الجنون خاصة”؟ شعرت ساعتها أننى فعلا لا أفرض على الجلسة اهتماماتى الخاصة أو المتخصصة، وأن هذا الرجل يصر أن يعرف أكثر وأكثر ما أمكن ذلك، يا خبر!! هل تعد هذه ليلة حرفوشية، أين نكات جميل شفيق، وصمت أحمد مظهر الحالم، وذكريات توفيق صالح، ما هذا الذى نحن فيه هكذا؟ ومع ذلك فلا أنكر أن رائحة الحرافيش كانت تحيط بنا وتباركنا، طال صمتى وأنا أسرح فى كل ذلك، فأعاد الأستاذ تساؤله فتأكدت من حرصه، فرحت أحكى له عن ‏ ‏تجارب‏ “‏الحرمان‏ ‏من‏ ‏الحلم‏”، ‏وكيف‏ ‏يؤدى ‏هذا الحرمان إلى إعاقة نوم حركة العين السريعة عن إعادة تشكيل المعلومات فإذا استمرت هذه الإعاقة بضعة أيام، وليال من السهر المتواصل فإن هذا النشاط الممنوع من حقه فى التناوب يضغط حتى يظهر بما يرصد فى رسام المخ الكهربائى أثناء اليقظة، أما فى السلوك فإن المحروم من الحلم يعيش هذه الفوضى النشطة المكافئة للجنون ‏ ‏فعلا، حتى يعود إلى النوم بما يكفى أن يعود صمام الأمن لفاعليته، كان الأستاذ ينصت‏ ‏بانبهار‏ طمأننى أكثر، ولم يقطع هذه الوجبة الدسمة إلا طلبه أن نذهب ‏” ‏لتنشيط‏ ‏الحركة‏ ‏الثقافية‏” (= تسديد الرأى: قضاء الحاجة!).

حين عدنا فوجئت به يواصل فى نفس الموضوع، وكأنه أخذه معه وظل يفكر فيه حتى ونحن “ننشط الحركة الثقافية”!!!، بمجرد عودتنا بادأنى بقوله: ” ‏إذن‏ ‏فالمسألة‏ ‏كلها‏ ‏توازن‏ ‏وإتساق، فتوازن واتساق، فإعادة توازن واتساق”، كدت أطير من الفرحة، حتى هممت أن أقبل يده وأنا أقول” الله نوّر يا سيد العارفين”، مضى يكمل وكأنه لم يسمعنى” فما هو موقف فرويد من كل هذا؟ وتفسير الأحلام عنده شىء آخر تماما “، لم أسارع بالرد لأننى أعرف مدى احترامه لمنجزات فرويد بشكل مبالغ فيه حتى أحسست أن هذه المبالغة فى تقدير معطيات التحليل النفسى الفرويدى قد أفسدت بعض أجزاء من بعض رواياته، أجبته بحذر: “إن فرويد الذى اعتبر كتاب تفسير الأحلام هو أعظم إنجازاته، حتى سجل تاريخ اكتشاف نظريته فى الأحلام على مائدة الطعام التى كان يتناول عليها غذاءه حين هبط عليه وحى هذا الحدس ثم راح يكتب لنفسه ” قيِّض لى أن أكتشف أكثر الأمور بداهة”، أكملتُ: ” إن فرويد قد اعتمد كثيرا جدا على الحلم الظاهر المحكى، الذى هو عندى أكثر مستويات الحلم تسطيحا، وأنه برغم اعترافه بمستوى الحلم الأصل، الذى أسماه “الحلم الكامن”، فإن إصراره على لغة الرمز لترجمة ما هو ظاهر إلى ما هو أصل باطن، افسد محاولاته من وجهة نظرى، لأن مصادره لتفسير الأحلام، حتى أحلامه هو شخصيا كانت على مستوى أقل بكثير من حقيقة التشكيل الذى أشرت إليها الآن، والذى يرجع الفضل فى وصولى إليها إلى علاقتى برسام المخ الكهربائى من جهة، وهو يرصد حركية النوم الحالم، وعلاقتى بالإبداع نقدا وإنشاء من جهة أخرى، ثم قراءاتى للأحدث فالأحدث من العلم المعرفى والنيوروبيولوجى ثم أضفت أننى أعذر فرويد فهذه الإنجازات العلمية والتكنولوجية لاحقة لعصره، وأنه ما زال عندى يمثل العبقرى الذى أحترمه كثيرا، ولكننى أتحفظ تجاه فكره أيضا بلا حدود”، سألنى الأستاذ أن أضرب له مثلا على تحفظاتى على تفسيرات فرويد، حضرنى إصرار فرويد على وضع ترجمة بذاتها لأحلام بذاتها، وقلت له: خذ مثلا أحلام الطيران، وكيف أكد فرويد على علاقتها بشطحات الجنس المكبوت بشكل خاص، مع أنها يمكن أن يختلف مغزاها فى كل مرة، وعند مختلف الأفراد حسب السياق، والأهم حسب مستوى حكى الحلم، وهل هو حلم فجٌّ أصلى، أم حلم سطحى مصنوع من الظاهر، وافقنى الأستاذ بشكل لم أتوقعه، وتصورت أنه سوف يكتفى بهذا المثل، لكنه اضاف سائلا: “ثم ماذا أيضا تختلف معه فيه؟” تعجبت وواصلت مترددا ‏قلت: “إن فرويد مثلا كان يعتبر أن الحلم هو بمثابة “حارس” النوم أحيانا، أى أن من وظائفه الحفاظ على استمرار النوم، إذ يحتوى الحلم فى تشكيله أثر المؤثر الخارجى الذى يمكن أن يوقظ النائم، يحتويه فى حلم يشمله فيستمر النوم”، سألنى الأستاذ: مثل ماذا؟”، فقلت له “..مثلا حين يدق جرس الكنيسة المجاورة، فحتى لا يوقظ النائم، يحضره حلم بأنه فى حوش المدرسة وأن الفسحة انتهت، وأن هذا هو الجرس الذى يعلن ضرورة العودة إلى الفصول”، ضحك الأستاذ وسُـرَّ من تفسير فرويد، فحل بى غيظ غير قليل، فأضفت، “إن هذا قد يكون حقيقى فى ندرة من الأحلام، وحتى لو تواتر، فإن توظيف الحلم كحارس هكذا تأتى عندى فى المقام الخامس أو العاشر من وظائف الحلم، ورحت أتحمس وأنا أقارن بين وظيفة الحلم كصمام أمن ضد الجنون، حتى لو لم نعرف محتواه أو نحكيه، ووظيفته كحارس لنوم “اسم النبى حارسه”، وحين نطقت هذا التعبير قهقه الأستاذ طويلا وربت على ساقى وكأنه التقط غيرتى وغضبى، وفرحت.

انتهزتها فرصة، وقلت لعل الأمر يكون أوضح حين أفتح معه حديثا عن نقدى لعمله “‏رأيت‏ ‏فيما‏ ‏رأى ‏النائم‏”، ‏وكذلك‏ ‏ليالى ‏ألف‏ ‏ليلة، ‏(ولم يكن قد بدأ فى كتابة “أحلام فترة النقاهة بعد، ولا كنت أنا بدأت فى قراءتها ناقدا طبعا)، قلت له إن ‏جرعة‏ ‏الإبداع التى وصلتنى من هذين العملين بالذات، جعلتنى أتصور أن الإبداع الأعمق هو من أعظم ما يثبت نظريتى فى تشكيلات النشاط الحالم، وأن الله سبحانه خلقنا كائنات قادرة على التفكير أثناء اليقظة، ثم إعادة التشكيل أثناء الحلم، وأن المبدع هو الذى يتمكن من امتلاك ناصية المستويين معا فى وعى فائق، هو وعى الإبداع، وأن هذا بالذات هو ما وصلنى من هذين العملين بوجه خاص، قال لى “هذا عن رأيت فيما يرى النائم، حيث كانت الأحلام تسرد باعتبارها رؤى أحلام فعلا، فما علاقة ليالى ألف ليلة بنظريتك هذه؟” ‏قلت له إن التشكيل فيها هو أقرب إلى عمق تشكيلات الحلم دون إعلان أنها حلم، وهذا أجمل إيقاعا وأرسخ إبداعا، ثم اضفت أنها وصلتنى على هذا المستوى حتى تذكرت علاقتى الفاترة بـ ألف ليلة وليلة ‏الأصلية‏، فقد وصلنى ما قرأته منها – على ما أذكر–  على أنه نسيج وعى اليقظة العادى، أكثر منه تشكيل وعى الحلم أثناء النوم، وحين استعاد ما قلته من عدم استساغتى لألف ليلة وليلة الأصلية شعرت أنه مستغرب، فأكدت له ذلك، سألنى‏ ‏على ‏التو: “‏متى ‏قرأتها، ‏لابد‏ ‏أنك‏ ‏قرأتها‏ ‏وأنت‏ ‏كبير”، ‏فتعجبت‏ ‏لاستنتاجه السريع هكذا، ‏ ‏لأننى ‏قرأتها‏ ‏فعلا مؤخرا وأنا أتحدى حركة ‏ ‏مصادرتها‏ ‏أو‏ ‏محاولة‏ ‏مصادرتها‏ ‏منذ‏ ‏بضعة‏ ‏سنوات([7])‏، وأضفت أننى عجزت أن ألزم نفسى بإكمالها بشكل متلاحق، مع أننى ما زلت أعود إليها بين الحين والحين، ولا يتغير مذاقى لها، فقال‏ ‏عندك‏ ‏حق، ‏إن‏ ‏قراءتها‏ ‏فى ‏سن‏ ‏باكرة‏ ‏أمر‏ ‏آخر، ‏إنها‏ ‏تحتاج‏ ‏إلى ‏جرعة‏ ‏كبيرة‏ ‏من‏ ‏الطفولة‏ ‏حتى ‏تعايشها، ‏إنها‏ ‏تكملة‏ ‏لحواديت‏ ‏الأطفال‏ ‏والجان‏ ‏وأمنا‏ ‏الغولة‏ ‏التى ‏كنا‏ ‏نسمعها‏ ‏أطفالا، ‏ثم‏ ‏نجدها‏ ‏مكتوبة‏ ‏هكذا‏ ‏فى ‏ألف‏ ‏ليلة، ‏فتفعل‏ ‏فعلها، ‏أما‏ ‏أن‏ ‏تقرأها‏ ‏كبيرا‏ ‏فهذه‏ ‏هى ‏ ‏النتيجة‏ ‏كما‏ ‏وصفتها‏ ‏أنت، قبلت تفسيره لكننى لم أقتنع به جدا، ولم أقل له إن الطفل بداخلى ما زال قارئا نهما حتى الآن، وأننى أستمتع بميكى وحكايات هانز كريستيان أندرسون وهارى بوتر أكثر فأكثر كلما تقدمت فى السن.

يا لهذه الليلة!! خيل إليه أنها ليس فيها أية رائحة حرافيشية، ومع ذلك فكم أنا فرحان بها، خاصة وأننى لم ألمح عليه أية بارقة ضجر حتى الآن، ولم يسأل ولا مرة واحدة عن الساعة، وأيضا لم نتذكر غير قاصدين غياب أى حرفوش حتى توفيق صالح، لم نصمت لحظة واحدة، ولم يخفت انتباهنا أو يتحول لحظة واحدة، ما هذا؟

تحول الحديث تلقائيا بمناسبة ما وجدنا أنفسنا فيه ونحن نفرق بين ما هو سطحى خفيف خفيف، وما هو عميق مكثف غامض، لا أعرف من الذى فتح الحديث عن موضوع الحداثة بما فى ذلك ما أسموه “قصيدة النثر”، أسأله بلا تحديد عن موقفه، وكنا قد تناولناه فى سياق فكاهى بمناسبة الخطأ المطبعى الذى سبق الحديث عنه حين نشر الأهرام فصلا قبل فصل،‏ من فصول “أصداء السيرة الذاتية”، أسأله أو أنكشه حول هذه المسألة من جديد، فيرتفع حاجباه وهو يقول: أنا أحتار فى هذه الجماعة، لا شك أنهم يريدون أن يقولوا شيئا بما يفعلون، لكن ما يهدفون إليه لا يصلنى أبدا، أحاول ‏أن‏ ‏أقرأ‏ ‏وأن‏ ‏أفهم‏ ‏بلا‏ ‏طائل‏ ‏وأتساءل‏ ‏: ‏أليست‏ ‏هذه‏ ‏لغتنا‏؟ ‏أين‏ ‏المعنى ‏‏ ‏الظاهر‏ ‏أو‏ ‏الخفي؟ ‏أو‏ ‏أين‏ ‏الشكل‏ ‏حتى؟ أنا أتعجب حين أقرأ لهم لكننى لا أتعجل الرفض ولا التعميم”، يا لصبر هذا الرجل !! قلت له: أما أنا فقد صبرت أكثر من احتمالى، ونقدت بكل قدراتى، ولم أنجح، سألنى هل استطعت أن تنقد بعض ذلك؟ كيف بالله عليك؟ قلت له إن أحد الأصدقاء الذين كنا ننشر لهم فى مجلة الإنسان والتطور، وهو الشاعر “أحمد زرزور” ألحّ على أن أنقد عملا له، وأننى اجتهدت بكل ما أملك من أدوات نقدية، وأن عملى قد نشر فى مجلة “إبداع”، ورحب به الشاعر نفسه، وبعض النقاد كما أخبرنى أحمد نفسه، ومع ذلك فأنا أذكر أننى بذلت جهدا أكثر مما أبذل أثناء نقدى لرواية طويلة لديستويفسكى، مع المبالغة، وقد خرجت من هذه التجربة بأن الذى يمكن أن يحل شفرة الحداثة هذه هو النقد الجاد، ربما يستطيع أن يغوص مع من يحاول إلى عمق كل الاحتمالات، حتى يتمكن أن يميز “زيف الفوضى” من “عمق التكثيف والاختزال معا”، وألمحت من بعيد إلى أطروحتى عن جدلية الجنون والإبداع، وكيف ميزت فيها بين الإبداع الزائف والإبداع الفائق وهما يكادان يقتربان من بعضهما البعض شكلا فقط،، بصراحة قلت ذلك فى عجلة خشية أن يفاتحنى أن أشرح أكثر فأغمض أكثر لكن الله سلم، فواصلت: إننى أعود باللائمة على النقاد الذين يكتفون بمدح قصيدة النثر أو تأييدها، أو بشجبها وشطبها، وكأننا فى موقف انتخابات لا إعادة إبداع النص، ‏قال‏ ‏الأستاذ بتلقائية ‏: ‏يبدو أن ‏ ‏النقاد‏ “‏نيلوها‏”، فرحت بقدر ما تعجبت مما لم أعتد عليه منه، فاستوضحته ماذا يقصد بـ “نيلوها” قال: ‏لقد‏ ‏زادوا‏ ‏الحداثة‏ ‏حداثة، ‏فوجدنا‏ ‏أنفسنا‏ ‏أكثر‏ ‏بعدا‏ ‏عن‏ ‏كل‏ ‏شىء، ‏ثم‏ ‏أضاف‏ بما شعرت أنه يرجعنا إلى ما هو أسهل برغم صعوبته قال:

 ‏إن‏ ‏نظريتك‏ ‏التى ‏حدثتنا‏ عنها ‏مرارا فيما يتعلق بتعدد الذوات، ثم حديثنا الليلة عن الأحلام الذى لم يصلنى كله، يبدو أن هذا وذاك يمكن أن يفسر لنا بعض هذه الأعمال لو افترضنا أنها ‏تخرج‏ ‏من‏ ‏ذوات‏ ‏متفرقة معا”

فرحت فرحة مجنون وجد أخيرا من يلتقط ماذا يعنى برُطانه “فتجمّع” مطمئنا، الحمد لله، هأنذا أجد من يأخذ شطحى مأخذ الجدّ، ومن؟ نجيب محفوظ شخصيا!! فلم أتردد هذه المرة فى التمادى، قلت:‏ ‏إن‏ ‏تعدد‏ ‏الذوات‏ ‏قد‏ ‏يظهر‏ ‏فى ‏تكثيف‏ ‏الشكل‏ ‏وتوليد‏ ‏المضمون‏ ‏المتداخل تناغما فى النهاية، وهذا ما رصدته فى نقدى لروايتيك “رأيت فيما يرى النائم، وليالى ألف ليلة”([8])، وحتى نقدى للحرافيش رصد بعض هذا العمق والنقلات النوعية المفاجئة، وإن كان أقل تكثيفا، وأضفت أن ما ساعدنى فى نقد هذه الأعمال فعلا هو يقينى بصدق فروض تعدد الذوات كما أعايشها فى العلاج الجمعى خاصة، استوضحنى الأستاذ مما طمأننى أننى لم أضْجـِره بعد، قلت له: حين أقرأ فى “رأيت فيما يرى النائم”، أو “ليالى ألف ليلة” تعبيرا مثل “و حلّ به وجود جديد” أو “وانطلق من داخله مارد آخر”، وأنا ملىء بهذه النظرية، هل يمكن إلا أن أرى تعدد الذوات رأى العين؟ وقد حاولت أن أطبق نفس الفروض على ما قرأت مما يسمى الحداثة فلم أجد أمامى ذوات تتعدد، أو تتبادل، أو تتجادل، وإنما ‏أشلاء‏ ‏متناثرة‏ ‏مثلما‏ ‏كانت‏ ‏أمى ‏تفرك‏ ‏الخبيزة‏ ‏بمفراك‏ ‏من‏ ‏الخشب‏ ‏مثل‏ ‏الترس‏ ‏الكبير‏ ‏فتتناثر‏ ‏وريقات‏ ‏الخبيزه‏ ‏على ‏جوانب‏ ‏الوعاء، فضحك الأستاذ، وقلت له إن هذا المنظر هو أكثر تواترا فى الريف، فهل رآى مثله فى مطبخ المدينة، فقال إنه لا يذكر.

يسألنى الأستاذ فجأة: ما دمت لم تقرأ ألف ليلة وليلة الأصلية وأنت طفل، فماذا كنت تقرأ؟ يا خبر ما هذه المفاجآت هذه الليلة؟ هو الذى يسألنى ” المهم أسرعت بالحكى قبل أن يغير رأيه: قلت له ‏ ‏ ‏إن‏ ‏أول‏ ‏ما‏ ‏قرأت‏ ‏بشكل‏ ‏متكامل‏ ‏كان‏ ‏حوالى ‏سنة‏ 42 ‏، وكنت بين الثامنة والتاسعة، حين ‏ ‏عثرت‏ ‏فى ‏مكتبة‏ ‏والدى ‏على ‏قصة‏ ‏بلىَ ‏غلافها‏ ‏الخارجى، ‏ولا‏ ‏أظن أن اسم المؤلف كان مكتوبا على الغلاف الممزق أغلبه، إلا أن اسم القصة كان واضحا وهو “‏الشيخ‏ ‏الصالح‏”، ‏وأنها‏ ‏كانت‏ ‏تحكى عن‏ ‏ ‏شيخ‏ ‏يتنقل‏ ‏بين‏ ‏قرى ‏المنطقة‏ ‏على ‏حمارته‏ ‏يعظ‏ ‏ويأمر‏ ‏بالمعروف‏ ‏وينهى ‏عن‏ ‏المنكر، ‏فى حين أنه كان لصا أو قاطع طريق أو شىء من ذلك، وما زلت أذكر منظره وهو راكب حمارته ووراءه عبد يملكه يعدو طول الوقت ليلاحق خطوات الحمار السريعة، ثم أضفت للأستاذ أننى أذكر أننى حين ‏ ‏كتبت‏ ‏عن‏ ‏هذه‏ ‏الذكرى فيما يشبه السيرة الذاتية فى ترحالاتى، اكتشفت أننى ‏تقمصت‏ ‏العبد‏ ‏بعرقه‏ ‏ولهاثه‏ ‏وسواده‏ ‏وطاعته‏ ‏دون‏ ‏الشيخ، ‏لا أعرف لماذا؟ وتجرأت وسألت الأستاذ، يا ترى لماذا؟ رفع الأستاذ حاجبيه ولم يجب، لكنه سألنى عن مؤلف القصة فأدركت أنه لم يلتقط حالة الغلاف فى بداية الحكى، ‏فأعدت‏ ‏عليه‏ ‏أن‏ ‏غلافها‏ ‏كان‏ ‏باليا لم ألتقط من عليه إلا عنوان القصة، وسألته لماذا يسأل، قال لو أننا عرفنا اسم المؤلف أو تاريخ النشر، فربما يمكن أن يؤرخ بها ‏ ‏لبداية‏ ‏الرواية‏ ‏المصرية، ‏ما هذا؟ هل يصدقنى هذا الرجل بكل هذا الكرم وكأننى أحكى تاريخا يستأهل؟ لكننى تيقنت من جدية أسئلته عنى، وعن طفولتى حين قال، ثم ماذا؟، ثم ماذا؟!! ماذا ماذا يا شيخى الجليل؟ تشجعت وصدقت وأكملت قلت: إن الرواية الثانية مباشرة التى قرأتها كاملة كانت رواية مترجمة ما زلت أذكر اسمها جيدا حتى الآن لكننى لا أذكر محتواها، كانت أيضا فى مكتبة والدى، كان اسمها “‏أزميرالدا‏” على ما أذكر، ‏وظل‏ ‏نطق‏ ‏‏الاسم صعبا ‏علىّ ‏مدة‏ ‏طويلة، ‏وأننى لا أذكر الأحداث وإن كانت هناك لقطة تحضرنى بسهولة، وهى ‏ ‏منظر‏ ‏الدوق‏ ‏أو اللورد، ‏لست‏ ‏متأكدا، ‏وهو‏ ‏فى‏ ‏حجرة‏ ‏التدخين‏ ‏فى ‏القصر‏ ‏يذرعها ذهابا‏ ‏وجيئه، ‏وقد ظللت مدة طويلة اسأل نفسى عن كيف يخصصون حجرة للتدخين، خاصة وأن أحدا من عائلتى الصغيرة لا يدخن، قال‏ ‏الأستاذ‏ ‏وهو يستعيدنى: ‏أزميرالدا؟‏ ‏قلت‏ ‏نعم‏ ‏قال‏ ‏تأليف‏: ‏تشارلز‏ ‏كارفن، (لست متأكدا من نطق الاسم أو صحة ذاكرتى، وقد بحثت فى جوجل ولم يسعفنى)، ‏قلت:‏ ‏لا‏ ‏أدرى، ‏قال‏ ‏إننى ‏أذكرها، ‏وأذكر‏ بالمناسبة ‏كيف‏ ‏كان‏ ‏الأهرام زمان‏ ‏ينشر‏ ‏قصصا‏ ‏مترجمة‏ ‏بانتظام‏ ‏مع‏ ‏أنها ‏كانت‏ ‏متوسطة الجودة، ‏وأذكر أن معظم القصص كانت تدور حول النبيل الذى عشق بنت ‏ ‏ ‏الشعب‏ ‏أو‏ ‏العكس، ‏ومن كثرة تواتر هذه الفكرة كنت أحيانا أشعر أنها قصة واحده، ‏ثم أضاف: ‏كان‏ ‏الأهرام أيامها ينشر قصصا مترجمة نتعرف من خلالها على الغرب بشكل او بآخر، لم نكن نشك فى حكاية أنهم يريدون أن يغسلوا أمخاخنا مثل كلام هذه الأيام، ثم ذكر أسماء بعض المؤلفين الاصليين الذين كانوا يترجم لهم، وحين حاولت أن أكتب الأسماء الآن لم أكن متأكدا من سمعى، ولا من التقاطى النطق وأنا سوف أكتبها بالعربية، وكان كلما ذكر اسم مؤلف، أضاف: طبعا أنت تعرفه، وكنت أحيانا أرد أننى لا أعرفه، وأحيانا لا أرد خجلا من جهلى.

تذكرت ما يكتبه المؤرخ العظيم يونان لبيب رزق عن تاريخ هذه الأيام من خلال أعداد الأهرام القديمة، فسألت الأستاذ إن كان الحاج صبرى يقرأ له بعض حلقاته، ولو مجرد العناوين، ثم أضفت أن الأهرام قد ‏جمع‏ ‏المجموعة‏ ‏الأولى ‏فى ‏الجزء‏ ‏الأول‏ ‏فى ‏كتاب ‏بنفس‏ ‏العنوان “الأهرام: ديوان الحياة المعاصرة”، ‏قال‏ ‏إننى ‏أسمع‏ ‏عن‏ ‏هذه‏ ‏السلسلة، ‏ولكننى ‏لا‏ ‏أستطيع‏ ‏أن‏ ‏أطلب‏ ‏من‏ ‏الحاج‏ ‏صبرى ‏أن‏ ‏يقرأ‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏المساحة، ‏وقته‏ ‏محدود، ‏ومهمته‏ ‏بالكاد‏ (‏يادوب‏)، ‏قلت‏ ‏له‏: ‏إن‏ ‏بنت‏ ‏الشاطيء‏ ‏تكتب‏ ‏مع‏ ‏د. يونان‏ ‏رزق‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏اليوم‏ (‏يوم‏ ‏الخميس‏)، ‏وهى ‏ذات‏ ‏قلم‏ ‏رصين‏ ‏وإن‏ ‏كنت‏ ‏أختلف‏ ‏كثيرا‏ ‏معها‏ ‏فى ‏مواضيع‏ ‏جمة، ‏وذكرت‏ ‏له‏ ‏كيف‏ ‏أنها‏ ‏كانت‏ ‏تسكن‏ ‏فى ‏شارع‏ ‏صغير‏ ‏مع‏ ‏زوجها‏ ‏المرحوم‏ ‏الشيخ‏ ‏أمين‏ ‏الخولى، ‏وكانت‏ ‏تقطن‏ ‏الدور‏ ‏الثانى ‏فى ‏حين‏ ‏أن‏ ‏زوجته‏ ‏الأولى ‏كانت‏ ‏تقطن‏ ‏الدور‏ ‏الأول، ‏وكنت‏ ‏معجبا‏ ‏أشد‏ ‏الإعجاب‏ ‏بالشيخ‏ ‏أمين‏ ‏الخولى ‏وهو‏ ‏محافظ‏ ‏على ‏عمامته‏ ‏رغم‏ ‏تخلى ‏جيله ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏الزى، وحكيت له كيف أن والدى كان يلبس الجبة حتى تخرج من دار العلوم، ثم كيف حكى لى والدى أنهم كانوا بعد أن يلبسوا أفندى يرفضون أن يناديهم أحد بلقب أستاذ، ويردون على من يناديهم بهذا اللقب‏ “‏أستاذ‏ ‏إيه‏ ‏يا‏ ‏أخينا‏ ‏إنت‏ ‏شايفنى ‏لابس‏ ‏عمه‏”، وربطت ذلك بأن معظم أصدقاء الأستاذ الحاليين، وانا من بينهم، نتكلم عنه بلقب “الأستاذ” دون ذكر اسمه، فليس لنا إلى أستاذ واحد، فضحك وقال لى لا تحكى لهم عن المرحوم والدك وزملائه، فغاية علمهم أن الأستاذ هو أعلى الألقاب العلمية الجامعية، وحضرتنى بعض نوادر والدى فقلت أخفف الجرعة بحكيها، قلت: كان والدى يحكى لنا طرائف عن علاقاته بمشايخه ما زلت أذكر بعضها، فمثلا كان له شيخ يدرس له فى دار العلوم أيضا اسمه ‏الشيخ‏ ‏السكندرى، ويبدو أن اسمه يدل على أصله، فالتقاه والدى وهو يسير على شاطئ الإسكندرية ذات صيف، فتقدم منه وسلم عليه، وقبل يده، وهو فـَرِح متهلل، فتجاوب معه الشيخ السكندرى بفتور، فسأله والدى ألا تعرفنى يا مولانا،، ‏فرد‏ ‏عليه‏ ‏الشيخ‏ ‏السكندرى “‏لا‏ ‏تؤاخذنى ‏يا‏ ‏إبنى ‏إن‏ ‏البقر‏ ‏تشابه‏ ‏علينا‏”، ‏ضحك‏ ‏الأستاذ‏ ‏ضحكة‏ ‏رائعة‏ ‏شجعتنى ‏أن‏ ‏استمر‏ ‏فى ‏الحكى عن نوادر والدى مع الشيخ السكندرى، ربما خفف ذلك كثافة ما كان فى أول اللقاء، حكيت له أن والدى سأل الشيخ السكندرى ذات مرة بعد المحاضرة سؤالا تكميليا، ويبدو أن الشيخ كان متعجلا أو منشغلا بأمر آخر، فسأل والدى قائلا: ‏قل‏ ‏لى يا شيخ توفيق‏ (اسم والدى): ‏ما هو الأكثر: ‏ ‏الذى ‏تعرفه‏ ‏أكثر‏ ‏أم‏ ‏الذى ‏لا‏ ‏تعرفه، ‏ردَّ‏ ‏والدى: طبعا الذى لا أعرفه أكثر بكثير، فقال‏ ‏الشيخ‏ ‏السكندرى ‏خليها‏ (‏هذه‏ ‏المعلومة‏ ‏التى ‏تسأل‏ ‏عنها‏) ‏على ‏الكوم‏ ‏الكبير، ‏وضحك الأستاذ أعلى، وشاركته.

لم أكن أتصور أن الوقت سيمتلئ هكذا ونحن اثنان فقط فى جلسة مغلقة، وفى يوم الحرافيش.

سارعت بأن أطرح أنا السؤال هذه المرة، فسألته عن‏ ‏رأيه فى جارثيا‏ ‏ماركيز، ‏قال‏ ‏قرأت‏ ‏له، ‏وأعجبت‏ ‏به، ‏إن‏ ‏خياله‏ ‏واسع‏ ‏رائع، مزج‏ ‏فى ‏تكامل‏ ‏بين الأسطورة‏ ‏والرواية‏ ‏الحديثة‏، ‏قلت‏ ‏له‏ ‏لكننى ‏بصفة عامة أتحفظ على ‏ ‏قراءة‏ ‏الأعمال‏ ‏الكبيرة‏ ‏مترجمة، ‏قال‏ ‏فعلا عندك حق، ‏لكننى – ‏كروائى – ‏أستطيع غالبا أن أشعر ‏بالهنات‏ ‏والنواقص،‏ ‏وأتصور‏ ‏أننى ‏أستطيع‏ ‏أن‏ ‏أملأها، ‏فيصلنى ‏العمل شبه كامل، ‏أقرب‏ ‏إلى ‏أصله‏، ‏قلت‏ ‏له‏ ‏إن‏ ‏بعض‏ ‏التراجم‏ ‏تكاد‏ ‏تعيد‏ ‏كتابة‏ ‏العمل‏ ‏باللغة‏ ‏المترجمة إليها ‏ ‏بكل‏ ‏إبداع‏ ‏وكل‏ ‏أمانة‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏مثل‏ ‏ترجمات‏ ‏سامى ‏الدروبى ‏لديستويفسكى، ‏قال‏ ‏سمعت‏ ‏عنها‏ ‏مدحا‏ ‏كثيرا، ‏لكنى‏ ‏قرأت‏ ‏ديستويفسكى ‏ ‏بالانجليزية‏. ‏فلم‏ ‏أجد‏ ‏مبررا‏ ‏أن‏ ‏أقرأه ‏ثانية‏ ‏بالعربية، ‏قلت‏ ‏والأصعب‏ ‏حين‏ ‏تكون‏ ‏الترجمة‏ ‏نقلة ثانية أو ثالثة ‏ ‏وليست‏ ‏من‏ ‏اللغة‏ ‏الأصلية، ‏قال‏: ‏فعلا، ‏إن‏ ‏ديستويفسكى ‏هذا‏ ‏بكل‏ ‏عظمته‏ ‏وإبداعه‏ ‏تـُـرجم‏ ‏لأول‏ ‏مرة‏ ‏ترجمة‏ ‏سيئة‏ ‏بالانجليزية‏، ‏فلم‏ ‏يلتفت‏ ‏إليها‏ ‏أحد، ‏ثم‏ ‏جاء‏ ‏مترجم‏ ‏آخر‏ ‏وترجمه‏ ‏ترجمة‏ ‏وافية‏ ‏أمينة، ‏وخذ‏ ‏عندك‏ ‏دخل‏ ‏ديستويفسكى ‏تاريخ‏ ‏العالم‏ ‏الغربى ‏والعالم‏ ‏أجمع، ‏ثم‏ ‏أضاف‏: ‏ديستويفسكى ‏هذا، ‏كان‏ ‏مثالا‏ ‏لعدم‏ ‏الانضباط، ‏وكان‏ ‏يكتب‏ ‏كثيرا‏ ‏وطويلا‏ ‏فى ‏كل‏ ‏إتجاه، ‏حتى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تعتبر‏ ‏الرواية‏ ‏الواحدة‏ ‏عدة‏ ‏روايات، ‏لكنه‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏كان‏ ‏يخرج‏ ‏عملا‏ ‏وأعمالا‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏تدل‏ ‏على ‏عبقريته، ‏قلت‏ ‏له‏ ‏إننى ‏أحبه‏ ‏وهذا‏ ‏يجعلنى ‏أصبر‏ ‏عليه‏ ‏مهما‏ ‏أطنب، ‏ولو‏ ‏أننى ‏أشك‏ ‏كثيرا‏ ‏أن‏ ‏الجيل‏ ‏الأصغر ‏يحتمل‏ ‏أية ‏درجة‏ ‏من‏ ‏الصبر‏ ‏على ‏قراءة‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الكتابة، ‏إن‏ ‏ديستويفسكى ‏يتدفق‏ ‏حتى ‏يبعده‏ ‏تدفقه‏ ‏عن‏ ‏جوهر‏ ‏الخط‏ ‏الأساسى أحيانا، ‏ما زلت أذكر فى فصل من فصول‏ ‏الإخوة‏ ‏كارامازوف‏ ‏ ‏وصفه‏ ‏للراهب‏ ‏زوسيما؟، ‏جاهدت أن أحتمله وأواصل ‏ ‏حتى ‏شعرت‏ ‏أننى ‏فى ‏كنيسه‏ ‏يقوم‏ ‏بالوعظ‏ ‏فيها‏ ‏شيخ‏ ‏لحوح، ‏قال‏ الاستاذ: نعم ‏هذا‏ ‏القس، ‏ ‏نعم‏ ‏أذكر أنه كتب هذا الفصل الذى يقرب من ‏مائة‏ ‏صفحة‏ ‏ما‏كان‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يقوله‏ فى ‏صفحتين‏،‏ ‏قلت، ‏لكنه‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏حين‏ ‏مات القس، وبعد أن ‏أوحى لنا ديستويفسكى أنه سوف يكون معجزة بعد موته كما صور ظاهره فى حياته، و‏أن‏‏ ‏جثمانه‏ سوف يظل ‏جافا‏ ‏يبعث‏ ‏الروائح‏ ‏الزكية‏ ‏أو‏ ‏بلا‏ ‏رائحة‏ ‏على ‏الأقل، ‏فوجئنا‏ ‏بالرائحة‏ ‏النتنة‏ ‏تتصاعد‏ ‏منه، ‏هنا‏ يمكن أن ‏ندرك‏ ‏للتو‏ ‏أن‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏الإطناب‏ ‏السابق‏ ‏قد‏ ‏تلون‏ ‏بلون‏ ‏رائحة‏ ‏النتن‏ ‏بعد‏ ‏موته، ‏وقد‏ ‏شعرت‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏هذه‏ ‏المفاجأة‏ ‏بأهمية‏ ‏التفاصيل‏ ‏السابقة، وتيقنت أن المبدع الأصيل‏ ‏لايترهل‏ ‏عادة، ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏يفيض‏ ‏ليضم، ‏ويضم‏ ‏ليتفرع‏، لكنه لا يغيب عن الفكرة الجوهرية وأنا أرجح أنه لا يقصد ذلك تماما منذ البداية، لكن هكذا الإبداع.

ثم جرنا‏ ‏هذا‏ ‏الحديث‏ ‏إلى ‏موضوع‏ ‏سبق‏ فتحه دون أن يأخذ حقه، ‏وهو‏ ‏حق‏ ‏المبدع‏ ‏فى ‏الفتور‏ ‏أحيانا، وسألته عن تفسير ذلك، فأقر أولا أن هذا وارد، ولكن تواتره غير حسن، وعموما فإن تقدير المبدع ينبغى أن يؤخذ من جماع إنتاجه، وليس من عمل واحد قد يهبط منه غصبا عنه، سواء هو أدرك ذلك أم لا.

رجعنا‏ ‏مرة‏ ‏ثانية‏ ‏إلى ‏روعة‏ ‏ترجمة‏ ‏سامى ‏الدروبى ‏وأن‏ ‏المترجم‏ ‏قد‏ ‏يصل‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏دوره‏ ‏هو‏ ‏إعادة‏ ‏تقديم‏ ‏النص، ‏فيصبح‏ ‏له‏ ‏فضل‏ ‏لا‏ ‏يقل‏ ‏عن‏ ‏فضل‏ ‏المؤلف، ‏قال‏ ‏الأستاذ‏ ‏إنهم‏ ‏يـرجعون‏ ‏شهرة‏ ‏رباعيات‏ ‏الخيام‏ ‏فى ‏الغرب‏ ‏إلى ‏ترجمة‏ ‏الكاتب البريطانى إدوارد فيتسجيرالد‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏الرباعيات‏ ‏نفسها، ‏قلت‏ ‏له‏ ‏إن‏ ‏لها‏ ‏عدة‏ ‏تراجم‏ ‏بالعربية، ‏كما أننى قد عثرت مؤخرا على ترجمة لها ‏ ‏بالعامية المصرية، ‏قال‏ ‏سمعت‏ ‏عن‏ ‏الأخيرة، ‏ثم‏ ‏تذكرت‏ ‏أن‏ ‏ترجمة‏ ‏محمد‏ ‏السباعى ‏كانت‏ ‏خماسية‏ ‏وليست‏ ‏رباعية، وسألته هل لاحظ ذلك، ‏فقال‏ ‏لم اقرأها للسباعى‏، ‏وأثنى ‏على ‏ترجمة‏ ‏رامى ‏وقال‏ ‏إنها‏ ‏من‏ ‏أدق‏ ‏الترجمات، ‏ثم سألنى هل قرأت ترجمة السباعى، قلت له نعم، ولم تعجبنى برغم الاجتهاد، سألنى هل تحفظ شيئا منها، فتلوت له هذه الخماسية:

إشرب‏ ‏الصهباء‏ ‏فى ‏ظل‏ ‏الصبا‏ ‏

‏ ‏ما‏ ‏شدا‏ ‏طير‏ ‏بتيجان‏ ‏الربي

فإذا‏ ‏ساقى ‏المنايا‏ ‏أو‏ ‏جبا‏ ‏

‏ ‏شربة‏ً ‏غصّتْ‏ ‏ومرّتْ‏ ‏مطعما

فأحسُ‏ ‏جلدا‏ ‏خمرة‏ ‏الموت‏ ‏الزؤام‏.‏

وطرب‏ ‏الأستاذ‏ ‏من‏ ‏الانتقاء، ‏وذكرنى ‏بأن‏ ‏محمد‏ ‏السباعى ‏فى ‏رأى ‏كامل‏ ‏كيلانى ‏يؤلف‏ ‏حين‏ ‏يترجم، ‏ويترجم‏ ‏حين‏ ‏يؤلف، وذكر لى كيف قالها‏ ‏الكيلانى ‏ساخرا‏ ‏مداعبا‏ ‏يقظا، ‏ففهمت‏ ‏الشطر‏ ‏الأول‏ ‏من‏ ‏الجملة‏ ‏ولم‏ ‏أفهم‏ ‏الشطر‏ ‏الثانى،‏ولم‏ ‏أخجل‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏أسأله، ‏فقال‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يرفض‏ ‏غبائى، ‏يعنى ‏أن السباعى ‏حين‏ ‏يدعى ‏التأليف‏ ‏كان‏ ‏يسرق‏ ‏شذرات‏ ‏من‏ ‏هنا‏ ‏وهناك‏ ‏ويترجمها‏ ‏باعتبارها‏ ‏من‏ ‏تأليفه، ‏وضحكنا‏.‏

سألته‏ ‏إن‏ ‏كان‏ ‏قد‏ ‏عرف‏ ‏كامل‏ ‏الكيلانى ‏شخصيا، ‏قال‏ ‏ياخبر‏ !! ‏لقد‏ ‏تزاملنا‏ ‏فى ‏وزارة‏ ‏الأوقاف‏ ‏عمرا‏ ‏بأكمله، ‏وكان‏ ‏كامل‏ ‏الكيلانى ‏كاتبا‏ ‏فى ‏الوزارة، ‏هذه‏ ‏كانت‏ ‏وظيفته، ‏لكن‏ ‏كان‏ ‏فوقه‏ ‏الكتبة‏ ‏الحقيقيون‏ ‏كتبة‏ على قدر حالهم من مستوى: “‏أتشرف‏ ‏بأن‏ ‏أرفع‏ ‏لسيادتكم‏…”، لكن الكيلانى كان شيئا آخر برغم تواضع وظيفته، وكان له أصدقاء مميزون، ‏وكان‏ ‏كلما‏ ‏زاره‏ ‏كبير ‏أو‏ ‏زائر‏ ‏عربى ‏أو‏ ‏شخص‏ ‏مهم، ‏يملأ‏ ‏الغيظ‏ ‏رؤساءه‏ ‏فيتحفزون‏ ‏ضده‏ ‏ويميلون‏ ‏عليه‏، ‏وحين‏ ‏علم‏ ‏أنى ‏أكتب‏ ‏وينشر‏ ‏لى ‏أحيانا‏ ‏فى ‏الرواية‏ ‏والرسالة‏ ‏أخذنى ‏على ‏جنب‏ ‏ونبهبى ‏ألا‏ ‏أذكر‏ ‏ذلك إطلاقا‏ ‏لأى ‏مخلوق‏ ‏فى ‏الوزارة‏، ‏حتى ‏لا ‏يقع‏ ‏لى ‏ما‏ ‏وقع‏ ‏له، ‏فقد‏ ‏كان‏ ‏رؤساؤه‏ ‏وزملاؤه‏ ‏يقولون‏ عنه هذا‏ ‏الموظف‏ “‏بتاع‏ ‏الأطفال‏” (‏ذكر‏ ‏الكلمة‏ ‏بالعامية‏) ‏يحظى ‏بكل‏ ‏هذه‏ ‏الأهمية‏ ‏ونحن‏ ‏الأعلى ‏والأهم‏: ‏لا‏ ‏اعتبار‏ ‏لنا، ثم سألت الأستاذ سؤالا سخيفا، لم أتبين سخفه إلا بعد أن سألته، ذلك أننى سألته هل تعرف رشاد ابنه وكنت قد تعرفت عليه بمصادفة طبع كتابٍ لى فى مطبعة يديرها ‏فقال‏ ‏لى ‏لمحته‏ ‏مرة‏ ‏معه، كان صغيرا، لكننى ‏لا‏ ‏أعرفه كبيرا، ‏قلت‏ ‏له‏ ‏إنه‏ ‏صاحب‏ ‏مطبعة‏ ‏وراء‏ ‏قصر‏ ‏عابدين، ‏وأنه‏ ‏لا‏ ‏علاقه‏ ‏له‏ ‏إطلاقا‏ ‏بالأدب‏ ولا بقلة الأدب، فهو كما عرفته، رجل أعمال متواضع الذكاء لا أكثر ولا اقل، صاحب مطبعة ربما ورثها عن أبيه، لا يعنيه ماذا تطبع، ‏وإذا‏ أفتقر إلى ما يطبعه ‏فتح‏ ‏الله‏ ‏عليه‏ ‏بنشر‏ ‏دلائل‏ ‏الخيرات، ‏أو أدعية ‏ فى مقام ‏الست‏ ‏الطاهرة‏ حتى تفرج، ‏وسألت الأستاذ: ‏لماذا‏ ‏يغلب على‏ ‏أولاد‏ ‏المبدعين‏ (‏والثوار كذلك) ‏أن يصبحوا‏ ‏من‏ ‏أصحاب‏ ‏الأعمال‏ ‏ذوى ‏الاهتمامات ‏ ‏المادية‏ ‏أساسا، نجحوا أم فشلوا، ‏دون‏ ‏أى ‏اهتمام‏ ‏بالثقافة ‏أو‏ ‏بالناس، ‏ولم‏ ‏يرد‏ ‏الأستاذ، ‏فكررت له نكتة لم اكن متأكدا أنه سمعها من قبل، وهى أن الرئيس مبارك ‏اكتشف‏ ‏أن‏ ‏مصنعا‏ ‏ضخما‏ ‏فى ‏العاشر‏ ‏من‏ ‏رمضان‏ ‏تبلغ‏ ‏قيمته‏ ‏عشرات‏ ‏الملايين، ‏يملكه‏ ‏إبنه، ‏فعلق‏ ‏ ‏ ‏قائلا‏: “‏أفى ‏هذه‏ ‏الأشياء‏ ‏ينفق‏ ‏مصروفه‏ ‏هذا‏ ‏الولد‏ ‏الشقي‏؟.. ‏الآن‏ ‏عرفت‏!!!” ‏

وحين ضحك الأستاذ عاليا، اطمأننت لمجاملته أو أنها جديدة بالنسبة له (وليست لى!). ‏ ‏

تطرق‏ ‏الحديث‏ ‏إلى ‏رأيه، ‏فى ‏مصطفى ‏كامل‏ ‏ومحمد‏ ‏فريد‏ ‏وما‏ ‏ينشره‏ ‏سلماوى ‏على ‏لسانه‏ ‏فى ‏الأهرام، ‏ورحت‏ ‏أقول‏ ‏له‏: ‏الآن‏ ‏أشهد‏ ‏أن‏ ‏شهادتك‏ ‏لسلماوى ‏كانت‏ ‏طيبة‏ ‏وصادقة، ‏وأنه‏ ‏يكتب‏ ‏بإيجاز‏ ‏وموضوعية، ‏وقلت‏ ‏له‏: ‏إننى ‏استنتجت‏ ‏أنك‏ ‏تحمل قدرا‏ ‏فاترا‏ ‏من‏ ‏العواطف‏ ‏تجاه‏ ‏محمد‏ ‏فريد‏ ‏بالذات، ‏وأننى ‏شخصيا‏ ‏لم‏ ‏أحبه‏ ‏ ‏أبدا، ‏قال‏ ‏هو‏ ‏إبن‏ ‏ذوات، ‏هرب، ‏وحين‏ ‏نجحت‏ ‏الثورة‏ ‏أراد‏ ‏أن‏ ‏يعود‏ ‏زعيما، ‏سألته‏ وأنا أتساءل: ‏لماذا‏ ‏يربط‏ ‏خيالى ‏بين‏ ‏مصطفى ‏كامل‏ ‏ومحمود‏ ‏سامى ‏البارودى، ‏قال‏ ‏مطرقا‏ ‏لعل‏ ‏فيهما‏ ‏وجه‏ ‏شبه‏، ‏قلت‏ ‏أظن‏ ‏أنه‏ ‏شارب‏ ‏كل‏ ‏منهما، ‏فمازالت صورة الشاربين فى ذهنى منذ رأيت صورة كل منهما فى كتبى فى المرحلة الإبتدائية، ‏قال‏ ‏وكأنه لم يسمعنى، وكأنه يرفض هذه الملاحظة، إن أصلهما ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏مصريا‏ ‏تماما، ‏ثم أردف، ولكن ‏ ‏ربما كان كثير من زعماء تلك الفترة كذلك، ثم عاد وقال: ‏غير‏ ‏أنى ‏أعتبر‏ ‏كل‏ ‏هؤلاء‏ ‏مصريين، ‏كل‏ ‏من‏ ‏هو‏ ‏فى ‏مصر‏ ‏وعاش‏ ‏فيها، ‏وأعطاها واخذ منها‏ ‏هو‏ ‏مصرى، ‏تذكرت‏ – ‏وقلت‏ ‏له‏ – ‏عن ظاهرة‏ ‏زواج‏ ‏الاجنبيات‏ ‏من‏ ‏مصريين‏، مستشهدا بما حكاه لنا‏ ‏على ‏الشوباشى فى أحد لقاءات الثلاثاء عن ابنه، وكيف أن هؤلاء الزوجات حين يحضرن إلى مصر، لا يرغبن فى مغادرتها، بل‏ ‏إن بعضهن يكن ‏فى ‏كثير‏ ‏من‏ ‏الأحيان‏‏ ‏سببا‏ ‏فى ‏عودة‏ ‏أزواجهن‏ ‏إلى ‏مصر‏ ‏مع‏ ‏أن‏ ‏بلادهم‏ ‏تتمتع‏ ‏بالحرية‏ ‏والرفاهية‏ ‏والوفرة‏ (‏وحقوق‏ ‏الإنسان‏)، ‏تعجب‏ ‏معى، ووافقنى تقريبا، ‏ولم‏ ‏يتعسف‏ ‏جوابا‏.‏

‏ ‏أثناء‏ ‏عودتنا‏ ‏سألته دون تردد: إن‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏أول‏ ‏امتحان‏ ‏لى ‏كحرفوش‏ ‏مستجد‏ ‏يقضى ‏ليلة‏ ‏كاملة‏ ‏وحده‏ ‏مع‏ ‏شيخ‏ ‏الحرافيش‏ ‏فهل‏ ‏يا‏ ‏ترى ‏نجحت؟‏

 ‏قال‏ ‏كلاما‏ ‏طيبا‏ ‏أخجلُ ‏أن‏ ‏أعيده، ‏ ‏صدقته‏ ‏كما هو‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏كان‏ ‏مجاملة

‏قلت‏ ‏له‏ ‏ألم‏ ‏يئن‏ ‏الآوان‏ ‏لفتح‏ ‏باب‏ ‏الإلتحاق‏ ‏لحرافيش جدد ‏لتجديد‏ ‏الدم‏ ‏وضمان ‏الاستمرار،

 ‏قال‏ ‏إنهم‏ (‏الحرافيش‏) ‏متزمتون‏ ‏جدا‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الشأن، ‏فسكت، وكأن هناك شىء اسمه الحرافيش ما زال، وكأن الأمر يحتمل التزمت أو غير التزمت،

وفرحت بهذه الليلة الاستثنائية إلا منا نحن الاثنين

هل هى ليلة حرافيش فعلا؟

أم ماذا؟

يبدو أن صفة الحرافيش تتحقق بنوعية العلاقة، وليست بمزيات خاصة فى الملتحقين بها

شكرا‏ ‏يا‏ ‏شيخى الكريم

الحمد لله.‏

الحلقة الواحدة والثلاثون

عن الحزن والشعر والشعراء

الجمعة: 10/2/1995

كانت‏ ‏الندوة‏ الشهرية التى تعقدها جمعية الطب النفسى التطورى فى المسشفى عندى قد تأجلت أسبوعا، فهى تعقد فى أول يوم جمعة من الشهر، لكن هذا هو يوم حضور الأستاذ فى منزلى، ما العمل؟ اقترحت عليه أن نمضى الليلة فى ركنى الخاص أعلى المستشفى بصفة استثنائية لأتمكن من الانتقال بين الندوة وبين مجلسه بشكل ما، وافق على الفور، ولم أكن قد أخبرته بهواجسى عن سوء فهم تردده على المستشفى، هذا ليس تراجعا، إنه استثناء عابر، رحب بشكل طمأننى إلى أننى بالغت فى مخاوفى عن حضوره المستشفى لا أكثر.

كانت الندوة عن “الحزن عند ‏صلاح‏ ‏عبد‏ ‏الصبور”، ظللت معظم الوقت رائحا غاديا بين الندوة وبين صحبته، وهو يشجعنى أن أتركه لأرحب بضيوفى (هكذا عبر عن حضور الندوة)، وأنا خجلان من أن أتركه وليس معه إلا الدكتور فتحى هاشم، كنت كلما عدت إليه ظللت ذاهبا‏ ‏راجعا‏ ‏بين‏ ‏الندوة‏ ‏والأستاذ، ‏معظم‏ ‏الوقت أحكى له عن بعض ما يجرى.

‏ ‏الدكتور‏ ‏أحمد‏ ‏عبد‏ ‏الله‏ ‏(زميلنا فى المستشفى، وتلميذى، و هو شاعر رقيق) يقول‏ ‏فى ‏الندوة‏ ‏كلاما مهما، ‏أما الدكتور‏ ‏أحمد‏ ‏تيمور‏ ‏فهو ينشد‏ ‏شعرا‏ ‏فى ‏رثاء‏ ‏صلاح‏،‏ ‏الحزن‏ ‏الرائع‏ ‏النابض‏ ‏يتنقل من شعر صلاح، إلى رثاء تيمور له، فيحرك‏ ‏المشاعر‏ ‏إلى ‏أعماق‏ ‏لا‏ ‏يعرفها‏ ‏الحزن‏ ‏الهابط‏ ‏أو‏ ‏الحزن‏ ‏الجامد‏ ‏أو‏ ‏الحزن‏ ‏الهامد أو الحزن اللزج أو الحزن الطفيلى وكل ذلك قد تناولته الندوة‏، كنت أحكى للأستاذ كلما صعدت إليه فى ركنى الخاص (ركنى الخاص يقع فى الدول الأعلى مباشرة) بعض ما يجرى، فيبدى تشوقه لسماع المزيد، لكنه يسارع قائلا: ‏هيا‏ ‏اذهب‏ ‏إلى ‏الندوة‏ ‏لعلك‏ ‏تلحق‏، فكرة‏” ‏كدا، ‏أو‏ “‏كدا‏”، ‏تحكيها لنا فيما بعد، شعرت أننى أحضر الندوة نيابة عنه، وأنه فى شوق حقيقى لأبلغه ما دار بها، ضحكت لتعليقه ” فكرة كدا أو كدا” وحاولت أن اشرح له طبيعة هذه الندوة، وأنها ليست لخطف فكرة، أو تبادل رأى، كنت قد حدثته عن أن هذه الندوة منذ بدئها فى 1974، ونحن نأمل أن نحرك الوعى من خلالها، وأن ننشط النقد الذاتى والخبراتى، أكثر من أن نضيف معلومة أو أن تكون فرصة أن يتباهى المقدمون بموسوعية لا جدوى منها، كنت قد أخبرته أننا كثيرا ما نسأل الحضور فى آخر الندوة أثناء المناقشة إن كانوا قد خرجوا من الندوة غير ما دخلوا ولو واحد بالمائة، علق الأستاذ على ذلك بما وصلنى أنه يعترض أن تدفعنى حماستى ورغبتى فى تحريك الناس أن أكون وصيا على الحضور مهما كانت حسن نيتى.

 ‏سأل الأستاذ الدكتور ‏ ‏فتحى ‏هاشم‏ ‏عن سبب تغيبه فى الفترة السابقة، فأجاب أنه كان عنده قولون، ‏قلت‏ ‏له‏ ‏إننا‏ ‏اعتدنا‏ ‏أن‏ ‏نسمع‏ ‏أن‏ ‏المسألة‏ ‏فيها‏ ‏قوْلان‏، ‏أما‏ ‏أن‏ ‏يصبح المثنى ‏ ‏جمع‏ ‏مذكر‏ ‏سالم‏ “‏قوْلون‏” ‏فهذا‏ ‏هو‏ ‏الجديد، ‏استسخفت نفسى جدا، فأنا لا أحب هذا النوع من الاستظراف وتمنيت ألا يكون الأستاذ قد سمعنى، نظرت فى وجهه فإذا هو يضحك ضحكة خفيفة لم تكتمل ثم أردف بسرعة يسألنى ” كيف‏ ‏تسير‏ ‏الندوة”، وكانه وصله استسخافى تعليقى، حاولت أن أصحح سخفى فرددت على سؤاله قائلا “الحمد لله، تسير فى ‏ ‏منتهى ‏الغم”، وهنا قهقه عاليا وهو يذكّر الأصدقاء أن الندوة عن الحزن عند صلاح عبد الصبور، فرق بين قهقهته تلك وهو يربط بين “منتهى الغم” لوصف ندوة عن الحزن، وبين نصف الابتسامة التى عقب بها على سخفى دون أن يخجلنى، لقد حفظت هذا الرجل الذى يعلمنى بتحفظه وهدوئه، مثلما يعلمنى بقهقته وانشراحه.

بعد‏ ‏إنتهاء‏ ‏الندوة‏ ‏دعوت‏ ‏د‏. ‏أحمد‏ ‏تيمور‏ ‏لينضم إلى ‏ ‏جلسة‏ ‏الأستاذ‏ ففعل، ورحب به الاستاذ بنفس طيبته المعهودة مع كل قادم، دعوت د. تيمور ‏لقراءة‏ ‏قصيدته‏ ‏الجميلة‏ ‏فى ‏صلاح‏ ‏عبد‏ ‏الصبور، طرب الأستاذ للقصيدة، ‏ومدح مديحا عاما، ‏ولم‏ ‏يعلق تفصيلا.

أثار‏ ‏د‏. ‏تيمور‏ ‏موضوعين‏ ‏كنت‏ ‏قد‏ ‏طرحتهما‏ ‏فى ‏الندوة‏ (‏هما‏ ‏فى ‏الحقيقة‏ ‏موضوع‏ ‏واحد، ‏سبق‏ ‏الإشارة‏ ‏إليه‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الأوراق‏)، ‏وهو‏ ‏تضاؤل‏ ‏دور‏ ‏الشعر‏ ‏فى الحياة الثقافية بشكل عام، حتى قال البعض باحتمال اختفائه فى المستقبل القريب، وفى نفس الوقت ‏ ‏ظهور‏ ‏روح‏ ‏الشعر‏ ‏وصوره‏ ‏فى ‏الإبداعات‏ ‏الأخرى التى لا تسمى شعرا، تفضل الدكتور تيمور شارحا فكرة كان قد طرحها فى الندوة، قال: “‏قد‏ ‏يكون ‏ ‏مناسبا‏ ‏أن‏ ‏نقول‏ ‏إن‏ ‏الشعر‏ ‏سوف‏ ‏يقوم‏ ‏بدور‏ ‏الرياضيات‏ ‏للعلوم‏ ‏الأخرى، ‏وربما ‏ ‏يلجأ‏ ‏سائر‏ ‏المبدعين‏ ‏إلى ‏الشعر ‏ ‏يتعلمون‏ ‏منه ‏موسيقى السرد، و‏ضبط‏ ‏الإيقاع‏، ‏وكثافة‏ ‏الصورة، ‏ ‏وحركية‏ ‏الخيال”، نقلت رأى الدكتور تيمور إلى الأستاذ مضيفا أن هذا الرأى قد يفسر ‏ ‏ظهور‏ ‏لغة‏ ‏شعرية‏ ‏فى ‏سائر‏ ‏الأعمال‏ ‏الإبداعية‏ الأخرى. عقب الدكتور نبيل القط (وهو أحد تلاميذى وزملائى، وهو المسئول عن قسم الإدمان بالمستشفى، وكان حاضرا الندوة وانضم إلينا) ‏بأن هذا يشمل ما يسمى قصيدة النثر باعتبارها نوعا من‏ ‏التزاوج‏ ‏بين‏ ‏الشعر‏ ‏والنثر، رفضتُ رأيه هذا، وأبلغت رفضى للأستاذ، قائلا : “إن الشعر‏ ‏الذى ‏يصبح‏ ‏نثرا‏ ‏لا‏ ‏يكون‏ ‏شعرا‏ ‏ولا‏ ‏نثرا، ‏أما‏ ‏النثر‏ ‏حين‏ ‏يصبح‏ ‏شعرا‏ ‏فهو‏ ‏يستأذن‏ ‏الشعر‏ ‏أن‏ ‏ينبض‏ ‏بروحه‏ ‏ويخترق‏ ‏بدفعه‏ ‏ويحضر‏ ‏بتشكيله، دون أن يدعى أنه قصيدة، أو أنه شعرا.

نقل إلينا د. تيمور رأى ‏ ‏الزميلة التى ‏كانت‏ ‏تناقش‏ ‏فى ‏الندوة‏ ‏موضوع‏ ‏الحزن‏، وتواكــُـب ظهوره مع حضور‏ “‏الآخر‏” فى الوعى “موضوعا” حقيقيا، فطلب الأستاذ توضيحا، فأضفت له أننى أتجه‏‏ ‏إلى ‏الكشف‏ ‏عن‏ ‏أن‏ ‏الحزن‏ ‏هو‏ ‏ظاهرة‏ ‏تعلن ‏جدلية‏ ‏مؤلمة‏ ‏فى ‏العلاقة‏ ‏بالآخر، ‏ذلك‏ ‏أنه‏ ‏حتى ‏يتحرك‏ ‏الحزن‏ ‏الحى ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يتوفر‏ ‏ما‏ ‏يلى: ‏الحاجة‏ ‏واضحة، ‏والمحاولة‏ ‏مستمرة، ‏والآخر‏ ‏حاضر‏ ‏واعد‏ (‏فى ‏الوعى ‏أو‏ ‏فى ‏الواقع‏) ‏وأن هذا الآخر ‏ ‏يًرى ‏بحجمه‏ ‏دون‏ ‏اختزال‏ ‏أو‏ ‏انشطار‏، وبدون كل ذلك لا يبقى مما يسمى حزنا إلى يأس عدمى، أو انسحاب ‏ ‏انزوائى، ‏أو‏ ‏استسلام‏ ‏سكوني

أثار الدكتور أحمد عبد الله مسألة العلاقة مع الله كعامل أساسى فى العلاقة مع الآخر، وأن مظلة الله بشكل موضوعى، تعمل كرابط بين الناس، وهى التى يمكن أن تخفف هذا الألم الذى يصل إلى الوعى على أنه حزن، ذلك أن الله بالمعنى الموضوعى الآنى هو “آخر: مشترك أعظم”، فهو ليس آخر ‏بعيدا‏ ‏عنى، ‏كما‏ ‏أنه‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏ليس‏ “‏أنا”، وافقته وأضفت أن العلاقة مع الله، والعلاقة تحت مظلته وفى حضنه إنما تمر‏ ‏بمراحل‏ ‏تشمل‏ ‏القرب‏ ‏دون‏ ‏اقتراب، ‏والإبتعاد‏ ‏دون‏ ‏انفصال، ‏والمرونة‏ ‏دون‏ ‏ميوعة، ‏والتسليم‏ ‏دون‏ ‏امحاء، ‏واختفاء‏ ‏المسافة‏ ‏دون‏ ‏توحد، ‏والتميز‏ ‏التفردى ‏دون‏ ‏قطع‏ ‏الحبل‏ ‏السرى”

 انتبهت إلى نفسى، وكأنى أكتب مقالا أو القى محاضرة، استمع‏ ‏الأستاذ‏ ‏إلى ‏بعض‏ ‏ما ذكرت وهو ينصت محاولا ألا يفلت منه الخيط، لكنه مال برأسه مبتعدا ففهمت، ‏الأستاذ‏ عادة ‏لا‏ ‏يميل‏ ‏إلى ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الحديث‏ ‏أو‏ ‏الوصف، ‏وهو ينبهنى فى مثل هذه الأحوال إلى الصعوبة، أو يصف ما أقوله أحيانا بالفلسفة، مع أن حضوره كله من أوله إلى آخره هو فلسفة تمشى على أرجل، وحين يتناول قضية فلسفية كبرى، فهو يصيغها ‏فى ‏أبسط‏ ‏الألفاظ، ‏وأذكى ‏التعليقات‏ ‏وأطيب‏ ‏القفشات‏. ‏

مرة أخرى: أليس هذا‏ ‏هو‏ ‏السهل‏ ‏الممتنع‏؟‏

حين‏ ‏عاد الحديث إلى ‏ ‏قصيدة‏ ‏د‏. ‏أحمد‏ ‏تيمور‏ ‏فى ‏صلاح‏ ‏عبد‏ ‏الصبور‏ ‏قلت للأستاذ رأيا كان قد خطر لى من قبل، وكررته مرارا وهو أن الشعر لا يـُنـْقـَد إلا شعرا، ‏بل‏ ‏إن الأمر وصل بى أن أتصور أن الشعر لا يتلقاه بحقه إلا شاعر، حتى لو لم يكتب بيتا واحدا فى حياته، لا أعرف كيف وافقنى الجميع، كنت فى الندوة قد سألت د. أحمد تيمور عن رأيه فى ‏أحمد‏ ‏عبد‏ ‏المعطى ‏حجازى، فصمت ولم يجب، فتصورت أننى فهمت رده، وشعرت أنه سؤال سخيف ما كان لى أن أطرحه، ولكن ‏حين‏ ‏صعدنا‏ ‏إلى ‏الأستاذ‏ ‏سألته‏ ‏من‏ ‏جديد، ‏فإذا‏ ‏به ‏يقول‏، ‏كلا‏ما‏ ‏مغايرا‏ ‏عن‏ ‏ما‏ ‏تصورته، تحدث عن علاقته الطيبة الممتدة بحجازى وأنه صديقه، وأنه يحترمه، ‏لولا‏ ‏أنه‏ ‏قـَبـِلَ‏ ‏الإصغاء‏ ‏لهذه‏ ‏الثلة الجديدة التى كادت تبعده ‏عن أصوله، ‏أشرت‏ ‏إلى ‏مقال‏ ‏لحجازى ‏كتبه من ‏اسبوعيـن‏ ‏أو‏ ‏ثلاثة‏ ‏عن‏ ‏البياتى ‏وعبد‏ ‏الصبـور، ‏وكيف‏ ‏ظلم‏ ‏عبد‏ ‏الصبـور، ‏فوافقـنى    د. تيمور، ثم انتقل الحديث إلى ‏ ‏إبراهيم‏ ‏أبو‏ ‏سنة، ‏فمدحه‏ ‏تيمور‏ ‏مدحا‏ ‏أقـره‏ ‏الأستاذ، ‏الأستاذ عادة يقر المديح، لكنه يصمت عن المشاركة بالموافقة على القدح أو الهجاء، ثم جاء ‏ذكر‏ ‏نجيب‏ ‏سرور‏ ‏ووحدته‏ ‏وحقده‏ ‏وعدوانيته‏ ‏وتجاوزه‏، ‏ ‏لكن‏ ‏أحدا غيرى‏ ‏لم‏ ‏يذكر‏ ‏شاعريته‏ ‏واقتحامه، ‏وحكى ‏الأستاذ‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏يجلس‏ ‏ذات‏ ‏مـرة‏ ‏فى ‏التريانو‏ ‏فى ‏الاسكندرية‏ ‏ومـر‏ ‏عليه‏ ‏نجيب‏ ‏سرور‏ ‏وهو‏ ‏مهلهل‏ ‏الثياب‏ ‏أشعت‏ ‏الشعر، ‏وحوله‏ ‏صبية‏ ‏وكأنهم‏ ‏يسخرون‏ ‏منه، ‏فهمّ‏ ‏أن‏ ‏يناديه، ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏تراجع‏ ‏خوفا‏ ‏على ‏شعوره‏، ‏لكنه‏ ‏لقيه‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏فى ‏القاهرة‏ ‏وقد‏ ‏اعتدل‏ ‏حاله، ‏فأقدم‏ ‏سرور عليه‏ ‏مصافحا‏ ‏وقال‏ سرور ‏له‏ ‏إنه‏ ‏رآه‏ ‏وهو‏ ‏جالس‏ ‏فى ‏التريانو‏ ‏وأنه‏ ‏تجنب‏ ‏مصافحته، ‏وتعجب‏ ‏الأستاذ وذكر أنه استبعد تماما أن يكون قد لمحه ولم يدخل للسلام عليه وهو يعلم أنه يقدره ويحبه، قلت للأستاذ إن هذا هو ما نسميه أحيانا “الانتباه السلبى”، ونعنى به ‏أن‏ ‏الإنتباه‏ ‏يكون‏ ‏فى ‏قمة‏ ‏حدته‏ دون أن يبدو على صاحبه أنه منتبه اصلا، وقد تتسع دائرة الانتباه فى هذه الحالات حتى تتخطى الـ 180 ‏درجة، وفى بعض الحالات المرضية التى نتصور أن المريض فى حالة سبات كامل قريب من الغيبوبة لا يدرى مما حوله شيئا نفاجأ بأن المريض حين يفيق من السبات‏ ‏يتذكر‏ ‏كل‏ ‏التفاصيل التى حدثت حوله برغم ظاهر غيابه عنها، سألنى الأستاذ مزيدا من الإيضاح، فذكرت ‏حادثة‏ ‏عن‏ ‏طبيب‏ امتياز ‏شاب ‏كان‏ ‏مريضا‏ ‏فى ‏قسمنا‏ أثناء فترة شغلى طبيبا مقيما للأمراض النفسية فى قصر العينى، وأن هذا الطبيب كان متجمدا غائبا ‏لا‏ ‏يأكل‏ ‏ولا‏ ‏يشرب، ‏فكنا ‏ ‏نغذيه‏ ‏بأنبوبة‏ ‏ندخلها‏ ‏من‏ ‏أنفه‏ ‏إلى ‏معدته، ‏وذات‏ ‏مرة‏ ‏أخطأ‏ ‏طبيب‏ ‏الامتياز‏ ‏المناوب‏ ‏المكلف‏ ‏بتغذيته‏ ‏وأدخل‏ ‏الأنبوبة فى القصبة الهوائية بدلا من المرىء، وصب فيها ‏الغذاء‏ ‏المكون ‏من‏ ‏لبن‏ ‏وبيض‏ ‏مربوب‏ ‏وأدوية‏ ‏مسحوقة، ‏فدخلت‏ ‏جميعها‏ ‏إلى ‏رئته‏ ‏فكاد‏ ‏يموت‏ ‏مختنقا، ‏وحين‏ ‏أسرعنا‏ ‏إلى ‏حجرة‏ ‏العمليات‏ ‏وقام‏ ‏أ‏.‏د‏. ‏صلاح‏ ‏الملاح‏ ‏بشفط‏ ‏ما‏ ‏أمكن‏ ‏من‏ ‏رئتيه‏ ‏بمنظار‏ ‏خاص‏ ‏بشكل إسعافى رائع، حتى ‏‏بدأ‏ المريض ‏يتنفس ويختفى الزرقان ويعود وجهه متوردا، وكنا نلتف حول المريض ونحن نمسك بأنفاسنا خوفا على حياته، وما أن بدأ نفسه ينتظم تلقائيا حتى تنفسنا الصعداء، وذكرت كيف أن الدكتور الجراح، أ.د. صلاح الملاح كان ماهرا رائعا، قام بدور كالذى قام به أ.د. سامح همامه بنفس السرعة والحسم والجسارة، وشرحت للأستاذ فرحة الجراح بعمله وهو ينتشل شابا من الموت، حتى التفت إلينا مازحنا ساخرا‏ ‏وهو‏ ‏يرى ‏السائل‏ ‏المتجمع بالشفط من رئتى المريض، ‏ ‏بلونه المصفر‏‏ (‏البيض‏) ‏على ‏أبيض‏ (‏اللبن‏) ‏قال‏ الدكتور الملاح ‏لنا‏ (‏للدكتور‏. ‏محمود‏ ‏سامى المدرس بالقسم ‏ولى‏)، ‏وهو‏ ‏ينظر‏ ‏إلى ‏السوائل‏ ‏التى ‏شفطها‏ ‏من‏ ‏رئة‏ ‏المريض تماما، لم يكن ينقصكم يا أولاد الـ……  ‏إلا‏ ‏بعض‏ ‏البقدونس‏ ‏لتصير‏ ‏رئته عجة مهروسة، ‏وحين‏ ‏آفاق‏ ‏المريض‏ ‏وكنا‏ ‏كلنا‏ ‏نحسب‏ ‏أنه ‏ ‏فى ‏غيبوبة كاملة ‏ ‏لا‏ ‏يدرى ‏شيئا مما‏ ‏يدور‏ ‏حوله، ‏أعاد علينا وهو يضحك نكتة الدكتور الملاح، وتعجبنا كيف التقطها، وحفظها، وأعادها بدقة متناهية هكذا، وقد كنا نظن أنه غائب عن الوعى تماما، ‏‏وانتبهنا‏ ‏إلى ‏أنه‏ ‏رغم‏ ‏السبات‏ ‏والمرض‏ ‏النفسى ‏والغرق‏ ‏الرئوى ‏حتى ‏الاختناق‏ ‏وقرب‏ ‏الغيبوبة، ‏كان‏ ‏المريض‏ ‏حاد‏ ‏الانتباه‏ ‏إلى ‏درجة‏ ‏أنه‏ ‏تذكر‏ ‏كل‏ ‏التفاصيل‏ ‏حتى ‏النكته‏ ‏التى ‏قالها‏ ‏الدكتور‏ ‏الملاح‏.‏

استمر‏ ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏نجيب‏ ‏سرور‏ ‏وحبه‏ ‏للمعرى ‏وسألت‏ ‏أحمد‏ ‏تيمور‏ ‏عن‏ ‏القول‏ ‏بأنه‏ ‏لا‏ ‏المعرى ‏ولا‏ ‏العقاد‏ ‏كانا‏ ‏شاعرين، ‏فقال‏ ‏إن‏ ‏طه‏ ‏حسين‏ ‏قد‏ ‏فسر‏ ‏مغالاة‏ ‏المعرى ‏بأنها‏ ‏كانت‏ ‏عملية‏ ‏طبيعية‏ ‏لعقل‏ ‏بشرى ‏قد‏ ‏امتلأ‏ ‏بالمعلومات‏ ‏والمفردات‏ ‏بشكل‏ ‏رائع‏ ‏ووفير‏ ‏ومنظم، ‏وهو‏ ‏رهين‏ ‏المحبسين، ‏فراح‏ ‏يلعب‏ ‏بثروته‏ ‏اللغوية هذه‏ ‏فى ‏نظم‏ ‏يتحدى ‏كل‏ ‏المطلوب‏ ‏والمألوف‏ ‏حتى ‏ألزم‏ ‏نفسه‏ ‏بما‏ ‏لا‏ ‏يلزم، ‏وقلت‏ ‏للأستاذ ولتيمور ‏إن‏ ‏جرعة‏ ‏العقل‏ ‏والحكمة‏ ‏فى ‏شعر‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏العقاد‏ ‏و‏ ‏المعرى ‏هى ‏التى ‏قللت ‏ ‏من‏ ‏شاعريتهما‏ ‏فوافقا‏ ‏على ‏ذلك.

ذكر‏ ‏د. تيمور‏ ‏كيف‏ ‏أنه‏ ‏كتب‏ ‏رباعيات‏ ‏بأكلمها‏ ‏فى ‏المعرى، ‏فذكرت نبذة عن دراستى المقارنة بين رباعيات سرور والمعرى والخيام، وأننى افترضت أن رباعيات الخيام هى تمثل النكوص اللَّذّى، وهو ما يقابل ما نسميه الموقف الشيزيدى، فى حين أن رباعيات سرور تقابل الموقف البارنوى، “موقف الكر والفر”، ثم تأتى رباعيات جاهين فتمثل الموقف الاكتئابى المتصف بشوك العلاقة بالموضوع الحقيقى جنبا إلى جنب مع الفرحة به والإصرار عليه، سألنى الأستاذ عن هذه التسميات، وحذّر من أنها قد تصل إلى غير المختصين باعتبارها وصفا لأمراض، وليست لمواقف، ووافقته على ذلك تماما، فهذه المواقف الواحد تلو الآخر هى لغة المدرسة الإنجليزية فى التحليل النفسى (ميلانى كلاين، حتى جانترب)، وقد شاعت حتى ثبتت، لكن الاعتراض يظل فى محله([9]).

ذكرت ‏ ‏أن‏ ‏المعرى ‏قد شغل‏ ‏جزءا‏ ‏كبيرا‏ ‏من‏ ‏رباعيات‏ ‏سرور‏ ‏وأنى لاحظت كم هى ‏غنية‏ ‏بالولاء‏ ‏للمعرى، ‏وليست‏ ‏فى ‏المعرى، لا فى فلسفته، ولا فى شعره، وأنها فى كثير منها قاسية مرة، تذكَّر الأستاذ بالمناسبة ‏حساسية‏ ‏وعزلة‏ ‏وعزوف‏ ‏وتحفز‏ ‏بيرم‏ ‏التونسى، ‏وأنه‏ ‏يشبه‏ ‏فى ‏ذلك‏ نجيب‏ ‏سرور‏ ‏بالإضافة‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏الأخير‏ ‏أكثر‏ ‏هجوما‏ ‏وسفورا‏، ‏فوافق‏ ‏الجميع‏ ‏لكن‏ ‏تيمور‏ ‏أضاف‏ ‏لهما‏ ‏أمل‏ ‏دنقل‏ ‏وكيف أنه‏ ‏كان‏ ‏وحشى ‏المزاج‏ ‏حتى ‏أن‏ ‏إبراهيم‏ ‏أبو‏ ‏سنة‏ – ‏على ‏دماثته‏ ‏ورقته‏ – ‏قد‏ ‏استثارته‏ ‏قحته ‏ ‏ذات مرة حتى ‏هم‏ ‏بضربه‏.‏

كان‏ ‏من‏ ‏بين‏ ‏ما‏ ‏نوقش‏ ‏فى ‏الندوة‏ ‏مسألة‏ ‏فشل‏ ‏استقطاب‏ ‏الفرح‏ ‏فى ‏مقابل‏ ‏الحزن، ‏وأن‏ ‏الوجدان‏ ‏الحى ‏قد‏ ‏يحتوى ‏الاثنين‏ ‏معا‏ ‏دون‏ ‏تناقض، ‏نقل‏ ‏هذه‏ ‏المقولة‏ ‏الدكتور‏ ‏احمد‏ ‏تيمور‏ ‏إلى ‏الأستاذ‏ ‏فهز‏ ‏رأسه‏ ‏كما‏ ‏يفعل‏ ‏إذا‏ ‏ما‏ ‏اقتربنا‏ ‏من‏ ‏لغة‏ ‏الفلسفة، ‏وكما‏ ‏أبنت‏ ‏سابقا، ‏فإن‏ ‏عزوفه‏ ‏عن‏ ‏استعمال‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏اللغة‏ ‏لا‏ ‏يعنى ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يميل‏ ‏للفلسفه‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يعنى ‏أنه‏ ‏يمارسها‏ ‏ولا‏ ‏يتحدث‏ ‏بها، ‏اكتشفت وأنا أتأكد من جديد من قدرته تناول أصعب القضايا الفلسفية وأعقدها بكل هذه البساطة، كنت أحتاج فعلا لرؤية هذه القدرة هكذا رأى العين ‏ ‏فى ‏إنسان‏ ‏لم‏ ‏تشوهه‏ ‏الثقافة المعقلنة، ‏رجحت أن ما يصلنى هكذا من شيخى جدير بأن يوصف بأنه‏ “‏فعل‏ ‏الفلسفة‏”، أو “الفلسفة تمشى على أرجل”، قياسا بـ”كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن”.

‏حاولت‏ ‏أن‏ ‏أغير الموضوع لأبتعد‏ ‏بقضية‏ ‏التناقض‏ ‏هذه‏ ‏عن‏ ‏مناقشات‏ ‏المثقفين، ‏فقلت‏ ‏للاستاذ‏ ‏أننا‏ ‏حين‏ ‏كنا‏ ‏صغارا‏ ‏كانوا‏ ‏يسألوننا‏ ‏فى ‏لعبة‏ ‏لا‏ ‏أذكرها‏ تفصيلا: ‏تختار‏ ‏الجنة‏ ‏الخضرا‏؟ ‏ولا‏ ‏الجنة‏ ‏النار؟ وأننى ظللت‏ ‏أتساءل‏ ‏طوال‏ ‏نصف قرن‏ ‏أو‏ ‏يزيد‏ ‏عن ماهية ‏ ‏الجنة‏ ‏النار، ‏وكيف‏ ‏تكون‏ ‏الجنة‏ ‏نارا، ‏أو‏ ‏تكون‏ ‏النار‏ ‏فى ‏الجنة، ‏ومؤخرا ‏ ‏تصورت‏ ‏أن‏ ‏هناك‏ ‏جنة‏ ‏ساكنة‏ ‏رائقة هى الجنة الخضرا، ‏وأن‏ ‏هناك‏ ‏جنة‏ ‏متقدة ‏ ‏فى ‏حراك‏ ‏ساخن‏ ‏مبدع‏ هى الجنة النار، ‏سألنى ‏الدكتور‏ ‏تيمور‏ ‏ماذا‏ ‏كنت‏ ‏أختار طفلا‏ ‏فأجبته ‏ ‏أننى ‏كنت‏ ‏أختار‏ ‏الجنة‏ ‏النار‏‏، ولكن حين انصرف د. تيمور، اكتشفت أننى كذبت، فصححت كذبتى للأستاذ وقلت له إننى غالبا كنت أختار الجنة الخضراء وأنا طفل، لكننى حاليا ربما فضلت الجنة النار.

وضج‏ ‏الجميع‏ ‏بالضحك‏.‏

تأخر ميعاد العودة هذه الليلة، ونادرا ما يحدث ذلك،‏

 ‏الساعة الآن ‏الحادية‏ ‏عشرة‏ ‏

استأذن الأستاذ والأصدقاء دون تعليق على تأخر موعد العودة، فالندوة كانت هى المسئولة

قبّلت يده وأنا أدعو له،

 فسحبها كعادته وربت على رأسى

تصبح على خير يا شيخى الجليل.

الحلقة الثانية والثلاثون

عن الحرية والعدل

الأحد‏: 12/2/1995

لم نستقر بعد إلى أين يذهب الأستاذ يوم الأحد بشكل منتظم، وبعد أن خصصنا يوم الجمعة لمنزلى، أصبح أيضا منزلى هو المكان المتاح حين نحتار فى الاختيار إلى أن نستقر، اليوم يوم الأحد لا الجمعة، واللقاء فى منزلى استثناءً هذا الأسبوع أيضا (أما لقاء الجمعة المنتظم فقد ثبت فى منزلى نهائيا والحمد لله، أهلا..).

 ‏أصبح‏ ‏المكان‏ ‏مألوفا‏ ‏للأستاذ، ‏الحمد‏ ‏لله، ‏توفيق‏ ‏صالح‏، ‏نعيم‏ ‏صبرى، ‏وزكى ‏سالم‏ ‏أيضا، ‏ود‏. ‏سعاد موسى، ‏ود‏. ‏منال‏، بدا‏ ‏الأستاذ‏ ‏منطلقا‏ ‏سلسا‏ ‏على ‏عادته، هل هذا الرجل هو الحياة؟ ‏إن‏ ‏ما‏ ‏تبقى ‏فيه وبه ‏ ‏من‏ ‏حب‏ ‏للحياة، ‏هو‏ ‏كاف‏ ‏أن‏ ‏يبعث‏ ‏فينا‏ ‏جميعا كل‏ ‏الحياة.

 ‏لا أعرف من الذى أعاد فتح موضوع تسامح الاستاذ فى نقل رواياته إلى مسلسل أو فيلم سينمائى، دون تدخل منه أو مراجعة، لا بد أنه أحد الحضور الذين لم يشاركونا مناقشة ذلك من قبل، الأستاذ لا يمل تفسير موقفه، ولا يعدل عنه، كرر الأستاذ ما سبق ان قاله لنا ‏أن‏ ‏”هذا‏ ‏فن”‏ ‏وذاك‏ “فن ‏آخر”، ‏وقد‏ ‏لا‏ ‏تكون‏ ‏هناك علاقة‏ ‏بينهما إلا خطوط الموضوع‏، وأن أداة الفن قادرة أن تعيد تشكيل النص بحسب قواعدها وأدواتها وآلياتها، فهو يعاد تشكيله رغما عن أية محاولة للتطابق، لأن الشكل هو هو الموضوع فى الإبداع الحقيقى، طالما احترت فى هذه القضية، لكن رويدا رويدا، وبمثل هذه الامثلة صارت المسألة أقرب، قلت‏ ‏له‏ ‏إن‏ ‏الرواية‏ ‏الوحيدة‏ ‏من‏ ‏بين‏ ‏رواياته‏ ‏التى ‏أحسست‏ ‏فيها‏ ‏أن‏ ‏السينما‏ ‏استطاعت أن تستوعب النص الأصلى، وتقدمه بأغلب نبضه وروحه، ورسائله ‏هى “‏بداية‏ ‏ونهاية‏”، ‏وقد‏ ‏وافقنى ‏‏توفيق‏ ‏صالح‏ ‏على ‏ذلك، ‏وقال‏ ‏توفيق‏ ‏إن‏ ‏فريد‏ ‏شوقى ‏قال‏ ‏فى ‏حديث‏ يذاع ‏له‏ ‏إنه‏ ‏اشترى ‏هذه‏ ‏الرواية‏ ‏بمائة‏ ‏جنية‏ ‏من‏ ‏الاستاذ، ‏فى ‏حين‏ ‏أنه‏ ‏يذكر‏ ‏أن‏ شخصا آخر ‏هو‏ ‏الذى ‏اشتراها، (لا أذكر اسم هذا الشخص الآن، أو لا أريد أن أذكره)، ‏وافق‏ ‏الأستاذ‏ ‏على ‏ذلك‏.‏

انتقل‏ ‏الحديث‏ ‏إلى ‏فريد‏ ‏شوقى، ‏وكيف‏ ‏فرض‏ ‏حضوره‏ ‏هكذا‏ ‏طوال‏ ‏نصف‏ ‏قرن‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏فنانا‏ ‏متميزا، ‏وسرى همسٌ أنه صرح ذات مرة أنه كاتب له قامة فى الكتابة تسمح بأن تلهم أو تكمل أو تقارب نجيب محفوظ (أو شىء من هذا القبيل)، قال‏ ‏توفيق‏ ‏وجهة‏ ‏نظر‏ ‏وافقه‏ ‏الأستاذ‏ ‏عليها‏ ‏ – تقريبا – بـَيَّنَ فيها‏ ‏أن‏ ‏فريد‏ ‏شوقى ‏قد‏ ‏ألح‏ ‏بحضوره‏ ‏على ‏المُشاهد‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏، ‏فأخذه‏ ‏الناس‏ ‏على ‏علاته، ‏حفظوه وانتظروه بما هو كما هو، وأن‏ ‏مثابرته‏ ‏وإصراره واقتحاماته‏ ‏قد خففا من سطحية أدائه بشكل أو بآخر، وإن كان ذلك لم ينفع فى التخفيف من نمطية تكراره، أضاف توفيق صالح إن فريد شوقى قد ‏ ‏طرق‏ ‏كل‏ ‏باب، ‏بما فى ذلك المسرح، وأنه حين ‏لعب‏ ‏أدوار‏ ‏الريحانى، ‏بلغ ‏ ‏أعلى ‏مراتب‏ ‏فشله، ونبه توفيق ان فريد شوقى نجح أكثر فى الدور الثانى، وأن للنجم السينمائى مسارا مختلفا عن السنّيد، وأن فريد رقص على السلم، فلم يحقق ما يحققه النجم، ولم يعمِّـق دور السنّيد، وأن السنّيد يمكن أن يكون له حضور متميز وجيد جدا، لكن بمسار آخر غير مسار النجم، وضرب‏ ‏مثلا‏ ‏للسنيد وذكر اسمىْ‏: ‏عبد‏ ‏السلام‏ ‏النابلسى ‏وحسين‏ ‏رياض،‏ ‏واعترضت‏ ‏على ‏ذكر‏ ‏الاسمين‏ ‏فى ‏صف‏ ‏واحد، ‏ووافق‏ ‏على ‏اعتراضى، كان اعتراضى أساسا أن يوصف حسين رياض بالسنيد، وكأن هذا الوصف تقليل من شأن أى شخص كان، فحاول توفيق أن يفهمنى أن السنيد لا يعنى الثانوى، ولكنه فقط يشير إلى أنه ليس بطل الفيلم، وإن صاحبَ البطل فى كثير من المواقف والأحداث.

لم يشاركنا أغلب الحاضرين فى الكلام عن السينما، فعاد الحديث تلقائيا إلى السياسة، فسألت بجدية دون اعتراض واضح، ما جدوى كل هذه الأحاديث التى لا تصب فى أى حركة مغيّرة؟ ولا أذكر من الذى رد علّىّ بأن حواراتنا هذه كأنها تعلن أننا نعيش الأحداث بصوت مسموع، لا أكثر ولا أقل، أعجبنى التعبير، ولم أعلق عليه، ولكنه لم يشف غليلى فى جدوى حديثنا فى السياسة بهذه الوفرة.

أعاد‏ ‏الأستاذ‏ ‏إيضاح‏ ‏رأيه‏ ‏عن‏ ‏ضرورة‏ ‏التوفيق‏ ‏بين‏ ‏الحرية‏ ‏والعدل، ‏ولم‏ ‏يكن‏ ‏هذا‏ ‏جديدا‏ ‏على ‏أحد، ‏وفرح‏ ‏بعض‏ ‏الجالسين‏ ‏بهذا‏ ‏الرأى ‏وزعموا‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏لم‏ ‏يتحقق‏ ‏سوى ‏فى ‏التجربة‏ ‏الديمقراطية‏ ‏الغربية، ‏وتحفظتُ‏ ‏متوقعا ‏ ‏الهجوم‏ ‏المنتظر، ‏نبهت إلى أ‏نه‏ ‏فرق‏ ‏بين‏ ‏العدل‏ ‏وهو‏ ‏يمارَس‏ ‏على ‏الأرض‏ ‏بين بشر لهم تاريخ متطور، يجاهدون بوعى يقظ، على مسار إيمان كادح، وبين العدل وهو يقف عند مرحلة تطبيق‏ ‏نصوص‏ ‏مكتوبة، ‏بألفاظ مختنقة فى رسمها، تطبقها سلطة ‏ ‏خارجية‏ ‏بالمسطرة، فهى عاجزة مهما اجتهدت، لم أستطع أن اشرح وجهة نظرى أكثر من ذلك، وبدا لى أن أحدا لم يلتقطها، فاستدركت اننى لا أعنى ان يُترك كل واحد يطبق العدل بقانونه الخاص، وأيضا لا أعنى أن هذا المستوى الذى اشير إليه يغنى عن المستوى المكتوب فى الأوراق، فقط أننى أريد أن أنبه إلى: “إن تنظيم الحقوق وترتيب العلاقات لا ينبغى أن يكتفى بالتوقف عند المستوى الورقى اللفظى، وأن هذا المستوى هو أقل مما يستحق الإنسان ويستطيعه واجتهدت أن أبدو أقرب وأوضح، لكننى عجزت، لا فائدة، لا احد يوافق، ولا أنا قادر أن أزيد الأمر وضوحا، فلجأت إلى ربط واهٍ مع موضوع الفن الذى كنا نتحدث فيه قبل أن نعرج إلى ما يشبه السياسة، ‏ ‏قلت‏ لتوفيق ‏ ‏صالح‏ ‏أن‏ ‏أهم‏ ‏ماجاء‏ ‏فى ‏يوميات‏ ‏نائب‏ ‏فى ‏الأرياف‏ ‏هو‏ ‏تعرية‏ ‏السلطة‏ ‏القضائية‏ ‏فالسياسة‏، تعرية هذه السلطة لا أقصد به الإشارة إلى فسادها، بل إلى حدودها، ‏أما‏ ‏قصة‏ ‏القتل‏ ‏وغرق‏ ‏البنت‏ ‏الصغيرة‏ ‏فى ‏نهاية‏ ‏الفيلم‏ ‏فقد‏ ‏كانت‏ ‏أرضية‏ ‏جيدة‏، ‏لكنها‏ ‏لم‏ ‏تمثل‏ ‏لى ‏جذبا‏ ‏محوريا‏ ‏كما‏ ‏فعلت‏ ‏مع‏ ‏غيرى، ‏ثم أضفتُ لتوفيق ملاحظة أخرى عن أرضية فيلمه الرائع “المخدوعون”، فقلت له إننى ‏ ‏افتقدت‏ ‏العنصر‏ ‏النسائى معظم الوقت، عقـّب توفيق يوافقنى على الانتباه إلى ضرورة عدم تهميش المرأة، ولكن….، وهنا تدخل الأستاذ الذى كان يتابعنا دون أن أقصد قائلا: “ليس مطلوبا ولا مقبولا أن يحشر المخرج امرأة فى النص لتبرئة نفسه من أنه عدو المرأة، او أنه يهمشها”، ووافقت طبعا، وشرحت بسرعة أننى لم أعن ذلك، أنا فقط كنت أعلن ما افتقدته فى فيلم كامل الأوصاف، لكنه النص الروائى، واكتفى توفيق بشهادة الأستاذ وفرح بها..

يبدو أن المجتمعين الليلة لا يجذبهم الحديث فى الفن بالقدر الكافى، فسرعان ما عاد البندول إلى حيث كنا ‏ ‏ونحن‏ ‏نتكلم‏ ‏عن‏ ‏العدل‏ ‏والحرية، وقبل أن يجرونا إلى النّعابَة على “قِـلـّة الديمقراطية” (قياسا على قِـلـّة الأدب)، وضيق هامش الحرية وهذا الكلام المعاد – بالنسبة لى على الأقل – ، حاولتُ ان أنتقل بالحوار إلى ناحية أخرى:

 سألت‏ ‏الأستاذ‏: ‏ألست‏ ‏معى ‏أن‏ ‏القيم‏ ‏القديمة‏ ‏اهتزت‏ ‏بدرجة‏ ‏تسمح‏ ‏لنا‏ ‏أن‏ ‏نتصور‏ ‏أو‏ ‏نأمل‏ ‏أن‏ ‏ثمة‏ ‏قيما‏ ‏جديدة‏ ‏تتكون‏ ‏حتى ‏ولو‏ ‏لم‏ ‏نكن‏ ‏نعرفها؟‏ ‏قال‏ ‏هذا‏ ‏صحيح‏ ‏بالتأكيد، ‏وحين‏ ‏تطول‏ ‏فترة‏ ‏الانتظار‏ ‏والغموض‏ ‏فقد‏ ‏يعنى ‏هذا‏ ‏أنه‏ ‏سوف‏ ‏تظهر‏ ‏قيم‏ ‏أقدر على استيعاب النقلة التى لا نعرفها، ‏ولم‏ ‏يستطع‏ ‏أغلب‏ ‏الحاضرين‏ ‏احتمال‏ ‏فكرة‏ ‏ألا‏ ‏نعرف‏ ‏طبيعة أو تفاصيل القيم‏ ‏الإيجابية‏ ‏القادمة التى ‏ربما‏ ‏تتكون‏ ‏الآن‏ ‏بشكل‏ ‏غير‏ ‏واضح، ‏وظهر لى أن ثمَّ خوفا يساور أغلبنا أن نتخلى عن القيم الحالية دون بديل واضح فنضيع، حاولت‏ ‏الشرح أكثر، ‏فأخذت مثلا “قيمة الوطنية”، وأشرت إلى‏ ‏أن‏ ‏الانتماء‏ ‏للوطن‏ ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏يحمل‏ ‏نفس‏ ‏التقديس‏ ‏القديم‏، وهذا يعنى أن قيمة‏ ‏”الوطنية” قد اهتزت بدرجة ما، وفى نفس الوقت قد لا يكون فى ذلك جريمة كبرى كما كان الأمر بالأمس، إذا قد يمكن أن تتحرك الوطنية إلى الإنسانية دون أن تتخلى عن نفسها، ولم أكن واضحا أيضا، فانتقلتُ إلى مثلٍ آخر لعل وعسى، قلت إن ‏انهيار‏ ‏الاتحاد‏ ‏السوفيتى ‏بهذه الصورة التى تمت امتدت آثاره إلى مدى أبعد من التنبيه إلى فشل نوع من الحكم، ذلك أنه أثار تشكيكا كبيرا فى النظرية التى وراءه أدى إلى الإقلال من شأن قيمة اسمها الاشتراكية، مع أنها قيمة تظل مرتبطة بالعدل والموضوعية، أكثر من ارتباطها بالمساواة والطبقية، هز الأستاذ رأسه بما طمأننى، فسألته هل عنده إضافة فطلب منى أن أكمل، قلت له إن ما حزنت عليه حين انهار الاتحاد السوفيتى هكذا هو أن كثيرين كادوا يفقدون حقهم فى “الحلم”، وبالذات فى الحلم بالعدل، هذا فضلا عن أن الشماتة وانحراف التأويلات أدّيا إلى ترجيح كفة انظمة أدنى وأخبث، ودافعت عن حق الإنسان المعاصر فى “حلم ما”، دون أن يكون هربا أو تأجيلا، سألنى الأستاذ إن كنت أعنى حلم يقظة، فنفيت ذلك وقلت إننى أعنى الأمل البعيد التحقيق الآن، لكنه الأمل الممكن أيضا، ثم عدت أكرر حلمى فى ديمقراطية أخرى، واشتراكية أخرى، فوافقنى أغلب الحاضرين على الحلم فى اشتراكية أخرى، ولكن تبيـّن لى أن أغلبهم راضين بالديمقراطية الشائعة الآن والتى أعتبرها أنا ديمقراطية “مضروبة”، أو “سابقة التجهيز”، لا يجوز أن نقيس بها مساحة حريتنا وأبعادها ولا أن نطمئن إلى كفايتها فى ضمان مشاركتنا فى اختيار مسارنا ومصيرنا، سألنى أكثر من واحد كيف ذلك، وصلتنى الأسئلة بلهجة أغلبها رافض، وبعضها مستطلع، لكننى لم أستطع أن أرد أو أزيد.

واستأذنت لاذهب إلى العيادة، فاليوم الأحد لا الجمعة

وذهبت وأنا أشعر أننى وحيد أكثر هذه اليلة، ربما لم يلتقطنى أحد إلا الأستاذ، أو لعلى أُسـْقـِط عليه حاجتى للائتناس فأتصور أننى أوصلتُ له أكثر من غيره ما أريد.

أثناء قيادتى السيارة حل بى غيظ ساخن محل الوحدة الجافّة.

قلت لنفسى: سأتعود على هذا وذاك حتى أضبط جرعة الألم بشكل ما

فأحسست بيده على كتفى تهدهدنى وأنا أقود السيارة

فعرفت أننى لست وحيدا

والتفتُّ برأسى إلى يده أقبلها شاكرا

فنـَهرَنى لألتفت إلى قيادة السيارة، وسحب يده برفق من على كتفى إلى خدى يرتب عليه لأفيق على بوق سيارة زاعق، فضغطُّ على الكابح وأنا أبتسم برغم كل ما حولى وأفقت لأتاكد أننى أقود السيارة وحيدا تماما.

ورجعت إلى الطريق راضياً حامداً.

 

الحلقة الثالثة والثلاثون

مزيد من الغوص فى الأدب والشعر

 الاثنين‏: 13/2/1995

عادل عزت، هأنذا أتعرف على ‏محب‏ ‏جديد، ‏شاعر، وصاحب مطبعة، ‏وناشر أمين، وغاضب طيب، ‏يوسف‏ ‏القعيد‏ ‏يحضر‏ ‏لأول‏ ‏مرة‏ ‏فى ‏نوفوتيل المطار حيث أعد لنا أيمن ابن أخى (مدير الفندق) مكانا جميلا قصيا فى الفندق لكل يوم اثنين، يوسف القعيد أحد رواد جلسة الثلاثاء فى فرح بوت، لكنه – مثل أى صديق – له الحق أن يحضر فى أى يوم فى أى مكان لقاء بالأستاذ، ما عدا السبت طبعا الذى يخصصه الأستاذ لمحمد سلماوى بالمنزل كما ذكرت آنفا، وأيضا ما عدَا الخميس فهو لقاء مغلق على الحرافيش كما ذكرت، لم أرتح لحضور القعيد خشية أن تنقلب الجلسة نسخة من جلسة فرح بوت، أنا ليس لى اعتراض على أصدقاء الثلاثاء فى فرح بوت إطلاقا، أحبهم وأحترمهم وأتعلم منهم طبعا، لكن لكل جلسة شخصيتها، وليس فقط شخوصها، بل وطقوسها، علمت من مجرى الحديث أن يوسف يسكن بالقرب من لقائنا هنا فى مصر الجديدة، ربما هذا هو الذى سهل عليه الحضور، تعجبت مع أننى لم أعد من أعضاء لقاء الاثنين هذا إلا بعض الوقت (أحيانا ربع ساعة) قد أمر عليهم قبل ذهابى إلى العيادة وكأنى أطمئن بذلك على بداية الأمور وعدد الحضور، وسلاسة الطقوس، طبعا هذا كله كلام فارغ، فلا أنا أطمئن ولا أنا أوصى بشىء، لكن القلم كتب ما كتب الآن، فتركته وشأنه ولم أحاول أن أحذف ما كتب، نعم، ما زلت ألقى الأستاذ يوميا ولكن لفترات مختلفة، اليوم هو الاثنين وعندى عيادة، والأستاذ يعرف مواعيدها، ويحفظها بحرص حتى كدت أتصور أنه يحفظها أكثر منى، نبهنى من جديد أنه آن الأوان أن أنظم وقتى بحيث لا تطغى لقاءاتنا على مصالحى، طمأنته كما فعلت مرارا، وأننى سوف أستأذن بعد قليل بمجرد اقتراب موعد العيادة، ذكـّرنى أننا قرب المطار، وأن عيادتى فى باب اللوق، طمأنته مرة أخرى، وذكـّرته أننى من أبناء مصر الجديدة، وأننى قضيت فيها عمرا من سن ثلاثة عشر سنة إلى أربع وعشرين، (1946- 1959) من سنة ثانية ثانوى حتى بعد التخرج من كلية الطب، وأن هذه السن كانت من أهم سنى تكوينى، وأننى أعرف دروب مصر الجديدة الحقيقية، سألنى الأستاذ ما ذا أعنى بمصر الجديدة الحقيقية، قلت له هى مصر الجديدة التى تبدأ بروكسى وتنتهى بميدان سفير، اللاحق لميدان الاسماعيلية مباشرة، وأن قلبها النابض هو الكوربة، أما كل الامتدادات اللاحقة فهى ليست مصر الجديدة، النزهة ولست أدرى ماذا، بل إننى اعتبرها تشويها لمصر الجديدة الحقيقية، واقتحاما لما تربيت فيه وارتبطت به، وذكرت له جولتنا سيرا  ونحن طلبة من ميدان الاسماعيلية (حيث كنا نسكن، وما زالت أسرتى محتفظة بشقتنا حتى الآن) إلى روكسى مرورا بالكوربة، وأن هذه الجولة كانت تستغرق حوالى ساعة وبعض ساعة مشيا على الأقدام مع ثلة شباب هذا الزمن، وهى محفورة فى ذاكرتى بشكل يطردُ من مصر الجديدة كل امتداداتها المـُقـْحمة، ابتسم الأستاذ وهز رأسه، وكاننى أذكـِّره بالعباسية، أو بدرب هرمز، لست متأكدا، فأنا لم أعد أفاتحه فى ترجمة اهتزاز رأسه إلى أى درجة من الموافقة إذ أصبحت افضل أن أتلقاها كما أشاء، مع احتمال الخطأ طبعا، وهذا أحسن!! (لست أدرى لماذا)

ربما يرجع الفضل فى أن الحديث بدأ الليلة عن الأدب لاجتماع الشاعر عادل عزت الذى اشرت إليه فى أول تدوينى لهذه اليومية، مع الحضور المفاجئ ليوسف القعيد، فحمدت الله أن تأجل الكلام فى السياسة بعض الوقت، ودعوته أن يتأجل حتى أغادر بعد قليل، أنا لا أرفض الكلام فى السياسة طبعا، لكننى أشك فى جدوى فاعليته، وأملّ من تكرار مواضيعه، ونمطية مواقفنا منها.

جاء ذكر رواية فتحى امبابى “مراعى القتل” من جديد، ‏قال‏ ‏زكى ‏سالم‏ ‏كلاما‏ ‏مهما وصلتنى منه ذائقة نقدية جادة، عقب يوسف القعيد ‏على شخص الكاتب أكثر من تعقيبه على الرواية نفسها بكلام ‏ ‏فيه‏ ‏همز‏ ‏ولمز‏ ‏كعادته، ‏ولكن وصلنى أيضا أنه قلل من قيمة الرواية مع أن الجميع أجمع على تميزها، تعجبت من موقفه هذا وليس ثمَّ تنافسا بينه وبين كاتبها بدرجة تستأهل ذلك، قارنتُ موقفه هذا بموقف جمال ‏الغيطانى الذى أشاد بالرواية بشكل واضح، وأيضا بموقف زكى سالم الذى قال وجهة نظره فيما لها وما عليها، واحترمت نقده كما أسلفت حالا، مازلنا بعيدين عن لغو السياسة والحمد لله، انتقل الحديث إلى التكنيك الذى اتبعه كاتب الرواية فى كتابتها وكيف سارت تيارات الحكى الثلاثة بشكل مواز متداخل متكامل معا، مما سبق الإشارة إليه ‏ويجرنا ذلك إلى ديستويفسكى، ولكن الأستاذ ينبه إلى أن ديستويفسكى لم يكن يمارس ما نحكى عنه من “مواكبة عدد من تيارات الحكى معا” كما فهم من حديثنا وتعقيباتنا على رواية “مراعى القتل”، الأستاذ يتصور أن ما فعله فتحى امبابى هو مختلف نوعيا (أنبه من جديد أن الأستاذ لم يقرأ الرواية، فقد ظهرت بعد ان توقف عن القراءة، ولم يقرأها له أحد أيضا، لكنه التقط بحذق حكاية التيارات المتواكبة هذه) قال الأستاذ عن ديستويفسكى أنه كان يخلق روايات أصغر داخل الرواية الأصل، وهذا يختلف عن الأسلوب الذى اتبعه فتحى امبابى فى الحكى على ثلاث تيارات متوازية ومتبادلة فى اتساق وتكامل كما نقول، قال الأستاذ إن ديستويفسكى كان يملأ مئات الصفحات دون تخطيط مسبق غالبا، فكان تيار الحكى ينحرف منه حسب تدفق طلاقته، وقيل إن كثيرا من ذلك كان ليلبى شروط طلبات المطبعة وتوقيتات التعاقد، وأيضا يغطى بعض الالتزامات المالية أو التعاقدية، وتذكرت خبرتى التى حكيت عنها قبلا، أثناء كتابتى كتابى المرجع “دراسة فى علم السيكوباثولوجى”، ـ وانتبهت إلى فكرة تحتمل الصحة وهى: إن المبدع إذا ما جلس لممارسة مهمته (وليس طبعا لكتابة خطاب إلى رئيسه ليطلب أجازة مرضية!)، أقول إنه ما إن يجلس للممارسة، حتى لو لم يكن هناك نية حقيقية فى أن يتصنف ما يكتب على أنه إبداع، فهو أحيانا كثيرة، لا يستطيع إلا ان يبدع، مختارا أو مضطرا، مخطِّطا أو منطلقا، هو يكتب فهو يبدع، تنطلق منه آلية إبداعه فلا يستطيع إلا أن يبدع ما دام قد شحذها ودربها، فهى تنطلق إلى غايتها بغض النظر عن الحافز او التفاصيل، هز الأستاذ رأسه وقال‏: ‏كان‏ ‏ديستويفسكى ‏يواصل الكتابة ليقبض ويقامر، وخذ عندك، ‏ولكننا‏ ‏استفدنا‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏مهما‏ ‏كان‏ ‏الدافع”ـ سألته: هل هناك ما يمكن أن نسميه: “الإبداع المستقل عن صاحبه؟”، قال ليس بمعنى “مبدع رغم أنفه”([10])، وإنما ربما يشير ذلك إلى بعض التفاصيل الواقعية وراء إنتاج عملٍ ما، شرحت وجهة نظرى من أن الإبداع يظهر إبداعا مهما كانت الأسباب الدافعة إليه تافهة، ومهما كانت الظروف أثناء إبداعه غير ملائمة، وهكذا، لكن يظل الناتج إبداعا أصيلا إذا خرج من مبدع حقيقى، أى أننا يمكن أن نتصور أن للإبداع تلقائيته فى ذاته لمن عرف الطريق إليه ومارس شحذ ممارسته. ثم إن لهذا المبدع، فى النهاية – وطول الوقت- الحق فى ان يراجع ما تدفق منه، وله أن يمزقه أو يغيره، أو يصقله، أو أى شىء يتكامل به إبداعه.

‏يبدو‏ ‏أن‏ ‏هذا الرأى ‏لم‏ ‏يعجب‏ ‏يوسف‏ ‏القعيد‏ ‏رغم‏ ‏موافقة‏ ‏الأستاذ التى وصلتنى، ‏فراح يوسف يحكى – منتقدا غالبا – عن‏ ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏عبد‏ ‏المنعم‏ ‏الصاوى ‏كان‏ ‏يكتب‏ ‏فى ‏الاستراحة‏ ‏فى ‏مطار‏ ‏الأقصرانتظارا‏ ‏للإقلاع، ‏ثم‏ ‏أثناء‏ ‏الاستراحة‏ ‏فى ‏مطار‏ ‏أسوان،‏ وهكذا..، ‏وأضاف كأن‏ ‏مسألة‏ ‏الكتابة‏ هى ‏مثل‏ ‏شرب‏ ‏فنجان‏ ‏شاى، ‏و‏ ‏دون‏ ‏طقوس‏ ‏ودون‏ ‏مكان‏ ‏بذاته، ‏وأن هذا كان يجعل الصاوى يخرج أعمالا ليست على المستوى، أنا لم أقرأ لعبد المنعم الصاوى، وعرفته وزيرا للإعلام وقد دعانى يوما، فى مؤتمر عام لمناقشة دور الإعلام فى مرحلتنا الراهنة، ولم اجد عنده أو فى المؤتمر جديدا يحتاج أن أذكره إلا قوله (مبالِغاً): أعطونى تليفزيونا وأنا أغيـِّر الناس، كان ذلك ربما فى أواخر الستينات أو أوائل السبعينات، تحفظت على رأى القعيد، ولم أذكر له أن الشعر يحضرنى أكثر جدا وأنا فى انتظار إقلاع الطائرة (إلى الخارج عادة فأنا لا أستقل الطائرة فى رحلات الداخل)، كما يأتينى الشعر ‏فى ‏الأجواء‏ ‏الدولية ([11])، ‏وقد‏ ‏استنتجت من واقع خبرتى، بغض النظر عن مستوى شعرى، أن هذا النوع من الكتابة يتحرك عندى مع تنشيط مستوى من الوعى مختلف عن المستوى السائد بشكل ما، فيحضرنى الشعر وأنا على وشك الاقلاع، لم أعلن أيا من ذلك لكننى تذكرته بوضوح، فمن ناحية أنا لا أعتبر نفسى شاعرا، ولا مبدعا يستأهل الاستشهاد بخبرته، ومن ناحية أخرى لم أكن أرغب فى الدخول فى مناقشة مع يوسف لأننى تعلمت من “فرح بوت” كيف يأخذ معظم المناقشات بشكل شخصى بعيدا عن الموضوع المثار، فما بالك إذا تكلمت أنا عن خبرتى، قلت للأستاذ أننى أذكر بعض الحكايات عن مبدعين كانت تأتيهم الفكرة أثناء رياضه المشى، فيتوقفون ويدونونها فورا حتى قيل إن بعضهم، لا اذكر من، كان يكتب بعض ما يعن له ‏على ‏ظهر‏ ‏تذكرة‏ ‏حافلة، ‏أو‏ ‏على ‏ورقة‏ ‏شجر‏ جافة.

تذكرت خبرة أخرى لم أتحدث عنها أيضا، وهى أننى حين كنت أمارس العدو صباح كل يوم، وكنت فى نفس الوقت مشغولا بكتابة أطروحة “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” لمجلة فصول كانت تأتينى حلول تفك بعض العقبات التى كانت واقفة أمامى أثناء جلوسى على المكتب، بعضها كان يشغلنى قبل بداية العدو، ربما كنت أفكر فيها فجرا أو ليلة أمس، لكن البعض الآخر كانت تأتى حلوله برغم أنه لم يكن يشغل وعيى الظاهر فى المدى القريب، لكنه يكون كامنا طول الوقت فى حالتى الراهنة أثناء إعدادى الأطروحة، كان ذلك فى أوائل أو منتصف الثمانينات على ما اذكر، نظرت إلى يوسف القعيد قبل ان أنطق بأى شىء من هذا فوجدته جاهزا للحكم والرفض والشجب، فحمدت الله أننى لم اصرح بشىء مما خطر لى وإن كنت وددت فى نفسى ان أحكى عنه للأستاذ مستقبلا.

انتقل‏ ‏الحديث‏ ‏إلى ‏ما ألت إليه دار‏ ‏سعاد‏ ‏الصباح، ربما استطرادا من حديث عادل عزت عن أزمة النشر هذه الأيام، ‏وكيف‏ ‏أن‏ ‏المشروع‏ ‏قد‏ ‏فشل‏ ‏ولم‏ ‏يبق‏ ‏منه‏ ‏فى ‏القاهرة‏ ‏إلا‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يسمى “‏منفذ‏ ‏توزيع‏”، ‏وقال‏ ‏الأستاذ‏ “‏يا‏ ‏خسارة‏”! ‏الأستاذ‏ ‏يتمنى النجاح لكل‏ ‏جهد، ‏من‏ ‏أى ‏مصدر، ‏مادام‏ ‏فى ‏حقل‏ ‏الثقافة‏ ‏ولنشر‏ ‏المعرفة، ‏وتدخلتُ‏ ‏قائلا‏ ‏إن‏ ‏فشل‏ ‏هذه‏ ‏الشيخة‏ ‏أن‏ ‏تصبح‏” ‏امرأة‏ ‏أعمال‏” ‏لا‏ ‏ينفى ‏أننى ‏أرى ‏شِعـْرها‏ ‏جميلا، ‏رد‏ ‏عادل‏ ‏عزت، ‏ولكن‏ ‏شعرها‏ ‏كله، ‏أو‏ ‏أغلبه‏ ‏مثل‏ ‏شعر‏ ‏نزار، ‏ولم‏ ‏أكن‏ ‏قد‏ ‏لاحظت‏ ‏ذلك‏ ‏فأنا‏ ‏لست‏ ‏ملما بقدر كاف بإبداع‏ ‏نزار‏ شاعرا‏ وإن كان كل ما قرأته له وصلنى ‏جيدا‏ ‏جدا، ‏‏عادل‏ ‏عزت‏ ‏أكمل ‏أن‏ ‏عبد‏ ‏الوهاب‏ ‏البياتى ‏قال‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏القضية‏ ‏رأيا‏: ‏وهو‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏الجزم‏ ‏بأن‏ ‏نزار‏ ‏يكتب‏ ‏لها‏ ‏شعرها‏ ‏كما يزعمون، ‏لكن‏ ‏المؤكد‏ ‏أن‏ ‏ما‏ ‏يكتبه‏ ‏باسمها‏ ‏هو أحسن مما ينشره باسمه، وضحك الجميع، ‏وضحك‏ ‏الأستاذ‏ ‏وقلد‏ ‏البياتى ‏بصوته‏ ‏الأجش، ‏وظاهر‏ “‏تطجينه” على حد ما وصلنى، وأكمل وهو يحكى عن مناخ حضور البياتى‏ ‏فى ‏قهوة‏ ‏ريش‏ ‏وهو‏ ‏يقول‏ “.. ‏لكن‏ ‏المؤكد‏.. ‏إلخ‏” ‏وذكر‏ ‏الأستاذ‏ ‏كيف‏ ‏كان‏ ‏البياتى ‏فى ‏قهوة‏ ‏ريش‏ ‏جاهزا‏ ‏باستمرار‏ ‏لنقد‏ ‏وهمز‏ ‏ولمز‏ ‏وغيبة ‏ ‏أى ‏إنسان‏ ‏حتى من الحضور بمجرد ‏أن‏ ‏يدير‏ ‏ظهره‏ ‏ويترك‏ ‏الملجس، ‏وعقب‏ ‏على ‏ذلك‏ ‏توفيق‏ ‏صالح‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الطبع‏ ‏ليس‏ ‏بياتيا‏ ‏فقط، ‏لكنه‏ ‏سمة‏ ‏عراقية‏ ‏عامة‏ (وتوفيق عاش فى العراق أعواما قد أعود إلى ذكر بعض ما تحدثنا به عنها لاحقا).‏

لست‏ ‏أذكر‏ ‏كيف‏ ‏أتى ‏ذكر‏ ‏حق‏ ‏الزواج‏ ‏من‏ ‏اثنين‏ ‏دون‏ ‏تحديد‏ ‏أى من الطرفين، ‏وذكر‏ ‏يوسف‏ ‏القعيد‏ ‏تفسيره‏ ‏للآية‏: “‏مثنى ‏وثلاث‏ ‏ورباعي‏” ‏على ‏أنها‏ ‏للجمع‏ أى 2+3+4 أى تسعة ‏وليس‏ ‏أربعة، لأنها استعملت حرف “و” وليس “أو”، ‏وكيف‏ ‏أن‏ ‏النبى ‏مات‏ ‏عن‏ ‏إحدى ‏عشر‏ ‏زوجة‏ (‏قيل إن بعضهمن ‏لم‏ ‏يدخل‏ ‏بهن‏)، ‏ونبه‏ ‏الأستاذ‏ ‏على ‏أن‏ ‏زوجات‏ ‏النبى ‏لا‏ ‏يتزوجن‏ ‏من‏ ‏بعده‏ “ولم‏ ‏يحدث‏ ‏أى ‏تعليق‏ ‏متجاوز‏ ‏إلا‏ ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بتفسير‏ ‏حديث‏” ‏ما‏ ‏ملكت‏ ‏أيمانكم‏”، ‏وذكر‏ الأستاذ، أو يوسف لا أذكر، حكاية عن ‏مؤرخ‏ ‏انجليزى ‏كان‏ ‏فى ‏مصر‏ ‏على ‏عهد‏ ‏محمد‏ ‏على (لم أستطع أن ألتقط اسمه) وكيف‏ ‏كان‏ ‏يشترى ‏جارية‏ ‏من‏ ‏سوق‏ ‏النخاسين، ‏ثم‏ ‏يضطر‏ ‏أن‏ ‏يبيعها‏ ‏بعد‏ ‏أسبوع‏ بعد أن يستعملها، وكأنها رفيقة “ديسبوزال”، لكن كله مكسب، وضحك الجميع، ولم أضحك، ونظرت إلى الأستاذ فوجدت أنه شاركنى عدم الضحك، بل خيل إلى أنه تـَجَهـَّمْ.

نبهنى الأستاذ من جديد إلى موعد عيادتى، وشكرته على دقة ساعته البيولوجية، وانصرفت يملؤنى غيظ جديد، لكنه مختلط براحة غامضة أيضا، هو ليس مثل غيظ أمس، والراحة ليست مثل وَنـَس أمس.

لم تكن ليلة طيبة أو ثرية، لا أعرف كيف حكمتُ على مجملها هكذا، وتساءلت: يا ترى ماذا يفعل الاستاذ لو شعر بمثل ما أشعر به الآن بين الحين والحين، أو فى كثير من الأحيان؟

ولم أبحث عن جواب طبعا، فالأستاذ هو الأستاذ، يمارس نوعا من التلقى يقلب كل ما هو ليس طيبا إلى ما هو طيب

كيف بالله عليكم

ربنا يخليه.

الحلقة الرابعة والثلاثون

مرة أخرى.. مَنْ هم الحرافيش؟!

الثلاثاء‏: 14/2/1995

….دقائق‏ ‏هى ‏التى ‏أمضيتها‏ اليوم معهم‏ ‏فى ‏العوامة “فرح بوت”

 هذه الجلسة، وهذه العوامة، وهذه الثلة، لها تاريخ ‘طيب مستقل، بعضهم أراد أن يطلق عليها اسم “الحرافيش”، وكرر تصريحاته تلك فى وسائل الإعلام، غالبا بحسن نية، أضاف البعض الآخر مضافا إلى الثلاثاء فأصبحوا “حرافيش الثلاثاء”، وربما هذا هو ما بلغ محمد سلماوى المرة تلو الأخرى، فربما أراد أن يحدد رأى الأستاذ فى هذه المسألة، ربما، فـَنـَشـَر لاحقا ما سوف أثبته حالا.

نفيتُ مرارا أننى برغم تكريم الأستاذ لى بالسماح أن أكون من الحرافيش الاصليين، إلا أن شعورى بأن هذا تاريخ لا يصح أن يُمَسّ، كان يزداد يوما بعد يوم، ظللت أكرر للأستاذ ولنفسى تعبير أننى من “الاحتياطى” الذى قد أتيحت له الفرصة للعب مع بعض الفريق الأساسى فى الوقت بدل الضائع، وظل هو يصر على أن التاريخ يتجدد ما دمنا أحياء، ولم أهدأ قليلا إلا بعد شهور كثيرة حين نشر محمد سلماوى لاحقا، فى الأهرام، رأى الأستاذ صراحة وتحديدا، وبرغم ذلك ام أقتنع تماما الشك بموقعى الذى حدده الأستاذ، مع أنه كان بمثابة تقديم أوراق اعتمادى علانية، انتبهت -لاحقا- كيف أن الأستاذ حين خاطب سلماوى فى الحرافيش كان يتحدث بلغة الماضى معظم الوقت، مؤيدا رأيى أن الحرافيش هى تاريخ أكثر منه حاضر حالا. وثانيا : أن من ذكرتُ سالفا ممن سمعت أسماءهم من الحرافيش من الأستاذ أو من توفيق صالح ليسوا هم كل، ولا أغلب، الحرافيش، وإليكم ما جاء لاحقا على لسان الأستاذ إلى سلماوى حرفيا.

الأهرام فى 29/2/1996

من بقى من الحرافيش؟

حوار مع محمد سلماوى

…… إن ما يميز “الحرافيش” هو أنها كانت علاقة صداقة إنسانية وفنية وفكرية وسياسية، أى أنها كانت جامعة لكل شىء، لكنهم للأسف تناقصوا الآن، بعضهم بالوفاة مثل أمين الدهبى وفريد أمين وصلاح جاهين وعاصم حلمى، الذى كنا نسميه “الكابتن” وبعضهم بأن تغير فى أسلوب حياته مثل مصطفى محمود الذى اتجه إلى الدين والتصوف وكانت بداية ذلك بالتليسكوب، دعانا فى مرة إلى بيته وجعلنا ننظر جميعا إلى السماء والنجوم من خلال هذا التليسكوب فرأينا جلال السماء الذى كان أول منبه له على عظمة الله جل جلاله.

وأقول (كلام سلماوى) : لكنى ألاحظ أن “الحرافيش” كانوا يمثلون أعمارا وأجيالا مختلفة.

فيقول الأستاذ: إن علاقة “الحرافيش” لم تكن علاقة أعمار وإنما علاقة عقول لذلك كانت تتخطى السنين والأجيال، ولست أعرف من كان أكبرنا سنا.. قد يكون أنا، وما بينى وبين صلاح جاهين مثلا كانت هناك عدة أعمار، ومع ذلك فقد خُطف صلاح منا قبل الآوان، و أذكر أنه فى أواخر أيامه اتصل بنا تليفونيا ولم نكن قد رأيناه منذ فترة طويلة، وقال لنا: أنا لا أخرج الآن من غرفتى وطلب منا أن نذهب إليه، فذهبت إليه أنا وعادل كامل وآخرون، وكان قد تغير كثيرا، حيث كان يمضى ليله ونهاره فى غرفته لا يبرحها، وكأن هذه الزيارة كانت للوداع، فقد دخل بعدها فى حالة الاكتئاب الشديد وحدث ما حدث.

وأساله من الباقى الآن من “الحرافيش” فيقول: الباقون والذين ما زالوا يتقابلون بصفة منتظمة هم: أنا وتوفيق صالح وحرفوش جديد انضم إلينا له عظيم الأثر فينا جميعا هو الدكتور يحيى الرخاوى أما أحمد مظهر وبهجت عثمان وجميل شفيق فهم غير منتظمين، مظهر لصحته والآخرون لمشغولياتهم، وعادل كامل أصبح الآن مقيما فى أمريكا بصفة مستمرة، وهكذا، صفصفت الحرافيش علىّ أنا ويحيى الرخاوى فى بيت توفيق صالح وشوربة العدس التى تجيدها زوجته والتى اعتبرها أفضل شوربة عدس فى المدينة.

(إنتهت وجهة نظر فى الأهرام بالتاريخ المذكور عاليه)

 فى اعتقادى أنه لا يوجد وجه للمفاضلة أو للتنافس بين ثلة أى يوم وأى يوم آخر، بعض محبى وأصدقاء الأستاذ القدامى، كانوا يحضرون كل الجلسات كل الأيام تقريبا، ذات مرة، وأمام إصرارى اقترحت على الأستاذ بعد أن تركنا توفيق صالح لأسباب خاصة، أن يعتبرنا نحن الجدد “امتداد الحرافيش” تمييزا لنا عن “الحرافيش الأصل”، هذا الامتداد هو الذى أتاح للصديقين زكى سالم، وحافظ عزيز أن يعوضوا تناقص الحرافيش المطرد بما فى ذلك الأستاذ توفيق صالح نفسه، قلت للأستاذ إن الامتداد هو الأدق وصفا لموقفنا نحن الجدد، فيرفض ويؤكد أن الامتدادا هو تكملة للأصل، فأداعبه مذكرا إياه أن ثم شارع بالقرب من الاستاد على جانب كوبرى الفنجرى فى العباسية اسمه “شارع امتداد رمسيس”، وهو مختلف تماما، حاضرا وتاريخا عن شارع رمسيس العتيد، فيضحك الأستاذ ويستغرب، ويكاد يستبعد أن هذه هى العباسية التى نشأ فيها، ويرفض رأيى محتجا بأننى بذلك أظلم الحرافيش الجدد، وأرى أن حجتى انقلبت ضدى، فأعترف بذلك، وأفهم من كل هذا أن الحرافيش أصبح مفهوما قائما بذاته بغض النظر عن الوحدات البشرية التى تـُكَوِّنه، وأذكر اننى سألته مرة عن لماذا سمى رائعته التى اعـْتـَبـِرُها (كما وصلنى أنه هو أيضا يعتـَبِرها) أعظم أعماله باسم “ملحمة الحرافيش”، وما العلاقة بين ثلة الحرافيش وبين الملحمة، ولا أحصل على جواب شاف، وإن كنت قد فهمت بشكل عام أن التسمية ترجع أساسا إلى اقتراح أحمد مظهر، وعلاقته بالتاريخ رائعة، ولم أكن أعلم ذلك عنه، ولا أعتقد أن كثيرين يعرفون عنه بعض ذلك.

فعلا لا يوجد تنافس، ولا حتى وجه شبه بين أية جلسة وأية جلسة، بين أية ثلة وأية ثلة، اللهم إلا فى التنافس فى حب الأستاذ والرغبة فى الاقتراب منه، أكثر من الرغبة فى الانتساب إليه، ناهيك عن الظن أحيانا فى شبهة ترجيح قرب أحدنا إليه أكثر من الآخر، الأمر الذى لم ألحظه بأية درجة تتناسب مع هذه المقارنات الخفية، اللهم إلا فى أول مقابلة معه فى مستشفى الشرطة، وأنا أسأله عن أسماء الأصدقاء الذين سوف أضمنهم روشتة العلاج من ظاهرة “الافتقار إلى الناس”: “نقص الناس” (قياسا على نقص الفيتامينات)([12])، سألته يومها: من يريد أن يسمح له بزيارة منتظمة فى يوم بذاته، ساعتها ذكر لى أول ما ذكر زكى سالم، ولم أكن قد التقيته ولا مرة واحدة قبل ذلك، ثم ذكر جمال الغيطانى،(وكان توفيق صالح خارج مصر، وربما لهذا لم يذكره)، ثم أضاف: “ثم ما يرون وترى”، ولما لم تكن لى معرفة بالأقرب فالأقرب، ولا الأطيب فالأطيب، لذلك رحت أستهدى فى تنظيم جدول الزيارات فى مستشفى الشرطة برأى الاثنين المختارين آنذاك، ولم نحتج إلى أسماء أخرى كثيرة، فقد غادرنا من المستشفى بعد بضعة أيام.

من أكبر ما حيرنى وأنا أتعلم من مواقفه ومشاعره هو: كيف لا يفرق هذا الأب الجميل بيننا هكذا، ناقشته فى ذلك أحيانا بطريق غير مباشر، حتى حكيت له ما قاله لنا والدى يوما أنه “سئل أعرابى من أحب أولادك إليك، قال مريضهم حتى يشفى، وبعيدهم حتى يعود، وصغيرهم حتى يكبر”، فهز رأسه وترحم على أبى، جسدت لى حكاية أبى هذه ذلك الموقف الأبوى للأستاذ حين يمرض أحدنا أو حتى حين يمرض أى فرد من اسرنا ويبلغ الأستاذ الخبر، لم يكن أحد منا يصاب بأية وعكة مهما كانت خفيفة، إلا وسأل الأستاذ عنه طول الوقت حتى يعود بالسلامة، ولا يقتصر سؤاله على رغبته فى الاطمئنان، بل كثيرا ما كان يوصينا بما تيسر من وصايا عملية وعاطفية واجتماعية، وكان يمتد هذا التراحم الودود – كما ذكرت– إلى ما يصله إذا توعك ابن أو ابنة أى منا.

نرجع مرجوعنا إلى حكاية فرح بوت وجماعتها، كنت قد سألت الأستاذ قبل ذلك عن قصة علاقتهم بهذه العوامة، فحكى لى وهو يضحك نبذة عنها قال: إنها بمثابة “وقف” من مصرىّ كريم هو الأستاذ الدكتور “إبراهيم كامل”، أستاذ الجامعة ورجل الأعمال، وحين استفسرت منه عن ماذا يعنى بكلمة “وقف”، ضحك وقال هو وقف ولكنه ليس تابعا لوزارة الأوقاف التى كنت أعمل بها، وإلا لما عتبناها، ثم أضاف: إن كونه وقفا يعنى أن المجتمعين لا يدفعون شيئا فى هذا اليوم لأنهم ضيوف صاحب العوامة، فتذكرت، وذكرت له ما يمكن أن يقابل ذلك فى قريتنا، وكيف كنا ونحن بعد صبيانا نلف على الدواوير الواحد تلو الآخر، وكل أسرة كبيرة تفتح دوارها لسهرة رمضان حيث يقرأ القرآن على فترات متباعدة ليتبادل الناس الحديث، وكنا نعرف أى الدواوير تقدم ماذا، هذا قرفة باللبن، وهذا “دارسينى، ولم أنجح أبدا أن أميز بين طعمه وطعم القرفة، وكان التمييز فقط بوجود تلك القشور، ودوار آخر فيه حلبة حصا ممتازة، الأستاذ يرحب دائما بذكرياتى عن قريتنا وعاداتها، وقد لاحظت ذلك عموما وعددته من باب حب استطلاعه وشغفه بمعرفة كل ما لم تتح له فرصة معرفته على أرض الواقع مباشرة

 نكمل الحديث عن مزيد من تاريخ “فرح بوت”: قال لى الأستاذ أنه قد حدث تطور فى تفاصيل موقف “المنتفعين” بالوقف، ذلك أنه فى البداية يبدو أن بعض الأصدقاء ما صدق أن الوقف وقف بحق، وأنه دعوة مجانية فعلا، حتى قد اخذوا راحتهم فى الطلبات كماًّ و”نوعا”، لكن الباقين، وهم الأكثر، انتبهوا إلى مغزى التجاوز فى ذلك قبل ان ينتبه صاحب الوقف، وخوفا من الحرج تصارحوا مع بعضهم البعض، حتى تم الاتفاق على “سقف”، و”نوع” الطلبات، بطريقة ودية سرية.

لاحظت من أول يوم أن الأستاذ يحب هذا المكان، ويحب هذه الثلة، بدا لى أنه كان فرحا منتشيا هذه الليلة أكثر قليلا من كل ليلة، تأكدت أنه ‏ ‏يتمتع‏ ‏بهذه‏ ‏الصحبة‏ ‏بشكل خاص وبانطلاق خاص، جماعة شديدة التنوع، ثرية الاطلاع، وافرة المعلومات، تحيطه بحب حقيقى طول الوقت، فيتحابون بين بعضهم البعض من خلال توحد توجه حبهم نحوه: ‏جمال‏ ‏الغيطانى ‏طيب عريق بحدة صعيدية أحيانا، ‏والقعيد‏ ‏طلِق صريح لا تنفد جعبة أخباره، يسأله الأستاذ بمجرد أن يحضر عن “نشرة الأخبار”، وأذكر أننى تحدثت عن بعضهم سابقا، لكن هناك غيرهم ممن لم تتح لى فرصة الاختلاط بهم حتى أحكى عنهم، حيث هذه الكتابة تختص بالشهور القلائل الأولى، فقد لحق بهم مثلا عبد الرحمن الأبنودى، فى فترة كنت قد انقطعت نهائيا عن زيارة العوامة إلا فى المناسبات، كما كنت قد توقفت عن كتابة هذه اليوميات.

قبل مغادرتى العوامة اليوم فضلت أن أعلن الجميع بما انتهيت إليه من تحديد أماكن اللقاء التى استقر الرأى عليها بالتجربة والخطأ، واقترح أحدهم، ربما القعيد ألا نثبـّتها هكذا، وأيضا ألا نعلنها، وان تكون قابلة للتغير باستمرار، واعترضتُ، كما اعترض أغلب الحاضرين، وكانت مبررات الاعتراض أن من أراد أن يعرف خط سيرنا من الجماعات أو غيرهم، فهذا لن يكلفه إلا متابعتنا لبضعة أيام من بعيد لبعيد، قبل أن ينفذ ما يدبر، رجحت بسوء ظن احتمال قلق القعيد من أن يكون لقيامى وحدى شخصيا بترتيب هذه التفاصيل فضل معين، وأنا حديث عهد بصحبة الأستاذ مقارنة بأى واحد منهم، مال القعيد على واحد بجواره، ليس الغيطانى، وهمس إليه بما لم أسمع، ارتاحت أسارير القعيد فرجحت أن ظنى كان فى محله وهو يهمس لجاره، لماذا اشعر أنى عامِلٌ “عملة” حين أقوم بحسم الاختيارات المتاحة دون مشورة الباقين، علما بأنه لم يكن يمكن استفتاء أفراد كل جماعة على حدة، وكنت أضحك مع الأستاذ حين أقول إننى سوف أثبت له أن الديمقراطية معطـِّلة، وأننا لو طبقناها لاختيار الأماكن لجلسنا أنا وهو فى المنزل طول العمر ننتظر نتائج التصويت، ويضحك عاليا ويتنازل عن تعميم استعمال الديمقراطية لأسباب موضوعية، فأضحك بدورى وأقبّـل رأسه.

المهم وصل الجميع جدول أيام الأسبوع، وكان الجديد هو تحديد أن يوم الأحد، وهو اليوم الذى ظل متذبذبا حتى الآن سوف يكون فى فندق ‏سوفيتيل‏ ‏المعادى (وإن كان قد تغير بعد ذلك إلى فندق شبرد، واختص فندق سوفيتل المعادى بيوم الأربعاء).‏

من بين ما‏ ‏التقطته‏ ‏من‏ ‏حديث‏ ‏الليلة‏ ‏كان‏ ‏عن‏ ‏ذكريات‏ ‏الغيطانى ‏مع‏ ‏وزير‏ ‏الدفاع العراقى‏ ‏زميل‏ ‏صدام‏ ‏وقريبه، ‏والذى ‏أعدمه‏ ‏ ‏بيديه‏ ‏شخصيا، ‏حيث‏ ‏أطلق‏ ‏عليه‏ ‏الرصاص‏ ‏بنفسه‏ ‏من‏ ‏باب‏ ‏”المعزة” ‏ ‏الخاصة، ‏وسرى ‏حديث‏ ‏عن‏ ‏تعدد‏ ‏الأديان‏ ‏والأعراق‏ ‏فى ‏العراق‏ ‏وخاصة‏ ‏فى ‏الشمال، ‏وأن‏ ‏وجود‏ ‏شيعى ‏بين‏ ‏قادة‏ ‏الجيش‏ ‏كان‏ ‏بمثابة‏ ‏وجود‏ ‏جاسوس‏ ‏إسرائيلى ‏فى ‏الجيش‏ ‏المصرى، ‏ولم‏ ‏ينس‏ ‏الغيطانى ‏وصف‏ ‏سحر ‏ ‏الطبيعة‏ ‏فى شمال‏ ‏العراق، ‏وكيف‏ ‏أنه‏ ‏أجمل‏ ‏من‏ ‏سويسرا فعلا، ‏ووصف‏ ‏اختلاف‏ ‏الأديان‏ ‏والأعراق‏ ‏وتعايشهم‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏أنه‏ ‏شيء‏ ‏أشبه‏ ‏بالموازييك‏ ‏وليس نغمات نشاز متجمعة عشوائيا، وأن ذلك يمكن أن يرجع إلى تلقائية ما فى هذا الشعب، أكثر من تنظيم سلطوى مكتوب، ثم ذكر أن‏ ‏ثمة‏ ‏جماعة محدودة‏ ‏هناك‏ ‏فى ‏الشمال‏ ‏مازالت‏ ‏تعبد‏ ‏الشيطان، وسأله أحدنا عن ماذا وصله من ‏وجهة‏ ‏نظر‏ ‏هذه‏ ‏ الجماعة تبريرا لهذه العبادة، فقال – اجتهادا غالبا – ‏ إنهم يعتقدون ‏أن‏ ‏الله‏ ‏لا‏ ‏يأتى ‏منه‏ ‏سوى ‏الخير، ‏فلا‏ ‏يخشى ‏منه‏، فهو لا يحتاج إلى أن نرشوه بالعبادة حتى ينزل الخير على البشر، ‏أما‏ ‏الشيطان‏ ‏فإنهم‏ ‏بعبادتهم له، يتقون شره، ثم أضاف معلومة طريفة، وهى أن هذه الجماعة تتجنب استعمال حرف الشين، ليختص معبودهم الشيطان بهذا الحرف وحده، فمثلا هى تتجنب‏ ‏أو‏ ‏تستبدل‏ ‏ألفاظا مثل ‏”شطاطة‏” ‏الكبريت‏، باسم آخر (لا أذكره) فعقب‏ ‏الأستاذ‏ ‏ضاحكا‏: ‏فماذا‏ ‏كانوا‏ ‏يسمون‏ “‏الشيشكلى‏”، وضحكنا، وكنت كدت أنسى أنه قائد الانقلاب الثانى بعد حسنى الزعيم فى سوريا، ولا هذا ولا ذاك أدركه بعض الحاضرين الأصغر مثل ‏محمد‏ ‏يحيى (إبنى) ‏الذى ‏سألنى ‏عن‏ ‏الاسم‏ ‏فيما‏ ‏بعد‏.‏

سألت‏ ‏الأستا‏ذ ‏كيف‏ ‏يتصور‏ ‏البعض أن‏ ‏صدام‏ حسين ‏قضى ‏على ‏الإرهاب‏ ‏فى ‏العراق؟ ‏فقال‏ ‏الاستاذ‏: ‏إنه‏ ‏أمـَّمَ‏ ‏الإرهاب‏ ‏فأصبح‏ ‏هو‏ ‏الإرهابى ‏الأكبر‏ ‏أو‏ ‏الأوحد‏.‏

لا حظ ‏حسن‏ ‏ناصر‏ ‏بحب طيبِّ أن ‏صوت‏ ‏الأستاذ‏ ‏قد‏ ‏تحسن‏ ‏ كثيرا، فحمدت‏ ‏الله‏ ‏كثيرا‏.‏

وانصرفت‏ بعد أن نبهنى الأستاذ أن اليوم هو الثلاثاء، وأن هذا هو موعد عيادتى.

يا لهذا الوالد أهو أجمل والد بين كل آبائى الذين استعرتهم خفية طوال حياتى (سبق الكلام عليهم تقريبا).‏

الحلقة الخامسة والثلاثون

.. إنت معانا ولاّ مع التانيين؟!

الأربعاء: 15/2/1995

…. فتح‏ ‏جديد‏ ‏ومكان‏ ‏جديدا، ‏سوفيتيل‏ ‏المعادى، ‏سبقتُ ‏ ‏الأستاذ‏ لأطمئن على المكان، وأدعى الاطمئنان على الأمان، كان محمد إبنى هو الذى سيصحبه اليوم هو وتوفيق صالح إلى الفندق، بعد أن عاينت المكان الذى أعدَّ بناء على الاتفاق مع ابن أخى مدير سوفيتيل المطار، نزلت – غير مقتنع – إلى بهو الاستقبال، وجلست فى الانتظار، وجدت شخصا ذا ملامح مألوفة يجلس بجوارى وينظر إلىّ مترددا، بادلته النظر فى تردد، ‏أنتظرُ الأستاذ ‏ ‏قادما‏ ‏مع‏ ‏محمد‏ ‏والأستاذ‏ ‏توفيق‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏اطمأننت‏ ‏على ‏الجارى نسبيا، ‏هذا الإنسان الطيب الجالس‏ ‏بجوارى ‏فى ‏بهو‏ ‏الاستقبال‏ ‏أكاد‏ ‏أعرفه‏ ‏لكننى ‏لم‏ ‏أجرؤ‏ ‏على ‏بدء‏ ‏التحية‏ ‏أو‏ ‏السؤال، ‏فبدأ‏ ‏هو‏ ‏قائلا‏: “‏فلان‏؟ (‏د‏. ‏يحيى ‏الرخاوى؟‏)”‏؟‏ ‏قلت‏ ‏نعم، ‏قال‏: ‏أنا‏ ‏صلاح‏ ‏فضل!! ‏يا خبر!! أنا لم أره من قبل ولا أذكر حتى أننى لمحت صورته فى الصحف، فمن أين أتت هذه الألفة؟ هذا‏ ‏الناقد المهم ‏ ‏أحترمه‏ ‏منذ‏ ‏قرأت‏ ‏له‏ كتابه عن “‏الواقعية”،‏ ثم إنى أسمع‏ ‏أنه‏ ‏يذكرنى ‏بالخير‏ ‏هنا‏ ‏أو‏ ‏هناك، لكنه لا ينقد أعمالى أبدا، ترى لماذا؟ ‏سألنى ‏عن‏ ‏إنتاجى ‏اللاحق‏ ‏لروايتى ‏ ‏فقلت‏ ‏له‏ ‏أننى انتيهت‏ ‏من ‏بعض‏ ‏الكتابات‏ ‏لكننى ‏لا‏ ‏أنشرها، ‏طلبها‏ ‏منى، ‏وذكر‏ ‏أن‏ ‏جهات‏ ‏كثيرة‏ ‏مستعدة‏ ‏لأن‏ ‏تنشر‏ ‏لى، ‏وأن‏ ‏عزوفى ‏عن‏ ‏النشر‏ ‏ليس‏ ‏بسبب‏ ‏عدم‏ ‏وجود‏ ‏ناشرين، ‏ولكنه‏ ‏يرجع‏ ‏إلىّ ‏أنا، ‏ربما‏ ‏خوفا‏ ‏من‏ ‏التعرى ‏أو‏ ‏النقد، ‏قلت فى نفسى: “ربما”، ‏سألته‏ ‏عما‏ ‏أتى ‏به‏ ‏إلى ‏هنا‏ ‏الآن، ‏فقال‏ ‏إنى ‏فى ‏انتظار‏ ‏الأستاذ‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ، لقد علمت أنه يحضر هنا اليوم، سألنى بدوره عن سبب حضورى، فابتسمت، وقبل أن أجيب دخل الأستاذ علينا هو ومحمد والاستاذ توفيق، وحيا الأستاذ جارى صلاح فضل، ويبدو أنه لم يجد صعوبة فى التعرف عليه بالرغم من حالة النظر، وصعدنا إلى حيث أعدُّوا مكان اللقاء.

 المكان بسيط وطيب، صحيح أنه فى الدور الرابع، وأنه إحدى الحجرات الخالية، لكنه يشعرك أنك فى منزل ولستَ فى فندق، قلقت قليلا خشية أن تنشغل الحجرة يوما فى موسم سياحة مزدحم، والأستاذ إذا أَلـــِفََ مكانا ما حَفَرَ له تمثالا فى وعيه يسكن إليه كلما حل به، قررت أن أنبه ابن أخى الذى رتب لنا المكان أن تظل هذه الحجرة بالذات هى مكان لقائنا باستمرار، أو أن يـُعـَدُّوا لنا ركنا آخر بعيدا عن حجرات النزلاء، (وفعلا اتصلت به لاحقا، وقام باللازم).

 ‏حضر‏ ‏على ‏سالم‏ ‏لأول مرة، إنسان فخم بصوته الجهورى الذى يرن صداه فى أرجاء بدنه الجسيم أعلى من رنينه فى أرجاء الحجره، يشعرك أن صوته يحيط بمن يسمعه، بدا لى حضوره بنفس التجسيد، وربما بدت لى ذاته كذلك، ما زلت أذكر له شجاعته فى مسرحية “عفاريت مصر الجديدة” فى عز أيام الضبط والربط، ‏قمت من جوار الأستاذ ‏ ‏وأجلسته‏ ‏مكانى لعله يستغنى عن علو صوته الذى خيل إلىّ أنه كان يهز أرجاء الحجرة الصغيرة، ‏ ‏بدأ توافد أصدقاء جدد، ففرحت أنهم عرفوا المكان من أول لقاء، وقلت فى نفسى: ها هى ثلة جديدة تتكون من محبين قدامى غالبا، وعادت لى فكرة التأمين الخادع، هؤلاء الناس المحبـّون الطيبون يعرفون تحركاتنا الجديدة قبل أن نلتقى فى مكان جديد لأول مرة، فما بالك بمن يريد أن يترصد حركتنا قصدا، ربنا هو الحارس حتما، لم أعلن أفكارى هذه مرة أخرى خشية أن تثير توجسات لا لزوم لها، مع أن القعيد صاحب فكرة التنقل المستمر للتخفى لم يكن حاضرا، وهو لم يحضر أبدا إلى سوفيتيل المعادى، وحضوره سوفيتيل المطار كان مصادفة كما ذكرت، ربما للقرب من بيته.

حضر‏ ‏شخص‏ ‏جديد لا أعرفه، وسلم‏ ‏عليه‏ ‏الأستاذ‏ ‏بحراره، ‏وعرفنى ‏بنفسه   ‏د‏. ‏محمد‏ ‏حسن‏ ‏عبد‏ ‏الله، ‏يا للفرص الطيبة، هو‏ ‏استاذ‏ بكلية‏ ‏الآداب،‏ وهو ‏الذى ‏كتب‏ ‏عن‏ ‏الروحانية‏ ‏أو‏ ‏الإيمانية‏ (‏أو‏ ‏الاسلام‏) ‏فى ‏أدب‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ،/ ‏أبلغنى‏ ‏أنه كتب كتابه هذا ردا‏ ‏على ‏كتاب‏ ‏غالى ‏شكرى “‏اللامنتمي‏”، ‏أنا لم أحب لا هذا العمل ولا ذاك، وأعتقد أن قراءتى لهما كانا مصدر التعبير الذى استهللت به مقدمة كتابى فى نقد بعض أعمال الأستاذ بهذا التعبير: “‏خذ‏ ‏من‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏ما‏ ‏شئت‏ ‏لما شئت‏”، أذكر بالكاد كيف كتب أ.د. عبد الله فى مقدمة كتابه هذا أنه عَرَض أفكار الكتاب على الأستاذ، وأن الأستاذ أقر وجهة نظر الكاتب كلها، ما ضايقنى ليس موافقة الأستاذ كعادته، ولكننى توقفت عند حكاية أن يوافق الاستاذ على “كل ما جاء فى عمل ما”، فمن ناحية هذا ليس من طبعه، ومن ناحية أخرى أعتقد أن هذا ليس مديحا طيبا لعمل جيد، راح الأستاذ الدكتور محمد حسن ‏يحكى ‏لعمنا‏ نجيب عن ‏آخر‏ ‏أعماله‏ ‏عنه، ‏وكيف‏ ‏أنها‏ ‏ستصدر‏ ‏قريبا‏ ‏فى ‏إصدارات‏ ‏قصور‏ ‏الثقافة، ‏ثم‏ ‏جاء‏ ‏ذكر‏ ‏جائزة‏ ‏الملك‏ ‏فيصل،‏ ‏وأظن‏ ‏أن‏ ‏حمدى ‏السكّوت‏ ‏قد‏ ‏حصل‏ ‏عليها‏ ‏عن‏ ‏أعماله‏ ‏التوثيقية عن‏ ‏العقاد، ‏أو شىء من هذا القبيل، لا أذكر التفاصيل، أضاف أ.د. عبدالله أن السكوت يـُعـِدّ ‏‏السيرة‏ ‏الخاصة‏ ‏بالأستاذ‏ ‏وما‏ ‏نشر‏ ‏عنه‏ ‏وما‏ ‏نشر‏ ‏له، ‏وقيل تعليقا على هذا أنه سوف يواجه فيضا‏ ‏لا‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يلم‏ ‏به، ‏فعقب دكتور عبد الله “أن: “فعلا، وأن هذا العمل قد يصدر فى أكثر من‏ ‏جزءين”.

 غيّر على سالم الموضوع باقتحام قوى طريف عالى الصوت مازال، وقف واقترب من الأستاذ وكأنه يهم بالسلام للمغادرة، لا حظته من جديد ‏طويلا‏ ‏جسيما، ‏خيل إلى أن سمنته زادت‏ ‏عن لحظة دخوله، ‏ ‏فبدا لى ‏مترهلا‏ ‏مخيفا‏، ‏لكن‏ ‏خفة‏ ‏ظله‏ ‏وصوته‏ ‏الجهورى أبلغانى‏ ‏أنه‏ ‏هو‏ ‏هو المصرى الطيب القوى الواضح برغم كل شىء، ‏تركت‏ ‏له‏ ‏مكانى ‏بجوار الأستاذ  مع ترجيحى أنه ربما لا يحتاج إلى كل هذا الصوت العالى، ‏لكن‏ على سالم ‏راح ‏يصيح‏ ‏منفلتا‏ ‏بالنكات‏ ‏المناسبة‏ ‏وغير‏ ‏المناسبة، ‏مما لا يمكن حكيه كله، والأستاذ يضحك ضحكات مختلفة لا يمكن أن تميز أيها للمجاملة وأيها للمشاركة وأيها للاستحسان، ‏ ‏لكن‏ ‏نكتة‏ ‏واحدة شدّنى بوجه خاص إذْ‏ ‏كانت‏ ‏ذات‏ ‏دلالة‏ ‏مناسبة يمكن حكيها:

‏يـَحـْكِى‏ على سالم بطريقته: ‏إن‏ ‏جماعة‏ ‏خرجوا‏ ‏على ‏عابر‏ ‏سبيل‏ ‏ومعهم‏ ‏الرشاشات‏ ‏يسألونه‏ ‏مهددين مشهرين أحد الرشاشات فى وجهه‏: ‏”إنت‏ ‏معانا‏ ‏ولا‏ ‏مع‏ ‏التانيين؟”. فارتج‏ ‏ ‏عابر‏ ‏السبيل‏ ‏وقال‏ ‏مرعوبا‏: “‏من‏ ‏أنتم، ‏ومن‏ ‏التانيين؟‏” حتى يتمكن من الرد، فلم يعجبهم هذا التلكؤ، وكرروا بحدة أكثر وتهديد بادٍ: “‏إنت‏ ‏معانا‏ ‏ولا‏ ‏مع‏ ‏التانيين”، مرة وأكثر، ‏ ‏فزاد‏ ‏رعب الرجل وقرر أن ينضم إلى الناحية الأضمن، وينحاز لهم دون التانيين، وأجاب أخيرا “أنا معاكم، طبعا”، وبسرعة ‏فتحو‏ ‏عليه‏ ‏النار‏ ‏وقتلوه‏ ‏وهم يقولون:‏ “‏إحنا‏ ‏التانيين‏”،

وضحك الأستاذ طويلا وواسعا، وأعقب ذلك حديث ينبه على مغزى النكته الرائع وأن أحدا لم يعد يعرف “مَنْ يحارب مَنْ؟”، ومن بين ما قيل إشارات إلى دور أمريكا فى حفز الإرهاب بما فى ذلك إرهاب القاعدة، تاريخا قريبا، وحاضرا ماثلا، وأنها    – أمريكا–  عميل مزدوج لجماعات ظاهرة وخفية، ولم يدافع أحد عن أمريكا، ولم يعلن أحدهم البديل المحتمل، ومن هو السيد الحقيقى الذى يستخدم كل هؤلاء العملاء، وإن كنت أشك أن الأستاذ وافق على ذلك كله بصفة عامة،! كيف؟ لا أدرى.

كان من بين النكات التى أطلقها على سالم نكتا عن الجنة، وأخرى عن الملائكة، وثالثة عن بعض الأنبياء وهذا ما جعلنى أقول فى البداية أننى لن أسجلها، لكننى وجدت ميلا الآن أن أسجل أن النادل سمع طرفا منها وهو يحضر الطلبات، وأن حارس الأستاذ (وهو شاب اصبح صديقا من طول العشرة، حتى أنه حين تزوج لاحقا حضرت حفل عرسه ورقصتُ له فيه)، أقول إننى كنت أتابع تعبيرات وجه الحارس ووجه النادل وهما يستمعان عن بعد لهذا التجديف، وأرصد الرفض الغاضب وأعذرهما، وكدت أطلب من على أن يخفف من اندفاعه حرصا على مشاعرهم، أو أن أنبه الأستاذ إلى ما يظهر على وجوههم، لكننى عدلت عن هذا وذاك باقتناع أن الاستماع مسئولية من يستمع، وأنه لا يليق ان أشغل الأستاذ بما لم يصله مباشرة فأزيد قلقه، وليكن ما يكون.

تابعت تعبيرات وجه الأستاذ بالنسبة لنكت التجديف هذه، فوجدت أنه لا يضحك، ولا يبتسم، لكنه أيضا لا يغضب ولا يعترض، حتى تعبيرات وجهه اتسقت مع موقفه المتسامح بكل هذا الاتساع، خرجت من الحجرة مصادفة، لا أذكر لماذا، وإذا بى أرى النادل وقد مال على زميل له، وازداد وجهه عبوسا وخيل لى أنه يحكى لهذا الزميل ما يجرى داخل الحجرة من تجديف، تساءلت بينى وبين نفسى: ‏لماذا‏ ‏يدفع‏ ‏الأستاذ‏ ‏ثمن‏ ‏هذه‏ ‏التجاوزات؟‏ ‏لا‏ ‏أحد‏ ‏سيذكر‏ مثلا ‏على ‏سالم، ‏وأنه‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏قال ما قال على مسئوليته، أعتقدت أن رواية بعض ما حدث سوف تنتقل من نادل إلى بواب إلى زوجة إلى جارة إلى سائق ميكروباص إلى مسجد، وسوف يتردد أن هذا الكفر هو ما يجرى فى مجلس الأستاذ نجيب محفوظ، ولا أستبعد أن تعاد هذه النكات على أنه هو الذى قالها، ثم خذ عندك…، لم أخَفْ، لكن غيظا جديدا غمرنى فازددت غيظا.

متى ‏يشعر‏ ‏الناس‏ ‏أنهم‏ ‏يعيشون‏ ‏فى ‏مجتمع‏ ‏غير‏ ‏الذى ‏تـُصـَوِّرُه لهم عقولهم؟ قلب هذا الموقف كيانى، ‏ ‏وأشفقت‏ ‏على ‏الأستاذ‏ ‏وعلى ‏النادل، ‏وعلى ‏الحارس، ‏وعلى ‏نفسى، وعلى الناس، لكننى لم أخف.‏

انفتح‏ ‏حديث‏ ‏الديمقراطية‏ ‏من جديد، الذى فتحه هذه المرة كان ‏‏على ‏سالم‏ وأعلن أن الديمقراطية سوف تأتى بهؤلاء الإسلاميين لا محالة، ‏لكن‏ ‏صلاح‏ ‏فضل‏ ‏نبهه‏ ‏أن‏ ‏وعى ‏الشعب‏ ‏المصرى ‏الآن‏ ‏يتزايد‏ ‏فى الاتجاه المضاد، حتى ‏أنه‏ ‏لو‏ ‏أتيحت‏ ‏الفرصة‏ ‏الكافية‏ ‏قبل‏ ‏الانتخابات‏ ‏فإنه‏ ‏ربما‏ ‏سقط‏ ‏هؤلاء‏ ‏الإسلاميون‏ ‏فى ‏الانتخابات، ‏وأن الشعب المصرى له ذائقة تاريخية يميز بها الزيف من الحقيقة، ‏ورد‏ ‏الأستاذ‏ ‏بما‏ ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏سمعته‏ ‏منه‏ ‏وأثبته‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏التداعيات‏ ‏مرات‏ ‏عديدة‏ ‏مما‏ ‏لا‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏إعادة، ‏وخلاصته‏ ‏أن علينا‏ ‏أن‏ ‏نقبل‏ ‏واقع‏ ‏الناس‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏أساؤوا‏ ‏الاختيار، وكرر أن هؤلاء الناس هم الذين ‏أنجزوا واختاروا ‏عرابى ‏وهم‏ ‏الذين‏ ‏اختاروا‏ ‏سعد‏ ‏زغلول، ‏وجمال‏ ‏عبد‏ ‏الناصر، ‏فلماذا‏ ‏نأتى ‏الآن‏ ‏ونشكك‏ ‏فى ‏قدرتهم‏ ‏على ‏الاختيار، ‏ثم‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏أساؤوا‏ ‏‏الاختيار‏،‏فدعونا‏ ‏نعيش‏ ‏الواقع كما هو، فإما نحن قادرون على دفع الثمن حتى نغيره، وإما أننا لا نستأهل إلا ما يحدث، يا‏ ‏أستأذى، يا شيخى الجليل، من أين تأتى بكل هذا ‏ ‏الإصرار والتحمل والشجاعة طول الوقت هكذا؟ كيف تصر على موقفك هذا البالغ القوة والقدرة والثقة فى ناسك هكذا؟ لكن موقفك هذا، حتى الآن على الأقل، لم يساعدنى أن أتغير، أنت‏ ‏وآراؤك‏ ‏على ‏عينى ‏ورأسى ‏ولكن اسْمـَحْ‏ ‏لى ‏أن أختلف، وأن ‏ ‏أحتفظ‏ ‏بحقى ‏فى ‏التحفظ‏.‏

مرة أخرى: لست‏ ‏أدرى ‏ما‏ ‏الذى ‏أتى ‏بذكر‏ ‏ثروت‏ ‏أباظة،‏ ‏ربما‏ ‏ذكر‏ ‏أحدهم‏ ‏رأيا‏ فى ‏روايته‏ ‏الجديدة‏، ‏قال‏ ‏الأستاذ‏:‏ إن‏ ‏ما‏ ‏يعجبنى ‏فى ‏ثروت‏ ‏أنه‏ ‏من‏ ‏القلائل‏ ‏الذين‏ ‏لا‏ ‏يخجلون‏ (‏ولم‏ ‏يخجلوا‏) ‏من‏ ‏انتمائهم‏ ‏للطبقة‏ ‏العليا‏ (‏لا‏ ‏فى ‏حياته‏ ‏ولا‏ ‏فى ‏كتابته‏)، ‏وهذه‏ ‏شجاعة‏ ‏وموقف‏ ‏يحسب‏ ‏له، ‏ذلك‏ ‏لأنه‏ ‏جاء‏ ‏علينا‏ ‏وقت‏ ‏كان‏ ‏الواحد‏ ‏منهم‏ ‏يقول‏ (‏وهو‏ ‏يفخر‏ ‏غالبا‏) “‏يا‏ ‏جماعة‏ ‏أنا‏ ‏لست‏ ‏باشا‏ ‏ولا‏ ‏إبن‏ ‏باشا‏ ‏ولا‏ ‏يحزنون، ‏أنا‏ ‏ابن‏ ‏قحبة”

 ‏وضحك‏ ‏الأستاذ‏ ‏وضحكنا، ‏وفرحت‏ ‏بالملاحظة‏.‏

كان‏ ‏الحديث‏ ‏فى ‏البداية‏ ‏قد‏ ‏تناول‏ ‏عملية‏ ‏التشوية‏ ‏التى ‏يقوم‏ ‏بها‏ ‏أولاد‏ ‏السحـار‏ ‏فى ‏قصص‏ ‏إحسان‏ ‏عبد‏ ‏القدوس‏ ‏وغيره، ‏وأنهم‏ ‏يشطبون‏ ‏ألفاظا‏ ‏ويضيفون‏ ‏ألفاظا، ‏فمثلا‏ ‏حين‏ ‏تقول‏ ‏الجملة‏ “‏وكانت‏ ‏تمشى ‏متثنية‏ (‏يضيف‏: ‏لأنها‏ ‏بلا‏ ‏دين‏).. ‏وهكذا، ‏وقلت‏ ‏للأستاذ‏ ‏إنهم‏ ‏فى ‏السعودية‏ ‏منعوا‏ (‏أو‏ ‏خاف‏ ‏الموزع‏ ‏أن‏ ‏يمنعوا‏) ‏دخول‏ ‏روايتى ‏”المشى ‏على ‏الصراط‏” ‏لأن‏ عنوان ‏الجزء‏ ‏الثانى ‏منها‏ كان: “‏مدرسة‏ ‏العراة‏”، ‏فقال‏ ‏الأستاذ‏ ‏إنهم‏ ‏رفضوا‏ ‏دخول‏ روايته: “‏بين‏ ‏القصرين‏” ‏لأن‏ ‏كلمة‏ ‏قصر‏ ‏مكتوبة‏ ‏فيها، ‏وذكر‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏موقف‏ ‏تاريخى، ‏وأن‏ ‏مجلة‏ ‏ما‏ (‏لا‏ ‏أذكر‏ ‏اسمها‏ – ‏ذكره‏ ‏الأستاذ‏) ‏كانت‏ ‏تصدر‏ ‏عدة‏ ‏طبعات‏ ‏وترسل‏ ‏كل‏ ‏طبعة‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏يناسبها‏ ‏من‏ ‏الأقطار‏ ‏العربية، ‏فطبعة‏ ‏للسعودية، ‏وطبعة‏ ‏للمغرب، ‏وطبعة‏ ‏لمصر‏ ‏وهكذا، ‏كما‏ ‏نبه‏ ‏الأستاذ‏ ‏إلى ‏أن‏”‏السحارين‏” (‏هكذا‏ ‏يسمى ‏ورثه‏ ‏السحار‏) ‏لايتداولون‏ ‏من‏ ‏قصص‏ ‏إحسان‏ ‏إلا‏ ‏ما‏ ‏يُرسل‏ ‏إلى ‏السعودية‏، ‏لكننى ‏نبهت‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏تشوية‏ ‏للتاريخ‏ ‏وليس‏ ‏فقط‏ ‏لنـْسَخٍ‏ ‏بذاتها، وأضفت: إن اختلاف نسخ عمل ما هو غير اختلاف الرواية الشفاهية لتاريخ ما.

ثم ‏جاء‏ ‏ذكر‏ ‏تأثير المسئول عن الثقافة إن كان محافظا أم مسامحا، وقيل إن ‏عبد‏ ‏القادر‏ ‏القط‏ ‏ربما‏ ‏يكون‏ ‏مسئولا‏ ‏عن‏ ‏بعض‏ ‏ذلك، ‏ذكر‏ ‏صلاح‏ ‏فضل‏ ‏أن‏ ‏القط‏ ‏هو‏ ‏محافظ‏ ‏بطبعه، ‏وأنه‏ ‏ذات‏ ‏مرة‏ ‏أتت‏ ‏له‏ ‏إحدى ‏الشاعرات‏ ‏بشعر به مواجهة‏ ‏قاسية مع “صورة الأب”، ‏‏فرفض‏ ‏نشر قصيدتها، ونصحها‏ ‏أن‏ ‏تكتب‏ ‏شعرا‏ ‏برا‏ ‏بوالديها‏ ‏صاحبـَىْ ‏الفضل‏ عليها، ‏فخرجت‏ ‏من‏ ‏عنده‏ ‏باكية‏ ‏متألمة‏ ‏أكثر‏ ‏منها‏ ‏متعجبة أنه نسى أنها قدمت له قصيدة شعر وليس موضوع إنشاء‏.‏

وانصرفتُ‏ ‏ ‏وأنا‏ ‏لا أكاد أصدق‏.‏

الحلقة السادسة والثلاثون

الطيبة القوية

الأحد‏: 19/2/1995

 ‏أضع‏ ‏يدى ‏على ‏قلبى ‏كلما‏ ‏اقترحت‏ ‏مكانا‏ ‏تصورت‏ ‏أنه‏ ‏سيريح‏ ‏الأستاذ، لم نستقر بعد بشكل نهائى على تحديد أى الأماكن أفضل فعلا للقاءاتنا المنتظمة، ما زلنا فى مرحلة الاختبار أملا فى حسن الاختيار فالاستقرار، اليوم نجرب فندق ‏الماريوت، ‏ ‏الخديوى ‏اسماعيل، ‏الإمبراطورة‏ ‏أوجينى، ‏لطف‏ ‏الله‏ ‏باشا، ‏جمال‏ ‏عبد‏ ‏الناصر، ‏تتلاحق‏ ‏الصور‏ ‏مع‏ ‏تلاحق‏ ‏دقات‏ ‏قلبى ‏حرصا‏ ‏على ‏راحة‏ ‏الأستاذ‏ ‏وأملا‏ ‏فى ‏قبوله‏ ‏للمكان‏ ‏الجديد، ‏يستقبلنا‏ ‏الناس‏ ‏الطيبون الذين هاتفتهم أمس وعرفنى رقمهم أيمن ابن أخى الفـُنـْدقىّ السالف الذكر، ‏كل‏ ‏الناس‏ ‏طيبون‏ ‏إذا‏ ‏ما‏ ‏ذكر‏ ‏الأستاذ، “‏ناجى ‏عبد‏ ‏المسيح” هو ‏إسم‏ ‏المدير‏ ‏المسئول‏ ‏الذى ‏كان فى استقبالنا خصيصا، ‏أحسست‏ ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏ناجى ‏ولا‏ ‏عبد‏ ‏المسيح‏، وليس “أى بيه” مديرا مسئولا، وصلنى كأنه أحد أصدقاء والدى – شخصيا – السريين ممن يعملون عنده ويصادقهم من ورائنا غالبا، ‏ربما‏ ‏يكون‏ ‏عم‏ ‏محمد‏ ‏السعداوى ‏خفير‏ ‏حظيرتنا ليلا، أو لعله: ‏محمود‏ ‏أبو‏ ‏عبد‏ ‏الفتاح‏ (‏هو الفلاح العامل‏ ‏الذى ‏علمنى ‏لعب‏ ‏الورق‏ ‏على ‏طبلية‏ ‏ولمبة‏ ‏جاز‏ ‏فوق‏ ‏كوم‏ ‏التبن‏ ‏وسط‏ ‏الجرن، ‏والنورج)‏ ‏واقف‏ ‏على ‏الرامية‏ ‏ينتظر‏ ‏البقرة تجره ‏فى دائرة مغلقة تشبه مفاوضات السلام الجارية، كل هذه الطيبة، كل هذه الطيبة المصرية وصلتنى من الأستاذ ناجى وهو يستقبلنا مع الأستاذ، فتحضرنى – لست أدرى لماذا– صورة النورج ‏الذى ‏تجره‏ ‏بقرتان ‏ ‏دون‏ ‏عرق‏ ‏الخشب‏ “‏الناف‏” ‏الذى يربط البقرة الواحدة إلى ‏مركز دائرة الجُرْن،‏ ‏وأنا‏ ‏أتحدى محمود أبو عبد الفتاح أننى أستطيع أن أقود البقرتين وحدى، ولا يخرج النورج عن المدار، ما زال هذا التحدى يصبغ معظم أسلوب حياتى وأنا أرتب أغلب أمورى وأمور من يثق فى حكمى وحدى، لعل هذا هو موقفى وأنا أنتقل من فندق لفندق دون معلومات كافية، نجرب ونرى ونجرب حتى نستقر، أتساءل: ‏ ‏كيف‏ ‏تتواتر‏ ‏هذه‏ ‏الذكريات‏ ‏بالذات‏ ‏وأنا‏ ‏مع‏ ‏الأستاذ‏ ‏مع‏ ‏أنه‏ ‏لم يكن‏ ‏فلاحا‏ ‏أبدا، ‏ولا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏فلاحا، ‏كنت أتصور صغيرا أن أى مصرى لا بد أن يكون فلاحا تماما، ثم حين مارست مهنتى وتعرفت على معنى “صعيدى” قلت فى نفسى، وصعيدى أيضا حتى لو لم يزر الصعيد مرة واحدة، فأين يقع الأستاذ فى شطحاتى التعميمية الباكرة هذه؟ الأستاذ ليس فلاحا، وليس صعيديا وليس مصريا، الاستاذ هو مصر نفسها،

 رحت أحكى للأستاذ عن معنى “الطيبة القوية” التى أتصور أنها تميز من هو مصرى فعلا، قلت له إنها وصلتنى من أشخاص مختلفين وأنا بعد صبيا، جعلتنى أربط بين من هو مصرى، بمن هو طيب فاهم حاضر بشكل أو بآخر، لم أوصل الرسالة جيدا كالعادة، سألنى الأستاذ: مثل من؟ رحت أحكى له عن ‏عزوز‏ ‏افندى مدرسي العربى فى سنة رابعة ثانوى الثقافة العامة (قبل التوجيهية بسنة)، ‏وهو‏ ‏يفرح‏ ‏بى ‏وأنا‏ ‏أقول‏ ‏له‏ ‏إن‏ “‏العِثيَر” (‏كلمة‏ ‏وردت‏ ‏فى ‏شعر‏ ‏أبى ‏فراس‏ ‏الحمدانى ‏أو‏ ‏المتنبى ‏لست‏ ‏أذكر‏) ‏هو:‏ “‏الغبار‏” ‏ولا‏ ‏تـُفـْتـَحُ‏ ‏فيه‏ ‏العين،‏ ‏فلا‏ ‏نقول‏ ‏العَـثير، بما فى ذلك من تورية حيث أننا – أيضا- لا ‏نستطيع‏ ‏أن‏ ‏نفتح‏ ‏أعيننا‏ ‏فى ‏الغبار، ‏فيفرح‏ ‏عزوز‏ ‏أفندى ‏بحذقى وبحثى فى المعاجم وأنا فى هذه السن (15 سنة)، ولا أقول له إن أبى هو الذى غششنى ذلك، لكنه يعرف أن أبى مدرس لغة عربية، ويفوِّتها لى وهو يربت على كتفى وكنت أجلس فى الصف الأول، أحكى للأستاذ أيضا عن ‏عبد‏ ‏المعز‏ ‏أفندى ‏فى السنة التالية: ‏سنة‏ ‏خامسة ‏ ‏ثانوى (التوجيهية) حين بدأ حصة العربى ذات صباح (قرب قيام الثورة) بأن راح ‏يعدد‏ ‏لنا‏ ‏الأخطاء النحوية التى وردت فى خطبة‏ ‏العرش لحسين‏ ‏سرى ‏باشا‏ ‏ولم يكن بذلك يشجب رئيس الوزراء بقدر ما كان ينبهنا كيف أننا لابد أن نتعلم قيمة الإتقان ونحن بعد فى هذا العمر، وإلا فهذه هى النتيجة حتى لو أصبح أحدنا رئيسا للوزراء !!، أقول للأستاذ ذلك وانا أؤكد له أن ما كان يصلنا من عبد المعز افندى هو أن ذلك محتمل، أن يصبح أحدنا رئيسا للوزراء، فيعقب الأستاذ أن ذلك لو حدث الآن، لاتهم عبد المعز افندى بالتحريض على قلب نظام الحكم ويضحك، فنضحك جميعا.

كنا قد وصلنا إلى القاعة التى خصصها لنا الأستاذ ناجى ولم نحتج أن نستعمل كلمة السر التى لقننى إياها الأستاذ ناجى وهى ‏ ‏بالإنجليزية ‏Cultural Meeting ‏وترجمتها “لقاء ثقافى”، ويبدو أنه استعمل هذا المصطلح حتى يخصص لنا ركنا بعيدا نسبيا،، لكن ثبت لنا أنه لا داعى لكل ذلك، فالأستاذ شخصيا هو كلمة السر لكل الأبواب المغلقة.

ذهبنا‏ ‏إلى ‏قاعة‏ ‏ممفيس‏ (‏مع أنهم كانوا ‏ ‏قد‏ ‏قالوا‏ ‏لنا إنها‏ ‏قاعة طيبة‏) ‏فوجئنا أن الصوت يتردد فى القاعة بصدى يمكن أن يكون مزعجا، لكننا اطمأننا إلى أن ضعف السمع عند الأستاذ قد يحميه من هذا الإزعاج، أخذ الأستاذ يقلب نظره المتواضع وهو ينظر إلى السقف، ثم سأل عن الارتفاع فقدرنا أنه يمكن أن يكون ‏ارتفاع‏ ‏ثلاثة‏ ‏أدوار‏ ‏من‏ ‏المبانى ‏الحديثة، ‏وجرى ‏حديث‏ ‏عن‏ ‏تاريخ‏ ‏القصر‏ ‏والخديوى إسماعيل ‏والامبراطورة‏ ‏أوجينى، ‏وقال‏ ‏توفيق‏ ‏صالح‏ ‏إن الفندق‏ ‏كان‏ ‏قصر‏ ‏لطف‏ ‏الله‏ ‏باشا، ‏وكان‏ ‏يسكنه‏ ‏وحده‏ ‏مع‏ ‏اثنين‏ ‏من‏ ‏الخدم، ‏ونبه‏ إلى ‏أن‏ ‏النقوش‏ ‏الحالية‏ ‏ليست‏ ‏هى ‏التى ‏كانت‏ ‏حينذاك، (وتساءلت بينى وبين نفسى كيف هو واثق هكذا)، ‏وأن‏ ‏هذا‏ ‏القصر‏ ‏قد‏ ‏بنى ‏خلال‏ ‏أربعين‏ ‏يوما‏ ‏وذلك‏ ‏منذ‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏قرن لعله فعلا مصنوع من خشب أجوف، ‏وقد‏ ‏تم‏ ‏إعداده‏ ‏لأداء‏ ‏غرض‏ ‏ضيافة‏ ‏محدد، ‏وكنا‏ ‏نشعر‏ ‏بهزة‏ ‏ما‏ ‏كلما‏ ‏تحركت‏ ‏الأرائك‏ ‏أو‏ ‏قام‏ ‏وجلس‏ ‏أحدنا‏ ‏فجأة، ‏معلومات‏ ‏صعبة‏ ‏لا‏ ‏دليل عليها، ‏والأستاذ‏ ‏لا‏ ‏يخفى ‏دهشته، ‏وراح‏ ‏يحكى بعض‏ ‏خبراته‏ ‏فى ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الأماكن، ‏فذكر‏ ‏موقفه‏ ‏فى ‏قصر‏ ‏عابدين‏ ‏وهو‏ ‏يعمل‏ ‏فى ‏وزارة‏ ‏الإرشاد‏ ‏القومى، ‏وكيف‏ ‏أن‏ ‏الحوائط‏ ‏كانت‏ ‏من‏ ‏الرخام‏ ‏أو‏ ‏ما‏ ‏أشبه، ‏وأنه‏ ‏كان‏ ‏يخشى ‏عليها‏ ‏من‏ ‏التلوث‏ ‏بما‏ ‏لا‏ ‏يليق، ‏ثم‏ ‏ذكر‏ ‏قصر‏ ‏عائشة‏ ‏فهمى ‏الذى ‏شغلته ‏وزارة‏ ‏الثقافة، ‏ثم‏ ‏إنه جعل يتلفت‏ ‏حوله‏ بين الحين والحين ‏أكثر مما اعتدنا، فوصلنى أنه لم يرتح لهذا المكان الجديد، وقررت بينى وبين نفسى أن تكون هذه أول مرة وآخر مرة، مع الاعتراف بالفضل لمن سمح لنا بهذه الضيافة القصيرة.

يصلنى ارتياح الأستاذ من عدمه دون ألفاظ، فهو أرق من أن يعترض على محاولاتنا تهيئة المكان المناسب، وحين أخبرته قرب انصرافنا أننى قررت أن نكتفى بهذه الزيارة الاستطلاعية، انفرجت أساريره، وعرفت أن ما وصلنى هو الصواب.

يا عمنا، يا عمنا، لماذا لا تفصح بما عندك حتى تعفينا من كل هذه التخمينات التى تصيب أو لا تصيب، تخاف يا عمنا على شعورنا ونحن لا نحرص إلا على راحتك، بدأت أثق فى حدْسى حين يجتمع لدىّ ما يصلنى من الأستاذ، بالهمس الذى يدور حولى، بما أستشعره داخلى، لأحقق لهذا الرجل الجميل ما يرضيه ويؤنسه، دون أن أنسى تكراره المستمر من أن أهم ما يرضيه هو وجودنا حوله فى أى مكان مهما كان.

 

الحلقة السابعة والثلاثون

حلم باكر

الاثنين‏: 20/2/1995

جلس‏ ‏الأستاذ‏ ‏وسطنا‏ ‏وكأنه‏ ‏عاد‏ ‏إلى ‏بيته، ‏نعم‏ ‏هذا‏ ‏مكان‏ ‏حديث‏ ‏جدا‏ ‏نظيف‏ ‏جدا، ‏فندق نوفوتيل‏ ‏المطار، ‏لكنه‏ ‏أصبح‏ ‏معتادا‏ ‏جدا، ‏هذا هو‏ ‏الأستاذ، ‏يجلس‏ ‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الموقع‏ ‏من‏ ‏نفس‏ ‏المكان‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت فيستقر فيصبح بيته الجديد الذى ينتظره فى وقته مع أهله فى هذا اليوم بالتحديد.

بدأ الأستاذ بأن ‏حكى ‏ ‏حلما‏ ‏حـَلـِمـَهُ ليلة أمس‏ (‏وهو نادرا ما يفعل)، ‏قال‏: ‏إنه‏ ‏حلم‏ ‏بجلستنا‏ ‏هذه، ‏وأننا‏ ‏كنا‏ ‏فى ‏بهو‏ ‏شديد‏ ‏الفخامة‏ ‏والاتساع، ‏وأن‏ ‏الرهبة‏ ‏لم‏ ‏تغادرنا‏، ‏ثم‏ ‏يظهر‏‏ ‏يس‏ ‏سراج‏ ‏الدين‏ أخو فؤاد ‏سراج‏ ‏الدين ‏فى ‏هذا‏ ‏البرنامج‏ ‏الذى ‏اسمه‏…”‏يا‏ ‏تليفزيون‏ ‏يا‏” أو شيئا من هذا القبيل، المهم أنه البرنامج ‏الذى ‏يظهر‏ ‏فيه‏ واحد اسمه ‏رمسيس‏، (كان الأستاذ مواظبا على مشاهدة كثيرا من برامج التليفزيون قبل تراجع بصره)، ويسأل رمسيس ويجيب سراج الدين إجابات غير مترابطة وهو يذكر ‏ “‏إن‏ ‏بالقصر‏ 22 ‏حجرة”، ويدهش الأستاذ وهو يحكى من ورود هذا الرقم بهذا الوضوح فى الحلم، ‏وأتعجب‏ ‏من‏ ‏قدرة‏ ‏الأستاذ‏‏ ‏على ‏الحلم‏ ‏بما‏ ‏يسمى “‏بقايا‏ ‏النهار‏”، فهذا ما يميز أحلام الأطفال بوجه خاص، ‏وأتأكد‏ ‏أننى ‏عرفت‏ ‏تعبيرات‏ ‏وجه‏ ‏الأستاذ‏ ‏بما‏ ‏يطمئننى ‏على ‏بعض‏ ‏استنتاجاتى ‏لما‏ ‏يعتريه‏ ‏من‏ ‏مشاعر‏ ‏خوف‏ ‏أو‏ ‏دهشة‏ ‏أو‏ ‏رفض‏ ‏أو‏ ‏ضغط‏ ‏على ‏النفس‏ ‏مجاملة، ‏وحين‏ ‏بدأ‏ ‏حكاية‏ ‏حلمه‏ ‏أنه‏ “‏حلم‏ ‏بقعدتنا‏” ‏فـَرِحْتُ‏ ‏أننى (‏وأنا‏ ‏ضمن‏ ‏قعدتنا‏) ‏ظهرتُ‏ ‏حتى ‏فى ‏حلمه، ‏ولا‏ ‏أخفى ‏أننى ‏تبينت‏ ‏بانقباض‏ ‏طفلى ‏أن‏ ‏شخوصنا‏ (‏واحدا‏ ‏واحدا‏) ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏لهم‏ ‏حضور‏ ‏خاص‏ ‏فى ‏الحلم، وإنما الأهم كانوا شخصوص التليفزيون، ‏لكننى ‏تذكرت‏ ‏كلام‏ ‏حرمه‏ الفاضلة ‏فى ‏الهاتف‏ ‏أثناء إجازتى ذات أسبوع فى دهب حين كنت أطمئن عليه تليفونيا، تذكرت كيف قالت لى‏ ‏أن‏ ‏الأستاذ‏ ‏كان يحلم‏ ‏بى بصوت مرتفع (الحلقة السابعة)، ‏ولفرط عدم تصديقى كدت أعتبر كلامها ‏ مجاملة، اكتشفت كيف أننى أود لو ‏أمثل‏ ‏حضورا ما ‏ ‏فى ‏وعى ‏الأستاذ‏ ‏الأعمق، وأضاف‏ ‏الأستاذ بعد‏ ‏حكاية‏ ما تيسر (أو حضر) من ‏الحلم‏ ‏تنبيها‏ ‏إلى ‏أنه‏ ‏معتاد‏ ‏على ‏مثل هذه‏ ‏القصور‏ ‏من‏ ‏زمان، ‏وأن‏ ‏أكثر‏ ‏قصر‏ ‏بهره‏ ‏وما‏ ‏زال‏ ‏يذكره‏ ‏هو‏ ‏قصر‏ ‏مصطفى ‏عبد‏ ‏الرازق، ‏ذلك‏ ‏الشيخ‏ ‏أستاذ‏ ‏الجامعة‏ ‏الجليل‏ ‏الذى ‏كان‏ ‏يقابل‏ ‏طلبته‏ ‏فى ‏بيته‏ (‏لا أذكر تحديدا لقاءه بالدكتور عبد الرحمن بدوى عند الشيخ على عبد الرازق هل كان فى هذه المرة أم فى مرة أخرى)، ‏قال‏ ‏لى ‏زكى ‏سالم‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏الأستاذ‏ ‏يحب‏ ‏ويقدر‏ ‏الشيخ‏ ‏مصطفى عبد الرازق ‏إلى ‏مدى ‏ليس‏ ‏له‏ ‏مثيل، ‏وأنه‏ ‏يصفه‏ ‏خاصة‏ “‏بالنبل‏”، ‏والنبل‏ ‏صفة‏ ‏نادرة‏ ‏رائعة‏ ‏إذا‏ ‏وصَفَ‏ ‏بها‏ ‏الأستاذ‏ ‏أحد‏ ‏الناس‏ ‏فهى ‏تعنى ‏الكثير، ‏مرت علىّ صورة سريعة جدا للقصور التى وردت فى بعض أعمال الأستاذ، وبالذات ‏ذلك‏ ‏القصر‏ ‏الذى ‏كانت تسكنه الشابة الجميلة التى أحبها‏ ‏كمال‏ ‏أحمد‏ ‏عبد‏ ‏الجواد‏ ‏عن بعد، حتى ‏أصابه‏ ‏ما‏ ‏أصابه‏ ‏من‏ ‏إحباط‏ ‏فانسحب أيضا عن بعد.

 أعود إلى الأستاذ وهو يكمل‏ ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏الشيخ‏ ‏مصطفى – ‏رغم‏ ‏دراسته‏ ‏فى ‏باريس‏ ‏وعلاقته‏ ‏بها‏ ‏وناسها‏ ‏وحضارتها وأدواتها‏ – ‏كان‏ ‏يحضر‏ ‏إلى ‏الكلية‏ ‏فى ‏عربة‏ ‏حنطور، ‏يحضر‏ ‏وقد‏ ‏قلوظ‏ ‏العمة‏ ‏والجبة‏ ‏والقفطان‏ ‏فى ‏أزهى ‏حضورهما، ‏سألته مقاطعا: ‏ ‏كارتة‏ ‏أم‏ ‏حنطور؟ ‏وأكد‏ ‏أنه‏ ‏حنطور‏ ‏خاص‏ ‏له‏ ‏سائق‏ ‏خاص‏ ‏وفرس‏ ‏خاص، ‏وبدا أن ‏ ‏هذا‏ ‏يعنى عند‏ ‏الأستاذ‏ (‏وعندى ‏أيضا‏) ‏ ‏ ‏دلالة‏ ‏خاصة‏ فعلا.‏

انتقل الحكى عن دور الحنطور عند بعضنا، وذكرت شخصيا علاقتى بسوارس فى القلعة وأنا أزور خالتى فى سوق السلاح فى أوائل الأربعينات، وعن علاقتى بالحنطور فى طنطا قبل ذلك، وكيف كنا نجرى ونركب خفية فى تجويف الحنطور الخلفى دون أن يرانا السائق (العربجى)، وكيف كنا نمتلئ غيظا حين ينادى أحد الصبية الذى يرانا فى مخبئنا فيصيح بالعربجى “كربج ورا يا اسطى”، ونتعجب على ما يدعو مثل هذا الصبى إلى حرماننا من هذه المتعة الخفية، وأذكر للأستاذ أن علاقتى بالحنطور ظلت وثيقة حتى كنت أستعمله بانتظام وأنا منتدب للتدريس فى كلية طب المنصورة، أركبه من محطة سكة حديد المنصورة إلى الكلية التى كانت بعد تحتل المدرسة الثانوية، ربما سنوات 1963-1965، وحكيت له كيف كنت أتمتع بهذا التوصيلة التى أتعرف من خلالها على الناس والشوارع بإيقاع أهدأ، ‏وذكرت للأستاذ أن مثل هذه الخبرات الباكرة كانت تحضرنى وأنا اقرأ (‏الثلاثية‏)، وكيف ‏لم يكن صعبا على أن يحضر سوارس فى وعيى بالبغلة والعربجى وأنا أقف بجوار يس أحمد عبد الجواد وهو يتابع ‏ ‏عجيزات‏ ‏الراكبات‏ ‏وهن‏ ‏يصعدن‏ ‏إلى ‏الكارو الذى كان أرخص وأرحب من سوارس. قال الأستاذ تعقيبا موجزا كيف‏ ‏كان‏ ‏الحنطور‏ ‏هو ‏المواصلة‏ ‏الرئيسية‏ ‏فى ‏الاسكندرية‏ ‏فى ‏يوم‏ ‏ما، ‏وحكى ‏كيف‏ ‏أنه‏ ‏عقب‏ ‏مباراة‏ ‏كرة‏ ‏بين‏ “‏مصر‏” (‏القاهرة‏) ‏والاسكندرية‏ (‏أيام‏ ‏حودة‏) ‏كان‏ ‏يجلس‏ ‏فى ‏حنطور‏ ‏مع‏ ‏عبد‏ ‏الحميد‏ ‏السحار‏ ‏وكان‏ ‏بعض‏ ‏رفاقه‏ ‏يصف‏ ‏المباراة‏ ‏عقب‏ ‏فوز‏ ‏مصر، ‏وأخذ‏ ‏يمدح‏ ‏فى ‏وصف‏ ‏هدف‏ ‏وضعه‏ ‏لاعب‏ ‏مصر‏ ‏فى ‏مرمى ‏الاسكندرية‏ ‏فانتفض‏ ‏السائق‏ (‏العربجى‏) (‏وكان‏ ‏‏اسكندرانى جدا‏) ‏مغيظا‏ ‏وطاح فى الراكب، بل وجميع الركاب، بما ‏تيسر‏ ‏من‏ ‏سباب‏، ‏ ‏وكأن‏ ‏إعادة‏ ‏حكى ‏جمال‏ ‏الهدف‏ ‏المنطلق‏ ‏كالسهم‏ ‏إلى ‏المرمى ‏قد‏ ‏غاص‏ ‏فى ‏قلب‏ ‏العربجى ‏بالسرعة‏ ‏البطيئة‏ ‏من جديد حتى ثار كما ثار‏.‏

تفرع الحديث إلى فضل الإيقاع البطئ الذى كان يمثله سوارس والحنطور، وإلى درجة أقل الترام، وكيف كان ذلك يسمح ‏للركاب‏ ‏أن‏ ‏يعرفوا‏ ‏بعضهم‏ ‏البعض، ‏كانت‏ ‏وسائل‏ ‏المواصلات‏ ‏تمثل‏ ‏مجتمعا‏ ‏بشريا‏ ‏أليفا‏ ‏متحركا‏ (‏لعلـّى ذكرت فى يومية سابقة كيف كنا نسترق السمع فى مترو مصر الجديدة لجلسة ‏ ‏فتحى ‏رضوان‏ ‏وزكى ‏مبارك‏ ‏فى ‏الدرجة الأولى) ‏وتساءلت‏ ‏عن‏ ‏أطفالنا وشبابنا الآن‏ (‏أحفادى مثلا‏) ‏الذين‏ ‏لم‏ ‏يركبوا‏ ‏أتوبيسا‏ ‏إلا نادرا‏، ‏كيف وأين ومتى يتعرفون على ناسهم الحقيقيين بشكل مباشر؟

ثم انتقل‏ ‏الحديث‏ ‏من‏ ‏الحنطور‏ ‏وسوارس‏ ‏إلى ‏تطور‏ ‏الأتوبيس‏ ‏فذكرت‏ “‏السانت‏كروفت”، ‏وكيف‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏صاخبا‏ ‏بطيئا‏ ‏ذا‏ ‏شخصية‏ ‏تلم‏ ‏محتواها‏ ‏من البشر بحنان‏ ‏شائك فى ‏حوار‏ ‏صاخب، ‏وقال‏ ‏الأستاذ‏ ‏أنه‏ ‏قبل‏ “‏السانت‏كرفت”‏ ‏كان‏ ‏هناك‏ ‏أتوبيسات‏ ‏”الحسين”، ‏ثم‏ ‏أردف‏ ‏أن‏ “‏السانت‏كرفت”‏ ‏حين‏ ‏دخل‏ ‏الحسينية‏ ‏رفضه‏ ‏أهلها لأنه‏ ‏بدا‏ ‏لهم‏ ‏أنه‏ ‏دخل‏ ‏يقتحم‏ ‏عرين‏ ‏الفتوة، ‏فهو‏ ‏لم‏ ‏يستأذن‏ ‏الفتوة، ‏فكان‏ ‏فتوة‏ ‏الحى ‏يطلق‏ ‏على ‏عربات‏ ‏السانتكرفت‏ ‏صبية‏ ‏الحى ‏يقذفون‏ ‏العربات‏ ‏بالحجارة، ‏فاحتال‏ ‏أصحاب‏ ‏الشركة‏ ‏على ‏ذلك‏ ‏بأن‏ ‏أستأجروا‏ ‏مساعدى ‏الفتوات‏ ‏ليعملوا‏ ‏مفتشين‏ ‏فى ‏الأتوبيسات‏ ‏فيحمونها، ‏وكان‏ ‏أحدهم‏ ‏واسمه‏ “‏بيومي‏” ‏كبير‏ ‏الحجم‏ ‏بحيث‏ ‏لم‏ ‏تدخل‏ ‏فى ‏جسده‏ ‏ملابس‏ ‏الشركة‏ ‏الجاهزة‏ ‏لكن‏ ‏الشركة‏ ‏احتالت‏ ‏حتى ‏أتت‏ ‏له‏ ‏بسترة‏ ‏وسروال‏ ‏قميص‏ ‏على ‏مقاسه، ‏لكن‏ ‏كان‏ ‏من‏ ‏المستحيل‏ ‏أن‏ ‏يجدوا‏ ‏له‏ ‏حذاء‏ ‏يدخل‏ ‏فى ‏قدمه‏ ‏فقد‏ ‏كانت‏ ‏قدمه‏ ‏كبيرة‏ أيضا، ‏ ‏وأدعو‏ ‏للأستاذ ‏ ‏بالحفاظ‏ ‏على ‏هذه‏ ‏الذاكرة‏ ‏البانوارمية‏ ‏التفصيلية هكذا‏.‏

أخيرا انتقل‏ ‏الحديث‏ ‏إلى ‏قصة‏ ‏الأستاذ‏ ‏القصيرة‏ ‏التى ‏نشرت‏ ‏اليوم‏ ‏فى ‏نصف‏ ‏الدنيا‏ ‏باسم‏ “‏عاشق‏ ‏الظلام‏” ‏ومدحها‏ ‏زكى سالم ‏وأوجزها للباقين. سألت‏ ‏الأستاذ‏ ‏متى ‏كتب‏ ‏هذ‏ ‏المجموعة، ‏وعرفت‏ ‏أن‏ ‏ذلك‏ ‏كان‏ ‏قبل‏ ‏الحادث، ‏ونبهت‏ ‏الحاضرين إلى ‏رأيى أنه من الأمانة تحديد وقت كتابة أى قصة (أو عمل) بغض النظر عن توقيت نشرها، فالسن والظروف الملابسة قد تساعد الناقد على قراءة دلالات يصعب عليه الوصول إليها بدون ذلك.

‏وتكلم‏ ‏الأستاذ‏ ‏عن‏ ‏عجزه الحالى عن متابعة التفاصيل بالنسبة لما ينشر له، فقد كانت‏ ‏للنشر‏ ‏عنده طقوسا‏ ‏من‏ ‏التصحيح‏ ‏والإهداء‏ ‏والمعايشة‏ ‏قبل أن يظهر له أى عمل، وأن هذه الطقوس هو‏ ‏محروم‏ ‏منها‏ ‏الآن جميعا، ‏وبالتالى ‏هو‏ ‏لا‏ ‏يرى أن فى استطاعته الآن أن يختار التوقيت أو أن ينبه على التفاصيل مثل التوصية بأن يذكر تاريخ الكتابة أو ما شابه، وقد‏ ‏احترمت‏ ‏منه‏ ‏هذا‏ ‏احتراما‏ ‏بالغا، وأعلنت خشيتى أن تكون هذه الصعوبات هى التى ‏حبست أصداء السيرة الذاتية بعيدا عن متناول الناس “مجتمعة” حتى الآن؟ سألته عن ذلك مباشرة، فهز ‏رأسه‏ ‏بما‏ ‏يعنى ‏أنه‏ “‏ربنا‏ ‏يسهل‏” ‏وتيقنت‏ – ‏آمِلاً‏ ‏داعيا‏ – ‏أنه‏ ‏سيسهل، ‏لكننى ‏أردفت‏: ‏كيف‏ ‏يُنشر‏ ‏عمل‏ ‏للأستاذ‏ ‏باللغة‏ ‏الانجليزية‏ ‏قبل‏ ‏نشره‏ ‏بالعربية، ‏حيث‏ ‏كنت‏ ‏سمعت‏ ‏أنه‏ ‏تعاقد‏ ‏مع‏ ‏الجامعة‏ ‏الأمريكية‏ ‏على ‏ذلك، ‏فأوضح‏ ‏لى ‏أن‏ ‏التعاقد‏ ‏هو‏ ‏على ‏الترجمة‏ ‏وليس‏ ‏على ‏النشر، ‏وأن‏ ‏المترجم‏ (‏فلان‏- نسيت اسمه!) ‏له‏ ‏علاقة‏ ‏قديمة‏ ‏به‏ (‏وهو‏ ‏فى ‏مثل‏ ‏سنه‏ ‏تقريبا‏) ‏وأنه‏ ‏بعد‏ ‏الإنتهاء‏ ‏من‏ ‏ترجمته‏ ‏سوف‏ ‏يبحث‏ ‏عن‏ ‏ناشر، ‏قد‏ ‏تتغير‏ ‏الأمور‏ ‏لتكون‏ ‏النسخة‏ ‏العربية‏ ‏قد‏ ‏ظهرت‏ ‏كما‏ ‏أريد، ‏وذكر‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏المترجم‏ (‏فلان‏) ‏هو‏ ‏أول‏ ‏من‏ ‏عرض‏ ‏عليه‏ ‏أن‏ ‏يترجم‏ ‏زقاق‏ ‏المدق‏ ‏سنة‏ 1949، ‏وأنه‏ ‏فرح‏ ‏فرحا‏ ‏شديدا‏ ‏بالمبدأ، ‏لكن‏ ‏المسألة‏ ‏لم‏ ‏تكن‏ ‏بهذه‏ ‏السهولة، ‏فقد‏ ‏طلب‏ ‏مقابلا‏ ‏ماديا‏ ‏لهذه‏ ‏الترجمة‏ ‏التى ‏لا‏ ‏يمـولها‏ ‏ناشر‏ ‏ابتداء، ‏وكانت‏ ‏الحال‏ – ‏طبعا‏ – ‏لا‏ ‏تسمح أن يساهم الأستاذ فى التمويل، ‏فاعتذر‏ ‏أو‏ ‏فى ‏الحقيقة‏ ‏عجز‏ ‏عن‏ ‏الاستجابة‏ ‏للطلب، ‏وأضاف‏ ‏الأستاذ‏ “‏لقد‏ ‏وجدت‏ ‏أن‏ ‏تأليف‏ ‏رواية‏ ‏أخرى ‏مثل‏ ‏زقاق‏ ‏المدق‏ ‏أخف‏ ‏من‏ ‏الوفاء‏ ‏بمطلبه‏” ‏ثم‏ ‏أردف‏ ‏أن‏ ‏ثمة‏ ‏شبهة‏ ‏كانت‏ ‏تحوم‏ ‏حول‏ ‏هذا‏ ‏المترجم‏ “‏مستر‏ ‏فلان‏” ‏وأنه‏ ‏من‏ ‏عملاء‏ ‏السفارة‏ ‏الانجليزية، ‏لكن‏ ‏تلك‏ ‏كانت‏ ‏التهمة‏ ‏الشائعة‏ ‏حول‏ ‏كل‏ ‏أجنبى، ‏وليست‏ ‏بالضرورة‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏صحيحة، ‏ ‏فكل‏ ‏أجنبى ‏يجد‏ ‏فى ‏نفسه‏ ‏ميلا‏ ‏واجبا‏، ‏بحكم وطنيته العادية، أن‏ ‏يبلغ‏ ‏سفارته‏ ‏ما‏ ‏يرى، ‏سواء‏ ‏كان‏ ‏ملاحظة ‏ ‏أم‏ ‏خبرا‏ ‏أم‏ ‏معلومة‏ ‏عادية‏،‏ وهذا‏ ‏يعتبر‏ – ‏بشكل‏ ‏ما‏ – ‏نوعاً ‏من‏ الولاء لوطنه دون أن يكون جاسوسية كما اعتدنا أن نصفه.

ولما‏ ‏جاء‏ ‏ذكر‏ ‏الترجمة‏ ‏ذكرت‏ ‏للأستاذ‏ ‏قراءتى ‏حديثا‏ ‏لرواية‏ “‏هموم‏ ‏شخصية‏” ‏للكاتب‏ ‏اليابانى ‏ ‏كنزابورو‏ أوى ‏الذى ‏فاز‏ ‏بجائزة‏ ‏نوبل‏ ‏هذا‏ ‏العام، ‏وأنه‏ ‏بالرغم‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏الترجمة‏ ‏تبدو‏ ‏متوسطة،‏ ‏أحسن‏ ‏قليلا‏ (‏صبرى ‏الفضل‏([13])) ‏وفى ‏الأغلب‏ ‏هى ‏من‏ ‏الانجليزية، ‏فقد‏ ‏نقلت‏ ‏لى ‏انطباعا‏ ‏عن‏ ‏الأدب‏ ‏اليابانى ‏ذكـرنى ‏بالرواية‏ ‏اليابانية الوحيدة‏ ‏التى ‏قرأتها‏ ‏ باكرا، ‏لمؤلف‏ ‏أظن‏ ‏أن‏ ‏اسمه‏ ‏يورى ‏يوسيما‏ ‏واسمها‏ “‏اعترافات‏ ‏قناع‏”، ‏وذكرت‏ ‏للأستاذ‏ ‏أنه‏ ‏بالرغم‏ ‏من‏ ‏بعد المسافة بين قراءتى للروايتين،‏ ‏فإنه‏ ‏قد‏ ‏بلغنى ‏عمق‏ ‏معين‏ ‏مشترك بينهما، وخاصة‏ ‏فى ‏منطقة‏ ‏وصف‏ ‏المشاعر‏ ‏الجسدية‏ (‏وليس‏ ‏بالضرورة‏ ‏الجنسية‏)، ‏وكأن‏ ‏هذا‏ ‏الكاتب‏ (‏وزميله‏ ‏على ‏ما‏ ‏أذكر‏) ‏يصاحب‏ ‏الدم‏ ‏واللحم، ‏ويستطيع‏ ‏أن‏ ‏يجعلهما‏ ‏يظهران‏ ‏فى ‏عمله‏ ‏بما‏ ‏لهما‏ ‏من‏ ‏نبضٍ‏ ‏وصفىّ ‏خاص‏ ‏ومخترق‏ ‏ومتنوع، ‏وعرجت‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏الموضوع‏ ‏على ‏ضعف‏ ‏التفرقة‏ – ‏عند‏ ‏عامتنا‏ – ‏ما‏ ‏بين‏ ‏الجنس‏ و‏الجسد، ‏صحيح‏ ‏أن‏ ‏الجنس‏ ‏هو تعبير‏ ‏رائع‏ ‏من‏ ‏تعبيرات‏ ‏الجسد، ‏إلا‏ ‏أنهما‏ ‏ليسا‏ ‏مترادفان، ‏وأحيانا‏ ‏‏ينفصلان‏ (‏مثلا‏: ‏حين‏ ‏يصبح‏ ‏الجسد‏ ‏مجرد‏ ‏حامل‏ ‏لطاقة‏ ‏جنسية‏ ‏تنطلق‏ ‏من‏ ‏فتحة‏ ‏فى ‏نهايته‏ ‏دون‏ ‏إندماج‏ ‏بكليته‏) – ‏وذكرت‏ ‏أن‏ ‏ما‏ ‏تناوله‏ ‏هذا‏ ‏الكاتب‏ “‏بورو‏” ‏كان‏ ‏من‏ ‏الدقة‏ ‏والعمق‏ ‏بحيث‏ ‏غطى ‏مساحة‏ ‏رائعة‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏المنطقة، ‏مع‏ ‏أننى ‏كنت ‏بدأت‏ ‏قراءة‏ ‏الرواية‏ ‏حذرا‏ ‏حاسبا‏ ‏أنها‏ – ‏كما‏ ‏أشار‏ ‏يوسف القعيد ‏- ‏وصف‏ ‏مشاعر‏ ‏أب‏ ‏يعايش‏ ‏طفلا‏ ‏معوقا‏ ‏عقليا، ‏لكننى ‏وجدتها‏ (‏ومضيت‏ ‏أوجزها‏ ‏حسب‏ ‏طلب‏ ‏الأستاذ‏) ‏تجرى ‏خلال‏ ‏يوم‏ ‏واحد‏ ‏تقريبا‏ ‏مع‏ ‏هامش‏ ‏من‏ ‏بضعة‏ ‏أيام‏ ‏محيطة، ‏وأنها‏ ‏تصف‏ ‏مفاجأة‏ ‏والد‏ ‏سكير‏ (‏أو‏ ‏كان‏ ‏سكيرا‏) ‏وهو‏ ‏يتلقى ‏نبأ‏ ‏ميلاد‏ ‏طفل‏ ‏مشوه‏ ‏عاجز، ‏عنده‏ ‏فتق‏ ‏فى ‏المخ، ‏وأن‏ ‏المأساة‏ ‏كانت‏ ‏فى ‏قرار‏ ‏الوالد‏ ‏بترك‏ ‏طفله‏ ‏يموت، ‏وأثناء‏ ‏انتظار‏ ‏هذا‏ ‏الفرج‏ ‏يذهب‏ ‏إلى ‏صديقة ‏قديمة‏ ‏ويقضى ‏معها‏ ‏أوقاتا‏ ‏جنسية‏ ‏تتراوح‏ ‏بين‏ ‏العجز‏ ‏والشذوذ‏ ‏والصحوة‏ ‏واللذة، ‏والهرب، ‏ثم‏ ‏يرفض‏ ‏إجراء‏ ‏عملية‏ ‏لإبنه‏ ‏ربما‏ ‏تنقذه‏ ‏أو‏ ‏على ‏الأقل‏ ‏تعطيه‏ ‏فرصة‏ ‏كافية، ‏ويأخذ‏ ‏الطفل‏ ‏هو‏ ‏وصاحبته‏ ‏ليسلماه‏ ‏إلى ‏طبيب‏ ‏تخصصى ‏فى ‏الإجهاض‏ ‏وقتل‏ ‏الأطفال‏ ‏بوسائل‏ ‏طبية‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏اكتشافها، ‏ولكنه‏ ‏فى ‏آخر‏ ‏لحظة‏ ‏يعدل‏ ‏عن‏ ‏قراره، ‏ويتحمل‏ ‏مسئولية‏ ‏أبوته‏ ‏وحياته‏ ‏واستمراره،

 ‏وأقول‏ ‏للأستاذ‏ ‏إننى ‏رفضت‏ ‏نهاية‏ ‏القصة‏ ‏حين‏ ‏استعار‏ ‏الأب‏ ‏كلمة‏ ‏كان‏ ‏قد‏ ‏سمعها‏ (‏أو‏ ‏لاحظها‏) ‏أثناء‏ ‏زيارته‏ ‏لمنشق‏ ‏سوفيتى ‏وهى “‏الأمل‏”، ‏فأضاف‏ ‏عليها‏ ‏كلمة‏ “‏الصبر‏” ‏فشعرت‏ ‏أنها‏ ‏نهاية‏ ‏مثل‏ ‏نهايات‏ ‏السينما‏ ‏المصرية‏ ‏قديما، ‏ولم‏ ‏يكن‏ ‏ينقصنى ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏يلوح‏ ‏لى ‏البطل‏ ‏بيده‏ ‏قائلا‏ “‏مع‏ ‏السلامة‏” ‏بعد‏ ‏ظهور‏ ‏لفظ‏ “‏النهاية‏”.‏

وضحك‏ ‏الأستاذ‏ ‏على ‏هذا‏ ‏التشبيه الساخر‏، واستطردت ‏ ‏إلى ‏الموضوع‏ ‏الأصلى ‏الذى ‏ذكرت‏ ‏الرواية‏ ‏من‏ ‏أجله‏ ‏وهو‏ ‏حرمان‏ ‏الروائى‏ (‏المبدع)‏ ‏المصرى ‏من‏ ‏أن‏ ‏يغوص‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏المناطق‏ ‏الإنسانية‏ ‏الجسدية‏ ‏والجنسية‏ ‏مثلا‏، ‏مع‏ ‏السماح‏ ‏للمترجم‏ ‏أن‏ ‏ينقلها‏ ‏بحروفها، ‏فقد‏ ‏جاء‏ ‏فى ‏الرواية‏ ‏وصف‏ ‏لأعضاء‏ ‏الجنس‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏العجز‏ ‏والقدرة، ‏وكذلك‏ ‏جاء‏ ‏فيها‏ ‏وصف‏ ‏دقيق‏ ‏لبعض‏ ‏الممارسات‏ ‏الشاذة‏ ‏والطبيعية، ‏فلو‏ ‏أن‏ ‏كاتبا‏ ‏مصريا‏ ‏أو‏ ‏عربيا‏ ‏كتب‏ ‏مثل‏ ‏ذلك‏ ‏إذن‏ ‏لقامت‏ ‏الدنيا‏ ‏ولم تقعد، ‏ ‏وربما‏ ‏كفروه، ‏وقال‏ ‏الأستاذ‏ ‏هذا‏ ‏صحيح، ‏وهو‏ ‏ظلم، ‏ووافقنى على أن هذا التحفظ‏ ‏يسرى ‏فعلا‏ ‏على الترجمة أكثر من التأليف، فما يُسمح ‏ ‏به‏ ‏فى ‏الترجمة‏ ‏قد‏ ‏لا‏ ‏يسمح‏ ‏به‏ ‏فى ‏التأليف، ‏وأضاف الأستاذ‏ أنه يظن‏ ‏أنه‏ ‏لو‏ ‏كان‏ ‏المترجم‏ ‏مشهورا، ‏فربما‏ ‏حاسبوه‏ ‏بنفس‏ ‏القسوة‏ ‏والشجب‏ ‏والرفض.

 ‏انتقل‏ ‏الأستاذ‏ ‏‏إلى ‏الموضوع‏ ‏الأصلى ‏واستوضحنى ‏رأيى الذى كنت قد اشرت إليه مرات سابقة عن دور الجنس والجسد فى الإبداع، ‏فقلت‏ ‏له‏ ‏ما‏ ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏أشرت‏ ‏إليه‏ ‏من‏ ‏أننى ‏أعتبر‏ ‏الجسد‏ ‏عضوا‏ ‏مفكرا‏ ‏مبدعا، ‏وأننى ‏كنت‏ ‏على ‏وشك‏ ‏أن‏ ‏أكتب‏ ‏لأوضح‏ ‏هذه‏ ‏الفكرة‏ ‏حين‏ ‏أثيرت‏ ‏قضية‏ ‏الختان‏ ‏أثناء‏ ‏مؤتمر‏ ‏السكان‏ ‏وتصوير‏ ‏حالة‏ ‏ختان‏ لفتاة مصرية ‏فى ‏محطة ‏CNN ‏الأمريكية، ‏كنت‏ ‏سأكتب‏ ‏لأوضح‏ ‏أن‏ ‏الختان‏ ‏ليست‏ ‏قضية‏ ‏جنسية، ‏وأن‏ ‏هذا‏ ‏العضو‏ ‏الأنثوى (‏البظر‏) ‏ليس‏ ‏مركز‏ ‏الشهوة‏ ‏ طول العمر عند المرأة كما‏ ‏يشاع، ‏وأن‏ ‏المرأة‏ ‏حين‏ ‏تنضج‏ ‏جنسيا‏ ‏تنتقل‏ ‏الأماكن‏ ‏الشبقية‏ ‏أولا‏ ‏من‏ ‏البظر‏ ‏إلى ‏المهبل‏ ‏ثم‏ ‏يصبح‏ ‏جسدها‏ ‏كله‏ ‏عضوا‏ ‏شبقيا‏ (‏حتى ‏يعتبره‏ ‏فكر‏ ‏فرويد‏ ‏فى ‏التحليل‏ ‏النفسى ‏بمثابة‏ ‏قضيب‏ ‏كامل، ‏جسد المرأة‏ ‏كله‏ ‏يصبح‏ ‏قضيبا‏‏) – ‏ومضيت‏ ‏أشرح‏ ‏أن‏ ‏الختان‏ ‏هو‏ ‏امتهان‏ ‏للجسد‏ كله وبالتالى فهو امتهان للوجود، ‏وليس‏ ‏تخلصا‏ ‏من‏ ‏قطعة أكثر حساسية بالجنس‏ ‏خوفا‏ ‏من‏ ‏الانحراف، أرجعنى الأستاذ إلى استيضاح كيف يكون الجسد عضوا مفكرا لدرجة أن يشارك ‏فى ‏العمليات‏ ‏الإبداعية‏، لم أستطع أن أشرح أكثر، وعدت للإشارة المحدودة إلى أن الإبداع الأعمق فالأعمق يكون مصحوبا أحيانا‏ ‏بانتقاضات‏ ‏ورعشات‏ ‏وامتلاء‏ ‏ونبض‏ ‏وحضور‏ ‏وثقل فى أنحاء متفرقة من الجسد، وكأنه مخاض حقيقى، وأن كل‏ ‏هذا‏ ‏موصوف‏ ‏ليس‏ ‏فقط‏ ‏عند‏ ‏المبدعين‏ ‏الأدباء‏ ‏وإنما‏ ‏عند‏ ‏المبدعين‏ ‏العلماء‏ ‏مثل‏ ‏أينشناين‏ (‏وربما‏ ‏أرشميدس‏ ‏أثناء‏ ‏استحمامه واكتشافه قاعدة الطفو‏) – ‏سألنى الأستاذ أن أوضح ذلك بخبرة شخصية إن وجدت، فقلت له أننى أذكر أن ‏ ‏كثيرا‏ ‏من‏ ‏التنظيمات‏ ‏والتشكيلات‏ ‏التى ‏جاءتنى ‏ ‏أثناء‏ ‏كتابة‏ ‏نظريتى ‏الأساسية‏ ‏فى ‏الإبداع‏ ‏فى ‏الدراسة‏ ‏المسماة‏ “‏الإيقاع‏ ‏الحيوى ونبض الإبداع” ‏كانت ‏ ‏أثناء‏ ‏عدوى ‏الصباحى ‏وحدى ‏وأنا‏ ‏أتصبب‏ ‏عرقا، ‏وهذا‏ ‏لا‏ ‏يعنى ‏أننى ‏كنت‏ ‏أفكر‏ ‏فى ‏شىء‏ ‏بذاته‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يعنى ‏أن‏ ‏تحريك‏ ‏الجسد‏ (‏وأنا‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏هذا‏ ‏الحمل‏ ‏قرب‏ ‏المخاض‏) ‏فى ‏مواجهة‏ ‏الهواء‏ ‏المنعش‏ ‏والشمس‏ ‏البازغة‏ ‏والعرق‏ ‏المتصبب‏ ‏والدورة‏ ‏الدموية‏ ‏المنتفضة، ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏كان‏ ‏ينتج‏ ‏عنه‏ ‏ما‏ ‏يرتبنى ‏من‏ ‏جديد‏ ‏وبالتالى ‏يحضرنى‏ “‏بعد‏ ‏عودتى ‏من‏ ‏العدو‏ ‏فى ‏صورة‏ ‏فكرية‏ ‏مصقولة‏ ‏تظهر‏ ‏فى ‏عملى ‏كما‏ ‏حدث‏” – ‏آنذاك‏ – ‏ثم ‏ ‏أضفت‏ ‏أن‏ ‏فكرة‏ ‏الطبع (البصم: Imprinting) ‏ ‏التى ‏تحدثتُ‏ ‏عنها‏ ‏سالفا، ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏قبولها‏ ‏إلا‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏تصور‏ ‏لاماركى (‏نسبة‏ ‏إلى ‏لامارك‏) الذى تـُدَعـَّمَ مؤخرا بإنجازات الهندسة الوراثية الأحدث، ‏فهى ‏فكرة‏ ‏تدعم احتمال‏ ‏ترتيب‏ ‏الــ‏DNA ‏فى ‏الخلية‏ ‏المخية‏ ‏بالتناغم مع‏ ‏ترتيب‏ ‏مقابل‏ ‏فى ‏كل‏ ‏خلايا‏ ‏الجسد‏ ‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏الخلايا‏ ‏التناسلية‏ ‏التى ‏تنتقل‏ ‏من‏ ‏جيل‏ ‏إلى ‏جيل‏ ‏حاملة‏ ‏الخبرات‏ ‏المنطبعة‏([14]) (‏وليس‏ ‏بالضرورة‏ ‏الخبرات‏ ‏المتعلمة‏) ‏وتابعنى ‏الأستاذ‏ ‏صامتا، ‏ولكننى ‏لم‏ ‏أشعر‏ ‏منه‏ ‏بموافقة‏ ‏أو‏ ‏رفض‏ ‏كما‏ ‏اعتدت‏ ‏منذ‏ ‏حين، ‏فخجلت ربما لأننى نسيت نفسى وكأننى ألقى محاضرة، فتراجعت لأضرب مثلا أبسط، فأضفت‏ ‏أننى ‏حين‏ ‏عرفت‏ ‏عادة‏ ‏الأستاذ‏ ‏فى ‏المشى ‏ذهابا‏ ‏إلى ‏عمله‏ ‏كل‏ ‏صباح، ‏قـَدَّرْت‏ ‏أو‏ ‏افترضت‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏السير‏ ‏كان‏ ‏جزءا‏ ‏لا‏ ‏يتجزأ‏ ‏من‏ ‏طقوس‏ ‏إبداعه، ‏ليس‏ ‏فقط‏ ‏لتنشيط‏ ‏الجسد‏ ‏أو‏ ‏الترويح‏ ‏بعد‏ ‏طول‏ ‏الجلوس‏ ‏إلى ‏الورقة‏ ‏والقلم، ‏ولكننى ‏اعتبرتها‏ ‏عملية‏ ‏أساسية‏ ‏فى ‏الإسهام‏ ‏الإبداعى، ‏وهنا‏ ‏تصورت‏ ‏أن‏ ‏الأستاذ‏ ‏قد‏ ‏أقرَّنى ‏حين قال‏: “‏يجوز‏”، ‏لكنها‏ ‏كانت‏ “‏يجوز‏” ‏أكبر‏ ‏وأوضح‏ ‏من‏ “‏يجوز‏” ‏المجاملة‏ ‏أو‏ “‏يجوز‏” التعليق‏ ‏على حلمه السابق، وتأكدت أننى عجزت عن توصيل فكرتى، ولم يتح الوقت أكثر من ذلك‏.‏

وأستأذنت‏ ‏لأذهب للعيادة على ‏عينى‏.‏

الحلقة الثامنة والثلاثون

تلمذة دائمة

الخميس‏:23/2/1995

أصبحت‏ ‏أنتظر‏ ‏يوم‏ ‏الحرافيش‏ (الخميس) ‏بشعور‏ ‏مختلف‏ ‏عن‏ ‏سائر‏ ‏الأيام، ‏أمر‏ على أحمد مظهر‏ ‏ثم إلى توفيق صالح ‏لنذهب‏ ‏سويا‏ ‏إلى ‏الأستاذ‏ ‏ويسألنى ‏أحمد‏ ‏مظهر‏ ‏فى ‏الطريق‏ ‏إلى بيت توفيق‏ ‏صالح‏ ‏عن‏ ‏ما هو‏ ‏ ‏المرض‏ ‏الذى ‏تظهر‏ مظاهره ‏فى ‏العينين‏ ‏والتى ‏تعلن أنه سوف يؤدى ‏إلى ‏الموت القريب، وأسأله عن سبب سؤاله الغريب هذا، ‏وأعرف‏ ‏أنه‏ ‏يكتب‏ ‏نصا‏ أو يراجع نصا ‏عن‏ ‏السلطان‏ ‏قلاوون‏ ‏الذى ‏تولى ‏المُلـْكَ‏ ‏طفلا‏ ‏ولم‏ ‏يتزوج‏ ‏إلا‏ ‏فى ‏سن‏ ‏الرابعة‏ ‏والثلاثين (حسب روايته)، ‏وظل‏ ‏مخلصا‏ ‏لزوجته‏ ‏طول‏ ‏الوقت،‏ ‏وأسأل مظهر عن سر اهتمامه هكذا، وأفهم أنه ليس بالضرورة يستعد لمهمة فنية يقوم فيها بدور هذا الرجل، فحكى لى أن ‏المخرج‏ ‏قال له أن المعلومات التى يهتم بها هكذا ليس فيها ‏ ‏قصة‏ ‏حب، ‏وأنه ‏ ‏(المخرج) مضطر‏ ‏أن‏ “‏يحشر”‏ ‏قصة‏ ‏حب فى الحكاية هنا أو هناك، ‏ولو ‏مع‏ ‏جارية، ‏ ‏ثم‏ ‏يحول‏ ‏بينه‏ ‏وبين‏ ‏الزواج‏ ‏منها‏ لمرض قاتل لمحه فى عينيها، فلا يخدش بذلك التاريخ، قلت له يا بو حميد، وهل هذا كلام يصح؟ قال الفن فن، والتاريخ تاريخ، هذا شئ، وذاك شئ آخر، (ثم أكمل) أريد أن أسألك عن المرض الذى يمكن أن يظهر فى العين ويكون خطيرا وقاتلا، لأفهم منطق المخرج وهو يقترح حشر قصة حب السلطان لهذه الجارية المسكينة التى تموت قبل أن تتزوج، قلت له تقصد قبل ان تدخل التاريخ، ضحك، فذكرت له بعض خصومتى مع التاريخ حتى لو اعتبروه علما، وأن خصومتى تمتد من التاريخ، المروى شفاهة إلى التاريخ المكتوب ممنهجا، ولم يمنعه ذلك من أن يواصل الحكى عن وقائع وتفاصيل تاريخية، ليست فقط عن السلطان قلاوون، وإنما عن المماليك، والفاطميين وغيرهم، وكان يحكيه بحماس ويقين وكأن الأحداث حدثت أمس، وكأنه رآها شخصيا رأى العين، ولم يعتن باعتراضى المتكرر وإعلان رأيى أن أغلب هذه الحكايات هى من نسج الخيال، وأن ما يجرى بيننا – مثلا–  فى جلسة الحرافيش الليلة هو تاريخ ليس كمثله تاريخ، ومع ذلك فلا أحد يستطيع أن يحكيه كما يحدث، فكيف كتبوا هذا التاريخ بكل هذه الحوارات بنفس ألفاظها بعد مئات السنين، وهو لا يهتم بكل ذلك ويواصل حماسه، ثم راح يعرج بحديثه إلى مسائل لغوية جادة قـَابلـَتـْه أثناء فحصه هذا التاريخ وغيره، وأنه اكتشف من خلال ذلك روعة اللغة العربية ودقتها وإبداعها، ولم أكن أعرف عنه ذلك أيضا، بصراحة فرحت به وكأنى أكتشفه من جديد، هذا شخص آخر غير فتى الشاشة الفارس السمهرى محبوب الفاتنات، عرجت بالحديث مرة أخرى إلى ما آل إليه وزنه، وأبلغته أننى فرح أنه يبدو أنه قد استرد ولو كيلو أو اثنين منذ أول رمضان، ونبهته أن يحرص ألا يرجع إلى موقفه من الطعام من جديد، فوعدنى خيرا، وإن كنت لم أجد فى لهجته ما يـُطـَمـْنِن، ‏علمت أن ‏وزنه‏ ‏هو حول الخمسين‏ ‏كيلو جراما‏ وذكر لى‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏يلعب‏ ‏فى ‏وزن‏ ‏الديك‏ ‏طول‏ ‏عمره، ‏سألته‏ ‏ماذا‏ ‏كان‏ ‏يلعب، ‏فذكر‏ ‏لى ‏كيف‏ ‏حصل‏ ‏على ‏بطولات‏ ‏فى ‏الملاكمة، ‏وفرحت لهذه الإضافة الجديدة، وربما غرت قليلا أو كثير، لكنها غيرة بحب أبوى غريب، مع أنه أكبر منى سنـَّا، هل توجد غيرة بحب!!؟ هذا الفتى الفارس الملاكم الفنان كاد يذوى جسده حتى كاد يختفى لولا يقظة ذهنه الفائقة وهو يتكلم فى التاريخ واللغة والفن، وأحكى له قول المتنبى وهى يستدر عطف سيف الدولة وأن جسمه هزل (من فرط حبه لسيف الدولة!!) وهو يقول “كفى بجسمى نحولا أننى رجل، لولا مخاطبتى إياك لم ترنى”، وأضيف لمظهر منبها أننى أحيانا أكاد أرى صوته وفكره أكثر مما أرى حضوره جسدا وهو بكل هذا الذبول، وأوصيه أن يهتم بأكله، ويحترم ملاحظاتى، ويعدنى خيرا، ولا أثق فى وعوده مرة أخرى، إذ يبدو أن مخاوفه من الأكل، مع وحدته، مع فقد الشهية قد تضافروا عليه بلا رحمة.

بعد أن مررنا على الأستاذ واكتملنا فى العربة، انطلقنا إلى الجزء الأول من ليلة الحرافيش، ‏ ‏إلى “‏فندق‏ ‏الواحة” فى أول الطريق الصحراوى نجرب مكانا جديدا، نحن فى رمضان، ‏سرادق‏ ‏كبير، ‏وخدمة‏ ‏طيبة، ‏لكن‏ ‏الافتعال يفسد ‏كل المحاولات، هذه الفنادق الكبرى تقلد الأحياء العريقة والشعبية فى رمضان، فيبدو رمضان مصنوعا من البلاستك، نفس الشعور الذى انتابنى يوما وأنا أقارن الأويـْمـَة الدمياطية المتقنة على الموبيليا مع الأويمة البلاستك المسماة “بلاستو أويمو” التى يلصقونها لصقا فاشلا قابلا للتفكك فيعرى الكذب أكثر مما يزيـِّنُ الخشب، الحمد لله شعرت أن الأستاذ، وهو ابن الحسين، ودرب هرمز، والأزهر، لم يصله بفضل ضعف الحواس كل هذا القبح، وقاومت رغبة أن أنقل له مشاعرى السلبية هذه حرصا على مزاجه.

يفتح‏ ‏توفيق‏ من جديد ‏مع‏ ‏الأستاذ‏ ‏موضوع‏ ‏تنظيم‏ ‏الخروج بهذه الصورة الثابتة، ‏ويصر‏ ‏على ‏أن‏ ‏مقتضيات‏ ‏الأمن‏ ‏تستدعى ‏عدم‏ ‏تثبيت‏ ‏المواعيد‏ ‏والأماكن، ‏فأصر‏ ‏بدورى ‏على ‏أن‏ ‏التغيير المستمر خوفا من مجهول بهذه الصورة يفسد كل شىء، وأن هذا التغيير رعباً هو‏ ‏مخالف‏ ‏لطبع‏ ‏الأستاذ‏ ‏ولا لزوم له أصلا‏، ‏ثم‏ ‏إنه أيضا يحرم الأستاذ من أصدقائه الذين من حقهم أن يعرفوا أماكن تواجده يوميا بشكل ثابت ليتمكنوا من الحضور والمشاركة، ويُصِر توفيق، وأُصِر، ولا يتدخل مظهر، ‏وبعد‏ ‏مناقشات‏ ‏تفصيلية‏ ‏ألخص ‏ ‏للأستاذ‏ ما كنا فيه موضحا طريقة تفكيرى من حيث أن ‏ ‏الأوليات‏ ‏عندى هى ‏على ‏الوجه‏ ‏التالي‏: ‏راحته‏ ‏وألفته‏ ‏وعاداته، ‏ثم‏ ‏مقتضيات‏ ‏الأمن، ‏ثم‏ ‏التسهيل‏ ‏على ‏المريدين، ‏فأفاجأ بأنه يريد ‏أن‏ ‏تأتى ‏راحته‏ ‏وألفته‏ ‏وعاداته‏ ‏فى ‏المقام‏ ‏الثالث، ‏فأقول له إن اقتراح توفيق سوف يجعل حركتنا أشبه بحركة طرزان وهو يقلد القردة وينتقل من فرع شجرة إلى آخر، فيقول الاستاذ ضاحكا إن هذا جدير بأن يربك رجال الأمن أكثر منا، نحن بذلك سوف نجرجرهم معنا إلى حيث لا يعرفون كل مرة، ‏وحين‏ ‏يصل‏ ‏ضجرهم‏ ‏مما‏ ‏نفعل‏، (وتتسع ضحكته) سوف يتحولون إلينا ويخلصون علينا ويرتاحون، يقول ذلك وهو يميل إلى الخلف ويشير بيده كأنه يمسك مسدساتهم، ويقهقه، ثم يضيف مكررا أن الأمن قد عرض عليه مثل هذه الحراسة أو أقل أو أكثر قبل الحادث، وأنه شعر أنه سوف يختنق، وأنه سيكون سجين حركاتهم ومخاوفهم، ورفض الحراسة، فكان ما كان، فأؤكد له أن الأمن غير قادر إلا على منع “القضاء المستعجل”، وأذكره بمثلٍ أمى كانت تردده: أن “الباب المقفول يمنع القضا المستعجل”، فيستفسر منى أكثر، فأقول إن القـَضـَا (القدر) المخطط مع سبق الإصرار والترصد لا يمنعه باب مقفول ولا أمن محكم، فيوافقنى من حيث المبدأ مع اختلاف الظروف، ويعيد علينا ما قاله للمسئولين حين عرضوا عليه الحراسة قبل الحادث، بأن‏ ‏حراسته‏ ‏مستحيلة، ‏فإنه‏ ‏يلف‏ ‏القاهرة‏ ‏كلها‏ ‏يوميا، ‏فكيف‏ ‏يجر‏ ‏وراءه‏ ‏حارسا‏ ‏يذنبه‏ ‏هكذا‏ ‏طول‏ ‏الوقت، ‏وأن الحارس غالبا سوف “يطخه” تخلصا من كل هذا التعب، تماما كما عقب الآن على اقتراح توفيق بالحركة المُجَهّلة يوميا، وأؤكد لهم أنه لو كان حوله عشرون من رجال الأمن لحظة الحادث، ما كان أحدهم سوف يفعل ما فعله د. فتحى هاشم بتلقائية وحب وهو يجلس بجواره، كانوا سوف ينتبهون للقبض على المعتدى أكثر من انتباههم لوقف الدم المتدفق من رقبته والإسراع به إلى مستشفى الشرطة بحب ودعاء مستجاب والحمد لله. وينتهى النقاش بقبول رأيى فى تثبيت الأماكن مع الحذر، وأضحك، وأصر أنه “لا يغنى حذر عن قدر”، فيقول الاستاذ “إنت معانا ولا مع التانيين”، دون أن يشير إلى نكتة على سالم، (الحلقة الخامسة والثلاثون)

ثم‏ ‏ينتقل‏ ‏الحديث‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏نشر‏ ‏فى ‏الوفد‏ ‏حول‏ ‏فضفضة‏ ‏تعريف‏ ‏ما‏ ‏هو‏ “‏شرق‏ ‏أوسط‏” ‏ويأسف‏ ‏الأستاذ‏ ‏على ‏عدم‏ ‏قراءته ‏للصحف‏ ‏بنفسه شخصيا، لأنه‏ ‏وهو‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الحالة‏ ‏من‏ ‏الإعاقة‏ ‏الحسية‏ ‏كان‏ ‏يعتمد كليةً على ‏الحاج‏ ‏صبرى ‏ساعة أو بعض ساعة صباح كل يوم، ويضيف أن ما يصله من الأهرام مثلا من خلال تقليب الحاج صبرى له صفحة بصفحة، أنه انقلب إلى نشرة إعلانات مزركشة، وهكذا تحولت فائدة قراءة الصحف إلى أن يلم كل صباح ‏تماما‏ ‏بما‏ ‏يعلن‏ ‏عنه‏ ‏الناس‏ ‏وكأنه‏ ‏يدفع‏ ‏ثمن‏ ‏الأهرام‏ ‏ليحقق‏ ‏هدف‏ ‏المعلنين من زيادة أعداد التوزيع وبالتالى أعداد المستهلكين، كل ذلك دون اختيار من جانبه، ويضيف أنه لولا العادة، لاستغنى عن الأهرام أيضا وتركه لكل هذه الإعلانات اللحوح.

ننصرف‏ من الفندق مبكرا عن موعدنا، ‏ ‏فالمكان‏ ‏ليس‏ ‏مناسبا‏ ‏فعلا، لا هو فندق خمس نجوم، ولا هو رمضان شعبى، اختلطت الرفاهية الترفيهية البلاستيك بادعاء الشعبية الدينية الموسمية، فبدا الجو كله مصنوع  بغباء.

 ‏فى ‏منزل‏ ‏توفيق‏ ‏صالح‏ ‏عاد الجو الطيب يلفنا من جديد، خاصة وأن ‏الحرفوش الأخير، (الذى اصبح ‏ ‏”قبل‏ ‏الأخير”‏ ‏بالتحاقى، حسب تصنيف الأستاذ وتصحيحه باستمرار) “جميل شفيق” قد حضر بعد غيبة أسابيع،‏ ‏شعرت‏ ‏أنه‏ ‏أوحشنى ‏بجد، ‏فشعرت‏ ‏أكثر‏ ‏ ‏أننى ربما ‏أصبحت‏ ‏حرفوشا‏ ‏بجد، ‏الحديث‏ ‏هادئ ‏هذه‏ ‏الليلة، ‏بدأ‏ ‏توفيق‏ ‏يقرأ‏ ‏للأستاذ‏ ‏الكلمة‏ ‏التى ‏كتبتـُها‏ ‏فى ‏الأخبار([15])‏ ‏عن‏ ‏قراءتى‏ ‏القرآن فى رمضان مع والدى رحمه الله، ‏وفعلا‏ ‏كنت‏ ‏حريصا‏ ‏أن‏ ‏يسمعها‏ ‏الأستاذ، ‏طلب منى الأستاذ أن ‏أكملها‏ ‏له‏ ‏قراءة، ‏وكنت‏ ‏فخورا‏ ‏بها، ‏ففيها‏ ‏اجتهاد لقراءتى ‏ ‏كيف‏ ‏تنزل‏ ‏القرآن‏ ‏فى ‏ليلة‏ ‏القدر، ‏وفيها‏ ‏رؤية‏ ‏جديدة‏ ‏لحضور‏ ‏القرآن‏ ‏فى ‏الوعى، ‏وفيها رفض‏ ‏لاختزاله‏ ‏أو تفسيره،‏ ‏تجميده‏ – ‏فضلا‏ ‏عما‏ ‏فيها‏ ‏من‏ ‏ملامح‏ ‏طفولتى، ‏وتقبلها‏ ‏الأستاذ‏ ‏بقبول‏ ‏حسن، ‏لكن‏ ‏يبدو‏ ‏أننى ‏كنت‏ ‏أتوقع‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏أكثر.

ثم ‏حكى لنا‏ ‏جميل‏ ‏شفيق‏ ‏عن‏ ‏خبرته بالنسبة لحقوق النشر فيما يتعلق بلوحة ‏رسمها‏ ‏لنتيجة‏ ‏عالمية‏، وكيف أن ‏هيئة‏ ‏مصرية‏ ‏تعاقدت‏ ‏معه‏ ‏على ‏رسمها‏ ‏وظهرت‏ ‏فى ‏النتيجة‏ التى أصدرتها، ولكن لم ‏ ‏تصله‏ ‏أتعابه‏ حتى الآن وكلام‏ ‏من‏ ‏هذا، ‏ثم راح يشير إلى ‏اسماء‏ ‏فنانين‏ ‏أو‏ ‏مفكريين‏ ‏ ‏انقلبوا مضطرين إلى “شطّار” نتيجة لخبث هذه التعاملات التى ‏تـحول‏ ‏الفنان‏ ‏يأسا‏ ‏أو‏ ‏هربا‏ ‏أو‏ ‏قرفا‏ ‏من‏ ‏فنان‏ ‏صاحب‏ ‏رؤية‏ ‏وقضية‏ ‏إلى ‏شيء‏ ‏آخر، ‏وبدون‏ ‏ضرب‏ ‏مثال‏ ‏محدد‏ ‏قال‏ ‏جميل‏ ‏إن‏ ‏فنانا عربيا‏ ‏يدعى ‏برهان‏ ‏كركوتلى (أرجو أن يكون هذا هو اسمه) كان‏ ‏رساما‏ ‏مُهـِمـَّا‏ ‏وعاش‏ ‏فى ‏المانيا‏ ‏وتزوج‏ ‏من‏ ‏ألمانية‏ ‏وهو‏ ‏حاضر‏ ‏الآن‏ ‏فى ‏مصر‏ ‏ليحضر‏ ‏تخرج‏ ‏ابنه‏ ‏من‏ ‏الجامعة‏ ‏الأمريكية،‏ ‏هذا‏ ‏الفنان‏ ‏ترك‏ ‏الرسم‏ ‏والقضية‏ (‏الفلسطينية‏) ‏وراح‏ ‏يعمل‏ ‏حكواتى ‏بالألمانية، ‏فى ‏ألمانيا، ‏وقد‏ ‏وجدها‏ ‏طريقة‏ ‏أكسب، ‏وهو‏ سوف يعقد‏ ‏حاليا فى ‏نقابة‏ ‏الصحفيين المصريين ‏ ‏ليلة‏ ‏مماثلة‏ ‏لكن‏ ‏حكايته‏ ‏الليلة سوف‏ ‏يحكيها‏ ‏بالعربية، ‏والأهم‏ ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏أنه سوف يعرض‏ ‏شريط‏ ‏فيديو‏ ‏قد‏ ‏سجله‏ ‏لرقصات‏ ‏زوجته‏ ‏الألمانية‏ ‏التى ‏طلقها‏، ‏والتى ‏غوت‏ ‏الرقص‏ ‏الشرقى ‏بعد‏ ‏زيارة‏ ‏إلى ‏سوريا، ‏ثم‏ ‏تقمصته، ‏ثم‏ ‏تعلمته، ‏ثم‏ ‏راحت‏ ‏تفتح‏ ‏له‏ ‏المدارس‏ ‏وتـُعـَلـِّمه‏ فذاعَ وراج ‏حتى ‏صار‏ ‏بجهودها وجهود غيرها‏ ‏‏فى ‏المانيا‏ 20.000 ‏عشرون‏ ‏ألف‏ ‏راقصة شرقية، ‏ بصراحة لست متأكدا من نطق اسم هذا الحكواتى، كما أننى استسلمت للرقم دون تصديق نهائى، ودون تكذيب أيضا، ليس فقط الرقم الذى أدهشنى، ولكن أيضا علاقة هذا الرجل بزوجته بعد أن انفصلا، ‏قال‏ ‏توفيق‏: ‏من‏ ‏منا‏ ‏يجرؤ‏ ‏أن‏ ‏يعمل‏ ‏هذا‏ ‏مع‏ ‏زوجته، فقلت له: ومن منا له زوجة بهذه المواصفات حتى تطرح سؤالك هذا؟ وضحك الأستاذ.

أحببت فى بيت توفيق‏ ‏هذه‏ ‏الحجرة‏ ‏المظلمة‏ نصف نصف، ‏بغض‏ ‏النظر‏ ‏عما‏ ‏يجرى ‏فيها‏ ‏من‏ ‏أحاديث‏‏، الأستاذ لا يتحمل الضوء الباهر، ومن حسن توزيع الإضاءة وتثبيتها، أصبح لضوئها ما ذكرت عنه حالا، انتقل حديث جميل شفيق إلى الإشادة بالفن التشكيلى فى إيران، وأنه يتطور ويتقدم مثل السينما الإيرانية، وان الثورة الإسلامية لم تعق خطى هذا أو ذاك بالرغم من كل المزاعم (وجميل شفيق قبطى جميل)، تذكرت‏ ‏فجأة‏ ‏إسم‏ ‏الفيلم‏ ‏الإيرانى ‏الذى ‏شاهدته‏ ‏قبل‏ ‏الثورة‏ ‏الإسلامية، ‏وهو‏ ‏فيلم‏ “‏الغريب‏ ‏والضباب‏”، وأننى كتبت عنه نقدا مهما([16])، وعقب‏ ‏توفيق‏ ‏بأن‏ ‏السينما‏ ‏فى ‏إيران‏ ‏الآن‏ ‏أرقى ‏منها‏ ‏فى ‏مصر، ‏وأنه‏ ‏شاهد‏ ‏فيلما‏ ‏إيرانيا‏ ‏فى ‏إيطاليا‏‏ ‏وكان إبداعا‏ ‏شديد‏ ‏الإتقان‏. ‏وأن المخرجة‏ ‏إمرأة‏ ‏ومحجبة‏، ‏فقال‏ ‏أحمد‏ ‏مظهر‏ ‏إن‏ ‏عندنا‏ ‏أيضا‏ ‏مخرجات‏ ‏مثل‏ ‏إيناس‏ “‏الدغيدي‏” ‏وانعام‏ ‏الجريتلى ‏وإنهما‏ ‏كذا‏ ‏وكيت، ‏ثم‏ ‏كيت‏ ‏وكذا، ‏ثم‏ ‏ما‏ ‏لا‏ ‏يقال

تحول الحديث إلى كتابة السيناريو، وأفتى توفيق بتفاصيل تنفع جاهلا مثلى عن كيفية كتابة السيناريو، وأنه إبداع مستقل، وأنه يساعد المخرج بشكل هائل، ‏وسأل‏ ‏أحمد‏ ‏مظهر‏ ‏توفيق‏ ‏عن‏ ‏الفرق‏ ‏بين‏ ‏كتابة‏ ‏السيناريو‏ ‏بالطريقة‏ ‏المصرية‏ ‏المستمدة‏ ‏من‏ ‏النظام‏ ‏الفرنسى ‏وبين‏ ‏الطريقة‏ ‏الامريكية‏ ‏على ‏وجه‏ ‏التحديد، ‏فذكر‏ ‏له‏ ‏كلاما‏ ‏بدا لهما مهما، وراح ‏توفيق‏ ‏يشرح‏ ‏على ‏ورقة، ‏وذكر‏ ‏أن‏ ‏الطريقة‏ ‏المصرية‏/‏الفرنسية‏ ‏تكتب‏ ‏المشاهد‏ ‏على ‏اليمين‏ ‏ثم‏ ‏تترك‏ ‏ثلث‏ ‏الصفحة‏ ‏للإشارة‏ ‏إلى ‏الصوت‏ ‏(‏الحوار)، ‏أما‏ ‏الطريقة‏ ‏الإنجليزية‏ ‏فتشغل‏ ‏الصفحة‏ ‏كلها‏، ‏مع‏ ‏الإشارة‏ ‏إلى ‏الحوار‏ ‏أسفل‏ ‏كل‏ ‏فقرة، ‏ ‏إلى ‏آخر‏ ‏ما‏ ‏لم‏ ‏أفهم‏ ‏من‏ ‏تفاصيل، ‏المهم‏ ‏فى ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏هو‏ ‏منظر‏ ‏الأستاذ، ‏وهو‏ ‏كاتب‏ ‏سيناريو لفترة مهمة من حياته، ‏وهو‏ ‏يشرئب‏ ‏بعنقه ليتابع، شرح توفيق لمظهر، ‏ويحاول‏ ‏بنظره‏ ‏المحدود‏ ‏وسمعه‏ ‏المتواضع‏ ‏أن‏ ‏يلتقط‏ ‏الحوار‏ ‏ويتابع‏ ‏التخطيط‏ على الورق ليعرف‏ ‏الفروق، ‏ما زلت منبهرا من احتفاظه بكل هذه‏ ‏الرغبة‏‏ ‏للتعلم‏ ‏والدهشة‏ ‏والاستزادة، حتى مما يعرف، استمر‏ ‏توفيق‏ ‏فى ‏حواره‏ ‏مع‏ ‏مظهر‏ ‏فنبهته‏ ‏إلى ‏رغبة‏ ‏الأستاذ‏ ‏فى ‏المتابعة، ‏فأعاد‏ ‏عليه‏ ‏شرح‏ ‏الفروق، ‏فقال‏ ‏الأستاذ‏ ‏”أهكذا؟‏!! ‏هذه‏ ‏إضافة‏ ‏لم أكن أعرفها”، ‏

ما‏ ‏كل‏ ‏هذه التلمذه المبدعة؟‏ ‏ربنا‏ ‏يخليه‏.‏

ثم تطرق‏ ‏الحديث‏ ‏إلى ‏ضرب‏ ‏العود، ‏وذكر اسم أمين‏ ‏بك‏ ‏المهدى (يارب يكون الاسم صحيحا) ‏أول‏ ‏وأعظم‏ ‏من‏ ‏عزف‏ ‏على ‏العود‏ ‏قديما، ‏وكيف‏ ‏أنه‏ ‏اشترى ‏البكوية‏ ‏بكذا‏ ‏من‏ ‏المال، ‏وكان‏ ‏هذا‏ ‏عرفا‏ ‏متبعا‏ ‏ومفيدا، ‏ثم‏ ‏ذكر‏ ‏سامى ‏الشوا‏ ‏وكيف‏ ‏عُـرض‏ ‏عليه‏ ‏من‏ ‏حوالى ‏خمسين‏ ‏سنة‏ ‏مبلغ‏ ‏ألفين‏ ‏دولار‏ ‏للعزف‏ ‏فى ‏أمريكا، ‏ثم‏ ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏العود‏ ‏كان‏ ‏من‏ ‏أربعة‏ ‏أوتار‏ ‏فقط، ‏ثم‏ ‏أضيف‏ ‏إليه‏ (‏من‏ ‏العراق‏) ‏وتر‏ ‏خامس، ‏وأحينا‏ ‏وتر‏ ‏سادس، ‏وتحدث‏ ‏جميل شفيق عن‏ ‏فرقة‏ ‏تنشد‏ ‏فى ‏المسرح‏ ‏الصغير‏ فى الأوبرا ‏تواشيح‏ ‏دينية‏ فى رمضان ‏فذكر‏ ‏توفيق‏ ‏أنه‏ ‏من ‏عهد‏ ‏محمد‏ ‏على ‏إلى ‏عهد‏ ‏سعيد‏ ‏باشا‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏فى ‏مصر‏ ‏غير‏ ‏الأناشيد‏ ‏الدينية، ‏ثم‏ ‏حدث‏ ‏التطور‏ ‏من‏ ‏الاختلاط‏ ‏بالأتراك‏ ‏ذهابا‏ (‏محمد‏ ‏عثمان، ‏وسى ‏عبده‏) ‏وإيابا‏ ‏لما‏ ‏استدعى ‏الخديوى ‏بعض‏ ‏الملحنين‏.‏

لست‏ ‏أدرى ‏ما‏ ‏الذى ‏عرج‏ ‏بالحديث‏ ‏إلى ‏على ‏أحمد‏ ‏باكثير‏، أظن أنه أحمد مظهر، حين ذكر كيف أن باكثير ‏أراد‏ ‏تحوير‏ ‏نص‏ ‏كان‏ ‏سيقوم‏ ‏فيه‏ ‏أحمد‏ ‏مظهر‏ ‏بدور‏ ‏متميز، ‏وإذا‏ ‏به‏ ‏يغيره‏ ‏تماما‏ ‏إلى‏ ‏الناحية‏ ‏التى ‏يراها‏ ‏أصوب‏ (‏الناحية‏ ‏الأخلاقية‏ ‏فى ‏الآغلب‏) ‏وكيف أن هذه الوصاية يمكن أن تفسد الإبداع، وذكرت رأيى فى كتابات باكثير أنها هادئة أكثر من اللازم، فتطرق الحديث‏ ‏إلى‏ ‏يوسف‏ ‏السباعى ‏وأعاد توفيق والأستاذ ما دار أمس (الأربعاء)‏ فى ‏صوفيتيل‏ ‏المعادى، ‏حيث‏ ‏ذكروا‏ ‏يوسف‏ ‏السباعى ‏كمثال‏ ‏لصاحب‏ “‏الأسلوب‏ ‏غير‏ ‏المتغير”، ‏وهى ‏الصفة‏ ‏التى ‏لا‏ ‏يشْرُفُ‏ ‏بها‏ ‏المبدع‏ ‏الأصيل، ‏فاستثنيت‏ ‏من‏ ‏أعماله‏ “‏السقا مات‏” ‏وكان‏ ‏لمز‏ ‏قد‏ ‏سرى ‏فى ‏جلسة‏ ‏سابقة‏ ‏على ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الرواية‏ ‏المتميزة‏ ‏المختلفة عن‏ ‏كل‏ ‏أعماله‏ ‏ليست‏ ‏من إبداعه شخصيا‏، ‏وأن‏ ‏أباه‏ “‏محمد‏ ‏السباعي‏”، ‏هو‏ ‏الذى ‏كتبها‏، ‏وغمز‏ ‏لى ‏توفيق‏ ‏أن‏ ‏الأستاذ‏ ‏يحب‏ ‏يوسف‏ ‏السباعى (‏وثروت‏ ‏أباظة‏)، فأضفت باسما هامسا “وكل الناس”، سألت‏ ‏الأستاذ‏ ‏مباشرة، ‏فقال‏ ‏إن‏ ‏يوسف‏ ‏السباعى ‏كان‏ ‏يكتب‏ ‏قصصا‏ ‏قصيرة‏ ‏سريعة‏ ‏تتميز‏ ‏بميزة‏ ‏مهمة‏ ‏وهى ‏أنها‏ “‏مرحة‏”، ‏قالها‏ ‏بيقين‏ ‏وأمانة متذوق‏ ‏محب‏ ‏فعلا، ‏وحاولت‏ ‏أن‏ ‏أجهد‏ ‏ذاكرتى ‏فى ‏تذكر‏ ‏ولو‏ ‏قصة‏ ‏واحدة‏ ‏قصيرة‏ مرحة‏ قرأتها ليوسف السباعى ‏فلم‏ ‏أفلح، ‏لكننى ‏أضفت‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ خفيف الظل فعلا فى بعض الأحيان وهو يكتب المقال لا القصة، وأننى ‏مازلت‏ ‏أذكر‏ ‏مقالا‏ ‏له‏ ‏يصف‏ ‏حاله‏ ‏وحال‏ ‏حماه‏ (‏طه‏ ‏السباعي‏) ‏حين‏ ‏هاجما‏ ‏زوجتيهما‏ ‏لكثرة‏ ‏التنظيف‏ ‏والوسوسة‏ ‏والحركة المنزلية ليل نهار.‏ ‏ثم‏ ‏سبقتهما‏ ‏الزوجتان للمصيف، ‏وتخلص‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏يوسف‏ ‏وطه‏ ‏باشا‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏المبالغة‏ ‏النسائية‏ ‏التنظيفية، ولكن سرعان ما ‏بدأت‏ ‏آثار‏ ‏ا‏لحرية الرجولية‏ ‏تتراكم‏ ‏شيئا‏ ‏شيئا‏ ‏فى ‏الحجرات‏ ‏والمطبخ‏ ‏وغيرها‏ ‏حتى ‏انقلب‏ ‏البيت‏ ‏فى ‏خلال‏ ‏أيام‏ ‏إلى ‏خليط‏ ‏عجيب‏ ‏من‏ ‏الأشياء‏ ‏المبعثرة‏ ‏صعبة‏ ‏التمييز‏ ‏والتصنيف‏ حتى استحق التشبيه بأنه أصبح مثل مقلب قمامة عصرى جدا.‏

انتقل‏ ‏توفيق‏ ‏للتعقيب‏ ‏عما‏ ‏نشره‏ الاستاذ ‏عن‏ ‏جمال‏ ‏عبد‏ ‏الناصر‏ ‏متحاورا‏ ‏مع‏ ‏سلماوى ‏فى ‏أهرام‏ ‏اليوم‏ (‏وجهة نظر الخميس‏ 23/2) ‏قال‏ ‏إن‏ ‏هذه‏ ‏أول‏ ‏مرة‏ ‏يقارن‏ فيها الأستاذ ‏بين‏ ‏عبد‏ ‏الناصر‏ ‏وسعد‏ ‏زغلول، ‏فنبهته‏ ‏إلى ‏أنه‏ ‏لم‏ ‏يقارن‏ ‏بينهما‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏قارن‏ ‏بين‏ ‏علاقة‏ ‏جيله‏ ‏أصلا‏ (‏جيل‏ ‏الأستاذ‏)، ‏بسعد‏ ‏زغلول، ‏وعلاقة‏ ‏جيل‏ ‏الثورة‏ ‏بعبد‏ ‏الناصر، ‏فأشار الاستاذ‏ ‏أن‏ ‏ايجابيات‏ ‏عبد‏ ‏الناصر‏ ‏قدر‏ ‏هكذا‏ (‏وأشار‏ ‏بيديه‏ ‏مثل‏ ‏طفل‏ ‏يقول‏ ‏له‏ ‏والده‏ ‏بتحبنى ‏قدرماذا؟‏) ‏وأنه‏ ‏لم‏ ‏ينكرها‏ ‏فى ‏يوم‏ ‏من‏ ‏الأيام، ‏فتذكر‏ ‏توفيق‏ ‏صالح وحكى عن‏ ‏ثورة‏ ‏لويس‏ ‏عوض‏ ‏حتى ‏السٍّباب المقذع‏ ‏حين‏ ‏هاج‏ ‏على ‏صلاح‏ ‏جاهين فى إحدى أمسيات الحرافيش‏ ‏وهو‏ ‏متحمس‏ ‏لعبد‏ ‏الناصر‏ أشد الحماس دون تحفظ، وحين‏ ‏هم‏ ‏توفيق‏ ‏بالدفاع‏ ‏عن صلاح‏ ‏هاج‏ لويس عوض ‏عليه‏ ‏بدوره‏ ‏لأنه‏ ‏كان‏ ‏قد أفرط ….، ‏وقال‏ ‏الأستاذ‏ ‏إن‏ ‏لويس‏ ‏عوض‏ ‏حين‏ ‏كان‏ ‏يزودها كان‏ ‏ينطلق‏ ‏على ‏سجيته‏ ‏بلا‏ ‏حدود، ‏وذكروا‏ ‏جميعا‏ ‏أن موقفه‏ ‏هذا‏ ‏قد‏ ‏ظهر‏ ‏أكثر‏ ‏بعد‏ ‏خبرة‏ ‏اعتقاله‏ ‏أيام‏ ‏عبد‏ ‏الناصر‏.‏

انتهت‏ ‏الليلة‏ ‏هادئة‏ ‏طيبة‏ ‏بحكاية‏ ‏حكاها‏ ‏مظهر‏ ‏قال‏:

سوف‏ ‏أحكى ‏لكم‏ ‏حكاية، ‏الذى ‏لا‏ ‏يضحك‏ ‏منكم‏ ‏عليها‏ ‏سأعطية‏ ‏مائة‏ ‏جنيه، ‏فضحكنا‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يحكيها، ‏وطمأنتة‏ ‏أنه‏ ‏الآن‏ ‏”فى ‏السليم‏”، ‏إذ‏ ‏ضمن‏ ‏مسبقا‏ ‏أننا‏ ‏ضحكنا، ‏فرفض‏ ‏هذا السماح‏ ‏وقال‏ ‏إنه لن يحسب‏ ‏الضحك‏ ‏إلا‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏ينتهى ‏من‏ ‏الحكاية، ‏ ‏قال‏:

 ‏إنه‏ ‏تعود‏ ‏أن‏ “‏ينسى” ‏هذه‏ ‏الأيام‏، ‏بحكم‏ ‏السن‏ ‏أو‏ ‏غير‏ ‏ذلك، ‏وأن‏ ‏هذا‏ ‏النسيان‏ ‏يبلغ‏ ‏قمة‏ ‏خطورته‏ ‏حين‏ ‏ينسى ‏شيئا‏ ‏على ‏النار‏ ‏التى ‏يشعلها‏ ‏ليسوى ‏أو‏ ‏يسخن‏ ‏شيئا يأكله، ‏ثم‏ ‏ينسى ذلك ‏لدرجة‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يعود‏ ‏ليطفيء‏ ‏البوتاجاز‏ ‏فى الوقت المناسب، فيترتب على ذلك أن يحرق ما على النار، حتى يكاد يتفحم الإناء، وتتصاعد الأدخنة والروائح تملأ كل الشقة، وان هذا يزعجه جدا وهو الذى يخشى التسمم من الهواء الطلق، كما يخشى الحريق طبعا، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏قال إنه ‏ ‏يعانى ‏حاليا‏ ‏من‏ ‏أنه‏ ‏إذا‏ ‏تذكر‏ ‏أغنية‏، أية أغنية تظل ‏ ‏تلف‏ ‏فى ‏رأسه‏ ‏تكرر‏ ‏نفسها‏ ‏ولا‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يتخلص‏ ‏منها‏ ‏إراديا‏ (‏فرحت‏ ‏بالوصفين‏ ‏معا‏ ‏وقد ارتبطا فى سرى بمعلومات‏ ‏فى ‏تخصصى تنعلق بهذه السن ودعوت لى وله بالستر‏) ‏ثم يكمل مظهر: إنه بناء على هذا وذاك، قال‏ ‏لنفسه‏: ‏الأفضل‏ ‏أن‏ ‏يحاول‏ ‏أن‏ ‏يربط‏ ‏بين الظاهرتين ‏بأن‏ ‏يؤلف‏ ‏أغنية‏ ‏تذكّره‏ ‏بما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏ينساه، ‏فإذا‏ ‏وضع‏ ‏الفرخة‏ ‏على ‏النار مثلا، ‏راح‏ يردد لنفسه بتنغيم: “‏الفرخة‏ ‏عالنار‏” ‏الفرخاا‏ ‏عالنار‏” ‏وبالتالى ‏سوف‏ ‏تستمر‏ ‏الأغنية‏ تلف فى فكره ‏للتنبيه، ‏وبدلا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏يحاول‏ ‏طردها‏ ‏سوف‏ ‏تذكره‏ ‏بما‏ ‏ينبغى ‏ليرفع‏ ‏الفرخة‏ ‏من‏ ‏على ‏النار فى الوقت المناسب، وبذلك‏ ‏يستفيد‏ ‏مما‏ ‏كان يعانى ‏منه، ‏بدلا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏يشكو‏ ‏منه، ثم ذكر كيف‏ ‏نجحت‏ ‏الفكرة إلا قليلا، وأنه أطفأ البوتاجاز فى وقت مناسب فعلا، وقد توقع أن الأغنية لابد أن تتوقف لأنها أدت الغرض، لكنها استمرت‏ – ‏حتى ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏لم‏ ‏تـَعُدْ‏ ‏”الفرخا ‏عالنار”‏ وأنه لم يعرف كيف يتخلص منها لمدة ليست قصيرة.

ضحكنا جميعا ليس لطرافة الحكاية بقدر ما ضحكنا لتصور منظره وحيدا فى الشقة يتحايل على صعوبات الذاكرة، كما يتحايل على إلحاحها بعد قليل بهذا الإبداع العملى، تساءلت دون أن أعلن:‏ ‏ما‏ ‏الذى ‏يرغم‏ ‏هذا‏ ‏الفنان المحبوب‏ ‏المتعدد‏ ‏المواهب‏ ‏على ‏هذه‏ ‏الحياة‏ ‏الوحيدة‏ ‏لدرجة‏ ‏التعرض‏ ‏لهذه‏ ‏الصعوبات هكذا؟

لست أدرى أيضا ما الذى عرج بالحديث إلى عبد الرحمن بدوى بالذات، لعلها المقارنة بين سلاسة حضور وحكى أحمد مظهر، وبين تجهم عبد الرحمن بدوى العبوس دائما، حكى الأستاذ عن واقعة غريبة عن عبد الرحمن بدوى حين كان يسير أمام كازينو الأوبرا ذات يوم، فالتقى بالشيخ كامل عجلان، فحياه الشيخ كامل فرد عليه د. عبد الرحمن بدوى بجهامة بادية فما كان من الشيخ كامل عجلان إلا أن هجم عليه، وتشابكا، وكان أهم ما فى الحكى هو منظر الأستاذ وهو يمثل ما جرى ويضحك

فنضحك

فرحت بالحكاية، وتعجبت من التلقائية وأحببت الأستاذ وهو يحكى

 ‏وعند‏ ‏انصرافنا‏ ‏ذكرتهم‏ ‏بأن‏ ‏الخميس‏ ‏القادم‏ ‏هو‏ ‏أول‏ أيام ‏العيد‏.‏

فأجابنى ‏الأستاذ‏ ‏إن‏ ‏ميعاد‏ ‏الحرافيش‏ ‏مستمر‏ ‏تحت‏ ‏كل‏ ‏الظروف‏ ‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏العيد‏.‏

الحلقة التاسعة والثلاثون

حركية الوعى وتشكيلات السعى نحو الإيمان

الجمعة‏: 23/2/1995

دعانى ‏مصطفى ‏إبنى ‏للأفطار‏ ‏فى ‏بلدتنا، هورين، ‏مثل‏ ‏كل‏ ‏رمضان، كنت قد حدثت الأستاذ عن هذه العادة، وسُرَّ بالتقليد، لكننى كنت أحدثه لا لأستأذنه فى الذهاب مع إبنى والتأخر عليه، ولكن ضمن ما كان يسمح لى به بالحديث الشخصى عن بلدتنا بالذات، فهو يقر ويعترف أنه لا يعرف الريف المصرى (ولا غير المصرى)، ويحب أن يسمع أحيانا منى، لم يقبل اعتذارى لابنى من أجل خاطره، أصر ألا أقطع لابنى عادة، وأن ألبى دعوته ولو على حساب موعده، قلت له إننا فى رمضان، وأننى سوف أكسر صيامى مع العائلة، وأحضر فورا من قريتى، وهى ليست بعيدة، وكل ما يمكن أن أتأخره ليس أكثر من نصف ساعة، ووافق مطمئنا إلى أننى لن أخذل إبنى. هذا الرجل!!! رقة هذا الرجل شديدة الدقة والرهافة، يصلنى إبداعه أحيانا صاخبا محيطا ثائرا حتى لا أستطيع أن أتصور أنه يخرج من إنسان بكل هذه الرقة، المهم ‏انتهيت‏ ‏من الإفطار ‏فى ‏دقائق، ‏ولم‏ ‏أتمكن‏ ‏من‏ ‏تغيير‏ ‏ملابسى، ‏و….وهيا‏.‏

وصلت القاهرة ‏ ‏خلال‏ ‏ساعة‏ ‏واحدة‏ ‏ووصلت إلى ‏الأستاذ فى منزلى متأخرا عن الموعد العادى بضع دقائق‏ ‏(وقبل الوقت الذى استأذنت أن أتاخره هذه الليلة) تعجب من سرعة حضورى، وتصور أننى لم ألبّ دعوة ابنى، لكنه ‏لاحظ‏ ‏‏الجلباب‏ ‏المغربى ‏الذى ‏أرتديه، ‏وقال‏ ‏مازحا‏ بعد أن اطمأن أننى أفطرت مع عائلتى، قال ‏ونحن‏ ‏على ‏باب‏ ‏بيته‏ ‏بصوت‏ ‏منغم‏ ‏طيب‏ “‏شا‏ ‏الله‏ ‏ياسيدنا ‏ ‏المغربى‏”.

 ‏كان‏ ‏توفيق‏ ‏على ‏موعد‏ ‏مع‏ ‏رأفت‏ ‏الميهى ‏لمشاهدة‏ ‏فيلم‏ ‏فى ‏عرض‏ ‏خاص‏ ‏قبل‏ ‏عرضه‏ ‏على الجمهور، ‏ ‏قال‏ ‏لنا‏ ‏أنه‏ ‏لن‏ ‏يعلق‏ ‏على ‏الفيلم حتى لا يجرح أحدا، لكنه ‏‏مضطر‏ ‏للذهاب‏ ‏للمجاملة، ‏حضر‏ ‏بسيارته‏ ‏ليغادرنا وقتما يشاء، اليوم الجمعة، واللقاء فى منزلى، ‏قبل‏ ‏انصراف‏ ‏توفيق‏ ‏حضر‏ ‏زكى ‏سالم، ‏وشقيقته،‏ ‏المهندسة‏: جميلة‏ ‏صامتة‏ ‏تدرس‏ ‏علم‏ ‏نفس‏ ‏بعد‏ ‏الهندسة‏ ‏(لست أدرى لماذا!!) ‏ثم‏ ‏حضر‏ ‏بعد‏ ‏قليل‏ ‏نعيم‏ ‏صبرى، ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يمضى ‏توفيق‏ ‏تكلم‏ ‏عن‏ ‏فيلم‏ ‏شاهده، ‏وعن‏ ‏الرقابة، ‏وعن‏ ‏التكلفة‏ ‏العالية‏ ‏هذه‏ ‏الأيام، ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏فى سياق الحديث عن ‏ ‏تدهور‏ ‏حال‏ ‏السينما مؤخرا، ‏وكان‏ ‏قد‏ ‏تكلم‏ ‏أمس‏ ‏عن‏ ‏المخرج‏ ‏صلاح‏ ‏أبو‏ ‏سيف، ‏وإبنه‏ ‏محمد، ‏وبدا‏ ‏متحفظا‏ ‏فى ‏مسألة‏ ‏تكريمه، ‏فحكيت‏ ‏له‏ ‏ما‏ ‏استشهد‏ ‏به‏ ‏سيجموند‏ ‏فرويد‏ ‏أثناء‏ ‏تكريم‏ ‏أحد‏ ‏المديرين‏ ‏بعد‏ ‏إحالته‏ ‏للمعاش‏ ‏حين‏ قال ‏أحد‏ ‏الخطباء من تلاميذه: ‏‏إن‏ ‏”جمود‏” ‏هذا‏ ‏الرائد‏..بدلا من أن يقول إن “جهود” هذا الرائد، وقد استنتج فرويد من زلة اللسان هذه رأى الخطيب فى الرئيس المكرم، ونبهت توفيق أن يأخذ باله من فلتات لسانه.

لم‏ ‏أجد‏ ‏موضوعا‏ ‏مناسبا‏ ‏نبدأ‏ ‏به، ‏أو‏ ‏بمعنى ‏أدق‏ ‏نواصل‏ ‏فيه، ‏فانتهزت‏ ‏الفرصة‏ ‏ورجعت‏ ‏إلى ‏موضوع‏ ‏ما‏ ‏يميز‏ ‏الإسلام‏ ‏موقفا‏ ‏فى ‏الحياة، ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏معتقدا‏ ‏فكريا‏ ‏أو‏ ‏سلوكا‏ ‏طقسيا، أو دينا منزلا، ‏وصلنى‏ ‏أن‏ ‏الأستاذ‏ ‏ربما يكون‏ ‏الوحيد‏ ‏الذى ‏التقط‏ ‏ما‏ ‏أعنيه‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏الإسلام‏ ‏هو‏: ‏(1)  فطرة‏ ‏سليمة، (2) ‏ وتجاوز‏ إلى ‏الـــ‏ “‏ما‏ ‏بعد‏”،   ‏ثم (3) مصب‏ ‏فى ‏المجموع‏ (‏وهكذا‏ ‏معظم‏ ‏الأديان‏ ‏النقية‏)، ‏وبالتالى ‏فلا‏ ‏يجوز‏ ‏أن‏ ‏نحكم‏ ‏عليه‏ ‏بمقتطف‏ ‏من‏ ‏هنا‏ ‏أو‏ ‏فتوى‏ ‏من‏ ‏هناك‏ ‏لمجرد نسبة هذا أو تلك إلى ما يطلقون عليه “الإسلام”، ‏آثار‏ ‏زكى ‏سالم‏ ‏قضية‏ ‏متفرعه‏ ‏على ‏الوجه‏ ‏التالى: ‏إنه‏ ‏يتعجب‏ ‏من‏ ‏عدد‏ ‏وفير‏ ‏من‏ ‏محبى ‏الأستاذ‏ ‏المخلصيين‏ ‏الذين‏ ‏يقرؤونه‏ ‏فيجدون‏ ‏فيه‏ ‏ما يعتبرونه‏ ‏من‏ ‏الالحاد، ‏فى ‏حين‏ ‏أن‏ ‏عددا‏ ‏آخر‏ ‏بنفس‏ ‏الوفرة‏، وربما ‏أكثر‏ ‏يقرؤونه‏ ‏فيجدونه‏ ‏مؤمنا‏ ‏شديد‏ ‏الإيمان‏ ‏بل‏ ‏داعيا‏ ‏إلى ‏الإيمان، ‏وينتظر المجتمعون تعقيب الأستاذ فيرفع‏ ‏ ‏حاجبيه‏ ‏ويهز‏ ‏رأسه‏ ‏ويرحب بالاختلاف على شرط أن يدعم كل صاحب رأيه وجهة نظره، فيحتج البعض بأن إثارة هذه القضية على الملأ، مدعمة بالآراء والاستشهادات، خاصة فى شقها الأول (الإلحاد) هى التى أدت بنا إلى الكارثة التى حدثت، ونتفق على أن هناك قضايا شفاهية وقضايا مسجلة، وأنهما ليستا متطابقتين، وأفرح لما يدعم رأيى وشكوكى فى أغلب ما يسمى “التاريخ”.

‏ ‏أحكى ‏للأستاذ‏ ‏عن‏ ‏أن د. صبرى حافظ قد أرسل لى نسخة من ترجمة أطروحتى النقدية فى ملحمة الحرافيش إلى الإنجليزية ‏لإبداء رأيى فيها، وهذا تقليد طيب وإن كان ليس إلزاما للمترجم طبعا، لكننى تعجبت أنها ترجمة خالية من الفكرة الأساسية التى أردت تقديمها من خلالها، بل إن بعض أجزاء جوهرية منها لم تصل إلى المترجمة، فيستفسر منى الأستاذ أكثر، وأرجح أن أحدا لم يقرأ له دراستى هذه، وأستبعد أن تكون قد قـُرأَتْ عليه شخصيا ونسيها، فأنا أثق فى ذاكرته تماما، قلت له بإيجاز شديد كيف أننى حاولت أن أثبت فيها أن الخلود (الدنيوى، دون أن أحدد ذلك) هو ضلال وهمى يكافئ الموت العدم الساكن، فى حين أن الوعى بالموت هو الدافع الحقيقى للحياة، وأن هذه الدراسة قد تناولت فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏محاولة تدعيم فكرى فى ما هو “الإيقاع الحيوى”، أساسا لقوانين الحياة البيولوجية، بل: كل الحياة، وأن الإنسان يعيش طول الوقت، وليس فقط طول العمر وهو ينبض بهذه الدورات، بوعى وبغير وعى، وأن بعض هذه الدورات قد تتجلى فيما يسمى إعادة الولادة، التى تتميز بتغير نوعى فى الشخصية إلى أعلى على مسار النمو، أو إلى أدنى على مسار التدهور، وأضفت أن بعض من قرأ هذه الدراسة وصفونى (أو حذرونى أو اتهمونى وإياه) ‏بالإلحاد‏ ‏لمجرد‏ ‏أننى ‏لم‏ ‏أشر‏ ‏بوضوح مباشر ‏ ‏إلى ‏اعترافى المباشر‏ ‏بخلود‏ ‏ما‏ ‏بعد‏ ‏الموت‏ ‏فى ‏الجنة أو فى النار، وبعضهم نبهنى أن هذا هو حل هذه القضية نهائيا، وبالتالى فلماذا التصدى لفكرة الخلود أصلاً فى الإبداع هكذا؟ ولماذا هذا النقد؟ سألنى الأستاذ عن ردى عليهم، فقلت له إننى لم أعتد أن أرد على مثل هذه الآراء التسليمية الساذجة بشكل مباشر، وأن الفكرة التى تناولها النص فالنقد ليس لها علاقة أصلاً بما يقولون، وأن الأطروحة تخدم تعرية أوهام اغترابية تضيع على الإنسان فرصة أن يعيش كادحا إلى وجه الحق عبر برامج فطرته التى لا تكف عن النبض فالنمو، ‏ ‏قلت‏ ‏أيضا وأنا ‏ ‏أختم‏ ‏هذا‏ ‏الموجز‏ ‏تعسفا، إننى ‏شطحت‏ ‏ذات مرة فميزت‏ ‏بين‏ ‏الملحد‏ ‏المؤمن، ‏والملحد‏ ‏العدمى، ‏فاستزادنى ‏الأستاذ‏ ‏شرح رأيى هذا بحب‏ ‏الاستطلاع‏ ‏الذى أعرفه عنه، ‏فقلت‏ ‏له‏: ‏سامحنى، ‏فأنا‏ ‏فى ‏حضرته‏ ‏يحق‏ ‏لى ‏الشطح المحسوب، ‏ليصححنى، أو يتحملنى، فضحك، ‏فأكملت‏: ‏إن‏ ‏الملحد‏ ‏المؤمن‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏يؤدى ‏به‏ ‏إلحاده‏ ‏إلى ‏تأكيد‏ ‏كلٍّ‏ ‏ِِمن‏ ‏الفطرة‏ ‏والامتداد‏ ‏فى ‏الناس‏ ‏ابتغاء‏ ‏وجه‏ ‏الحق تعالى‏ (‏المطلق‏/”‏الما‏بعد‏”/‏الدائم‏ ‏الخ‏) فيجد نفسه فى رحاب الله حتى لو أسمى ذلك بأسماء أخرى، ‏وأن‏ ‏هذا‏ ‏قريب‏ ‏من‏ ‏وصف‏ ‏محمد‏ ‏إقبال‏ ‏لنيتشه‏ ‏أنه‏ ‏مؤمن‏ ‏رغم‏ ‏أنفه، ‏وأنه‏ (‏نيتشه‏) ‏كان‏ ‏يهم‏ ‏النطق بالشهادة وهو‏ ‏يقول‏ “‏لا‏ ‏إله‏ ‏إلا‏ ‏الله”، ‏ولكنه‏ ‏توقف‏ ‏عند‏ “‏لا‏ ‏إله‏” ولم يكمل، ‏وقد‏ ‏قلت للأستاذ ساخرا: ‏ ‏وكأنه‏  فاجأته ‏”زُعظة‏” مباغتة‏ ‏فحالت‏ ‏دون‏ ‏إكمال‏ ‏النطق بالشهادة‏، ‏ثم‏ ‏أضفت‏ ‏أن‏ ‏صيغة‏ “‏لا‏ ‏إله‏.. ‏إلا‏ ‏الله‏”، ‏هى ‏صيغة‏ ‏السعى الذى ‏يؤدى ‏للايمان، ‏وثم فرق بين هذه الصيغة وبين ‏ صيغة‏ ‏إثباتية‏ ‏من‏ ‏الأول‏ ‏دون‏ ‏نفى ‏أو‏ ‏اسثناء‏ ‏مثل‏: “‏الله‏ ‏هو الله‏” ‏أما‏ ‏أن‏ ‏تبدأ‏ ‏الشهادة‏ ‏بنفى ‏الله‏ (كما لاحظ إقبال) ‏ثم‏ ‏إثباته‏ ‏توحيدا‏ ‏فريدا، ‏فهى حركية دالة رائعة، استقبلتها شخصيا بالسرعة البطيئة، (التى تصل إلى سنوات)، وفهمت منها مايشبه ‏ ‏السماح‏ ‏الواعد‏ ‏(لا إله) شريطة‏ ‏أن‏ ‏يواصل‏ ‏الساعى المجتهد ‏حتى ‏يكمل‏ ‏الطريق‏ – ‏فقاطعنى ‏الأستاذ‏: ‏على شرط ألا يصاب “بزغطة” مثل التى شرحتَ بها قول إقبال عن نيتشه، ويتوقف الأستاذ ويضحك ويدعونى ‏أن‏ ‏أكمل، ‏فقلت‏: ‏أننى ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏أشرت‏ ‏أن‏ ‏الله‏ ‏عادل‏ ‏عدلا‏ ‏لا‏ ‏مثيل‏ ‏له‏ ‏ولاشبهة‏ ‏فيه‏، قال: حصل، قلت: ‏وأنه يعلم السر وأخفى، قال: ‏نعم‏ ‏بلا‏ ‏أدنى ‏شك، ‏فأضفت‏ ‏وأنه‏ ‏ليس على علم باقوالنا وأفعالنا فحسب، بل بأدوارنا فى الإسهام فى الحفاظ على خلقته التى خلقنا عليها كما هى إلى ما أودعها فيها، وبالتالى فإن كل ما علينا هو الإسهام فى هذا الطريق طول العمر، طول الوقت، وافقنى ‏الاستاذ‏ ‏وزكى ‏سالم‏ ‏دون‏ ‏استيضاح‏ ‏أكثر، ‏فمضيت أوضح تلقائيا قائلا: لو ‏ ‏أن‏ ‏مجتهدا‏‏ ‏رفض‏ ‏صورة‏ ‏الله‏ ‏التى ‏تلقاها‏ ‏جاهزة بعيدة من آخرين، ثم لم يتوقف، ‏بل‏ ‏واصل: “‏إذن‏ ‏ماذا‏”؟ ‏ثم راح‏ ‏يجتهد، ‏ويجتهد، ويكدح صادقا ناقدا مراجعا بجدية كاملة، ثم لنفرض أن الله سبحانه‏ ‏قبضه‏ ‏‏إليه‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يصل‏ ‏إلى: “‏إلا‏ ‏الله‏” ‏فإننى ‏أعتقد‏ ‏أن‏ ‏الله‏” ‏بعدله‏ ‏ورحمته‏” وعلمه بمسيرته سوف ‏ ‏يد خله‏ ‏الجنة، ‏لأنه يعلم تعالى أنه لو أطال عمره ليكمل فسوف يصل إلا تكملة الجملة وأنه ..”‏إلا‏ ‏الله‏” ‏، ‏أما‏ ‏إذا‏ ‏سكن‏ ‏عند‏ “‏لا‏ ‏إله‏”، (كسلا دون زغطة) أو استسهالا، أو غرورا ‏فاننى ‏أعتقد‏ ‏أن‏ ‏الله‏ ‏سيحاسبه‏ ‏على ‏السكون‏ ‏والتوقف‏ ‏وليس على محتوى ما كان عليه حين قبضه إليه، عقّب ‏ ‏الأستاذ‏ ‏قائلا‏ “‏ياساتر، ‏معنى ‏هذا‏ ‏أنك تفتح الأبواب لتحتوى اختلاف كل‏ ‏المجتهدين‏ الكادحين على حد قولك، فتصبح المسألة “بزرميط”، ‏وضحك‏‏، ففرحت، وخفت، واستغفرت، ولم أتراجع، ولم أعقب‏.‏

ذهب‏ ‏الاستاذ‏ “‏لتحريك‏ ‏النشاط‏ ‏الثقافى‏” ‏وحين‏ ‏عاد‏ ‏حسبت‏ ‏أنه‏ ‏نسى ‏ما كنا‏ ‏نتحدث‏ ‏فيه، ‏أو‏ ‏تمنيت‏ ‏ذلك‏ ‏لأننى ‏كنت‏ ‏أفضل‏ ‏ألا‏ ‏أكمل، ‏لكنه‏ ‏حين‏ ‏عاد، ‏فوجئت‏ ‏بأنه‏ ‏يسألنى “‏عن هذا‏ ‏الملحد‏ ‏الساعى إليه كما تقول، ‏فماذا‏ ‏عن‏ ‏الملحد‏ الآخر الذى اسميته ‏الملحد العدمى أو الملحد الكافر، بصراحة فرحت إذ أننى تصورت أنه أثناء “تحريك النشاط الثقافى لتسديد الرأى”([17]) كان يفكر فيما قلت، وبرغم فرحتى هذه فقد كنت أتمنى ألا نكمل فى نفس الموضوع، قلت له ‏ ‏إنه‏ ‏الملحد‏ ‏الذى ‏ينكر‏ ‏وينفى ‏كل‏ ‏ما‏ ‏لم‏ ‏تستسغه‏ ‏قشره‏ ‏عقله، ‏إنه‏ ‏الملحد‏ ‏المُعَقِلْن‏ ‏الذى ‏سجن‏ ‏نفسه‏ ‏فى ‏منهج‏ ‏محدود‏ ‏وتصور‏ ‏أن‏ ‏عقله‏ الأخير/الأعلى/الأحدث!! ‏قادر‏ ‏على ‏الإحاطة‏ ‏بكل‏ ‏ما‏ ‏يتطلبه‏ ‏وجوده، ‏وأكدت‏ ‏على ‏التفرقة‏ ‏بين‏ ‏العقلنة‏([18]) ‏والتفكير، ‏ففى ‏حين‏ ‏أن‏ ‏العقلنة‏ ‏هى ‏نشاط‏ ‏عضلة‏ ‏العقل‏ ‏بمنهج‏ ‏محدود‏، ‏فإن‏ ‏التفكير‏ ‏هو‏ ‏عملية‏ ‏أشمل‏ ‏وأعمق‏ ‏وتتجاوز‏ ‏عضلة‏ ‏المخ‏ ‏إلى ‏حركية‏ ‏الوجود، ‏ثم‏ ‏إن‏ ‏الملحد‏ ‏العدمى ‏ليس واحدا، فهو على أنواع شتى: ‏من‏ ‏أول‏ ‏التسليم‏ ‏السكونى ‏لما‏ ‏وصل‏ ‏إليه‏ ‏عقله‏ ‏حتى ‏الموقف‏ ‏التفسخى ‏لمكونات‏ ‏الوجود، ‏وهو ‏الموقف‏ ‏الذى ‏تنحلل‏ ‏فيه‏ ‏عرى ‏الفطرة‏ ‏وتتباعد‏ فى نشاز متناثر بديلا عن مواصلة الجدل بين متناقضاتها نحو ولاف ضام،

 ‏ويبدو أن الأستاذ قد فوّت‏ ‏لى ‏هذه الشطحة هو‏ ‏والحاضرون‏ ‏‏فلم‏ ‏يستوضحنى ‏أحدهم‏ ‏أكثر‏.، فحمدت الله!

ويغيـِّر الأستاذ الموضوع حين يسأل‏ ‏‏الحاضرين‏ (‏وأظن‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏موجها‏ ‏السؤال‏ ‏لزكى ‏سالم‏ ‏أساسا‏) ‏عن‏ ‏رواية‏ ‏ثروت‏ ‏أباظة‏ ‏التى ‏تنشر‏ ‏مسلسلة‏ ‏فى ‏الأهرام‏ ‏وأنه‏ ‏سمع‏ ‏أحمد‏ ‏مظهر‏ ‏يقول‏ ‏أمس‏ ‏إنه‏ ‏قرأها، ‏وأنها‏ ‏أعجبته‏ ‏‏أكثر‏ ‏من‏ ‏أعماله‏ ‏السابقة، ‏فعقب‏ ‏زكى ‏سالم‏ ‏متعجبا‏ ‏كيف‏ ‏تحمل‏ ‏الأستاذ‏ ‏مظهر‏ ‏قراءتها، ‏وقال‏ ‏إنه‏ ‏حاول‏ أن‏ ‏يقرأها‏ ‏فى ‏البداية‏ – ‏على ‏الأقل‏ ‏لأنه‏ ‏توقع‏ ‏أن‏ ‏يسأله‏ ‏الأستاذ‏ ‏عنها، ‏لكنه‏ ‏لم‏ ‏يستطع‏ ‏أن‏ ‏يكملها‏ ‏عندما‏ ‏وجدها تدور حول نفس‏ “‏التيمة‏” ‏التقليدية‏ ‏لثروت‏ ‏أباظة‏ ‏عن‏ ‏الأسرة‏ ‏الغنية‏ ‏السامية‏ ‏والأخلاق‏ ‏الراقية‏ ‏التقاليد، ‏والرعية‏ ‏الفقيرة‏ ‏المخلخلة، ‏وكذا‏ ‏وكيت، ‏وأنه حين‏ ‏واجه‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏توقف عن مواصلة القراءة، ‏ ‏وقال‏ ‏يوسف عزب‏ ‏كلاما‏ ‏أقسى ‏من‏ ‏هذا، ‏أظن ‏أنه‏ ‏قال:‏ ‏لو‏ ‏أنه (ثروت أباظة)‏ ‏رفع‏ ‏صورته‏ ‏من‏ ‏الصحيفة‏ ‏لكان‏ ‏ذلك أفضل للقصة، ‏فأضفت‏ ‏فى قسوة رفضتها فيما بعد (خاصة حين تأكدت من حب الأستاذ له) أضفت: بل وربما يكون رفع اسمه أكثر تشجيعا للناس أن يقرأوا الرواية، ثم حاولت التراجع، ناظرا للأستاذ، لكننى لم أفعل فقد اكتشفت أننى كنت بعيدا عنه فلم يسمعنى، واكتفيت بأن أذكّر الحاضرين – ونفسى طبعا- كم يحب الأستاذ هذا الرجل، ولا بد أن له أسبابه الوجيهة التى لا يستوعبها أمثالنا، وتذكرت بداية الحديث وأنه كان عن حكى أحمد مظهر أمس عن هذه الرواية الجيدة، ودافعت عن حقه‏ ‏أن‏ ‏يقول‏ ‏رأيه‏ ‏فى ‏عمل‏ ‏محدد‏ ‏ما‏ ‏دام‏ ‏قد‏ ‏بذل‏ ‏جهدا‏ ‏ووقتا فى قراءته، ثم تراجعت أكثر مذكرا نفسى والحضور بأنه ليس من حقنا أن نسارع بشجب عمل لم نقرأه كاملا، حتى لو كان لنا رأى فى عموم إنتاج كاتبه قبله، ‏هذا‏ ‏ظلم‏ ‏وتحيز‏ ‏يبعدنا‏ ‏عن‏ ‏الموضوعية، قلت ذلك وأنا أرفع صوتى وقد اقتربت من الأستاذ، فوافقنى، وبصراحة لم اشك أننى كنت أنافقه، فقد كنت أتراجع فعلا، يبدو أن الأستاذ قد ‏فرح‏ ‏ ‏بهذا‏ ‏التعقيب‏ ‏الذى يمكن أن يكون قد أصلح‏ ‏بعض‏ ‏ما‏ ‏أفسده‏ ‏الهجوم‏ ‏المتحيز، ‏فمضيت‏ ‏أحكى ‏للأستاذ‏ ‏ما‏ ‏سمعته‏ ‏مرة‏ (‏وكررته‏ ‏مرارا حتى شككت أننى سبق حكيه للأستاذ، ومع ذلك أكملت ربما للباقين‏) ‏من‏ ‏محمد‏ ‏عبد‏ ‏الوهاب، ‏وهو‏ ‏يرد‏ ‏على ‏سؤال‏ ‏مذيع‏ ‏عن‏ ‏اللحن‏ ‏المبدع‏ ‏الذى ‏جاء‏ ‏فيه‏ ‏بإبداع‏ ‏يميز ما لحنه ‏ ‏لأم‏ ‏كلثوم عن بقية ألحانه، ‏فأجاب‏ ‏عبد‏ ‏الوهاب‏ ‏إجابة‏ ‏تعلمت منها الكثير، ‏قال:‏ ‏إن‏ ‏المبدع‏ (‏الملحن‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الحالة‏) ‏لا‏ ‏يخرج‏ ‏إلا‏ ‏هوامش‏ ‏تلو‏ ‏هوامش‏ ‏منتظرا‏ ‏أن‏ ‏تستدعى ‏هذه‏ ‏الهوامش‏ ‏فى ‏الوقت‏ ‏المناسب‏ ‏الجملة‏ (‏الموسيقية‏) ‏أو‏ ‏الجمل‏ ‏الجديدة‏ ‏الأصيلة، (‏وقد‏ ‏ينتهى ‏اللحن‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏تأتى ‏هذه‏ ‏الجملة‏) ‏وقد‏ ‏تأتى ‏فى ‏وقت‏ ‏أو‏ ‏موقع‏ ‏لم‏ ‏يتوقعه‏ ‏من‏ ‏قبل، ‏ومن‏ ‏يومها‏ ‏وأنا‏ ‏أغفر‏ ‏له‏ ‏ما‏ ‏اتهم‏ ‏به‏ ‏من‏ ‏أنه‏ ‏مقتبس‏ (‏أو‏ ‏سارق‏) ‏كثيرا‏ ‏من‏ ‏ألحانه، ‏لأنى ‏فهمت‏ ‏من خلال حديثه هذا أن‏ ‏سرقة‏ ‏الهوامش‏ ‏مسموح‏ ‏بها‏ ‏وحكيت‏ ‏للاستاذ‏ ‏عن‏ ‏قصة‏ ‏قصيرة‏ ‏كتبتها شخصيا بعنوان‏” ‏المحلفون”، ثم ‏ ‏اكتشفت‏ ‏بعد‏ ‏كتابتها‏ ‏أن‏ ‏أحدهم‏ (‏أظن‏ ‏مورافيا‏) ‏قد‏ ‏نشر‏ ‏قصة‏ ‏مماثلة‏ ‏باسم‏ “‏المحاكمة‏” (‏كما‏ ‏أن‏ ‏صلاح‏ ‏جاهين‏ ‏كتبها‏ ‏شعرا‏ ‏أذكر‏ ‏أوله‏: “‏سيادى ‏الحداود‏ ‏اللى ‏حايمة‏ ‏على ‏جتتى” بعنوان المرافعة؟ على ما أذكر‏) – ‏وقال‏ ‏الأستاذ‏ ‏إنها‏ ‏ليست‏ ‏الفكرة‏ ‏وإنما‏ ‏التناول‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏يميز‏ ‏الإبداع، ‏وبالتالى ‏فتوافق‏ ‏الأفكار‏ ‏لا‏ ‏يعنى ‏السرقة، ‏ولا‏ ‏يقلل‏ ‏من‏ ‏قيمة‏ ‏العمل‏ ‏الإبداعى، ‏وإذا‏ ‏بالغنا‏ ‏فى ‏الاختزال‏ ‏فقد‏ ‏نجد‏ ‏أن‏ ‏كل‏ ‏الابداع‏ ‏الروائى ‏يدور‏ ‏حول‏ ‏عدد‏ ‏محدود‏ ‏من‏ ‏الأفكار‏ ‏والأحداث‏ ‏التى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تتكرر، ‏لكن‏ ‏كل‏ ‏مبدع‏ ‏يشكلها‏ ‏بما‏ ‏يجعلها‏ ‏جديدة‏ ‏متجددة، ‏فـَتُمـَيِّزُهُ‏ ‏وتؤصِّل‏ ‏إبداعه‏، وكنت قد سمعت منه مثل هذا الرأى قبلا، وقلت فى نفسى، لست وحدى الذى أكرر، ‏ورجعنا‏ ‏إلى ‏موضوع‏ ‏ثروت‏ ‏أباظة، ‏فقلت‏ ‏إن‏ ‏من‏ ‏حق‏ ‏أى ‏مبدع‏ ‏يواصل‏ ‏الجهد‏ ‏والكتابة‏ ‏طول‏ ‏هذه‏ ‏السنين‏ ‏أن‏ ‏نأخذه‏ ‏مأخذ‏ ‏الجد، ‏وأننى ‏حين‏ ‏شاهدت‏ ‏فيلم‏ “‏شىء‏ ‏من‏ ‏الخوف‏” (‏دون‏ ‏قراءة‏ ‏النص‏ ‏القصصي‏) ‏أعجبنى ‏تماما‏ ‏وفرحت‏ ‏أنه‏ ‏وافق‏ ‏فرضا علميا هو ذخيرة لى فى ممارستى، وهو فرض التعلم ‏ “بالطبع‏imprinting ” (‏البصم‏) ‏الذى ‏أعتقد‏ ‏بصحته‏ ‏وسبق‏ ‏أن‏ ‏أشرت‏ ‏إليه فى نقاشاتنا أكثر من مرة‏، الفيلم الذى شاهدته دون أن أقرأ القصة أظهر كيف ‏‏طبعت‏ ‏بصمة شخصية‏ ‏الجد‏ ‏لحظة‏ ‏موته‏ ‏على ‏الحفيد، ‏وحين‏ ‏تعجبت‏ ‏فرحا‏ ‏كيف‏ ‏وصل‏ ‏حدس ثروت أباظة‏ ‏إلى ‏هذا العمق، ‏قالوا‏ ‏لى ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏فعل‏ ‏المخرج‏ ‏و‏‏ليس‏ ‏من‏ ‏إبداع‏ ‏ثروت، ‏ولم‏ ‏أقتنع‏ ‏كثيرا، ‏فالمخرج‏ ‏لا‏ ‏يغير‏ ‏النص‏ ‏إلى ‏هذه‏ ‏الدرجة، ‏فقال‏ ‏يوسف عزب، ‏لعل الكاتب ‏لم‏ ‏يقصد‏ ‏ما‏ ‏وصلك، ‏فقلت‏ ‏له‏ ‏لكنه‏ ‏وصلنى، ‏ومن‏ هذا ‏العمل‏ ‏دون‏ ‏غيره، ‏وسواء‏ ‏قصد‏ ‏الكاتب أو ‏ ‏لم‏ ‏يقصد، ‏فهو الذى كتبه، وبالتالى فله فضل ما ظهر فى إبداعه، ‏والمبدع‏ ‏ليس‏ ‏ملزما‏ ‏أن‏ ‏يقصد‏ ‏ما‏ ‏يخرج‏ ‏منه‏ ‏بمعنى ‏الوعى ‏الإرادى، ‏لكن‏ ‏إبداعه‏ ‏حين‏ ‏ينساب‏ ‏قد‏ ‏يخرج‏ ‏منه‏ ‏حدسا‏ ‏وأصالة‏ ‏تدل‏ ‏على ‏مرونته‏ ‏وعمقه‏ ‏وقدرته‏ ‏فيخرج‏ ‏لنا‏ ‏معلومات‏ ‏من‏ ‏الجدة‏ ‏والأصالة‏ ‏هى ‏من‏ ‏حقه‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏لم‏ ‏يقصد‏ ‏إليها‏ ‏ابتداء‏ ووافقنى ‏الأستاذ، ‏وقال‏ ‏إن‏ ‏هذه‏ ‏هى ‏مهمة‏ ‏النقد‏ ‏فعلا، ‏وأرد‏ ‏على ‏سؤال‏ ‏عن‏ ‏المساحة‏ ‏التى ‏يتحرك‏ ‏فيها‏ ‏الناقد‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الشأن‏ – ‏شأن‏ ‏استخراج‏ ‏ما‏ ‏يقصد‏ ‏المؤلف‏ – ‏فيرد‏ ‏الأستاذ‏ ‏إن‏ ‏ذلك‏ ‏يتوقف‏ ‏على ‏العمل‏ ‏الذى ‏يتناوله، ‏وعلى ‏الناقد، ‏ولا‏ ‏توجد‏ ‏حدود‏ ‏بذاتها‏ ‏يوصى ‏بعدم‏ ‏تخطيها‏.‏

وانتهى ‏النقاش‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏النقد‏ ‏هو‏ ‏كشف‏ ‏جديد‏ ‏للنص، ‏وإعادة‏ ‏صياغته، ‏وأن‏ ‏الإبداع‏ ‏الحقيقى ‏هو‏ ‏كشف‏ ‏وتحريك‏ ‏وإعادة‏ ‏ترتيب، ‏وليس‏ ‏تهذيب‏ ‏وتشذيب‏ ‏وتسكين‏ ‏وأحكام‏.‏

تساءل ‏زكى ‏سالم‏ عن‏ ‏السبب‏ ‏فى ‏خوف‏ ‏الناس‏ ‏من‏ ‏قراءة‏ ‏علم‏ ‏النفس؟‏ ‏هل‏ ‏هو‏ ‏خوف‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏يعرفوا‏ ‏أنفسهم‏ ؟ ‏فقال‏ ‏الأستاذ‏ ‏كيف‏ ‏يخاف‏ ‏الناس‏ ‏من‏ ‏المعرفة، ‏إن‏ ‏الإنسان‏ ‏عنده‏ ‏حب‏ ‏استطلاع‏ ‏باستمرار، ‏ووجه‏ ‏زكى ‏السؤال‏ ‏إلىّ تحديدا، ‏فميزت‏ ‏بين‏ ‏التشوف‏ ‏للمعرفة‏ ‏لما‏ ‏فى ‏الخارج‏ ‏وبين‏ ‏مخاطرة‏ ‏معرفة‏ ‏ما‏ ‏بالداخل، ‏وان‏ ‏الإنسان‏ ‏من‏ ‏حقه‏ ‏أن‏ ‏يعمى ‏وأن‏ ‏يستعمل‏ ‏ميكانزمات‏ ‏تقلل‏ ‏من‏ ‏حدة‏ ‏رؤيته‏ ‏لنفسه، ‏وأن‏ ‏إخفاء‏ ‏الداخل‏ ‏لا‏ ‏يتوقف‏ ‏فقط‏ ‏على ‏تغطية‏ ‏الميول‏ ‏الجنسية‏ ‏أو‏ ‏العدوانية، ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏قد‏ ‏يمتد‏ ‏إلى ‏كبت النزوع الطبيعى نحو‏ ‏الفضيلة‏ الطبيعى ‏أو‏ ‏إنكار‏ “‏الغريزة‏” ‏الإيمانية، ‏وحكيت‏ ‏عن‏ ‏مرضى ‏ملحدين، ‏أو‏ ‏تصوروا‏ ‏أنهم‏ ‏ملحدين، ‏وكانوا‏ ‏يحضرون‏ ‏إلى ‏ويشكون‏ ‏من‏ ‏أحلام‏ ‏حقيقية‏ (‏أو‏ ‏أحلام‏ ‏يقظة‏) ‏يرون‏ ‏فيها‏ ‏أنفسهم‏ ‏وهم‏ ‏يقيمون‏ ‏الصلاة، ‏كما‏ ‏حكوا لى ‏كيف‏ ‏كانوا‏ ‏يخشون‏ (‏أثناء‏ ‏الحلم‏) ‏أن‏ ‏يراهم‏ ‏أحد‏ ‏أقرانهم‏ ‏من‏ ‏الملحدين‏ ‏وهم‏ ‏يصلون‏ ‏فى ‏الحلم، فيسخرون منهم، ‏وكأن‏ ‏الصلاة‏ (‏بالنسبة‏ ‏لهم‏) أصبحت ‏من‏ ‏المحرمات التى تـُكْبتُ فلا تظهر إلا فى الحلم، ‏بنفس‏ ‏القياس‏ ‏الذى ‏يتعامل به المتدينون أو المتزمتون مع الجنس، ‏أضفت: ‏إن‏ ‏الإنسان‏ ‏إذ‏ ‏يتعرض‏ ‏لمعرفة‏ ‏جرعة‏ ‏كبيرة‏ ‏مما‏ ‏أخفاه‏ ‏على ‏نفسه‏ ‏لابد‏ ‏له‏ ‏أن‏ ‏يخاف، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏يتوقف‏ نجاح ‏حركية‏ ‏النضج‏ ‏على ‏حكمة‏ هذا ‏الكشف‏ ‏التدريجى، ‏رويدا‏ ‏رويدا، ‏عن‏ ‏مساحات‏ ‏أكبر‏ ‏فكبر‏ ‏من طبقات‏ ‏الداخل، ‏شريطة‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏المكتشف‏ ‏هذا‏ ‏قادرا‏ ‏على ‏الاستيعاب،‏ ‏وعلى ‏التمثل،‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏هذه‏ ‏الإضافات‏ ‏الجديدة‏ المتدرجة.

ثم أضفت:‏ ‏إن‏ ‏وظيفة‏ ‏الإبداع‏ ‏للمتلقى ‏سواء‏ ‏كان‏ ‏مشاهدا‏ ‏أو‏ ‏قارئا‏ ‏أو‏ ‏مستمعا‏ ‏أو ناقدا هو‏ ‏أنه‏ ‏يساعده‏ ‏أن‏ ‏يقوم‏ ‏بهذا‏ ‏الكشف‏ ‏المتأنى ‏لذاته‏ ‏ولمن‏ ‏حوله‏ ‏بالجرعة‏ ‏المناسبة، ‏ولذلك‏ ‏فأنا‏ ‏ضد‏ ‏فكرة أن وظيفة الفن هى ‏ ‏التفريغ‏ ‏التطهيرى ‏التى ‏قال‏ ‏بها‏ ‏أرسطو، ‏ولكننى ‏مع فكرة أنه‏ ‏التحريك‏ ‏التكاملى، ‏والمسألة‏ ‏كلها‏ ‏ترتبط‏ ‏بتناسب‏ ‏الرؤية‏ ‏مع‏ ‏القدرة‏ (‏القدرة‏ ‏على ‏الاستيعاب‏ ‏والقدرة‏ ‏على ‏الفعل‏ فى التشكيل وفى الواقع، ‏فالمبدع‏ ‏الحقيقى ‏هو‏ ‏الذى ‏يكشف‏ ‏ويحرك‏ ‏لدرجة‏ ‏قد‏ ‏تبعث‏ ‏الخوف‏ ‏فى ‏المتلقى ‏الذى ‏قد‏ ‏يعجز‏ ‏أمام‏ ‏الإبداع‏ ‏المتميز‏ ‏أن‏ ‏يظل‏ ‏محتفظا‏ ‏بدرجة‏ ‏الميكانزمات‏ (‏العمي‏) ‏السابقة‏ فينطلق إلى الجديد بدهشة مناسبة.

قال‏ ‏يوسف عزب‏ ‏إنه‏ ‏حين‏ ‏يقرأ‏ ‏للأستاذ، ‏وحين‏ ‏يقرأ‏ ‏الحرافيش‏ ‏خاصة‏ ‏يشعر‏ ‏بالخوف، ‏وهو‏ ‏يشعر‏ ‏بأن‏ ‏الأستاذ‏ ‏يأخذ‏ ‏بيده‏ ‏إلى ‏سراديب‏ ‏ومسارات‏ ‏مجهولة‏ ‏وخطيرة، ‏وكأنه‏ ‏يصطحبه‏ ‏إلى ‏الله‏ ‏بكل‏ ‏ما‏ ‏يحمل‏ ‏هذا‏ ‏من‏ ‏احتمالات‏ ‏المفاجأة‏ ‏وخوض‏ ‏المجهول، ‏رغم‏ ‏رغبته (رغبة يوسف)‏ ‏الأكيدة‏ ‏لمواصلة‏ ‏السعى ‏إليه.‏

وعقب‏ ‏الأستاذ‏ ‏مازحا‏ ‏أنه‏ ‏ربما يجعله ذلك يفكر فى أن يتوقف‏ ‏عن‏ ‏الكتابة‏ ‏حتى ‏”لا‏ ‏يخيف‏ ‏قارئه‏” ‏هكذا، ‏فكررت عليه‏ ‏أن‏ ‏يوسف‏ ‏يقول:‏ ‏إن أعماله ‏تمسك‏ ‏بيده‏ ‏إلى ‏الله، ‏فانشرحت‏ ‏أساريره‏ ‏وهز‏ ‏رأسه‏ ‏راضيا‏.‏

وخجلت‏ ‏من‏ ‏جديد‏ ‏من‏ ‏الكلام‏ ‏المتخصص‏ ‏الذى ‏اسُتدْرِجْتُ‏ ‏إليه‏ ‏إلى ‏هذه‏ ‏الدرجة‏.‏

وفى ‏النهاية‏ ‏حاولنا‏ ‏أن‏ ‏نرتب‏ ‏مواعيد‏ ‏وأماكن‏ ‏المقابلات‏ ‏والخروج‏ ‏مع‏ ‏الأستاذ، ‏وانتهزنا‏ ‏فرصة‏ ‏غياب‏ ‏توفيق‏ ‏واتفقنا‏ ‏على ‏تثبيتها‏، ‏وأن‏ ‏الأمن‏ ‏الحكومى ‏إنما‏ ‏يمنع “القضا‏ ‏المستعجل‏”، كما أسلفتُ، ‏وقلت‏ ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏الحادث‏ ‏الذى ‏نعمل له كل هذا الحساب‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏نعتبره‏ ‏خطأ‏ ‏تاريخيا‏ ‏لا‏ ‏أكثر، ‏والخطأ‏ ‏التاريخى ‏لا‏ ‏يتكرر‏ ‏بسهولة،

ثم‏ ‏ملت‏ ‏على ‏الأستاذ‏ ‏قائلا‏: ‏هيا‏ ‏نعتبره‏ ‏لم‏ ‏يحدث‏ (‏تيجى ‏نعتبره‏ ‏ما‏ ‏حصلش‏)

 ‏وضحك‏ ‏الأستاذ‏ ‏ضحكة‏ ‏أثلجتنى.، وضحكت أيضا

وضحك بعضنا معنا

 الحلقة الأربعون

زعبلاوى، و: هموم شخصية

الأحد‏: 26/2/1995

ذهبت‏ ‏متأخرا‏ ‏إلى موقع اللقاء المؤقت فى فندق الماريوت (حتى نتفق)، ووجدت‏ ‏الأستاذ‏ ‏مؤتنسا‏ ‏فى ‏قاعة‏ ‏أخرى ‏أكبر‏ ‏وأفخم، ‏وكان‏ ‏معه‏ ‏توفيق‏ ‏صالح‏ ‏ونعيم‏ ‏صبرى، ‏ ود‏. ‏سعاد‏ ‏موسى، ‏هذا‏ ‏ما‏ ‏توقعته، بدا لى أننى لم أكن أنقصهم، ‏إلف‏ ‏مألوف هذا الرجل، ‏أفكر بجدية فى مكان آخر اللقاء، لأسباب شكلية مهمة، ‏ و‏برغم أنها المرة الثانية فحسب، فإننى أرجح أنه سوف يرفض اقتراح بحث جديد عن مكان جديد؟

‏ ‏وجدت أن‏ ‏الحديث كان‏‏ ‏يدور‏ ‏حول‏ ‏تحفظ‏ ‏توفيق‏ ‏صالح‏ ‏على ‏التمويل‏ ‏الأجنبى ‏للسينما‏ ‏المصرية‏ (‏ربما‏ ‏بمناسبة‏ ‏فيلم‏ ‏المهاجر‏ ‏وما‏ ‏أثير‏ ‏حوله‏)، ‏وكان‏ ‏نعيم‏ صبرى ‏يتساءل‏ ‏عن‏ ‏سبب‏ ‏هذا‏ ‏التحفظ، ‏فانطلق‏ ‏توفيق‏ ‏يشرح‏ ‏أن‏ ‏التمويل‏ ‏لايأتى ‏لكفاءة‏ ‏مخرج‏ ‏أو‏ ‏لدعم‏ ‏موهبة‏ ‏ناشئة‏ ‏أو‏ ‏لتقدير‏ ‏إبداع‏ ‏فائق‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يتصل‏ ‏بالموضوع‏ ‏الذى ‏يسمح‏ ‏بتمويله، ‏والموضوع المُمَوَّل عادة ما يكون‏ ‏إما‏ ‏تشويه‏ ‏لنا‏ ‏أو‏ ‏إعلاء‏ ‏بشأن‏ ‏ثقافتهم‏ ‏وحضارتهم‏ ‏وما‏ ‏يمثلونه، ‏وحكى توفيق ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏ثروت‏ ‏عكاشة‏ ‏كان‏ ‏قد‏ ‏جمع‏ ‏بينه‏ ‏وبين‏ ‏شادى ‏عبد‏ ‏السلام‏ ‏ويوسف‏ ‏شاهين‏ ‏قبيل‏ ‏سنة‏ 1967‏حوالى سنة 1965 ‏وذلك‏ ‏لإمكان‏ ‏تحقيق‏ ‏تعاون‏ ‏معروض‏ ‏من‏ ‏مخرج‏ ‏فرنسى ‏ما، ‏ولكن‏ ‏تأخر‏ ‏التنفيذ‏ ‏والإتفاق‏ ‏حتى ‏قامت‏ ‏حرب‏ 1967 ‏وحدثت‏ ‏الهزيمة‏ ‏ففشلت‏ ‏المساعى ‏احتجاجا‏ ‏على ‏أن‏ ‏التليفزيون‏ ‏الفرنسى ‏كان‏ ‏أول‏ ‏من‏ ‏أذاع‏ ‏الهزيمة‏ (‏الفضيحة‏).‏

وافق‏ ‏الأستاذ‏ ‏على رأى توفيق. سألته‏ ‏مباشرة‏: ‏هل‏ ‏تعتقد‏ ‏أن‏ ‏كل‏ ‏تعاون‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏هو‏ ‏تعاون‏ ‏مشبوه، ‏فأجاب‏: ‏إن‏ ‏وصف‏ ‏من‏ ‏يحرص‏ ‏على ‏مصلحته‏ ‏ويخدم‏ ‏ثقافته‏ ‏بالمشبوه‏ ‏هو‏ ‏الوصف‏ ‏الذى ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏وقفة، ‏وأضاف‏ ‏أنه‏ ‏فعلا‏ ‏لا‏ ‏يرى ‏فى ‏أى ‏تعاون‏ ‏إلا‏ ‏ما‏ ‏يخدم‏ ‏الذى ‏يمد‏ ‏يد‏ ‏العون فهو عادة يحظى‏ ‏بمكسب‏ ‏أكبر‏ ‏بكثير‏ ‏من‏ ‏متلقى ‏العون‏ (‏ولو‏ ‏من‏ ‏وجهة‏ ‏نظر‏ ‏المانح‏) ‏وأن‏ ‏هذا‏ ‏لا‏ ‏يعيب‏ ‏المانح، ‏بل‏ ‏قد‏ ‏يعيبه‏ ‏العكس، ‏وعلى ‏المتلقى ‏أن‏ ‏يحسن‏ ‏حسبته‏ ‏فى ‏إطار‏ ‏هذا‏ ‏الوضوح‏، وسألته‏: ‏هل‏ ‏وجد‏ت ‏عبر‏ ‏التاريخ‏ ‏دولة‏ ‏كبرى ‏قادرة‏ ‏كان‏ ‏اهتمامها‏ ‏بالدفع‏ ‏الحضارى ‏لذاته‏ ‏ ‏حيثما‏ ‏كان، ‏بمعنى أنها كانت تضع نفع البشر، لا نفعها، فى المقام الأول، قال إننى أشك فى ذلك، ‏وحكيت‏ ‏له‏ ‏عن‏ ‏الاهتمام‏ ‏الذى ‏رأيته‏ ‏فى ‏إحدى ‏قرى ‏جنوب‏ ‏فرنسا‏ ‏حين‏ ‏كنا فى رحلة نهاية الأسبوع، وتحوطنا حول مائدة عمدة القرية فى “عشاء للمناقشة”([19]) وراح جميع المبعوثين (حوالى أربعين من أكثرمن عشر دول من العالم الثالث أساسا) مع مثلهم عددا من أهل القرية يتحاورون أثناء العشاء وبعده ‏حول‏ “‏محو‏ ‏أمية‏ ‏مجموعة‏ ‏مجهولة‏” (‏بعضها‏ ‏مسلمون‏) ‏فى ‏إحدى ‏مناطق‏ ‏”هضبة‏ ‏التبت‏” ‏فى ‏جنوب‏ ‏شرق‏ ‏آسيا، ‏وقد‏ ‏بدأ‏ ‏النقاش‏ يحتد ‏بعد‏ ‏عرض‏ ‏فيلم‏ ‏تسجيلى ‏يظهر‏ ‏مدى ‏التخلف‏ ‏والفقر‏ ‏وسوء‏ ‏الحالة‏ ‏الصحية‏ ‏هناك، ‏وقد‏ تعجبت‏ ‏آنذاك‏ ‏لاهتمام‏ ‏الشخص‏ ‏العادى ‏فى هذه القرية الفرنسية النائية بأمر‏ ‏بدا لى أنه من المستحيل أن يعنيه شخصيا، ‏أمر‏ ‏شديد‏ ‏البعد‏ ‏عنه، ‏أمر‏ ‏لا‏ ‏يعود‏ ‏عليه‏ ‏بأية ‏جدوى ‏ظاهرة‏ ‏أو‏ ‏مباشرة، ‏فجاءنى ‏الرد‏ ‏من‏ ‏الأستاذ‏ ‏ومن‏ ‏توفيق‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏أحد‏ ‏مظاهر‏ ‏تربيتهم‏ ‏على ‏الانتماء‏ ‏لنشر‏ ‏الفكر‏ ‏والثقافة‏ ‏عموما، ‏رضعوه‏ ‏منذ‏ ‏الصغر‏ ‏تلاميذا‏ ‏وناشئة، ‏وظل‏ ‏معهم‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏لم‏ ‏تتبين لأى منهم ‏ ‏فى ‏الأفق‏ ‏فائدة‏ ‏عاجلة‏ له شخصيا.‏

ثم‏ ‏استشهد‏ ‏توفيق‏ ‏لرأيه الأول بعدة‏ ‏أعمال، ‏وحاول‏ ‏أن‏ ‏يتذكر‏ ‏إسم‏ ‏ممثل‏ ‏أو‏ ‏مخرج، ‏فألمح‏ ‏إلى ‏أعماله، ‏وإذا‏ ‏بالأستاذ‏ ‏أطال‏ ‏الله‏ ‏عمره‏ ‏يقول‏ ‏الاسم‏ “‏سماريو‏ ‏برجدارد‏” (على ما أذكر إذا كنت قد أفلحت فى كتابة ما سمعت) ‏ونظرتْ‏ ‏إلىّ ‏د‏. ‏سعاد، ‏وفهمتُ‏ ‏أنها‏ ‏تقول‏ “‏ملعون‏ ‏أبو‏ ‏ما‏ ‏تعلمناه‏ ‏بشأن‏ ‏تأثير‏ ‏السن‏ ‏على ‏الذاكرة‏”.‏ وهنا‏ ‏أقر‏ ‏الجميع‏ ‏أن‏ ‏يوسف‏ ‏شاهين‏ ‏عرف‏ ‏ماذا‏ ‏يريد‏ ‏الخواجات، ‏وأنه‏ ‏راح‏ ‏يتخير‏ ‏المواضيع‏ ‏التى ‏تهمهم‏ ‏وتروق‏ ‏لهم، ‏وأنه‏ ‏نجح‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏فعامله بذكاء يناسب ‏ذكاءهم، ‏وذكرت‏ ‏أن‏ ‏بعض‏ ‏المسرحيات‏ ‏التى ‏قدمت‏ ‏ من ‏ ‏أعمال‏ ‏نوال‏ ‏السعداوى ‏فى ‏الخارج، وفى باريس بالذات،‏ ‏راجت نسبيا لأنها ‏ ‏تحتج‏ ‏-ضمنا- على ‏ربنا‏ ‏لأنه‏ ‏خلق‏ ‏النساء‏ بغشاء بكارة دون الرجال، وأن الخواجات يعتبرون هذا الاحتجاج بطولة، وهم يروِّجون ‏لهذا‏ ‏الفكر‏ ‏الذى ‏يعتبرونه‏ ‏ثورة‏ ‏امرأة‏ ‏شرقية، ‏وأضيف أن توظيف الفن لترجيح فكر معين يمسخ الفن ويشوهه، بل إن ‏ ‏النشر‏ ‏العلمى ‏والمجلات‏ ‏العلمية‏ لم تعد فوق مستوى الشبهات، وقد ‏ ‏أصبحت‏ ‏تجارة‏ ‏رائجة‏ ‏تخدم المال وأصحابه فى المقام الأول، بل إنها ‏تُقَوْلِب‏ ‏عقول‏ ‏الباحثين‏ ‏والعلماء‏ ‏‏بحيث‏ ‏يتوجه‏ ‏كل‏ ‏نشاطهم‏ ‏الذهنى ‏إلى “‏ما‏ ‏يقبل‏ ‏النشر‏” ‏وليس‏ ‏إلى “‏ما‏ ‏يكشف عن الحقيقة، وحكيت عن ما أذكره من فيلم تليفزيونى كنت قد شاهدته مدبلجا أثناء إقامتى فى باريس، وكان عن قصة من ألف ليلة على ما أذكر، وهو فيلم مجهول لنا برغم أن بطله كان “عمر الشريف”، وكان يمثل طالب علم فى مسجد أو فى الأزهر، (على ما أذكر) أو ما شابه ذلك، وقد قام بدور أقرب إلى الهزل والشطارة، لكن ما وصلنى هو استهانة بشعة بديننا وتقاليدنا وتراثنا بما يخالف كل ما أعرف من حقائق تاريخية.

وعاد‏ ‏الحديث‏ ‏إلى ‏يوسف‏ ‏شاهين‏ ‏وإلى ‏فيلم‏ “‏بياعة‏ ‏الخواتيم‏” ‏وإلى ‏صوت‏ ‏حسن كامى ‏ومقارنته‏ ‏بصوت‏ ‏وديع‏ ‏الصافى، ‏وقلت‏ ‏إن‏ ‏وديع‏ ‏الصافى قد ‏لا‏ ‏يقدره‏ ‏إلا‏ ‏من‏ ‏سمع‏ ‏خرير‏ ‏الماء‏ ‏فى ‏جبل‏ ‏لبنان‏ ‏أعلى ‏طرابلس‏ ‏أو‏ ‏بحمدون، وقد عشت ذلك مرة بالليل ومرة بالنهار، وصوت الماء بالليل أنقى وأطيب وأقوى وأرخم فى نفس الوقت، وهذا ما يصلنى من صوت بديع، ‏وحكى ‏توفيق‏ ‏صالح‏ كيف ‏أنه كان وهو‏ ‏صبى ‏صغير‏ ‏ ‏يتجول‏ ‏فى ‏جبل‏ ‏لبنان‏ ‏وهو‏ ‏حول‏ ‏الثالثه، ‏وكيف‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏وحيدا‏ ‏تماما‏ ‏والجبل‏ ‏رائع‏ ‏مشرق‏ ‏خال‏ ‏جليل، ‏وكيف‏ ‏سمع أول مرة‏ ‏أجمل‏ ‏صوت‏ ‏وصداه‏ ‏يتردد‏ “‏زورونى ‏كل‏ ‏سنة‏ ‏مرة‏” ‏وأنه‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏يعرف‏ ‏أنها‏ ‏أغنية‏ ‏سيد‏ ‏درويش‏ ‏ولا‏ ‏أنها‏ ‏مصرية‏ ‏وأنه‏ ‏حين‏ ‏سمعها‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏تعجب‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏الصوت‏ ‏الجميل‏ ‏الذى ‏وصله‏ ‏عفوا، ‏ومازال‏ ‏يرن‏ ‏فى ‏أذنه، ‏وقلت‏ ‏له‏ ‏لعله‏ ‏خيل‏ ‏إليه‏ ‏ذلك‏ ‏فيما‏ ‏بعد، وليس فى هذه السن الباكرة جدا، ‏فنفى ‏وسكت‏.‏

ثم‏ ‏أخذ‏ ‏توفيق‏ ‏صالح‏ ‏يقرأ‏ ‏بحثا‏ ‏قامت‏ ‏به‏ ‏إبنة‏ ‏نعيم‏ ‏صبرى ‏فى ‏الجامعة‏ ‏الأمريكية‏ ‏عن‏ ‏القصة‏ ‏القصيرة‏ “‏زعبلاوي‏” ‏للأستاذ‏ ‏بالانجليزية‏ ‏وراح‏ ‏يقرأ‏ ‏ويترجم‏ ‏فنبهته‏ ‏المرة‏ ‏تلو‏ ‏الأخرى ‏ألا‏ ‏يقوم‏ ‏بالترجمة‏ ‏فالأستاذ‏ ‏قد‏ ‏قرأ‏ ‏ديستويفسكى ‏بالانجليزية، ‏فأضاف‏ ‏بل‏ ‏قرأ‏ ‏جيمس‏ ‏جويس‏ ‏أيضا‏ (‏وهذه‏ ‏معلومة‏ ‏أخرى ‏بهرتني‏) ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏راح‏ ‏توفيق‏ ‏يقرأ‏ ‏ويترجم، ‏وحين‏ ‏انتهى ‏من‏ ‏القراءة‏ ‏قال‏ ‏الأستاذ‏: ‏إن‏ ‏هذه‏ ‏القصة‏ ‏بالذات “زعبلاوى”‏ ‏هى ‏سعيدة‏ ‏الحظ‏ ‏جدا، ‏وهى ‏من‏ ‏القصص‏ ‏التى ‏راجت‏ ‏بشكل‏ ‏مذهل‏ ‏عند‏ ‏الألمان‏ ‏بالذات، ‏وحكى ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏مترجما‏ ‏وناشرا‏ ‏ألمانيا‏ ‏قام‏ ‏بترجمتها‏ ‏بالاتفاق‏ ‏معه‏ ‏فى ‏كتاب‏ ‏حوى ‏مجموعة‏ ‏من‏ ‏القصص‏ ‏القصيرة‏ ‏لكُتـَّاب‏ ‏عرب‏ من ‏مختلفى ‏الأقطار العربية، ‏وأن‏ ‏هذا‏ ‏الناشر‏ ‏قد‏ ‏أعطاه‏ ‏ثمن‏ ‏الترجمة، ‏ثم‏ ‏قال‏ ‏له‏ ‏إن‏ ‏أى ‏نشر‏ ‏لهذه‏ ‏القصة‏ ‏فى ‏أى ‏مجلة‏ ‏أخرى ‏سوف‏ ‏يكون‏ ‏له‏ ‏مقابل‏ ‏آخر، ‏وأنه‏ ‏سيأخذ‏ ‏النصف‏ (‏فيفتى فيفتى =50% ) ‏ ‏وأضاف‏ ‏الأستاذ‏ ‏ضاحكا‏ ‏مشيرا‏ ‏بيده‏: ‏”قلت‏ ‏له‏ ‏فيفتى ‏فيفتى ‏موافق، ‏ ‏ماشى ‏كلامك، ‏ ‏ولو‏ ‏قال إنه سيأخذ ‏ 90% ‏ ‏ ‏لوافقت”، ‏ولم‏ ‏أفهم‏ ‏كيف ‏أن‏ ‏نشر‏ ‏قصة‏ ‏فى ‏مجلة‏ ‏بعد‏ ‏نشرها‏ ‏فى ‏كتاب يستحق أن يُجـَازى هكذا كل مرة، ‏ولكن الأستاذ شرح لى ‏ ‏أنه يبدو أن ‏ ‏الولايات‏ ‏الألمانية‏ ‏مؤسسات‏ ‏مستقلة‏ ‏تماما‏ ‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏صحفها‏ ‏ومجلاتها‏ ‏وثقافتها‏ ‏وغير‏ ‏ذلك، ‏وأن‏ ‏كل‏ ‏ولاية‏ ‏لها‏ ‏صحيفتها‏ (‏صحفها‏) ‏الثقافية‏ ‏كما‏ ‏تشاء‏ – ‏وأنها‏ ‏إذ‏ ‏اختارت‏ ‏هذه‏ ‏القصة‏ ‏أو‏ ‏تلك‏ ‏لتنشرها‏ فهى قد ‏لا‏ ‏تصل‏ ‏إلى ‏الولايات‏ ‏الأخرى ‏إلا بإذن خاص، وفى مجلة مختلفة، وهكذا، ‏ويكمل‏ ‏الأستاذ‏: ‏وقد أخذ‏ ‏هذا‏ ‏الناشر الألمانى‏ ‏يرسل‏ ‏لى ‏المرة‏ ‏تلو‏ ‏المرة‏ ‏تلو‏ ‏المرة‏ دون أن أطلب أو أعلم، مبلغ كذا‏ ‏من مجلة كيت‏ ‏بالأمانية،‏ ‏ومعها‏ ‏شيك‏ ‏بالشيء‏ ‏الفلانى، ‏ثم‏ ‏مجلة‏ ‏كيت‏ ‏وفيها‏ خبر عن ‏القصة‏ ‏والشيك، ‏حتى ‏جمعت‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏القصة‏ ‏المحظوظة‏ ‏أكثر‏ ‏مما‏ ‏أخذت‏ ‏من‏ ‏أى ‏كتاب‏ ‏مترجم‏ ‏ومنشور‏ ‏يعطونى ‏فيه‏ 8% ‏أو‏ 10%، من ثمن الغلاف ‏قلت‏ ‏له‏: ‏يبدو أن الألمان يقدرون ويحسنون الانتقاء، ‏فإن‏ ‏هذه‏ ‏القصة‏ ‏بالنسبة‏ ‏لى ‏تمثل‏ ‏النواة‏ ‏التى ‏تدور‏ ‏حولها‏ ‏فكرة‏ ‏البحث‏ ‏عن‏ ‏الله‏ ‏بصفة‏ ‏دائمة‏ ‏فى ‏كتاباتك، ‏وأظن‏ ‏أنها‏ ‏كانت‏ ‏إرهاصات‏ ‏أولاد‏ ‏حارتنا‏ ‏ثم‏ ‏الطريق‏ ‏ثم‏ ‏الحرافيش‏ (‏ولم‏ ‏أتذكر‏ ‏حكاية‏ ‏بلا‏ ‏بداية‏ ‏ولا‏ ‏نهاية، ‏ولا‏ ‏حارة‏ ‏العشاق‏ ‏إلا‏ ‏وأنا‏ ‏أكتب‏ ‏الآن)، ‏لكن‏ ‏الأستاذ‏ ‏صححنى، ‏قائلا‏ ‏أولاد‏ ‏حارتنا‏ ‏صدرت‏ ‏مسلسلة‏ ‏قبل‏ ‏كتابة‏ ‏الزعبلاوى ‏سنة‏ 1963.‏

قال‏ ‏الأستاذ‏ ‏إنه‏ ‏لاحظ‏ ‏أن‏ ‏الألمان‏ ‏يهتمون‏ ‏بالقصص‏ ‏ذات‏ ‏الطابع‏ ‏الفلسفى ‏والبحث‏ ‏العقلى، ‏فى ‏حين‏ ‏أن‏ ‏الانجليز‏ ‏يهتمون‏ ‏بالطابع‏ ‏الاجتماعى ‏والعملى، ‏وأن‏ ‏الانجليز‏ ‏حين‏ ‏يترجمون‏ ‏ينتقون‏ ‏ما‏ ‏يتفق‏ ‏مع‏ ‏هذا‏ ‏التوجه، ‏وحتى ‏إذا‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏فيه‏ ‏هذا‏ ‏التوجه‏ ‏فإنهم‏ ‏يفترضونه‏ ‏أو‏ ‏يفرضونه‏.، وتحفظت على هذا التعميم، وإن كان ليس لدى أى دليل يدعم تحفظى، وفـَوَّتـَهـَا الأستاذ لى.

الإثنين: 27/2/1995

العدد‏ ‏قليل‏ ‏اليوم، ‏صوفيتيل المطار، محمد‏ ‏إبنى صحب‏ ‏الاستاذ بدلا‏ ‏من‏ ‏حافظ عزيز، ‏وعادل‏ ‏عزت‏ ‏(الشاعر الناشر) وصل بعدهما ثم لحقت أنا بالثلاثة، ولم ألحظ أى ضجر عند الأستاذ من هذا ‏العدد‏ ‏القليل، ‏‏بل‏ ‏لعل‏ ‏العكس‏ كان ‏هو‏ ‏الصحيح، ‏لمحت‏ ‏لونه‏ اليوم ‏باهتا‏ ‏بعض‏ ‏الشيء‏ ‏فجزعت، ‏لكننى ‏أرجعت‏ ‏ذلك‏ ‏إلى ‏ضوء‏ ‏النيون، ‏فاطمأننت، ‏يبدو‏ ‏أننى ‏أحب‏ ‏الأستاذ‏ ‏حبا‏ ‏جما، ‏هل‏ ‏هو‏ ‏حب‏ ‏والدى ‏أم‏ ‏حب‏ ‏بنوى، ‏يبدو‏ ‏أننى ‏جمعت‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الموقف‏ ‏الاثنين‏ ‏معا‏.‏

كان‏ ‏الحديث‏ ‏مازال‏ ‏يدور‏ ‏حول‏ ‏ما‏ ‏فعله‏‏ “‏أولاد‏ ‏السحار‏” ‏بأعمال‏ ‏احسان‏ ‏عبد‏ ‏القدوس‏ – ‏ قبل‏ ‏الأستاذ‏ ‏كعادته‏ – ‏اعتذار‏ ‏السحارين‏ (‏هكذا‏ ‏يسمِّى ‏أبناء‏ ‏عبد‏ ‏الحميد‏ ‏جوده‏ ‏السحار‏) ‏كما‏ ‏نشر‏ ‏فى ‏الصحف، ‏اعتذارهم‏ ‏عن‏ ‏التشويه‏ ‏الذى ‏لحق‏ ‏بقصص‏ ‏إحسان‏ ‏عبد‏ ‏القدوس‏ ‏وبعض‏ ‏قصص‏ ‏الأستاذ، ‏وجرى ‏حديث‏ ‏أثاره‏ ‏عادل‏ عزت ‏عن‏ ‏جلسة‏ ‏الاسكندرية‏ ‏فى ‏الصيف‏ ‏ومشاركة‏ ‏توفيق‏ ‏الحكيم‏ ‏وكيف‏ ‏أن‏ ‏الأستاذ‏ ‏استراح‏ ‏حين‏ ‏جاءت جائزة نوبل إليه‏ ‏بعد‏ ‏وفاة‏ ‏الحكيم، ‏وسألته‏ مرة أخرى أن يزيدنى شرحا لموقفه هذا ؟‏ ‏فقال‏ ‏متعجبا‏ “‏وهل‏ ‏هذا‏ ‏يصح؟‏” ‏قلت‏ ‏له‏ ‏ماهذا‏ ‏الذى ‏يصح‏ ‏أو‏ ‏لايصح؟‏ ‏هل‏ ‏أنت‏ ‏الذى ‏تعطى ‏نفسك‏ ‏الجائزة‏؟ ‏وهل‏ ‏فى ‏التقدير‏ ‏العالمى يوجد ‏ما‏ ‏يصح‏ ‏وما‏ ‏لا‏ ‏يصح؟‏ ‏أصر‏ ‏على ‏أنه‏: ‏أبدا، ‏هذا‏ ‏لا‏ ‏يجوز، ‏فتوفيق‏ ‏الحكيم‏ ‏هو‏ ‏الرائد‏ ‏وهو‏ ‏السابق”، ‏قلت‏ ‏له‏: ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏لا‏ ‏يمنع‏ ‏أن‏ ‏يبز‏ ‏اللاحق‏ ‏السابق، ‏أصر‏ ‏أنه‏ “‏أبدا‏.. ‏لا‏.. ‏لا‏، هذا لا يجوز “، قالها بصدق نقى حتى حسبت أنه يتصور أنهم كانوا عليهم أن يستأذنوا توفيق الحيكم فى قبره قبل أن يتجرأوا ويمنحوه الجائزة، ‏وذكر‏ ‏عادل عزت‏ ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏توفيق‏ ‏الحكيم‏ ‏كان‏ ‏يلمِّح‏ (‏ويرجو‏ ‏وينتظر‏) ‏ترشيحه‏ ‏ثم‏ ‏اختياره‏ ‏لنوبل‏ ‏العام‏ ‏تلو‏ ‏العام‏ – ‏وشرح‏ ‏الأستاذ‏ ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏الترشيح‏ ‏من‏ ‏الهيئات‏ ‏عبر‏ ‏العالم‏ ‏شىء، ‏أما‏ ‏ترشيح‏ ‏اللجنة‏ ‏نفسها‏ ‏لحوالى 150 ‏كاتبا‏ ‏وأديبا‏ ‏على ‏مستوى ‏العالم‏ فهو ‏شىء‏ ‏آخر، ‏وأن‏ ‏هذا‏ ‏الترشيح‏ ‏الأخير‏ ‏يظل‏ ‏سرا‏ ‏أبدا‏، ‏لأن‏ ‏مجرد‏ ‏الترشيح‏ ‏وإعلانه‏ ‏ثم‏ ‏حجب‏ ‏الجائزة‏ ‏عن‏ ‏المرشح‏ ‏قد‏ ‏يمس‏ ‏منزلته‏ ‏ويلحق‏ ‏به‏ ‏ضررا‏ ‏أدبيا‏ ‏بالغا، ‏ضررا‏ ‏قد‏ ‏يحفزه إلى‏ ‏التقاضى ‏وطلب‏ ‏التعويض، ‏وحكى ‏عادل‏ ‏عزت‏ ‏زيارة‏ ‏اثنين‏ ‏من‏ ‏الألمان‏ ‏للأستاذ‏ ‏فى ‏كازينو‏ ‏قصر‏ ‏النيل‏ ‏وكيف‏ ‏أنها‏ ‏كانت‏ ‏زيارة‏ ‏قبل‏ ‏القول‏ ‏الفصل‏ ‏فى ‏نيل‏ ‏الجائزة، ‏وكأنهما‏ ‏على ‏حد‏ ‏تعبير‏ ‏عادل‏ ‏عزت ‏ ‏مندوبين‏ ‏لهيئة‏ ‏الجائزة، ‏ولم‏ ‏ينف‏ ‏الأستاذ‏ ما قاله عادل، لكن يبدو أنه نسى، أو لم‏ ‏يقـر‏ ‏التفسير، ‏لكن‏ ‏عادل‏ ‏ذكر‏ ‏أشياء‏ ‏كثيرة‏ ‏عن‏ ‏موقف‏ ‏هذين‏ ‏الألمانيين، ‏ومدى ‏انبهارهما بالأستاذ وأعماله، ولم ألاحظ على الأستاذ فرحة خاصة بذلك، وشعرت بأننى أفخر بموقفه هذا، دون استهانة بتقدير الخوجات.

لست‏ ‏أدرى ‏كيف‏ ‏جاء‏ ‏ذكر‏ اتجاه عدد من الأطباء لتعاطى الأدب، وقال أحدهم، لا أذكر من، ‏يبدو أن فرصة الطبيب تكون أفضل للإحاطة بالنفس البشرية، إذ أنه ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏يملك‏ ‏ناصية‏ ‏العلم، ‏يقدم على الأدب وهو على معرفة أرحب بالإنسان، فيتناول الأدب من ‏منطلق‏ ‏أوسع. عارضت‏ ‏هذا‏ ‏الرأى ‏بشدة، ‏فالعلم‏ ‏والمعلومات‏ ‏قد‏ ‏يصبحان‏ ‏أوصياء‏ ‏على ‏الملكة‏ ‏الأدبية‏ ‏إذا‏ ‏سمح‏ ‏لهما الأديب أن يتداخلا فى إبداعه، ‏اللهم‏ ‏إلا‏ ‏فيما‏ ‏يسمى ‏بالخيال‏ ‏العلمى، ‏الأمر‏ ‏الذى ‏يقع‏ ‏عندى ‏فى ‏مرتبة‏ ‏غير‏ ‏طيبة‏ ‏من‏ ‏الإبداع، ‏وذكر‏ت أسماء أطباء أدباء كُثر، من أهمهم ‏يوسف‏ ‏إدريس‏ ‏والمخزنجى ‏والمنسى ‏قنديل‏ ‏وقلت‏ ‏للأستاذ‏ ‏إن‏ ‏الاثنين‏ ‏الأخيرين‏ ‏يعملان‏ ‏فى ‏مجلة‏ ‏العربى ‏ولست‏ ‏أدرى ‏ماذا‏ ‏أصابهما‏ ‏ليصبحا‏ ‏محررين‏ ‏صحفيين‏ ‏يعملان‏ ‏تحقيقات‏ ‏صحفية‏ ‏لأقطار‏ ‏هنا‏ ‏وهناك، ‏دون‏ ‏ذكر‏ ‏للحركة‏ ‏الأدبية‏ ‏أو‏ ‏الثقافية‏ ‏لما‏ ‏يزوران‏ ‏من‏ ‏بلاد، ‏فهما‏ ‏الآن‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏المخبر‏ ‏الصحفى ‏منهما‏ ‏إلى ‏الأديب‏ ‏الرحالة، ‏وهذا‏ ‏محزن‏.‏ وهز‏ ‏الأستاذ‏ ‏رأسه‏([20]).‏

ثم‏ ‏جاء‏ ‏ذكر‏ ‏رواية‏ “‏هموم‏ ‏شخصية‏” (‏للكاتب‏ ‏اليابانى ‏بورو نوبل‏ 1994) ‏ومدحت‏ ‏فيها‏ ‏للأستاذ‏ ‏مرة‏ ‏أخرى، ‏وكيف‏ ‏أننى ‏حسبتها‏ فى البداية تحكى ‏خبرة‏ ‏معايشة‏ ‏طفل‏ ‏معاق‏ ‏عقليا‏ ‏لكننى ‏وجدتها‏ ‏غير‏ ‏ذلك‏. ‏فهى ‏حكاية‏ ‏خبرة‏ ‏عميقة‏ ‏لولادة‏ ‏طفل‏ ‏عنده‏ ‏عيب‏ ‏خلقى (‏فتق‏ ‏فى ‏الدماغ‏) ‏قد‏ ‏يؤدى ‏إلى ‏تخلف‏ ‏عقلى ‏يحتاج أن ‏تجرى ‏له‏ ‏عملية‏ غير مضمونة ‏لعل‏ ‏وعسى، ‏وأن‏ ‏الوالد‏ ‏كان‏ ‏يرجو‏ ‏وفاته‏ ‏وأنه‏ – ‏الوالد‏ – ‏السكير‏ ‏السابق‏ ‏قد‏ ‏رفض‏ ‏إجراء‏ ‏العملية‏ ‏أملا‏ ‏فى ‏وفاة‏ ‏الرضيع، ‏ثم‏ ‏قرر‏ ‏أن‏ ‏يذهب‏ ‏به‏ ‏إلى ‏طبيب‏ ‏مختص‏ ‏فى ‏الإجهاض‏ ‏وقتل‏ ‏الأطفال‏ ‏غير‏ ‏المرغوب‏ ‏فيهم‏ ‏من‏ ‏الأهل، ‏وذلك‏ ‏بأساليب‏ ‏طبية‏ ‏لا‏ ‏تكتشف، ‏حدث‏ ‏ذلك‏ ‏بعد‏ ‏عودة‏ ‏الأب‏ ‏إلى ‏صديقة‏ ‏قديمة، ‏كانت‏ ‏رفيقته‏ ‏من‏ ‏قبل، ‏ثم‏ ‏صاحبته‏ ‏فى ‏محنته‏ ‏حتى ‏قرار‏ ‏قتل‏ ‏الطفل، ‏ولولا‏ ‏النهاية‏ الضعيفة ‏التى ‏تزينت‏ ‏بكلمتى “‏الأمل‏” (‏التى ‏سمعها‏ ‏البطل‏ ‏من‏ ‏منشق‏) ‏والتى ‏أضيف‏ ‏إليها‏ “‏الصبر‏” (‏ولم‏ ‏يبق‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏يلوح‏ ‏للقاريء‏ ‏أن‏ “‏مع‏ ‏السلامة‏” ‏مثل‏ ‏أفلام‏ مصرية ‏زمان) ‏لولا‏ ‏هذا‏ ‏لبلغت‏ ‏الرواية‏ ‏غرضها‏ ‏كأروع‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏العمل‏ ‏الأدبى، ‏كان‏ ‏هذا‏ ‏رأيي‏. وأضفت‏ ‏تعميما‏ ‏ينبه‏ ‏إلى ‏أهمية‏ ‏خاتمة‏ ‏أى ‏عمل‏‏ ‏إبداعى ‏أدبي‏: رواية ‏كانت‏ ‏أم‏ ‏قصة‏ ‏قصيرة‏ ‏أم‏ ‏قصيدة، ‏وقلت‏ ‏للأستاذ‏ ‏أننى ‏تحفظت‏ ‏على ‏كثير‏ ‏من‏ ‏نهاياته‏ ‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏أروع‏ ‏أعماله‏ ‏فى ‏نظرى ‏وهو‏ “‏الحرافيش‏”، ‏فما‏ ‏أعجبتنى ‏خطابة‏ ‏عاشور‏ ‏الناجى ‏الحفيد، ‏ولا‏ ‏فرحت‏ ‏لحكاية‏ ‏التوت‏ ‏والنبوت، ‏فقال‏ ‏الأستاذ‏ ‏هل‏ ‏كنت‏ ‏تريده‏ ‏نبوتا‏ ‏فقط‏ ‏بلا‏ ‏توت؟‏ ‏وذكرت تحفظى حتى ‏على خواتيم‏ بعض قصصه فى ‏ليالى ‏ألف‏ ‏ليله‏ التى حرقت أحيانا قوة بداياتها، ‏وأعلنت‏ ‏تفضيلى ‏للنهايات‏ ‏المفتوحة، ‏وسألت‏ ‏الأستاذ‏ ‏عن‏ ‏رأيه، ‏فأقر‏ ‏أن‏ ‏الخاتمة‏ ‏هى ‏من‏ ‏أهم‏ ‏ما‏ ‏يميز‏ ‏العمل‏ ‏الأدبى، ‏وأن‏ ‏عدم‏ ‏التوفيق‏ ‏فى ‏بعض‏ ‏الخواتيم‏ ‏له‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏تفسير، ‏فقد‏ ‏يفتر‏ ‏حماس‏ ‏المؤلف، ‏وقد‏ ‏ينطفيء‏ ‏إبداعه، ‏وقد‏ ‏يتراجع‏ – ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يدرى – ‏عن‏ ‏توجه‏ ‏دوافعه‏ ‏الأولى، ‏وقلت‏ ‏له‏: ‏إن‏ ‏من‏ ‏أروع‏ ما وصلنى من ‏خواتيم‏ ‏رواياته‏ ‏كانت‏ ‏خاتمة‏ ‏زقاق‏ ‏المدق‏ “‏بلى ‏لكل‏ ‏شيء‏ ‏نهاية‏” ‏وخاتمة‏ ‏السراب،([21]) ‏وحين‏ ‏جاء‏ ‏ذكر‏ ‏السراب‏ ‏قلت‏ ‏له‏: ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏العمل‏ ‏لم‏ ‏يأخذ‏ ‏حقه‏ ‏أبدا‏ ‏فى ‏النقد، ‏فالتفت الأستاذ ‏ ‏إلى ‏عادل‏ ‏عزت‏ ‏وقال‏ له ‏إن‏ “‏الدكتور‏” (مشيرا إلىّ) ‏هو‏ ‏الذى ‏كشف‏ ‏عن‏ ‏جانب‏ ‏لم‏ ‏يلتقطه‏ ‏النقاد‏ ‏ولا‏ ‏أنا‏ ‏كنت‏ ‏منتبها‏ ‏له، ‏وهو‏ ‏أن‏ ‏عقدة‏ ‏السراب‏ ‏كانت‏ ‏فى ‏الأم‏ ‏لا‏ ‏فى ‏الولد، ‏استسهل‏ ‏النقاد‏ ‏التحليل‏ ‏النفسى ‏وهات‏ ‏يا‏ ‏عقدة‏ ‏أوديب، وعقدة أورست، ‏ ‏وما شابه، ‏وأضاف‏ الأستاذ : ‏إن‏ ‏بعض‏ ‏النقاد‏ ‏كلما‏ ‏وجدوا‏ ‏ولدا‏ ‏وأمه‏ ‏وثمة ‏تعلق‏ ‏واضح، ‏هات‏ ‏ياتحليل‏ ‏وهات يا أوديب، ‏وهكذا فتح ملف نقد تعميم عقدة أوديب، ولى فيها باع طويل، وذكرت مرة أخرى اعتراضى فى اختزال السراب إلى أوديب أو أورست إذْ كيف يتنافس كامل رؤبة لاظ‏ (‏بطل‏ ‏السراب‏) ‏مع‏ ‏والد‏ه اصلا وهو غير موجود، ووافقنى الأستاذ مضيفا أن “‏الدكتور”‏ ‏كشف عن‏ ‏جانب‏ ‏استحواذ‏ ‏الأم‏ ‏وأنها‏ ‏هى ‏السبب‏ ‏فيما‏ ‏حل‏ ‏بالإبن‏ ‏من‏ ‏أحداث‏ ‏ومضاعفات، ‏ولم‏ ‏أكن‏ ‏متأكدا‏ – ‏رغم‏ ‏الإشارة‏ – ‏أنه‏ ‏يتحدث‏ ‏عنى، ‏لكننى ‏تأكدت‏ ‏بعد‏ ‏قليل، ‏وفرحت‏ ‏أن‏ ‏الأستاذ‏ ‏قد‏ ‏تتبع‏ ‏هذا‏ ‏الرأى ‏الذى ‏أبديته‏ ‏داخل‏ ‏مقال‏ ‏قديم‏ ‏نشر‏ ‏فى ‏مجلة‏ ‏النقد الأدبى “فصول”‏ ‏ثم‏ ‏أعيد‏ ‏نشره‏ ‏فى ‏كتابى ‏عن‏ ‏قراءات‏ ‏فى ‏نجيب‏ ‏محفوظ، ‏لكن‏ ‏كتابى غالبا‏ ‏لم‏ ‏يصل‏ ‏إلى ‏الأستاذ‏ ‏لأنه‏ ‏ظهر‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏كف‏ ‏الأستاذ‏ ‏عن‏ ‏القراءة‏ ‏والكتابة‏ (‏والاستماع‏ ‏الطويل‏) – ‏لكنه‏ ‏مازال‏ ‏يذكر‏ ‏تلك‏ ‏الفقرة‏ ‏فى ‏مقال‏ ‏لى ‏عن‏ “‏إشكالية‏ ‏العلوم‏ ‏النفسية‏ ‏والنقد‏ ‏الأدبي”، ‏والتى ‏عارضت‏ ‏فيها‏ رأى د.‏عز‏ ‏الدين‏ ‏إسماعيل فى السراب، ‏وذكرت‏ ‏فيها‏ ‏‏ ‏رؤيتى ‏لموقف‏ ‏كامل‏ ‏رؤبة‏ ‏لاظ‏ ‏وخاصة‏ ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بعلاقته‏ ‏بأمه‏ ‏ومشاكله‏ ‏الجنسية، ‏وعلى ‏ذكر‏ ‏النهاية‏ ‏المفتوحة، ‏عدت‏ ‏أذكر‏ ‏نهاية‏ ‏قصة‏ ‏زعبلاوى ‏التى ‏تحدثنا‏ ‏عنها، ‏والتى ‏جاءت‏ ‏نهاية‏ ‏دائرية‏ ‏ممتدة‏ ‏حيث‏ ‏كانت‏ ‏النهاية‏ ‏حتى ‏فى ‏ألفاظها‏ ‏مثل‏ ‏البداية (بدأت القصة: “اقتنعت أخيرا بأن علىّ أن أجد الشيخ زعبلاوى” وانتهت: “اقتنعت تماما بأن علىّ أن أجد زعبلاوى، نعم علىّ أن أجد زعبلاوى”.

انتقل‏ ‏الحديث‏ ‏إلى ‏تمويل‏ ‏الأفلام‏ ‏التى ‏تخدم‏ ‏أغراضا‏ ‏وطنية‏ ‏حقيقة‏ ‏فعلا، ‏مثل‏ ‏حرب‏ 73، ‏وقال أحدنا : من‏ ‏البديهى ‏أن‏ فيلما كهذا ‏لن‏ ‏يجد‏ ‏تمويلا‏ ‏إسرائيليا‏!! ‏أما‏ ‏التمويل‏ ‏الغربى ‏فقد‏ ‏أكد‏ ‏توفيق‏ ‏ومعه‏ ‏الأستاذ‏ ‏أنه‏ ‏تمويل‏ ‏مشروط‏ ‏بالضرورة بما سبقت الإشارة إليه، ‏بل إنه مشروط ومشبوه‏ ‏معا، ‏ ‏أو‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏كذلك، ‏دون‏ ‏تفسير‏ ‏تآمرى، ‏ ‏ويجيء‏ ‏ذكر‏ ‏نوال‏ ‏السعداوى ‏مرة‏ ‏أخرى ‏فأقول‏ ‏للأستاذ‏ ‏أنها‏ ‏تـُدَرِّسُ‏ ‏فى ‏جامعة فى كاليفورنيا‏ ‏عن‏ ‏تحرير المرأة وكلام من هذا، ‏وأننى ‏سمعتها‏ ‏أمس‏ ‏فى ‏الــ ‏BBC ‏وهى ‏تفتى ‏عن‏ ‏أول‏ ‏فيلسوفة‏ ‏ظهرت‏ ‏فى ‏القرن‏ ‏الرابع‏ ‏قبل‏ ‏الميلاد، ‏ويحكى ‏توفيق‏ ‏شيئا‏ ‏عن‏ ‏علاقتها‏ ‏بيوسف‏ ‏إدريس‏ ‏وهما‏ ‏طلبة‏ ‏فى ‏كلية‏ ‏الطب، ‏وأنه‏ ‏نتيجة‏ ‏لإحباطها‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏العلاقة‏ ‏راحت‏ ‏تنافس‏ ‏يوسف‏ ‏إدريس‏ ‏بلا‏ ‏جدوى، ‏ثم‏ ‏لجأت‏ ‏إلى ‏الطريق‏ ‏الأسهل، ‏وهات‏ ‏يا‏ ‏صراخ‏ ‏حول‏ ‏المرأة‏، ولم أوافقه، وتحفظت على هذه الحكاية، ‏ولم‏ ‏أذكر‏ ‏لا‏ ‏للأستاذ‏ ‏ولا‏ ‏لتوفيق‏ ‏خبرتى معها حين كنا نشترك فى إصدار مجلة “الصحة” من وزارة الصحة، ‏ ‏وكيف‏ ‏حركتُ‏ ‏فيها‏، دون قصد، طفلة‏ ‏وديعة‏، ‏وإذا بها تكشر عن أنياب عدوانيتها وتهاجمنى حتى خرجتْ‏ ‏من‏ زيارة غير مهنية، ‏ترفضنى ‏وترفض‏ ‏فكرى ‏وترفض‏ ‏تحريكى ‏وترفض‏ ‏جنونى ‏المقتحِم‏، ‏ورجولتى ‏المغرورة، وربما تـَخـَلـُّفـِى أو عـُقـَدى‏، ‏وقلت‏ ‏للأستاذ‏ ‏إنى ‏أتصور‏ ‏هذه‏ ‏الكاتبة‏ ‏الدكتورة‏ ‏قد تبالغ حتى ‏تزعم‏ ‏أن‏ ‏البكارة‏ ‏اختراع‏ ‏اخترعته‏ ‏الإمبريالية‏ ‏وسرَّبتـَه إلى ‏ربنا‏ ‏سبحانه‏ ‏وتعالى ‏ليفسد‏ ‏به‏ ‏تشريح‏ ‏جسد‏ ‏المرأة،‏ ‏ثم‏ ‏راحت‏ ‏تعايرنا‏ ‏نحن‏ ‏الرجال‏ ‏أننا‏ ‏بدون غشاء نتيجة هذه المؤامرة، ‏وكأن‏ ‏حل‏ ‏مشكلة‏ ‏المرأة‏ ‏هو‏ ‏فى ‏إزالة‏ ‏آثار‏ ‏هذا‏ ‏العدوان‏ ‏ليصبح‏ ‏النساء‏ ‏بلا‏ ‏بكارة‏ ‏مثل‏ ‏الرجال، ‏مع أننى – شخصيا– حللت هذا الإشكال عندى بأن اعتبرت أن للرجل بكارة دون غشاء، وبذلك يصبح مسئولا نفس مسئولية المرأة تماما، وشرحت رأيى هذا للأستاذ،‏ ‏فهز ‏رأسه‏، ولم أفهم موقفه، ولم استوضح.‏

‏ ‏ثم تطرق‏ ‏الحديث‏ ‏إلى ‏سلمان‏ ‏رشدى، ‏فأقول‏ ‏له‏ ‏رأيى من بعض ما وصلنى من‏ ‏أنه‏ ‏كاتب‏ ‏”أى ‏كلام”، ‏وأن‏ ‏عندى ‏كتابه “‏آيات‏ ‏شيطانية‏ ‏بالانجليزيه‏”، وإنى ‏لم‏ ‏أستطع‏ ‏أن‏ ‏أكمله‏ (‏ولكن: متى ‏أكملتُ‏ ‏رواية‏ ‏بالانجليزية‏؟؟!!) ‏وأسأل الأستاذ ‏عن‏ ‏رأيه‏ ‏فى ‏سلمان‏ ‏وحكايته، ‏فيقول‏ ‏إنه‏ ‏سمع‏ ‏عنه‏ ‏خيرا‏ ‏قليلا، ‏وإنه‏ ‏يجوز أن يكون‏ ‏كاتبا‏ ‏متميزا، ‏وأن‏ ‏له‏ ‏أعمالا‏ ‏قيل‏ ‏له‏ ‏أنها‏ ‏مناسبة‏ ‏أو جيدة، أو‏ ‏ واعدة، وذلك ‏ ‏قبل‏ ‏إصداره‏ ‏هذا‏ ‏الكتاب”آيات شيطانية”، ‏لكنه‏ ‏لما‏ ‏أصدر‏ ‏هذا‏ ‏الكتاب‏ – ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏يقصد‏ ‏تحديدا‏ ‏مكسبا‏ ‏أو‏ ‏دعاية‏ ‏أو‏ ‏تجديفا، ‏أو‏ ‏ربما‏ ‏قصد‏ ‏إلى ‏بعض‏ ‏هذا‏ ‏أو‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يدرى، ‏ثم‏ ‏إن‏ ‏الكتاب‏ ‏فى ‏طبعته‏ ‏الأولى ‏فشل‏ ‏فشلا‏ ‏ذريعا‏ ‏ولم‏ ‏يـُسَوَّق، ‏لكنه‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏أهدى ‏نسخة‏ ‏منه‏ ‏إلى ‏رئيس‏ ‏جمعية‏ ‏إسلامية‏ ‏فى ‏لندن‏ (‏أو‏ ‏كما‏ ‏قيل‏)، ‏وإذا‏ ‏بهذا‏ ‏الرئيس‏ ‏ينزعج‏ ‏وينشر‏ ‏ويهاجم‏ ‏ويشجب، ‏فتثور‏ ‏الثائرة‏ ‏وينتبه‏ ‏الناس، ‏ولم‏ ‏يكن‏ ‏القارئ ‏الإنجليزى ‏يعرف‏ ‏ما‏ ‏ترمز‏ ‏إليه‏ ‏اسماء‏ ‏الرواية، ‏فأضيف‏ ‏فى ‏الطبعة‏ ‏الثانية‏ ‏جدولا‏ ‏يترجم‏ ‏الاسماء‏ ‏إلى ‏أصولها، ‏وانقلبت‏ ‏الدنيا، ‏وحين‏ ‏صدرت‏ ‏الفتوى الإيرانية الشيعية ‏بإعدامه، ‏جاء‏ ‏للأستاذ‏ ‏أحد‏ ‏أصدقائه‏ ‏الناشرين‏ (‏لا‏ ‏أذكر‏ ‏الاسم‏ ‏ولكنه‏ ‏ليس‏ ‏من‏ ‏السحارين‏) ‏وقال‏ ‏هذه‏ ‏دعاية‏ ‏بمليون‏ ‏جنيه، ‏وكان‏ ‏رأى ‏الأستاذ‏ ‏موافقا‏ ‏لما‏ ‏تصورته‏ وهكذا خرجت ‏المسألة‏‏ ‏عن‏ ‏حدود‏ ‏الدين‏ ‏أو‏ ‏الأدب‏ ‏معا‏ ‏إلى ‏ألعاب‏ ‏التسويق‏ ‏والتكفير‏ ‏جميعا‏.‏

لست‏ ‏أدرى ‏كيف‏ ‏جاء‏ ‏ذكر‏ ‏صدقى ‏باشا‏ ‏سنة‏ 1930، ‏وكيف‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏قد‏ ‏أصدر‏ ‏مرسوما‏ ‏أو‏ ‏قرارا‏ ‏بتجريم‏ ‏من‏ ‏يهتف‏ ‏ضده‏ ‏أو‏ ‏بسقوطه، ‏وحكى لنا الأستاذ حكاية أشبه بنادرة، قال:‏ ‏ ‏ ‏إن‏ ‏مكرم‏ ‏عبيد‏ ‏قام‏ ‏يخطب‏ ‏قائلا‏ ‏إننى ‏إذا‏ ‏صَدقَتكم‏ ‏فقد‏ ‏أجرحكم‏ ‏وإن‏ ‏كذبت‏ ‏عليكم‏ ‏فإنى ‏مخفف‏ ‏عنكم، ‏وفى ‏هذه‏ ‏الحال‏ ‏دعونى ‏أقول، ‏أو‏ ‏لعل‏ ‏لسان‏ ‏حالكم‏ ‏يقول‏: ‏يحيا‏ ‏كذبى ‏و‏ “‏يسقط‏ ‏صدقي‏”، ‏وهكذا‏ ‏هتف‏ مكرم عبيد ‏بسقوط‏ ‏صدقى ‏دون‏ ‏باشا‏، وهو يتلاعب باللغة العربية التى كان يحبها جدا، ويتقنها جدا جدا. ‏

كنت‏ ‏قد‏ ‏أنهيت‏ ‏قراءة‏ ‏كتاب‏ ‏هوفمان عن إسلامه، وكان‏ ‏سفيراً‏ ‏لألمانيا فى‏ ‏المغرب‏ ‏وهو‏ ‏الدبلوماسى ‏الذى ‏أسلم‏ ‏بسلاسة‏ ‏نتيجة‏ ‏لأمانته‏ ‏مع‏ ‏نفسه‏ ‏بعد‏ ‏رحلة‏ ‏استكشافية، ‏وصل‏ ‏فيها‏ ‏إلى ‏يقين‏ ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏الدين‏ (‏الإسلام‏) ‏متين، وأنه يمثل سائر‏ ‏الأديان‏ ‏النقية‏ ‏قبل‏ ‏التشوية، ‏وأنه ‏ ‏أقرب‏ ‏الأديان‏ – ‏التى ‏عرفها إلى الفطرة، ‏وبالتالى فقد رأى هوفمان ‏أنه‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏الأمر‏ ‏كذلك‏ ‏فمن‏ ‏الأمانة‏ ‏أن‏ ‏يعلن‏ ‏هذا‏ ‏الرأى، وكتب كتابه “الإسلام كبديل”([22]وبالتالى فإن إعلان رأيه هذا كان – ببساطة- يعنى احتمال إسلامه، وقد‏ ‏شرحت‏ ‏للأستاذ‏ ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏الذى ‏أعجبنى ‏فى ‏الكتاب‏ ‏هو‏ ‏سلاسة‏ ‏التفكير‏ ‏وشجاعة‏ ‏المعايشة‏ ‏ثم‏ ‏أمانة‏ ‏المواجهة‏ ‏والإعلان‏ ‏عن‏ ‏الرأى بهذا الترتيب، ‏ونبهت أننى أعتقد‏ ‏ ‏أن‏ ‏إسلام‏ ‏هوفمان‏ ‏هذا‏ ‏لا‏ ‏يكتمل‏ ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏كانت‏ ‏أمامه‏ ‏فرصة‏ ‏للتراجع‏ – ‏كما‏ ‏تراجع‏ ‏عن‏ ‏المسيحية‏ – ‏ ‏أى ‏أن‏ ‏الطريق‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏ذهابا‏ ‏وعودة، ‏وإلا‏ ‏فتهليلنا‏ ‏له‏ ‏حين‏ ‏يسلم‏ (‏ويترك‏ ‏دين‏ ‏أهله‏) ‏لا‏ ‏يتماشى – ‏عدلا‏ – ‏مع‏ ‏إعدامنا‏ ‏له‏ ‏إذا‏ ‏رجع‏ ‏عن‏ ‏إسلامه، ‏وقلت‏ ‏للأستاذ‏ ‏أن‏ ‏هوفمان‏ ‏نفسه‏ ‏نبـَّه‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏الردة‏ ‏التى ‏تستوجب‏ ‏القتل‏ ‏هى ‏الردة‏ ‏التى ‏تحمل‏ ‏إفشاء‏ ‏الأسرار‏ ‏للعدو‏ ‏أثناء‏ ‏الحرب، ‏وهى ‏أشبه‏ ‏بتهمة‏ ‏الخيانة‏ ‏العظمى ‏فى ‏أى ‏من‏ ‏القوانين‏ ‏المعرفة، وأن الخيانة‏ ‏عقوبتها‏ ‏الإعدام‏ ‏فى ‏كل‏ ‏ملة‏ ‏ودين، ‏أما‏ ‏تغيير‏ ‏المعتقد‏ ‏من‏ ‏موقف‏ ‏شخصى ‏فليس‏ ‏عليه‏ ‏عقوبة، ‏وهذا‏ الرأى ‏الذى ‏وصل‏ ‏إليه‏ ‏هوفمان‏ ‏هو‏ ‏رأى ‏بعض‏ ‏الفقهاء‏ ‏المسلمين‏ ‏فى ‏مسألة‏ ‏الردة‏ ‏ومازلت‏ ‏أؤكد‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏مناعة‏ ‏ولا‏ ‏قوة‏ ‏للإسلام‏ ‏إلا‏ ‏بالمواجهة‏ ‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏إلغاء‏ ‏حد‏ ‏الردة، ‏اللهم إلا جاءت فى ظروف تساوى ‏ ‏الخيانة‏ ‏العظمى فعلا – كما قال هوفمان وأخرون- أثناء الحرب عادة.‏

الحلقة الواحد والأربعون

“العيد”: خفيفٌ جميلٌ رشيقٌ

الثلاثاء:28/2/1995

فرح‏ ‏بوت

ربع‏ ‏ساعة‏

أو أقل

مرورٌ للسلام والطمأنينة

يوسف‏ ‏القعيد‏ ‏يتكلم‏ ‏عن‏ ‏دعوته‏ ‏للمغرب‏ ‏للاحتفال‏ ‏بعيد‏ ‏جلوس‏ ‏مولانا‏ ‏الحسن‏ ‏الثانى، والتعقيبات‏ ‏الضاحكة‏ ‏الخفيفة، ‏والكلام‏ ‏السياسى ‏الدائر‏ ‏حول‏ ‏نفسه، ‏والأستاذ‏ ‏فَرِحٌ ‏بكل‏ ‏هذا‏ ‏فعلا‏، يبدو أن المواضيع ليست هى الأهم، المهم اللقاء والصحبة، هذا صحيح، أعيدُ اكتشاف أهمية “العملية” (أى عملية) عن “المحتوى” (أى محتوى)، أهمية “الدال” عن “المدلول”‏.

يصرفنى الأستاذ بالأمر وهو يوصينى بالالتزام بأكل عيشى.

حاضر.

السلام عليكم طِبْتم، إنْ ترضَى نَرْضَى

 ‏سلامٌ‏ ‏عليكم‏.‏

الأربعاء: 1/3/1995

قال‏ ‏الأستاذ‏ ‏موجها‏ ‏كلامه‏ ‏للأستاذ‏ ‏توفيق صالح‏: ‏إنهم‏ – يشير إلى المجتمعين – ‏يريدون‏ ‏أن‏ ‏يعملوا‏ ‏عملا‏ ‏يتعلق‏ ‏بحرب‏ ‏اكتوبر‏ ‏وذلك‏ ‏بالاتفاق‏ ‏بين‏ ‏وزير‏ ‏الدفاع‏ ‏ووزير‏ ‏الإعلام‏ ‏على ‏أن‏ ‏ينتهى ‏فى 1998 ‏أو‏ ‏حول‏ ‏ذلك، ‏وأضاف‏ ‏إنه‏ ‏يخشى ‏أن‏ ‏ينقلب‏ ‏هذا‏ ‏العمل‏ ‏إلى ‏فيلم‏ ‏تسجيلى ‏حيث‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏تسجيل‏ ‏أحداث‏ ‏حرب‏ ‏شاملة‏ ‏فى ‏فيلم‏ ‏هكذا، ‏وإنما‏ ‏كل‏ ‏الممكن‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏تأخذ‏ ‏حدثا‏ ‏محددا‏ ‏يدور‏ ‏حوله الحكى ‏وتظهر الأحداث الجسام من خلاله، ‏مثل‏ ‏فيلم‏ ‏مدفع‏ ‏نيفادو‏ ‏(لست متأكدا من الاسم)، أو‏ ‏ما‏ ‏شابه، ‏ويقره‏ ‏توفيق‏ ‏على ‏ذلك‏.‏

حين‏ ‏عاد‏ ‏الحديث‏ ‏لاحقا‏ ‏عن‏‏ ‏كتاب‏ ‏هو‏فمان‏ ‏عن‏ ‏الإسلام‏ ‏وجهت حديثى إلى‏ ‏توفيق‏ ‏صالح‏ ‏مكملا نقاشا سابقا، قلت: إن‏ ‏الذى ‏يدخِل‏ ‏الناس فى‏ ‏الإسلام‏ ‏هو‏ ‏سلوك‏ ‏المسلمين‏ ‏السليم‏ ‏والمختلف‏ ‏عن ما اعتاده المستكشف لهذه المنظومة الجديدة، ‏وليس‏ ‏صياح الدعاة والمبشرين ‏ومناقشاتهم‏ ‏العقلية، ‏وافق ‏توفيق وحكى كيف‏ ‏أن‏ ‏جارودى ‏حين‏ ‏اعتقل‏ ‏فى ‏الجزائر‏ ‏وأصدر‏ ‏القاضى ‏أو‏ ‏القائد‏ ‏العسكرى ‏حكما‏ ‏بإعدامه‏ ‏رميا‏ ‏بالرصاص‏ ‏رفض‏ ‏الجنود‏ ‏المسلمون‏ ‏تنفيذ‏ ‏الحكم‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏إسلامهم‏ ‏، وانطلاقا من هذا الحادث راح ‏ ‏جارودى، يتساءل، ثم يبحث، حتى أسلم، وهو يشعر أنه مدين بحياته فهؤلاء الذين تحلـَّوا بأخلاق هذا الدين.

ذهب‏ ‏الأستاذ‏ ‏”لتنشيط‏ ‏الحركة‏ ‏الثقافية”، وسداد الرأى!! ‏وقبل‏ ‏أن‏ ‏يترك‏ ‏القاعة‏ ‏التفت‏ ‏إلى ‏عادل‏ عزت، (وكان قد قال إنه كتب قصيدة جديدة)، وقال‏: ‏يا‏ ‏عادل‏ ‏لا‏ ‏تنس ‏القصيدة، ‏هذا الرجل ‏ ‏يهتم‏ ‏دائما‏ ‏بمن‏ ‏حوله‏ ‏ويعلم‏ ‏تماما‏ ‏أن‏ ‏قراءة‏ ‏قصيدة‏ ‏جديدة عليه‏ ‏من‏ ‏أحد‏ ‏مريدية‏ ‏هو‏ ‏أمل‏ ‏هذا‏ ‏المريد‏ ‏بغض‏ ‏النظر‏ ‏عن‏ ‏قيمة‏ ‏القصيدة، ‏وعادل كل قصائده جيدة، وهذا لم يمنعنى من أن أتذكر أن الأستاذ هو ‏ ‏المجامل‏ ‏الدائم، ‏والواعد‏ ‏الطيب، ‏وحين عاد الاستاذ قرأ‏ ‏عادل‏ ‏القصيدة، ‏ولم‏ ‏أتابعها‏ ‏بدقة، ‏ولم‏ ‏أعجب‏ ‏بها‏ ‏كثيرا، ‏وإن‏ ‏كانت‏ ‏فيها‏ ‏فكرة‏ ‏تعدد‏ ‏الذوات‏ ‏والأقنعة‏ ‏السبعة، ‏وحين‏ ‏انتهى ‏عادل‏ ‏وهز‏ ‏الأستاذ‏ ‏رأسه‏ ‏ومال‏ ‏إلى ‏الخلف‏ ‏وقال‏ ‏ما‏ ‏يشبه‏ “‏عال‏ ‏عال‏”، ‏قلت‏ ‏له‏: ‏والآن‏ ‏هل‏ ‏صدَّقـْتَ ‏نظرية‏ ‏تعدد‏ ‏الذوات‏ ‏التى ‏تحفظتَ‏ ‏إزاءها‏ حين شرحتها لك ‏سابقا، ‏قال‏ ‏الأستاذ‏ ‏ها‏ ‏هم‏ “‏سبعة‏ ” ‏قلت‏: ‏على ‏الأقل‏. ‏ولم‏ ‏يكن‏ ‏عادل‏ ‏حاضرا‏ ‏حين‏ ‏تكلمت‏ ‏عن‏ ‏هذه‏ ‏النظرية قبل ذلك، ‏ولم‏ ‏يطلب‏ الأستاذ ‏مزيداً‏ ‏من‏ ‏الشرح‏.

‏ ‏تدرج‏ ‏الحديث‏ ‏إلى ‏أيام‏ ‏كان‏ ‏يعمل‏ ‏الأستاذ‏ ‏تحت‏ ‏رئاسة‏ ‏يحيى ‏حقى ‏الذى ‏كان‏ ‏يعمل‏ ‏بدوره‏ ‏تحت‏ ‏رئاسة‏ ‏فتحى ‏رضوان‏ ‏مع‏ ‏بداية‏ ‏الثورة، ‏وتحدثواعن‏ ‏فتحى ‏رضوان‏ ‏وكيف‏ ‏رآه‏ ‏توفيق‏ ‏وهو‏ ‏يعطى ‏دروسا‏ (‏هكذا‏ ‏بدا‏) ‏ليوسف‏ ‏السباعى ‏فى ‏ماهية‏ ‏الجمال‏ ‏وقواعد‏ ‏الفن، ‏وذكر‏ ‏الأستاذ‏ ‏فتحى ‏رضوان‏ ‏بخير‏ ‏كما‏ ‏يفعل‏ ‏مع‏ ‏معظم‏ ‏الناس، ‏إن‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏كل‏ ‏الناس، ‏وقلت‏ ‏له‏ ‏إننى ‏عرفت‏ ‏فتحى ‏رضوان‏ ‏فى ‏ظروف‏ ‏أخرى، ‏وإننى ‏أحترم‏ ‏قدراته‏ ‏وتاريخه‏ ‏وعناده، ‏لكننى ‏آسف‏ ‏أسفا‏ ‏شديدا‏ ‏لموقفه‏ ‏من‏ ‏أمرين، ‏الأول‏ ‏شماتته‏ ‏التى ‏لم‏ ‏يستطع‏ ‏أن‏ ‏يخفيها‏ ‏فى ‏مقتل‏ ‏السادات، وكأن اغتياله هكذا هو دليل خيانته، وأنه نال جزاءه وثبت خطؤه بهذا الانتقام، ‏ناسيا‏ ‏أن‏ “‏لنكولن‏” ‏و”عمر‏ ‏بن‏ ‏الخطاب”،‏ ‏وغيرهما‏ ‏قد‏ ‏ماتوا‏ ‏نفس‏ ‏الميته، ‏لكن فتحى رضوان مثله مثل حسنين هيكل راحا يؤكدان خيانة‏ ‏السادات‏ ‏بدليل‏ ‏نهايته، ‏والأمر‏ ‏الثانى ‏حين‏ ‏راح‏ ‏فتحى رضوان‏ يتكلم عن ‏نفسه‏ أمامى باعتباره ‏روائيا‏ مقارنا نفسه ‏بالأستاذ‏ ‏وهو لا‏ ‏يضع الأستاذ‏ ‏فى ‏موضعه‏ ‏اللائق، وذكرت للأستاذ أننى سمعت منه ذلك شخصيا، ‏وقال‏ ‏الأستاذ‏ ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏الأمر‏ وارد، وقد وصله من ‏كثير‏ ‏من‏ ‏الفنانين‏ ‏والكتاب، ‏حيث‏ ‏يعتقد‏ ‏كل‏ ‏واحد‏ – ‏عادة‏ – ‏أنه‏ ‏أعظم‏ ‏روائى ‏أو‏ ‏قصصى ‏أو‏.. ‏أو‏.. ‏فى ‏العالم‏، ‏حتى ‏لو‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏كتب‏ ‏سوى ‏ثلاث‏ ‏أو‏ ‏أربع‏ ‏قصص‏ ‏قصيرة‏ ‏متوسطة‏ ‏المستوى، وأنه لا يعبتر أن هذا تطاول أو خطأ، فمن حق كل واحد أن يضع نفسه حيث يتصور، وبيقين يتناسب مع رؤيته لنفسه. وأتساءل: “إلى ‏متي؟ ‏وإلى ‏أى ‏مدى ‏يظل‏ ‏الأستاذ‏ ‏هكذا‏ ‏يفسر‏ ‏ويبرر‏ ‏ويقبل‏ ‏معظم‏ ‏الناس‏ ‏كما‏ ‏هم”؟‏ ‏لكننى ‏لم‏ ‏أعتبر‏ ‏ذلك‏ ‏هروبا‏ ‏أو‏ ‏مجاملة، ‏فنقده‏ ‏لاذع حين يُطلب منه ذلك موضوعيا لغرض بذاته، ‏ورؤيته‏ ‏شامله، ‏يعرف‏ ‏بها‏ ‏العيوب‏ ‏قبل‏ ‏الميزات، ‏لكنه‏ ‏يتكلم‏ ‏عن‏ ‏الميزات‏ – ‏عادة‏ – ‏دون‏ ‏العيوب من باب التشجيع والقبول والاحترام، لا أكثر، ‏وأظن‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏عكس‏ ‏موقف‏ ‏العقاد‏ ‏تحديدا‏، ‏وحكى‏ ‏الأستاذ‏ ‏عن غرور‏ ‏أحمد‏ ‏سالم‏ ‏وهو‏ ‏يصور‏ ‏فيلم‏ “‏المنتقم‏” ‏وكيف‏ ‏كان‏ يطلب‏ أحيانا ‏سيجارة‏ ‏أثناء‏ ‏التصوير‏ ‏فيقدمها‏ ‏له‏ ‏الاستاذ‏ ‏وإذ‏ا ‏به‏ ‏يأخذها‏ ‏دون‏ ‏شكر، ‏ثم‏ ‏أخذ‏ ‏الأستاذ‏ ‏يتجنبه‏ ‏حتى ‏انتهى ‏التصورير‏ ‏وحينذاك‏ ‏حن‏ ‏عليه‏ سالم ‏قائلا‏: “‏إزيك‏ ‏يا‏ ‏نجيب‏” ‏قال‏ ‏فى ‏نفسه‏ “‏أخيرا؟‏!” ‏عرفتنى ‏يلعن‏ ‏أ…..”.‏

الخميس‏: 2/3/1995

اليوم هو أول‏ ‏أيام‏ ‏عيد‏ ‏الفطر، ‏لكن‏ ‏عادات‏ ‏الأستاذ‏ ‏لا‏ ‏تعمل حساب عيد أو وقفة،‏  الخميس هو موعد الحرافيش وعلى العيد أن يعمل حسابه – إن كان يريد ألا نجتمع فيه – ألا يأتى يوم خميس،، ‏موعد‏ ‏الحرافيش‏ ‏قائم‏ ‏وثابت‏ ‏كما‏ ‏هو، ‏و”من‏ ‏يعجبه!!”.

 ‏مررت‏ ‏عليه‏ ‏صباحا‏ ‏مع‏ ‏أسرتى، أولادى وزوجتى، وتصورت أن هذا تقليد يفرحه كما أفعل أحيانا مع بعض أقاربى الذين لا أزورهم إلا فى العيد، لكننى لم اشعر أن ذلك كان مناسبا، فقد كان الوقت باكرا، وهو لم يتوقع هذه الزيارة العائلية المفروضة عليه دون إذن مسبق، رحبت بنا السيدة حرمه ترحيبا مصريا كريما، ‏ولم‏ ‏نمكث‏ ‏سوى ‏دقائق معدودة وانصرفنا بسرعة وأنا خجلان، لا يصح أن نفترض فى الناس أن ما يـُفرحنا يفرحهم، أو أن ما يناسبنا يناسبهم، ‏‏كادت المفاجأة وتفاعله، برفضها كما تصورت، أن تغطى على الترحيب الدمث الطيب، وأسفت دون أن أشعر بالذنب، وتعلمت، وانصرفنا وأنا انتظر لقاء الحرافيش فى مساء ذلك اليوم، أول أيام العيد، لأتأكد من حجم خطئى.

فى مساء نفس اليوم، فى السادسة‏ ‏تماما – كالعادة – ‏‏مررت‏ ‏عليه‏ ‏مع‏ ‏توفيق‏ ‏ونبهت‏ ‏توفيق‏ ‏أن‏ ‏مقلاة‏ ‏الفول‏ ‏السودانى ‏مغلقة‏ ‏للعيد، ‏ولم‏ ‏يصدق‏ ‏الأستاذ‏ ‏بسهولة، ‏وراح‏ ‏يردد‏ ‏هل‏ ‏أنت‏ ‏متأكد‏ ‏يا‏ ‏توفيق؟‏ ‏ثم وافق بصعوبة أن نفوتّ السودانى الليلة.

‏ذهبنا‏ ‏إلى فندق ‏”فورت‏ ‏جراند”‏ ‏كما تعودنا قبل سهرتنا عند توفيق، ‏كان‏ ‏الفندق مزدحما‏ ‏وفـَرِحَ‏ ‏الأستاذ‏ ‏بالناس‏، ‏وجدنا‏ ‏ركنا‏ ‏مناسبا‏ ‏فى ‏البهو‏ ‏الكبير، ‏أقبلت‏ ‏طفلتان‏: ‏الواحدة‏ ‏تلو‏ ‏الأخرى ‏وحيتا‏ ‏الأستاذ‏ ‏وذكرت‏ ‏إحداهما‏ (‏فى ‏التاسعة‏ ‏تقريبا) ‏أسماء‏ ‏ما‏ ‏تعرف‏ ‏من‏ ‏قصص‏ ‏وروايات‏ ‏للأستاذ‏ ‏مثل‏: ‏اللص‏ ‏والكلاب، ‏وحب‏ ‏تحت‏ ‏المطر، ‏والثلاثية‏، وسَعِدَ الأستاذ بهما جدا

سألنى ‏توفيق‏ ‏عن‏ ‏علاقتى ‏بالأدب،‏ ‏وهل‏ ‏هى ‏سابقة‏ ‏أم‏ ‏لاحقة‏ ‏لاشتغالى ‏بالطب؟ ‏فقلت‏ ‏له‏ ‏إنها‏ ‏تولدت‏ ‏من‏ ‏اشتغالى ‏بالطب، ‏وأننى‏ ‏لا‏ ‏أعتبر‏ ‏نفسى ‏أديبا‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏كان‏ ‏اجتهادى ‏موجها‏ ‏إلى ‏البحث‏ ‏عن‏ ‏وسيلة‏ ‏للتعبير‏ ‏عن‏ ‏ما‏ ‏تعرَّى امامى من بشر بما فيهم نفسى، وذلك ‏أثناء‏ ‏ممارستى ‏مهنتى، وحين عجز المنهج العلمى المتاح لى عن الوفاء بإبلاغ الرسالة التى وصلتنى، قفز إلىّ هذا الاحتمال الآخر، فهو الأدب. ‏لكن‏ ‏الأستاذ‏ ‏عقب‏ ‏على ‏ذلك‏ ‏أنه‏ ‏يرجح‏ ‏أن‏ ‏الموهبة‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏موجودة‏ ‏قبلا، ‏وإلا‏ ‏لكان‏ ‏كل‏ ‏طبيب‏ ‏أصابته‏ ‏هذه‏ ‏الجرعة‏ ‏من‏ ‏الكشف‏ ‏أو‏ ‏تعرية‏ ‏الوعى ‏قادرا‏ ‏على ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏أديبا، ‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر، ‏وأضاف‏ ‏الأستاذ‏ ‏أنه‏ ‏يرجح‏ ‏أن‏ ‏الفضل‏ ‏فى ‏ميولى ‏الأدبية‏ ‏يرجع‏ ‏إلى ‏والدى (‏الذى ‏كنت‏ ‏أحكى ‏للأستاذ‏ ‏عنه‏ ‏كثيرا‏ ‏وعن‏ ‏حوارى ‏معه‏ ‏واستشهادى ‏بمقتطفاته‏ ‏فى ‏الشعر‏ ‏والأدب‏)، ‏وقال‏ ‏توفيق‏ ‏للأستاذ‏ ‏بل‏ ‏إن‏ ‏تأثير‏ ‏والده‏ ‏عليه‏ ‏ترك‏ ‏بصماته‏ ‏فى ‏موقفه‏ ‏المتدين‏ ‏الذى ‏استشعره‏ ‏منى من خلال ‏عشرته‏ ‏لى حتى الآن، ‏واستمهلت‏ ‏توفيق‏ ‏حتى ‏يقرأ‏ ‏لى ‏ما‏ ‏يكفى ‏للحكم، ‏لكنه‏ ‏استطرد‏ ‏أنه‏ ‏وجد‏ ‏فى ‏أسلوبى ‏شيئا‏ ‏مختلفا، ‏وأن‏ ‏هذا‏ ‏الشيء‏ ‏المختلف‏ ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏مزية‏ ‏وقد‏ ‏يكون‏ ‏عيبا، ‏وهو‏ ‏يرجح‏ ‏أنه‏ ‏جاء نتيجة‏ ‏لتأثير‏ ‏علمى ‏على ‏أدبى، ‏واعترفت أن هذا وارد، وأنه لن يهدينى إلى تناسب جرعة التأثر العلمى إلا ناقد أمين، واعترفت مع ذلك أننى أخاف من النقد، مع أننى أستفيد منه إلى أقصى مدى، ‏قلت‏ ‏لتوفيق‏: ‏إننى ‏أتمنى ‏أن‏ ‏يمر‏ ‏على ‏كل‏ ‏ما‏ ‏كتبت‏ ‏وخاصة‏ ‏شعرى‏ بالعامية،‏ ‏وحكمة‏ ‏المجانين،‏ ‏وأدب‏ ‏الرحلات‏ (‏الناس‏ ‏والطريق‏) من يجد عنده الوقت والاهتمام، ثم يقول لى عنى ما يرى، فأرى، أو لا أدرى…..، ‏ويبدو‏ ‏أن توفيق ‏التقط‏ ‏رعبى ‏واهتزازى ‏أمام‏ ‏ملاحظاته‏ ‏فراح‏ ‏يطمئننى ‏بأدب‏ ‏جم‏ ‏نافيا‏ ‏أنه‏ ‏ناقد،‏ ‏أو‏ ‏أن‏ ‏له‏ ‏حق‏ ‏فى ‏إبداء‏ ‏هذه‏ ‏الملاحظات، ‏ولكنه‏ ‏يقول‏ ‏ملاحظات‏ ‏مبدئية‏ ‏لا‏ ‏يحق‏ ‏لها‏ ‏أن‏ ‏تظهر‏ ‏هكذا‏ ‏إلا‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏ينتهى ‏من‏ ‏قراءة‏ ‏ما‏ ‏أعطيته‏ (‏مجموعة‏ ‏قصص‏ ‏قصيرة‏ ‏والرواية‏ الجزأين الذين ظهرا، لم يكن قد ظهر الجزء الثالث بعد)([23]) ‏قلت‏ ‏له‏ ‏إن‏ ‏ما‏ ‏يهمنى، ‏وما‏ ‏أتعامل‏ ‏به‏ ‏معه، ‏هو‏ ‏أننى ‏أعتبره‏ “‏وعى ‏نقى، ‏ويقظ‏” ‏وهذا‏ ‏يكفينى، ‏بل‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏أحتاجه‏ ‏تحديدا، ‏وسُرَّ ‏هو‏ ‏والأستاذ‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏الوصف‏.‏

مـر‏ّّ ‏أمامنا – بالصدفة – ‏ ‏محمود‏ ‏يس‏، وانتبه إلى وجودنا فأقبل‏ ‏يحيِّى ‏الأستاذ، ‏فرد‏ ‏عليه‏ ‏التحية‏ ‏باعتباره‏ ‏نزيلا‏ ‏عابرا‏ ‏تعرف‏ ‏عليه، ‏لكنه‏ ‏لاحظ‏ ‏أن حديثه طال ‏ ‏مع‏ ‏توفيق‏ ‏وعند‏ ‏انصرافه‏ ‏سأل‏ ‏الاستاذ‏ ‏توفيق‏: ‏من‏ ‏هذا؟‏ ‏فقال‏ ‏له‏ ‏فلان، ‏فأحرج‏ ‏إحراجا‏ ‏شديدا‏ ‏وشعر‏ ‏بالتقصير‏ ‏أنه‏ ‏لم‏ ‏يحِّيه‏ ‏باسمه، ‏ولم‏ ‏يهدأ‏ ‏إلا‏ ‏حين‏ ‏نادى ‏توفيق‏ ‏محمود‏ ‏يس‏ ‏وهو‏ ‏يمر‏ ‏ثانية‏ ‏ليقول‏ ‏له‏ ‏الاستاذ‏ ‏وهو‏ ‏يقف‏ ‏له‏‏: ‏أهلا‏ ‏يا‏ ‏أستاذ‏ ‏محود، ‏آسف‏.‏

آسف‏ ‏على ‏ماذا‏ ‏يا‏ ‏شيخى الجليل، ‏ما‏ ‏أرق‏ ‏شعورك‏.‏

سألت‏ ‏الأستاذ‏ ‏إن‏ ‏كان‏ ‏قد‏ ‏قرأ‏ ‏كتاب‏ ‏أنيس‏ ‏منصور‏ “‏كانت‏ ‏لنا‏ ‏أيام‏ ‏فى ‏صالون‏ ‏العقاد‏” ‏قال‏ ‏إنه‏ ‏يذكر‏ ‏أنه‏ ‏ظهر‏ ‏وهو‏ ‏مازال‏ ‏يستطيع‏ ‏القراءة، ‏وأكد‏ ‏على ‏ذلك‏ ‏توفيق، ‏وأنه‏ ‏سمع‏ ‏أنه‏ ‏من‏ ‏أحسن‏ ‏كتب‏ ‏أنيس، ‏ولكنه‏ ‏لم‏ ‏يقرأه، ‏وقال‏ “‏لقد‏ ‏شعرت‏ ‏أننى ‏لا‏ ‏أحتاج‏ ‏لقراءته‏، ‏فأنا‏ ‏أكاد أعرف‏ ‏المكتوب‏ ‏فيه‏ ‏معرفه‏ ‏ربما‏ ‏لا‏ ‏تحتاج‏ ‏إلى ‏مزيد، ثم قال: “‏العقاد‏ ‏فى ‏دمى”، ‏ثم‏ ‏إنى ‏أعرف‏ ‏الكاتب‏ ‏أيضا، ‏فكأنى ‏سأقرأ‏ ‏ما‏ ‏أعرف‏ ‏بقلم‏ ‏من‏ ‏أعرف عن من أعرف‏” ‏وقد‏ ‏أحسست‏ ‏أن‏ ‏الأستاذ‏ ‏قد‏ ‏استغنى ‏عن‏ ‏قراءة‏ ‏هذا‏ ‏الكتاب‏ ‏بوجه‏ ‏خاص، ‏ربما‏ ‏لأسباب‏ ‏أخرى، ففى رأيى أن أنيس لا يتورع أن يدش حكاوى على أنها حقائق قاصدا أو مستسهلا، وذكرت رأيى هذا للأستاذ، فهز رأسه وكأنه يوافق، لست متأكدا، وضربت ‏مثالا‏ ‏لذلك‏ ‏حين‏ ‏ذكر‏ ‏أنيس، ‏نقلا عن ‏ ‏أحمد‏ ‏أمين بتعميم لم أستسلم له بسهولة قال ‏: ‏إن‏ ‏هيكل‏ ‏باشا‏ ‏قد‏ ‏وقف‏ ‏بجوار‏ ‏الرسول‏ ‏يدافع‏ ‏عنه، ‏أما‏ ‏طه‏ ‏حسين‏ ‏فقد‏ ‏وقف‏ ‏وراءه‏ ‏يؤرخ‏ ‏له، ‏والعقاد‏ ‏وقف‏ ‏أمامه‏ ‏يرسم‏ ‏له‏ ‏الطريق،‏ ‏أما الحكيم‏ ‏فقد‏ ‏دار‏ ‏حوله‏ ‏يصفه‏ ‏من‏ ‏بعيد‏، وضحك‏ ‏الأستاذ‏ ‏لهذا‏ ‏التشبيه، ‏وقال‏: ‏حقيقة‏ ‏لقد‏ ‏كان‏ ‏العقاد‏ ‏يرسم‏ ‏للشخص‏ ‏طريقه، ‏ولقد‏ ‏ثارت‏ ‏قضية‏ ‏حول‏ ‏عنوان‏ ‏دراسته‏ “‏عبقرية‏ ‏محمد‏”، ‏حيث‏ ‏أنه‏ ‏لو‏ ‏أقررنا‏ ‏بعبقرية‏ ‏محمد‏ ‏هكذا‏ ‏فلربما‏ ‏ذهب‏ ‏الظن‏ ‏إلى ‏أنه‏ ‏صاحب‏ ‏الفضل‏ ‏فيما‏ ‏جاء‏ ‏به‏ ‏من‏ ‏فكر، ‏وما‏ ‏أضاف‏ ‏من‏ ‏إنارة، ‏وكأننا‏ ‏ننفى، ‏أو‏ ‏نقلل‏ ‏من‏ ‏قيمة‏ ‏الوحى ‏والتنزيل، ‏ذكر الأستاذ أنه سمع أن العقاد كان قد‏ ‏أرسل‏ ‏الكتاب‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏ينزل‏ ‏إلى ‏الأسواق‏ ‏إلى ‏الشيخ‏ ‏بخيت‏ (لست متأكدا من الاسم) ‏شيخ‏ ‏الجامع‏ ‏الأزهر‏ ‏آنذاك‏ ‏وحين‏ ‏قرأه‏ ‏لم‏ ‏يُجِزْه‏ ‏فحسب‏ ‏وإنما‏ ‏قرره‏ ‏على ‏طلبة‏ ‏الأزهر‏ ‏عموم‏ ‏القطر، ‏وقلت‏ ‏للأستاذ‏ ‏إن‏ ‏العقاد‏ ‏فى ‏عبقرياته، ‏وفى ‏نقده، ‏يرسم‏ ‏الشخصية‏ ‏من‏ ‏ذهنه‏ ‏ثم‏ ‏يحشر‏ ‏فيها‏ ‏النص‏ ‏حشرا‏‏ ‏فيوفق‏ ‏حينا‏ ‏ويخطئ ‏حينا، ‏فوافقنى ‏الأستاذ‏ ‏على ‏هذا، ‏أو‏ ‏على ‏بعض‏ ‏هذا، ‏أو‏ ‏وافقنى ‏بعض‏ ‏الموافقة‏ ‏على ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏هكذا، ‏وقلت‏ ‏له‏ ‏وماذا‏ ‏عن‏ ‏أنيس‏ ‏منصور عندك، ماذا تقول فيه؟ ‏قال‏ ‏إنه‏ ‏شخص‏ ‏شديد‏ ‏الذكاء‏ ‏حاد‏ ‏الذاكرة‏ ‏ولكنه‏ ‏لم‏ ‏يستعمل‏ ‏هذا‏ ‏أو‏ ‏ذاك‏ ‏فيما‏ ‏كان‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏إضافة‏ ‏حقيقية، ‏وقال‏ ‏توفيق‏: ‏مثلا‏ ‏كتابه‏ ‏هذا‏ ‏الذى ‏نتحدث‏ ‏عنه، ‏كان‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏فرصة‏ ‏حقيقية‏ ‏يؤرخ‏ ‏بها‏ ‏لولادة‏ ‏أغلب‏ ‏التيارات‏ ‏الثقافية‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الحقبة، ‏فهو‏ ‏بما‏ ‏يستوعب، ‏والحضور‏ ‏بما‏ ‏يمثلون‏ ‏من‏ ‏اتجاهات‏ ‏فكرية‏ ‏مختلفة‏ ‏أنشأت‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏تيارات‏ ‏ومدارس‏ ‏مازال‏ ‏أثرها‏ ‏قائم‏ ‏حتى ‏الآن‏ ‏كان‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يرسم‏ ‏أنيس‏ ‏لنا‏ ‏خطوط‏ا ‏ومعالم‏ ‏يستحيل‏ ‏أن‏ ‏نحصل‏ ‏عليها‏ ‏من‏ ‏غيره، ‏لكن‏ ‏غلبت‏ ‏عليه الطرافة‏ ‏والقفز‏، ‏فخرج‏ ‏الكتاب‏ ‏رائعا‏ ‏كما‏ ‏هو، ‏لكنه‏ ‏ليس‏ ‏كافيا‏ ‏ولا‏ ‏شافيا‏ – ‏قال‏ ‏الأستاذ‏: ‏إن‏ ‏أنيس‏ ‏منصور‏ ‏الذى ‏درس‏ ‏الفلسفة‏ ‏وكاد‏ ‏يصبح‏ ‏أستاذا‏ ‏لها‏ ‏فى ‏الجامعة، ‏وهو الذى ‏قرأ‏ ‏بموسوعية لا جدال فيها، ‏لم‏ ‏يركز‏ ‏فى ‏موقع‏ ‏خليق‏ ‏به‏ ‏مثل‏ ‏أستاذه‏ ‏عبد‏ ‏الرحمن‏ ‏بدوى، ‏وتراجع‏ ‏إلى ‏كاتب‏ ‏صحفى، ‏ثم‏ ‏كاتب‏ ‏مقال، ‏ثم‏ ‏كاتب‏ ‏عمود، ‏وإنك‏ ‏إذا‏ ‏تابعت‏ ‏عموده‏ ‏لوجدته‏ ‏يأتى ‏على ‏رأس‏ ‏العواميد‏ ‏اليومية‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏الطرافة، ‏لكنه‏ ‏يكاد‏ ‏يمثل‏ ‏أدناها‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏جدية‏ ‏الاهتمام‏ ‏أو‏ ‏إضافة‏ ‏الجديد‏ ‏لحل‏ ‏مشاكلنا‏ ‏اليومية‏.‏

وأحكى ‏للاستاذ‏ ‏‏نكتة‏ ‏حكاها‏ ‏لى‏ ‏توفيق صالح‏ ‏أمس‏ ‏ولم يكن الأستاذ حاضرا، تقول النكتة:‏ ‏دخل‏ ‏مدرس‏ ‏الدين‏ ‏الفصل‏ ‏وهو‏ ‏ينشغل‏ ‏بأمر‏ ‏يهمه، ‏فسأل‏ ‏أحد‏ ‏التلاميذ‏ ‏عن‏ ‏اسمه‏ ‏فقال‏” ‏طه، ‏فقال‏ ‏له‏ ‏سمّع‏ ‏سورة‏ “‏طه”‏، ‏والتفت إلى طالب ثان وسأله أنت؟‏: ‏قال‏ ‏يس‏: ‏قال‏ ‏سمع‏ ‏سورة‏ ‏يس، ‏وحين‏ ‏سأل‏ ‏الثالث‏ ‏عن‏ ‏اسمه‏ ‏وكان‏ ‏اسمه‏ ‏”عمران”، ويبدو أنه (‏خاف‏ ‏أن‏ ‏يطلب‏ ‏منه‏ ‏أن‏ ‏يسمع‏ ‏سورة‏ ‏آل‏ ‏عمران)، ‏أجاب‏ ‏بسرعة‏” ‏إسمى ‏عمران‏ ‏ولكن‏ ‏بيدلعوى ‏يقولولى ‏يا‏ “‏كوثر‏” (‏حتى ‏يكتفى ‏بتسميع‏ ‏سورة‏ ‏الكوثر‏)، قلت للأستاذ أخشى أن الحس السياسى المصرى الساخر أضاف إلى النكتة تلميذا رابعا اسمه “حسنى” خاف أن ياتى عليه الدور ويقول اسمه فيطلب منه المدرس أن يسمّع ‏سورة‏ ‏البقرة‏.‏

ولم يتمالك الأستاذ إلا أن يضحك، لكننى شعرت بخجله وحرجه، وربما رفضه، فتوقف وكأنه قطم الضحكة تأدبا.

عدنا‏ ‏إلى ‏منزل‏ ‏توفيق، ‏حرافيش‏ ‏الليلة – أول أيام العيد- ثلاثة‏ ‏فقط، لم نزد فى بيت توفيق،‏ ‏تصورت‏ ‏أن‏ ‏الحديث‏ ‏سوف ‏ ‏يكون‏ ‏أقل‏ ‏حرارة، ‏وأنه‏ ‏سوف‏ ‏يفتقر‏ ‏إلى ‏التنوع‏ ‏والحوار، ‏لكن‏ ‏هذا‏ ‏لم‏ ‏يحدث، ‏تطرق‏ ‏الحديث‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏كسر‏ ‏عادات‏ ‏العيد‏ (‏والعادات‏ ‏الشعبية‏ ‏والقومية‏ ‏عامة‏) ‏إنما‏ ‏يساهم‏ ‏فى ‏كسر‏ ‏ما‏ ‏تبقى ‏من‏ ‏معالم‏ ‏قومية، ‏وقلت‏ ‏للأستاذ‏ ‏إن‏ ‏أخشى ‏ما‏ ‏أخشاه‏ ‏من‏ ‏الحكم‏ ‏الإسلامى (‏الديني‏) ‏القادم‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏تؤكد‏ ‏السلطة‏ ‏على ‏ترويج‏ ‏الفتور‏ ‏وتسويق البلادة، تصورا منهم أن ذلك هو ما يمثل النفس المطمئنة، ‏وقلت‏ ‏إن‏ ‏الحرية‏ ‏الحقيقية‏ ‏والسلوك‏ ‏القرآنى ‏هو‏ ‏الذى ‏يجذب‏ ‏الناس‏ ‏إلى ‏هذا‏ ‏الدين‏ ‏البسيط‏ ‏الفطرى ‏المباشر، ‏لكن‏ ‏رشوة‏ ‏الناس‏ ‏بقشور‏ ‏تفسيرية‏ ‏للنصوص، ‏ثم‏ ‏سجنهم‏ ‏فى ‏تصورات‏ ‏جامدة‏ ‏للمنظومة‏ ‏الدينية‏ ‏هو‏ ‏الخطر‏ ‏الحقيقى، ‏وأن الشباب الآن يختارون بين بلادة دينية مصمتة، وميوعية استسهالية لزجة، ‏فيقول‏ ‏توفيق‏: ‏ولكننا‏ ‏نحن‏ ‏المسئولون‏ ‏عن‏ ‏ذلك، ‏فأسأله‏: ‏أى ‏مسئولية‏ ‏يشير‏ ‏إليها، ‏نحن‏ ‏أفراد‏ ‏محدودو‏ ‏القدرات‏ ‏ولسنا‏ ‏مؤسسات‏ ‏سياسية‏ ‏أو‏ ‏فكرية أو تربوية، ‏ماذا‏ ‏تطلب‏ ‏من‏ ‏الأستاذ‏ – مثلا- ‏غير‏ ‏ما‏ ‏فعل‏ ‏وكتب‏ ‏ونشر‏ ‏ودفع‏ ‏ثمنا‏ ‏لكل‏ ‏هذا‏ ‏ما‏ ‏نحن‏ ‏فيه‏ ‏الآن، ‏وكان‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يدفع‏ ‏حياته‏ ‏ثمنا‏ ‏لموقفه، ‏ماذا‏ ‏تريد‏ ‏أن‏ ‏تفعل‏ ‏أنت‏ ‏وقد‏ ‏نسوك – مخرجا -‏ ‏تماما‏ ‏طوال‏ ‏ربع‏ ‏قرن‏ ‏من‏ ‏الزمان، ‏ثم‏ ‏ها هم‏ ‏يستدعونك‏ ‏فى ‏لجان‏ ‏تحصيل‏ ‏الحاصل‏ ‏دون‏ ‏فرصة‏ ‏حقيقية، ‏ماذا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏أضيف‏ ‏أنا غير‏ ‏طرق‏ ‏كل‏ ‏باب بقلمى حيثما أتيحت له فرصة الظهور، ‏والحديث‏ ‏بكل‏ ‏لغة‏ ‏لعل‏ ‏وعسى، ‏إن‏ ‏الأفراد‏ ‏أمثالنا‏ ‏الذين‏ ‏يبرئون‏ ‏ذمتهم‏ ‏قد‏ ‏أرضوا‏ ‏ضمائرهم‏ ‏وأدوا‏ ‏واجبهم، ‏لكن‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏لا‏ ‏يـُثرى ‏شبابا‏ ‏ولا‏ ‏يُغـَيـِّر‏ ‏مصيرا، ‏وإن‏ ‏موقف‏ ‏المؤسسات‏ ‏ومؤسسات‏ ‏السلطة‏ ‏بالذات‏ ‏من‏ ‏فراغ‏ ‏الشباب‏ ‏وميوعة‏ ‏الآراء‏ ‏هو‏ ‏المسئول‏ ‏عن‏ ‏ما‏ ‏صرنا‏ ‏إليه‏.‏

ويأتى ‏ذكر‏ ‏بداية‏ ‏التراجع‏ ‏أمام‏ ‏الضغط‏ ‏الدينى، ‏ولكن‏ ‏بدون‏ ‏بديل‏ ‏حقيقى، ‏فيتذكر الأستاذ ‏إلغاء‏ ‏البغاء‏ ‏الذى ‏أقدم‏ ‏عليه‏ ‏إبراهيم‏ ‏عبد‏ ‏الهادى ‏بعد‏ ‏حل‏ ‏جماعة‏ ‏الاخوان‏ ‏المسلمين، ‏وهنا‏ ‏تعرفت‏ ‏على ‏جانب‏ ‏إنسانى ‏عميق‏ ‏من‏ ‏موقف الأستاذ‏، ‏وقلت‏ ‏له‏ ‏إننا‏ ‏لو‏ ‏جمعنا‏ ‏خط‏ “‏البغايا‏” ‏فى ‏أعماله‏ ‏لخرجنا‏ ‏بمفهوم‏ ‏متكامل‏ – ‏من‏ ‏وجهة‏ ‏نظره‏ -‏لهذه‏ ‏القضية‏ ‏وهذه‏ ‏المهنة، ‏وحكى ‏لنا‏ ‏الأستاذ‏ ‏كيف‏ ‏واجه‏ ‏البغايا‏ ‏قرار‏ ‏إلغاء‏ ‏عملهم‏ ‏بالأسى على الرزق، ولكن أيضا ‏بالفرحة المعلنة‏ ‏والخفية على أنها “جاءت منهم”، ‏وكيف‏ ‏أن‏ ‏كل‏ ‏واحدة‏ ‏منهن (‏باستثناءات قليلة) كانت ‏لا‏ ‏تدعو‏ ‏لنفسها، ‏ولزميلاتها‏ ‏إلا‏ “‏بأن‏ ‏يتوب‏ ‏الله علينا ‏” ‏وكيف‏.. ‏وكيف‏..، ‏ويقول‏ ‏الأستاذ‏ ‏إن‏ توقف الإصلاح عند مستوى المنع والإلغاء فحسب لا ينبغى أن يكون الوسيلة الأمثل لمواجهة المشاكل. وأن ‏الزواج‏ ‏بمتطلبات‏ ‏العصر‏ ‏أصبح‏ ‏أيضا‏ أقرب إلى المستحيل‏.‏

وأشرح‏ ‏للأستاذ‏ ‏وجهة‏ ‏نظرى ‏فى ‏تفسير‏ ‏الحديث الشريف‏ “‏من‏ ‏استطاع‏ ‏الباءة‏ ‏فليتزوج‏ ‏ومن‏ ‏لم‏ ‏يستطع‏ ‏فعليه‏ ‏بالصوم‏ ‏فإنه‏ ‏وجاء‏ ‏له‏” ‏وأقول‏ ‏إن‏ ‏الصوم‏ ‏هنا‏ ‏هو‏ ‏كف‏ ‏النفس‏ ‏عن‏ ‏ممارسة‏ ‏الحرام‏ ‏جنسا، ‏وليس‏ ‏الصوم‏ – ‏كما‏ ‏يروج‏ ‏له‏ ‏رجال‏ ‏الدعاية‏ ‏الإسلامية‏‏ ‏الامتناع‏ ‏عن‏ ‏الأكل‏ ‏والشرب‏ ‏لفترات‏ ‏معينة، ‏فالصوم عن الأكل لا يقلل الشهوة الجنسية، ولا يروضِّها، وأحكى ‏للأستاذ‏ ‏كيف‏ ‏يستقبل‏ ‏طلبتى ‏فتوى ‏الإمام‏ ‏بن‏ ‏حنبل‏ التى أرددها أحيانا فى المحاضرات حين يسألوننى عن العادة السرية، وأقول لهم إن هذا الإمام – على تقواه وورعه –  أفتى أنها فضلةٌ من فضلات الجسم تـُفـْصَد كما يفصد الدم الفاسد، وأنها إذا مورست لدرء الشهوة فهى حلال، أما إذا مورست لجلب الشهوة، فهى حرام، ثم إنى كنت أضيف لطلبتى مازحا أنه ليس معنى ذلك أن يخرجوا من المحاضرة ليقوم الواحد منهم بالواجب وهو يقول: ‏”‏نويت‏ ‏الاستمناء‏ ‏على ‏مذهب‏ ‏الإمام‏ ‏بن‏ ‏حنبل‏”.‏…الخ

ويجرنا الحس الفكاهى لتذكر دعابة تنسب للعقاد ‏‏ ‏حين‏ ‏سئل‏ ‏عن‏ ‏أم‏ ‏كلثوم‏ ‏إن‏ ‏كانت‏ ‏آنسة‏ ‏أم‏ ‏سيدة، ‏فأجاب‏ ‏”إن كل‏ ‏الذين‏ ‏تزوجوها‏ ‏ذكروا‏ ‏أنها‏ ‏آنسة‏”، ويضحك الأستاذ مرغما – كما تصورت- لعلمى الشديد بحبه الجميل لهذه السيدة الرائعة.

وفى ‏طريقنا‏ ‏للعودة‏ ‏ونحن‏ ‏ندخل‏ ‏العمارة‏ ‏التى ‏رصعوها‏ ‏مؤخرا بالرخام، ‏والتى ‏يمسحونها‏ ‏بمادة‏ ‏لزجة‏ ‏حاليا، ‏ونسير ببطء شديد وأنا أتأبط ذراعه خشية الانزلاق، فيقول الأستاذ مداعبا : ‏ ‏إنه‏ ‏حلم‏ ‏أنهم‏ ‏قـد‏ ‏بلــّطوا‏ ‏الرخام‏ ‏حتى ‏لا‏ ‏ينزلق‏ ‏عليه‏ ‏أحد،

 ‏وأفرح‏ ‏أن روح الفكاهة صاحبتنا حتى باب الشقة

اليوم أول أيام العيد،

 وقد كان كما ترون

 عيد خفيف جميل رشيق

أليس كذلك ؟

الحلقة الثانية والأربعون

شعر الثورة([24]) و”الشعر الثورة”

السبت‏: 4/3/1995

الاسكندرية، ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏الأستاذ‏ ‏أجمع‏ ‏نفسى ‏لأرى ‏ما‏ ‏هذا‏ ‏الذى ‏أكتبه، ‏فرصة أن أكتب بضعة سطور كمقدمة لهذا العمل، ولكن: هل‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تكتب‏ ‏مقدمة‏ ‏بعد‏ ‏ثلاثمائة‏ ‏صفحة‏ ‏من‏ ‏كتابة‏ ‏الكتاب؟!‏ مقدمة‏ ‏بأثر‏ ‏رجعى؟! طبعا ممكن، كل المقدمات تكتب بعد الانتهاء من الكتاب، لكن هذه الخواطر كلها ليست إلا مقدمة لكتاب ما، كتاب قد لا يصدر أبدا، ‏أظن‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الخواطر التى أسجلها ‏ ‏هى ‏مقدمة‏ ‏لا أكثر ولا أقل!

منذ‏ ‏أسبوع‏ ‏اشتريت‏ ‏كتاب‏ “‏كانت‏ ‏لنا‏ ‏أيام‏ ‏فى ‏صالون‏ ‏العقاد‏” لأنيس منصور، ‏وأظن‏ ‏أننى ‏كنت‏ ‏أبحث‏ ‏عن‏ ‏عمل قريب من هذا الذى أكتبه الآن، ‏وحين‏ ‏تصفحت كتاب أنيس منصور ‏ ‏تذكرت‏ ‏أننى ‏قرأت‏ ‏بعض‏ ‏فصوله‏ ‏فى ‏مجلة‏ ‏أكتوبر‏، أو لعلى اشتريت نسخة قبلا ولم أكمل قراءتها، وقد أشرت ‏إلى ‏موقع‏ ‏هذا‏ ‏الكتاب‏ ‏عند‏ ‏الاستاذ‏ وتناقشنا حوله، ‏‏قرأت‏ ‏ما‏ ‏كتب‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الطبعة‏ ‏الثانية‏ (1984) ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏الكتاب‏ ‏من‏ ‏ناس‏ ‏مهمين‏ ‏بينهم‏ ‏يوسف‏ ‏إدريس‏ ‏وعبد‏ ‏العظيم‏ ‏رمضان، ‏وكان‏ ‏من‏ ‏أهم‏ ‏ما‏ ‏كتب‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الشأن‏ ‏وأصدقة‏ ‏مقال‏ ‏ثروت‏ ‏أباظة، يبدو أننى ‏بدأت‏ ‏أصالحه ‏من‏ ‏خلال‏ ‏حب‏ ‏الاستاذ‏ ‏له، لا يمكن أن يحب الأستاذ شخصا سيئا، ‏كم‏ ‏نحن‏ ‏قساة‏ ‏ونحن‏ ‏نحكم‏ ‏على ‏الناس‏ ‏عن بعد، ‏المهم‏ ‏أن‏ ‏قراءة مقدمة هذا الكتاب‏ ‏جعلتنى – ‏أو‏ ‏قل‏: ‏كادت‏ ‏تجعلنى – ‏أتوقف‏ ‏عن‏ ‏الاسترسال‏ ‏فيما‏ ‏أفعل‏ ‏الآن‏ ‏هنا، ‏فلو‏ ‏أن‏ ‏أنيس‏ ‏منصور‏ ‏قد‏ ‏فعل‏ ‏مثلما‏ ‏أفعل‏ ‏هكذا‏ يوما بيوم ‏إذن‏ ‏لصدر‏ ‏كتابه‏ ‏هذا‏ ‏فى ‏آلاف الصفحات، ‏لكن‏ ‏المسألة‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏تعود‏ ‏إلى ‏ماذا‏ ‏ندع‏ ‏وليس‏ ‏إلى ماذا‏ ‏نثبت، ‏أول‏ ‏مرة‏ ‏سمعت‏ ‏هذا‏ ‏التعبير‏ ‏كان‏ ‏فى ‏كلية دار‏ ‏العلوم‏ ‏والاستاذ‏ ‏الدكتور‏ ‏ابراهيم‏ ‏مدكور‏ ‏يناقش‏ ‏الطالب‏ ‏محمد‏ ‏عمارة‏ (‏الذى ‏أصبح ‏دكتورا‏ ‏إسلاميا‏ ‏بعد‏ ‏هذه‏ ‏المناقشة‏) ‏فى ‏رسالته‏ ‏عن‏ ‏محمد‏ ‏عبده‏ ‏حين‏ ‏قال‏ له جملة رائعة وهو يؤاخذه على تفاصيل جاءت فى البحث وربما كان لا لزوم لها، قال د. مدكور لصاحب الرسالة محمد عمارة: ” ‏الباحث‏ ‏بما‏ ‏ترك‏ ‏لا‏ ‏بما‏ ‏أثبت‏”، ‏ومن‏ ‏يومها‏ ‏وأنا‏ ‏أحاسب‏ ‏طلبتى ‏الذين‏ ‏أشرف‏ ‏عليهم‏ ‏فى ‏تحضير‏ ‏رسائل‏ ‏الدكتوراه‏ ‏بهذا‏ ‏المقياس، ‏وما‏ ‏أصعبه، ‏”الترْكُ‏  ‏الذكى” ‏هو‏ ‏الذى ‏يوصلك إلى ما تـُـرِكَ دون ذكره، ‏والإثبات‏ ‏الحقيقى ‏هو‏ ‏القادر أن يحتوى ما ترك ويستحيل الاستغناء عن ما أثبتت، أنيس منصور ترك آلاف الصفحات فى ذاكرته (الذكية المستسهلة) حتى يخرج هذا الكتاب، يرجعنى ذلك إلى ما أفعل الآن:  يا ترى، متى أتوقف بالله علىّ؟ ولماذا أتوقف؟ ولماذا لا أتوقف؟ ‏الشاهد‏ ‏أننى ‏أستفيد‏ شخصيا مما أفعل، ولست وصيا علىّ، وما لم أضطرنى إلى التوقف خجلا أو شعورا بالنقص، فسوف أتمسك بحقى فى كتابتها، أنا أتعلم مما أكتب كما أتعلم مما أقرأ، وليكن ما أكتبه أقل رشاقة مما فعل أنيس بصالون العقاد، ولكنه غالبا أكثر أمانة، لست متأكدا، ليست حرفتى، لست إلا شخصا عاديا أتيحت له فرصة أن يقابل هذا الإنسان الرائع، هذا الهرم المبدع، لا لا لا، ليس هكذا، هذا الشخص الذى عرفته ليس إلا شخصا عاديا، وهذا هو أروع ما عرفته فيه، علمتنى مهنتى أن الشخص‏ ‏العادى ‏جدا ‏يفكر‏ ‏فى ‏كل‏ ‏أمور‏ ‏الحياة، ‏ويتخذ‏ ‏موقفا‏ ‏ويتفلسف‏ ‏ويضيف‏ ‏وينقد، ‏وأحيانا‏ ‏أتصور‏ ‏أنه‏ ‏أكثر‏ ‏حرية‏ ‏من‏ ‏الذى ‏أحاط‏ ‏نفسه‏ ‏منذ‏ ‏البدية‏ ‏وإلى ‏النهاية‏ ‏بهذه‏ ‏الغابة‏ ‏من‏ ‏الأسلاك‏ ‏الفكرية‏ ‏الشائكة، ‏فلم‏ ‏تتبق‏ ‏له‏ ‏إلا‏ ‏مساحة‏ ‏محدودة‏ ‏للحركة، ‏وفرصة‏ ‏غير‏ ‏محسوبة‏ ‏للقفز‏ ‏فوق‏ ‏الأسلاك، ‏وأظن‏ ‏أنه‏ ‏قد‏ ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏أثبت ما بلغنى من ‏ ‏أن‏ ‏الاستاذ‏ ‏قرأ‏ ‏كثيرا‏ ‏جدا، ‏وعرف‏ ‏كثيراً‏ ‏جدا‏، ‏وفكر‏ ‏كثيرا‏ ‏جدا جدا‏، حتى سمعت أنه كان يكثر من العودة إلى الموسوعة البريطانية حتى يكاد يقرأ فيها بانتظام، ‏لكن‏ ‏عظمته‏ ‏الحقيقية‏ ‏التى وصلتنى بعد أن عرفته هى ‏أنه‏ ‏هضم‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏هضما‏ ‏كاملا، ‏خلطه بلحمه ودمه، ‏ليس‏ ‏للتنظير الخالص‏ ‏فيه‏ ‏نصيب، ‏وانما‏ ‏هو‏ ‏يفرز نتاج‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏فى ‏الصيغة‏ ‏الإبداعية ‏ ‏التى ‏يمسك بأداتها، ‏أحيانا تصلنى نظرية كاملة من‏ ‏سطر‏ ‏واحد كتبه‏ ‏مثل ‏الفقرة‏ 45‏ من ملحمة‏ ‏الحرافيش‏ ” ‏لو‏ ‏أن‏ ‏شيئا‏ ‏يدوم‏ ‏فـَلـِمَ‏ ‏تتعاقب‏ ‏الفصول‏” ‏أو‏ ‏فى ‏بضعة‏ ‏سطور‏ ‏مثلما‏ ‏ورد‏ ‏فى ‏كثير‏ ‏من‏ ‏فقرات‏ ‏أصداء‏ ‏السيرة‏ ‏الذتية، ‏أو‏ ‏فى ‏قصة‏ ‏قصيرة‏ ‏مثل‏ “‏الزعبلاوى‏” ‏أو‏ ‏فى ‏ملحمة‏ ‏كاملة‏ ‏مثل‏ ‏‏الحرافيش‏، ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏هو‏ ‏مبدع‏ ‏نسى، ‏اذا‏ ‏ذُكّر‏ ‏ذكر‏، ‏لا‏ ‏يحضر‏ ‏معك‏ ‏بما‏ ‏يحفظ‏، ‏ولا‏ ‏بما‏ ‏يعتقد‏، ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏يحضر‏ ‏معك‏ ‏بما‏ ‏هو، ‏فإذا‏ ‏سألته‏ ‏أجاب‏، ‏وإذا‏ ‏ذكّرته‏ ‏أو‏ ‏استذكرته‏ ‏ذكر، ‏واذا‏ ‏تركته‏ ‏انساب ‏سلسلا‏ ‏حاضرا‏ ‏محيطا.

 ‏هكذا‏ ‏‏انتهيت‏ ‏الآن‏ ‏بعد‏ ‏هذه‏ ‏الوقفة‏ ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏الاستاذ‏ ‏لمدة‏ ‏يوم، ‏ثم‏ ‏يوم‏ ‏وربما‏ ‏يومين، انتهيت‏ ‏إلى ‏أنه‏ ‏علىّ ‏أن‏ ‏استمر‏ ‏فى تدوين ما يصلنى، دون‏ ‏تفكير، ‏ودون وصاية منى علىّ، كما أنه علىّ ‏ألا‏ ‏أتحرج‏ ‏من‏ ‏الكلام‏ ‏عن‏ ‏نفسى، ‏متصنعا التواضع أو التراجع، حتى لو اكتشفت أننى لا أكتب شيئا إلا ‏ ‏سيرتى ‏الذاتية‏ ‏أنا‏.‏

والسلام‏.‏

الثلاثاء: 8/3/1995

“فرح‏ ‏بوت”، لم‏ ‏أتصالح‏ ‏بعد‏ ‏على ‏هذه‏ ‏الجلسة، برغم أنها تبدو للأغلب أنها الأصل، ليس فيها ما أرفضه، لكننى لا أحن إليها حين أبتعد عنها، أحب كل أفرادها تقريبا، حتى أولئك الذى لا أستظرفهم فرادى أجدهم أقرب وأطيب كجزء من المجموع، وجدت جلسة اليوم‏ ‏هادئة‏ ‏تماما، ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏موجود غير‏ ‏حسن‏ ‏ناصر‏ ‏ومحمد‏ يحيى و‏حافظ عزيز‏، ‏دار‏ ‏حديث‏ ‏حول‏ ‏مضاربة‏ ‏أقدم‏ ‏بنك‏ ‏انجليزى ‏التى ‏عرضته ‏لخسارة‏ ‏مليار‏ ‏دولار‏ ‏نتيجة‏ ‏إقدام‏ ‏موظف‏ ‏شاب‏ ‏عنده‏ 28 ‏سنة‏ ‏على ‏المغامرة‏ ‏بثمانية‏ ‏وعشرين‏ ‏مليارا‏ ‏أو‏ ‏شيئا‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏القبيل‏ – ‏المهم‏ ‏أن‏ ‏الاستاذ‏ ‏كان‏ ‏يستمع‏ ‏لهذه‏ ‏الأخبار‏ ‏بشوق‏ ‏طفل،‏ ‏أو حب‏ ‏استطلاع شاب يتعلم، استرسل فى مناقشة معنى ودلالة، ما حدث وهو يحاول فهم ما لم يكن فى مقدورى أن ألمّ به، سأل أحدهم عن مغزى مجموعة‏ ‏البنوك‏ ‏الهولندية‏ ‏حين ‏عرضت‏ ‏شراء‏ ‏البنك‏ ‏بجنية‏ ‏استرلينى ‏واحد، ‏وكذا‏ ‏وكيت، ‏قال‏ ‏الاستاذ‏ ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏لحفظ‏ ‏تماسك‏ ‏حركة‏ ‏السوق‏ ‏البنكية، ‏لأن‏ ‏إفلاس‏ ‏بنك‏ ‏واحد‏ ‏يهز‏ ‏السوق‏ ‏بأكمله‏ ‏ويعرض‏ ‏الثقة‏ ‏بالبنوك‏ ‏مجتمعة‏ ‏للاهتزاز مما قد يدفع‏ ‏الناس‏ إلى سحب ‏مدخراتهم‏ ‏وبالتالى ‏ينهار‏ ‏الاقتصاد‏ ‏ليس‏ ‏على ‏مستوى ‏بنك‏ ‏واحد، ‏‏وإنما‏ ‏على ‏مستوى ‏العالم‏ – ‏(لم تكن الأزمات العالمية 2006، 2008 اللاحقة قد حدثت)، الذى ‏أدهشنى ‏فى ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏هو‏ ‏تنوع‏ ‏اهتمامات‏ ‏الأستاذ، ‏وحبه‏ ‏للمعرفة‏ ‏فى ‏كل‏ ‏مجال‏ ‏مهما‏ ‏كان‏ ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏اهتماماته‏ ‏الخاصة، ‏أو‏ ‏المتخصصة، ‏وتدرج‏ ‏الحديث‏ ‏عن فوائد‏ ‏البنوك، ‏وكيف‏ ‏أنها‏ ‏حلال‏ ‏زلال، فما دامت‏ ‏البنوك‏ -‏ هكذا‏ – ‏معرضة‏ ‏للخسارة‏، فالمودعون شركاء لأن المكسب ليس ثابتا ولا هو مضمون بصفة دائمة تحت كل الظروف، تساءل حسن ناصر عن متى نقدم بشجاعة على تحديث‏ ‏الفقة‏؟ قلت له أنه لا فائدة من هذه المحاولة إلا إذا تنازل الفقهاء عن احتكار الفقه.

كنت‏ ‏فى ‏الصباح‏ ‏قد‏ ‏مررت‏ ‏على ‏الأستاذ‏ ‏محمود‏ ‏شاكر، ‏وكان‏ ‏قد‏ ‏أصيب‏ ‏بجلطة‏ ‏خفيفة‏ ‏فى ‏الدماغ‏ ‏وهو‏ ‏يتماثل‏ ‏للشفاء‏ ‏ويستعيد‏ ‏قدرته‏ ‏الكلامية، ‏وأبلغته‏ ‏ضمنا‏ ‏تحيات‏ ‏الأستاذ‏ ‏وذكرياته‏ ‏معه‏ ‏فى ‏مكتب‏ ‏أحمد‏ ‏حسن‏ ‏الزيات‏ ‏فى “‏مجلة‏ ‏الرسالة‏” ‏بعابدين‏ ‏إلخ، ‏وأنه كلفنى أن أسلم عليه، رحت أراقب مشاعرى نحو الأستاذ. الآن وقد تجاوزتُ الستين فوجدت أنها تكاد تكون مثل مشاعرى نحو الأستاذ محمود شاكر وأنا لم أتعد الخامسة عشر، الاختلاف شديد بينهما، فكرا، وطباعا، وسِمَاتٍ، حتى يمكن أن يقال أنهما عكس بعضهما البعض، لكن ما وصلنى أن كلا منهما يحب الآخر، كما أننى أشعر أن مشاعرى نحو كلٍّ منهما هى هى، وهى أقرب إلى مشاعرى الباكرة، وكأن السن لم يتقدم بى طوال نصف قرن، الطيبة، الأبوة، الجدية، خفة الظل، السماح، حب الناس، فعل الخير، هى هى، أما الصوت الجهورى الذى اعتدته من الأستاذ شاكر، (شيخى القديم)، والاستعداد للانقضاض، والحسم المنهجى، وكره الشيعة والمستشرقين، فإنى لم أجد أيا من ذلك عند شيخى الجديد نجيب محفوظ، ما وجدته عند شيخى محفوظ هو كل ما جاء فى هذا العمل كعينة، وما خفى كان أجمل!

فتح الحديث مرة أخرى عن رواية فتحى امبابى “مراعى القتل”، وعلق أحدهم على طولها، بعد الثناء عليها كما حدث سالفا (وذكرت ذلك)، سألت‏ ‏الأستاذ‏ ‏عن‏ ‏رأيه‏ ‏فى ‏عجز‏ ‏القاريء‏ ‏اليوم‏ ‏عن‏ ‏قراءة‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏العمل‏ ‏المطول، ‏وذكرته ‏بأعمال‏ ‏ديستويفسكى، ‏فذكر‏ ‏الاستاذ‏ ‏اسم‏ ‏رواية‏ له ‏كانت‏ ‏من‏ ‏سبع‏ ‏أجزاء، أنا لا أعرفها، ‏كما‏ ‏أشار‏ ‏إلى ‏السير ‏الشعبية‏ ‏والتى ‏كان‏ ‏الراوى ‏يرويها على ‏الربابة‏ ‏أوبدونها‏، ويضيف إليها كل راو ليلة بعد ليلة، بالأصول أو بلا أصول، وقال أحدهم إنهم يحاولون أن يسجلوا هذا التراث الشعبى حتى لا يحرف، فأعترض أنا وأقول ربما كان تحريفه هو جزء من حيويته، فليكن التسجيل لمعرفة الخط الأساسى، دون الحجر على الإضافة أو التحوير، واختلفت الآراء فى القضية الأصلية حول حجم القص أو الرواية، ويقول الأستاذ أن ‏هذا‏ ‏يتوقف‏ ‏على ‏نوع‏ ‏الإبداع‏ ‏وهدف‏ ‏المبدع، ‏ ‏فإن‏ ‏استطاع‏ ‏أن‏ ‏يبلغ‏ ‏ما‏ ‏يريد‏ ‏فى ‏حيز‏ ‏صغير‏ ‏فبها ونعمت، ‏ ‏وإلا‏ ‏فلا‏ ‏يصح أن يلزم نفسه بأن‏ ‏يوجز‏ ‏على ‏حساب‏ ‏تدفق‏ ‏ابداعه، ‏وأضاف الأستاذ ردا على السؤال الأول، إن تراجع الصبر على القراءة قد يرجع جزئيا إلى ظهور ‏ ‏قنوات‏ ‏بديلة، ‏وهى ‏ليست‏ ‏بديلة‏ ‏فقط‏ ‏لكنها‏‏ ‏منافسة ضمنا، ‏التليفزيون‏ ‏الآن‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يعطيك‏ ‏نفس‏ ‏الروح‏ ‏الدرامى، ‏ونفس‏ ‏التسلسل‏ ‏ونفس‏ ‏الوظيفة‏ ‏التى ‏تعطيكَهَا‏ قراءة‏ ‏الرواية، ‏فيكون‏ ‏التحدى ‏مضاعفا‏، قلت رأيى فى ‏أن‏ ‏مساحة‏ ‏الخيال‏ ‏والقدرة‏ ‏على ‏التقمص‏ ‏هى ‏أرحب‏ ‏وأكثر‏ ‏جاهزية حين يتم التلقى من الكتاب، لأن ذلك يسمح بتنقل التقمص أكثر سهولة ومرونة ‏ ‏من‏ ‏شخص‏ ‏إلى ‏آخر‏ ‏من شخوص الرواية أثناء‏ ‏القراءة، ‏ثم‏ ‏أضفت أن مسألة‏ تغير ‏المسافة‏ بينك وبين العمل وأنت تقرأ تساعدك أن تتحرك داخل أماكن الرواية وبين ثناياها بتلقائية أكثر من أن تجلس مصلوبا فى مكانك طول الوقت، محكوما عليك بمسافة تكاد لا تتغير، حتى ‏فى ‏المسرح‏ ‏وبعد الزعم بسقوط الحاجز الرابع، فإن المسافة تظل فاصلا محددا بشكل أو بآخر، ولم يوافق أغلب الحضور على رأيى هذا، أما الأستاذ فقد أحنى رأسه نصف نصف، علق محمد يحيى أنهم قد انتبهوا إلى أهمية المسافة فى بعض الأعمال الخاصة بالأطفال، و‏أن‏ ‏ثمة‏ ‏أفلاما‏ ‏من‏ ‏الكارتون‏ ‏بدأت‏ ‏تسمح للأطفال‏ ‏بالمشاركة على مسافات مختلفة، بما يتيح حركة ‏أكثر ثراء ‏من‏ ‏الخيال والنشاط والمشاركة، ولم أفهم، ولم أعلق، وكان على أن أنصرف، موعد العيادة.

الأربعاء: 9/3/1995

عدت من أسيوط بعد رحلة ممثلا للجنة الثقافة العلمية فى المجلس الأعلى للثقافة، لا أعرف كيف يتم نشر الثقافة العلمية فى لقاء لمدة ساعتين بعد سفر ما يقرب من 6 ساعات، وكان بصحبتى فى سيارتى أ.د. أحمد مستجير، وأ.د. أبو شادى الروبى، ولا أعرف كيف قبلوا المخاطرة والسفر معى فى سيارتى وأنا الذى أقودها طول هذه المدة، كنا قد تصورنا فى اللجنة أن علينا أن ننقل نشاطنا ما أمكن ذلك إلى أصحاب المصلحة فى عقر دورهم، ولم تحقق الرحلة الغرض منها، لكن الصحبة والطبيعة والطريق والرحلة خففت من الإحباط تماما، وأسهم الأستاذ فى تحقيق جرعة الإحباط حيث كان معى طوال الرحلة خاصة وقد قررت العودة فى نفس اليوم إلى حيث نلتقى مباشرة.

اليوم هو يوم سوفيتيل المعادى، توجهت مباشرة إلى هناك حتى أطمئن على الأستاذ قبل ذهابى إلى العيادة، دهش بشكل مبالغ فيه من أن أقطع هذه المسافات وأن أرجع أزاول نشاطى المعتاد فى نفس اليوم، وقال: “كأنك قادم من مصر الجديدة”، تحدثت معه من جديد عن علاقتى بالسفر، وكيف أنى أعتبر أن أى رحلة تتم بمجرد بدايتها، وليس بالوصول إلى غايتها، لأن الطريق نفسه هو جزء أساسى من غاية الرحلة، وأضفت أننى أتمتع بالقيادة أكثر من الجلوس ساكنا.

لم يكن معه إلا المهندس ‏نعيم‏ ‏صبرى‏، ‏فقررت‏ ‏أن‏ ‏أبقى ‏بعض‏ ‏الوقت‏، فكاد يمنعنى حرصا على أن أذهب لعيادتى فورا بعد هذه الرحلة، فطمأنته أن “أم الاعمى أدرى برقاد الاعمى”، فضحك برغم علاقته المتواضعة جدا بالأمثال الشعبية، كان‏ ‏نعيم‏ ‏صبرى ‏يقرأ‏ ‏له‏ ‏كتابا‏ ‏مترجما‏ ‏عن‏ ‏شاعر‏ ‏إسرائيلى (‏لا أذكر اسمه)، قال إنه يمثل‏ ‏موجة‏ ‏جديدة‏ ‏فى ‏الشعر‏ ‏الأسرائيلى، وراح نعيم يحكى‏ ‏عن‏ ‏مرحلتين‏ ‏للشعر‏ ‏الإسرئيلى: ‏الأولى ‏أيام‏ ‏الحرب‏ ‏والحماس‏ ‏والعودة‏ ‏وتكوين‏ ‏الدولة‏ ‏وكان‏ ‏شعر‏اً ‏مليئا‏ ‏بالتهييج‏ ‏والإثارة‏، ‏ذكرنى ‏‏بشعر‏ ‏كمال‏ ‏عبد‏ ‏الحليم‏ ‏شعر التحريض، وذكرت للأستاذ رأى أدونيس فى التفرقة بين “شعر الثورة” (مثل الشعر الذى قيل أثناء ثورة 1919 مثلا) والشعر الثورة، حين يكون الشعر نفسه ثورة مغيّرة للغة والوعى، بغض النظر عن علاقته بالدعوة إلى أية ثورة سياسية أو شعبية أو وطنية، رجعنا، عاوّدّ نعيم([25]) حديثه عن المرحلة الثانية فى الشعر الإسرائيلى،  فلخص‏ ‏لنا‏ ‏قصيدة‏ ‏مترجمة‏ ‏إلى ‏العربية‏ ‏عن‏ ‏الحاجة‏ ‏إلى ‏الاتفاق، ‏وعن‏ ‏نساء‏ ‏قتلى، ‏وأن‏ ‏عددهم‏ ‏كان‏ ‏كذا، ‏ثم‏‏ ‏ياترى هل ‏كن‏ ‏مذبوحات‏ ‏أم‏ ‏مغتصبات‏..، وعن الأطفال المقتولين فى مهودهم تحت الأنقاض أو بالشظايا المتطايرة، ‏الخ‏، قلت له إننى أحيانا أعتبر الشعر إجهاضا للفعل، ثم ‏سألته‏ ‏عن رأيه فى مقولة أدونيس للتفرقة بين “‏الشعر‏ ‏الثورة‏” “‏وشعر الثورة‏”، ‏وأيضا سألته عن‏ ‏إشكالة ‏ترجمة‏ ‏الشعر، وأقر نعيم رأى أدونيس بشكل ما دون أن يبلغنى أنه التقط الفرق فعلا، وأضاف أنه مع الرأى الذى يقول إن غموض الشعر ليس مزية، وأن للشعر وظيفة بمحتواه أيضا، وليس فقط بتشكيله، ‏وتطرق الحديث إلى اعتراض أدونيس على رأى توفيق الحكيم أن رجل القدم (كرة القدم) أصبح هو المثل الأعلى للشباب الآن مقارنة برجل القلم، وأن أدونيس كان من رأيه أن الكلمة فى ذاتها تصبح فعلا قادرا فى سياق التشكيل بشعرى، ولم يعقب نعيم، ثم عدنا‏ ‏إلى ‏مسألة‏ ‏ترجمة‏ ‏الشعر‏ ‏وأقر‏ ‏الاستاذ‏ ‏ ‏صعوبته، ‏لكنه‏ ‏لم‏ ‏يوافق على‏ ‏استحالته، ‏قلت‏ ‏أنا‏ ‏أنه‏ ‏إذا‏ ‏كانت‏ ‏ترجمة‏ ‏الشعر‏ ‏مستحيلة فيمكن أن نلجأ إلى شىء أقرب إلى ما هو “إعادة الصياغة”، خاصة إذا ترجم الشعر شعرا، وأضفت تحفظى على نقد الشعر، إلا شعراً أيضا: شعر على شعر، وفى الحالتين: الترجمة شعرا، أو النقد شعرا، يعامل النص المتَرجَمْ على أنه إبداع جديد، ‏ووافق‏ ‏الأستاذ‏ ‏على ‏ذلك‏ ‏وتذكرنا‏ ‏ترجمة‏ ‏سامى ‏الدروبى‏ ‏لديستويفسكى‏ ‏للمرة‏ ‏الكذا، وكررت رأيى أن الدروبى كتب‏ ‏ديستويفسكى أكثر منه ترجَمَهُ، ثم ذكرت‏ ‏للأستاذ‏ ‏أننى ‏اكتشفت‏ ‏وأنا‏ ‏أقول‏ ‏كلمتى بالفصحى ‏فى ‏أسيوط‏ ‏أن‏ ‏من‏ ‏يتكلم‏ ‏العربية‏ ‏الفصحى يبدو غريبا عن ناسه بشكل أو بآخر، وأنه لا بد من حل غير وصاية مجمع اللغة العربية، وتعجبت من المسلمين غير العرب الذين حرموا من أن تصلهم هذه الكلمات المقدسة المختـَرِقة بلغتها البديعة المبدعة، ثم أضفت ‏ ‏أننى ‏سمعت‏ ‏فى ‏إذاعة‏ ‏لندن‏ “‏برهان‏ ‏الدين‏ ‏رباني‏” ‏رئيس‏ ‏أفغانستان‏ ‏وهو‏ ‏يتكلم‏ ‏العربية‏ الفصحى ‏بلغة‏ ‏سليمة‏ جدا، ‏واحترمته جدا، ‏وقال‏ ‏زكى ‏سالم‏ ‏إن‏ ‏لغة‏ ‏الأم‏ ‏هى ‏اللغة‏ ‏التى ‏يمكن‏ ‏للإنسان‏‏ ‏أن‏ ‏يعبر‏ بها ‏وأن‏ ‏يتلقى بها دينه لأنها أقرب ما تكون إلى وجدانه، وأ‏عدت‏ ‏تحفظى ‏على ‏استعمال‏ ‏تعبير‏ “‏لغة‏ ‏الأم‏ “‏وفضلت‏ ‏عليه‏ “‏اللغة‏ ‏الأم‏” ‏لأن‏ ‏لغة‏ ‏أمى ‏هى ‏اللغة‏ ‏العامية المصرية‏ ‏لا‏ ‏العربية الفصحى، ‏وقال‏‏ ‏زكى ‏سالم‏ ‏انه‏ ‏متحفظ‏ ‏على ما ذكرته عن علاقة النص المقدس باللغة، ‏ولم‏ ‏أفهم‏ ‏ما يقصد‏ ‏تحديدا‏، ونظرت فى الساعة ولم أستوضحه، ثم انتقل‏ ‏النقاش‏ ‏إلى ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏الشكل‏ ‏والمضمون‏ ‏وأسأل‏ ‏الأستاذ‏ ‏عن‏ ‏هذه‏ ‏القضية‏ ‏التى ‏كدت‏ ‏أفهمها‏ ‏بالكاد‏ ‏مؤخرا، ‏وهى ‏استحالة‏ ‏فصل‏ ‏الشكل‏ ‏عن‏ ‏المضمون، ‏فيقول‏ ‏لى: ‏طبعا‏ ‏هو‏ ‏مستحيل‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏أن‏ ‏المضمون‏ ‏لا‏ ‏يخرج‏ ‏إلا‏ ‏وهو‏ ‏متشكل‏ ‏فعلا، ‏لكن‏ ‏فصلهما‏ ‏جائزمن‏ ‏الناحية‏ ‏النظرية، ‏فأنت‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تتكلم‏ ‏عن‏ ‏شكل‏ ‏رواية‏ ‏ما‏ ‏وأنها‏ ‏كلا‏سيكية‏ ‏أو‏ ‏حديثة‏ ‏أو‏ ‏أنها‏ ‏كذا‏ ‏وكذا‏. ‏ثم‏ ‏تتكلم‏ ‏عن‏ ‏مضمونها‏ ‏وما‏ حوت ‏من‏ ‏مواقف‏ ‏وأفكار، ‏وهذا‏ ‏مثلما‏ ‏أنك‏ ‏لا‏ ‏تستطيع‏ ‏أن‏ ‏تفصل‏ ‏الروح‏ ‏عن‏ ‏الجسد‏ ‏فى ‏حدود‏ ‏المعرفة‏ ‏العادية‏ ‏فمتى ‏وُجدت‏ ‏الروح‏ ‏وجد‏ ‏الجسد‏ ومع ذلك، فأنت‏ ‏تستطيع‏ ‏أن‏ ‏تتكلم‏ ‏عن‏ ‏الجسد‏ ‏منفصلا‏ ‏وعن‏ ‏الروح‏ ‏كذلك‏.‏ ولا‏ ‏أفهم جيدا، ‏أوقل‏ ‏لا‏ ‏اقتنع‏ ‏تماما‏ ‏بهذا‏ ‏الفصل‏ ‏النظرى، ‏فهو‏ ‏فصل‏ ‏للشرح‏ ‏فقط‏ ‏لاغير‏.‏

كان‏ ‏الأستاذ‏ ‏قد‏ ‏ذكر‏ ‏أنه‏ ‏لم‏ ‏يقرأ‏ ‏ديستويفسكى ‏كله‏ ‏بالانجليزية‏ ‏وأنه‏ ‏أول‏ ‏ما‏ ‏وقع‏ ‏فى ‏يده‏ ‏كان‏ ‏أيام‏ ‏قراءته‏ ‏للروايات‏ ‏البوليسية‏ ‏وهو‏ ‏صبى، ‏وحين‏ ‏بدأ‏ ‏يقرأ‏ ‏”الجريمة‏ ‏والعقاب”‏ ‏فوجيء‏ ‏بالكشف‏ ‏الذاتى ‏والإسهاب، ‏وأنها‏ ‏ليست رواية‏ ‏بوليسية‏ ‏مشوقة‏ ‏مثل‏ ‏الروايات‏ ‏الأخرى، ‏فتركها‏ ‏جانبا‏ ‏حتى ‏عاد‏ ‏إليها‏ ‏من‏ ‏منطلق‏ ‏آخر‏ ‏لغرض‏ ‏آخر‏.‏

ويسألنى ‏زكى ‏سالم‏ ‏عن‏ ‏الفرق‏ ‏بين‏ ‏ترجمة‏ ‏ديستويفسكى ‏إلى ‏الإنجليزية‏ ‏وبين‏ ‏ترجمته‏ ‏إلى ‏العربية، ‏فأقول‏ ‏له‏ ‏إننى ‏لم‏ ‏أقرأ‏ ‏ديستويفسكى ‏بالانجليزية‏ ‏أصلا، ‏بل‏ ‏اننى ‏لم‏ ‏أقرأ‏ ‏أى ‏أدب‏ ‏بالانجليزية، ‏فأنا‏ ‏أعجز‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏أفعل، ‏فضلا‏ ‏عن‏ ‏أننى ‏لم‏ ‏أحاول‏ ‏جادا، ‏وحين‏ ‏حاولت‏ ‏لم‏ ‏أكمل، ‏ويقول‏ ‏الأستاذ، ‏ومن‏ ‏منا‏ ‏يتقن‏ ‏الإنجليزية، ‏أو‏ ‏أية ‏لغة‏ ‏أخرى ‏مثل‏ ‏أهلها، ثم يضيف: “‏إننى ‏كنت‏ ‏أقرأ‏ ‏وأستنتج، ‏وربما‏ ‏كنت‏ ‏أؤلف‏ ‏ما‏ ‏لا‏ ‏أعرفه‏ ‏تحديدا”، ‏وأطمئن‏ ‏قليلا، ‏وأقول‏ ‏أنا‏ ‏إننى ‏أذكر قولا‏ ‏لــ‏ “‏برناردشو‏” يقول فيه: ‏إن‏ ‏الإنسان‏ ‏إذا‏ ‏أتقن‏ اللغة ‏الأم‏ ‏تماما، ‏لا‏ ‏يمكنه‏ ‏أن‏ ‏يتقن‏ ‏لغة‏ ‏أخرى، بنفس الدرجة” ‏فيقول‏ ‏الأستاذ‏: ‏ولكن‏ ‏هناك‏ ‏من‏ ‏يتقن‏ ‏خمس‏ ‏وست‏ ‏لغات‏ ‏مثل‏ ‏أهلها، ‏فأوافق‏ ‏لكننى ‏ما وصلنى من كلام‏ ‏برناردشو‏ ‏هو ‏أن‏ ‏اللغة‏ ‏الأم‏ (‏وليست‏ ‏لغة‏ ‏الأم‏)، ‏إذا‏ ‏تغلغلت‏ ‏فى ‏الكيان‏ ‏البيولوجى – وأرجح أن ذلك له جذور وراثية – ‏لا‏ ‏ينفع‏ ‏معها‏ ‏أن‏ ‏تتغلغل‏ ‏لغة‏ ‏أخرى ‏على ‏نفس‏ ‏المستوى، ‏وإنما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تضاف إلى السطح فحسب، ‏وهذا‏ ‏هو‏ ‏غاية‏ ‏الممكن‏ ‏بالنسبة‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏يزاد‏ ‏من‏ ‏لغات‏ ‏تالية‏ ‏للغة‏ ‏الأصلية‏.‏

ثم عاد‏ ‏زكى ‏سالم‏ ‏يفتح‏ ‏مسألة‏‏ ‏اللغة العربية والنص الإلهى، ولكن قبل أن يـُكمل تساؤله ‏دخل‏ ‏علينا‏ ‏الحارس‏ ‏يعلن‏ ‏قدوم‏ ‏أ‏.‏د‏. ‏أدهم‏ ‏رجب، ‏فأقوم‏ ‏للقائه احتراما ومحبة، فهو أستاذ زميل فى قصر العينى‏ (أستاذ الطفيليات) وأنا أعلم أنه ‏صديق‏ ‏الأستاذ‏ ‏منذ‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏ستين‏ ‏عاما،‏ ‏فيعرفنى ‏للتو، وهو أستاذى ثم أصبحت زميلا له بعد تعيينى بالكلية، وقد  فوجئت وهو يعرفنى ويبادرنى  ‏ويقول‏ ‏لى دون تردد: أين‏ ‏أنت؟ ‏ ‏نحن‏ ‏لم‏ ‏نلتق‏ ‏منذ‏ ‏بيان‏ 30 ‏مارس‏ (1968) ‏وكنت‏ ‏قد‏ ‏كدت أنسى‏ ‏هذه‏ ‏ ‏ ‏المناسبة بشكل أو بآخر، ‏لكن‏ ‏أ‏.‏د‏. ‏أدهم‏ ‏رجب‏ ‏الذى ‏تخطى ‏الثمانين‏ ‏راح‏ ‏يحكى ‏تفاصيل‏ ‏ذلك‏ ‏اليوم، ‏كان‏ ‏يوم‏ 4 ‏إبريل‏ 1968، ‏وكان‏ ‏بيان‏ 30 ‏مارس‏ ‏طازجا، ‏وراح‏ ‏د‏. ‏أدهم‏ ‏يحكى للأستاذ‏ ‏كيف‏ ‏بدأ‏ ذلك ‏اللقاء الجماعى وكأنه يقرأ من كتاب مفتوح، فراح يذكر كيف بدأ اللقاء بكلمات وخطب‏ ‏تحكى عن‏ ‏فصل الأساتذة الدكاترة:‏ ‏رشوان‏ ‏فهمى ‏وعثمان‏ ‏وهبة‏ ‏بعد‏ ‏حكاية‏ ‏مقارنة‏ ‏قصر‏ ‏العينى ‏بقنال‏ ‏السويس، كان أ.د. عثمان وهبه اعترض فى اجتماع مع زملاء له على كلمة عبد الناصر “نجحنا فى تأميم قنال السويس، لكننا فشلنا فى إدارة قصر العينى”، وكان أى اعتراض على الزعيم يعتبر تجاوزا لا يغتفر.

‏وقال‏ ‏أ.د. أدهم ‏إن‏ ‏اسمى (‏وهذا‏ ‏ما‏ ‏أعرفه‏ ‏لأول‏ ‏مرة‏) ‏كان‏ ‏بين‏ ‏إثنى ‏عشر‏ ‏اسم‏ ‏أستاذ‏ ‏فى ‏كلية‏ ‏الطب (وكنت مازلت مدرسا)‏ ‏صدر‏ ‏أمر‏ ‏باعتقالهم، ‏وأن‏ ‏زوج‏ ‏شقيقة‏ ‏عبد‏ ‏الحكيم‏ ‏عامر‏ (‏حسن‏ ‏حسين على ما أذكر) ‏كان‏ ‏فى ‏المعتقل، ‏وجاءهم‏ ‏خبر‏ ‏اعتقالنا‏ ‏نحن‏ ‏الاثنا‏ ‏عشر، ‏لكن هذا لم يتم‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏تحركت‏ ‏قوى ‏عاقلة‏ ‏تحذر‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الخطوة، ‏أو‏ ‏ربما ‏ ‏ثبت‏ ‏أن‏ ‏بيننا‏ ‏من‏ ‏لا‏ ‏ينفع‏ ‏اعتقاله‏ ‏بمقاييس‏ ‏هذا‏ ‏الزمان‏ (‏قريب‏ ‏مسئول، ‏أو‏ ‏واصل‏)، ‏فرحت‏ ‏بذكريات أ.د. أدهم، وتصورت‏ ‏أن الصورة التى أوصلها للأستاذ الآن رسمتنى ثوريا وكلام من هذا، وهى صورة لا يعلمها الأستاذ عنى، ولا أنا أعلمها عن نفسى إلا بطريقتى، وإن كنت أذكر التصفيق الذى ملأ القاعة بعد كلمتى فى اجتماع 4 إبريل هذا، ثم إننى أذكر اجتماعنا بعد ذلك ‏ ‏فى ‏منزل‏ أ.د‏. ‏على ‏عرفان‏ أستاذ الباطنة مع‏ ‏د‏. ‏محمد‏ ‏عبد‏ ‏القادر‏ ‏استاذ‏ ‏الكيمياء‏ ‏الحيوية‏ ‏حيث تدارسنا مدى استعدادنا ‏ ‏للخطوة‏ ‏التالية‏ ‏التى علينا أن نتخذها، وهى التى ‏لم‏ ‏تأت‏ ‏أبدا، ‏لم أكن ثوريا بالمعنى الذى يمكن أن يُفهم من كلام د. أدهم رجب.

 ويذكرنى الأستاذ من جديد بعودتى من أسيوط، وبمرضاى الذين ينتظرونى فى العيادة، فأضحك وأنا أقول له إن أغلب مرضاى من الصعيد، وربما كان من الأفضل أن أبقى هناك وأكشف عليهم بالمرة حتى لا أكبدهم مشقة المشوار، فيقول لى ضاحكا، أسرع فقد سبقوك إلى عيادتك فهم لا يضيعون وقتهم فى مثل هذه اللقاءات، ويضحك، وأفرح، وأنصرف، وأنا مرتاح أننى لم أضطر للبقاء للرد على تساؤل زكى ‏ ‏عن‏ ‏النص‏ ‏الإلهى ‏وتميز‏ ‏العربية‏.، لأننى لم أفهم ما يقصد تماما.‏

الحلقة الثالثة والأربعون

الإبداع: وإعادة تشكيل نفس الأفكار!

الخميس: 10/3/1995

ليلة حرافيشة أخرى، وصلت‏ ‏متأخرا‏، ‏ولم‏ ‏يحضر‏ ‏أحمد‏ ‏مظهر‏ إلى ‏فورت‏ ‏جراند، ‏زحمة، ‏ناس، ‏الأستاذ‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏طيبة، ‏نام‏ ‏جيدا‏، وتكلم‏ ‏توفيق‏ عن ‏اسم‏ ‏رواية‏ ‏أظن‏ ‏أنها‏ Forsight Saga ‏وفهمت أن الاسم ليس‏ ‏بمعنى ‏بعد‏ ‏النظر‏ ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏اسم‏ ‏لعائلة‏ “‏ساجا‏” ‏سيرة‏ ‏عائلة‏ ‏ساجا، ‏ويبدو أنها ‏رواية‏ ‏أجيال، ‏ثم‏ جرى ‏حديث عن فكرة رواية الأجيال وعن‏ ‏‏توماس‏ ‏مان، ‏وروايات‏ ‏الأجيال‏ ‏عموما، ‏وقال‏ ‏الأستاذ‏ ‏إنه‏ ‏قرأ‏ ‏هذه السيرة‏ ‏وهى ‏تقع‏ ‏فى ‏حوالى ‏ستة‏ ‏آلاف‏ ‏صفحة، ‏واستعمل‏ ‏تعبيرا‏ ‏شديد‏ ‏الدقة‏ ‏قال “إنه لاحظ‏ إن‏ ‏هذا‏ ‏الحكى ‏لا‏ ‏ينمو، ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏يسير‏ ‏بالطول‏”. أن تصف الحَكى بأنه ينمو أو لا ينمو فيه تركيز رائع لما هو إبداع، فى مقابل ما هو سرد: “سيْر بالطول”، ‏وأشار‏ الأستاذ ‏بيده‏ ‏إلى ‏الأمام‏ ‏إشارة‏ ‏المروق‏ ‏واليد‏ ‏فى ‏وضع‏ ‏التوسط، ‏وأضاف‏ “‏إن‏ ‏الحاكى ‏يقول‏ ‏ويعيد‏ ‏ويضيف‏ ‏ويزيد‏ ‏نفس‏ ‏التيمة، ‏ليلة‏ ‏بعد‏ ‏ليلة‏ ‏وجلسة‏ ‏بعد‏ ‏جلسة، ‏وإلى ‏ما‏ شاء ‏الله‏، ‏‏وضحك، ‏ثم‏ ‏قال‏: ‏لعله خيرا، ‏فإن‏ ‏الانجليز‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏عندهم‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏الوقت‏ ‏إلا‏ ‏الجلوس‏ ‏بجوار‏ ‏المدفأة‏ ‏فماذا‏ ‏هم‏ ‏فاعلون، ‏هات‏ ‏يا‏ ‏قراءة، ‏وهم‏ ‏لا‏ ‏يريدون‏ ‏حينذاك‏ ‏أن‏ ‏تنتهى ‏الرواية، ‏وقد‏ يكون هذا هو ما ‏يحدث‏ ‏مثل‏ ‏ذلك‏ ‏قياسا‏ ‏هذه‏ ‏الأيام عندنا‏ ‏مع‏ ‏المسلسلات‏ ‏التى تشغل كل وقت الناس.

ثم جرى‏ ‏حديث‏ ‏عن‏ ‏تشابه‏ ‏هذه‏ ‏الروايات‏، ‏وأن‏ ‏هذا‏ ‏التشابه‏ ‏لا‏ ‏يعنى ‏سرقة‏ ‏ولا‏ ‏يحزنون، ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏أصل‏ ‏واحد‏ ‏ولا‏ ‏يتميز‏ ‏إلا‏ ‏بتشكيله‏ ‏الحكائى، ‏ثم‏ ‏إن‏ ‏الإنسانية‏ ‏كلها‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تختزل‏ ‏إلى ‏بضعة‏ ‏خطوط‏ ‏درامية، ‏لكن‏ ‏خذ‏ ‏عندك‏ ‏”كيف‏ ‏تـُتـَنـَاول‏ ‏هذه‏ ‏الخطوط”، ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏يجعل‏ ‏الحكى ‏فنا روائيا ‏(سبقت الإشارة إلى مثل ذلك) لكن‏ ‏هذا‏ ‏لا‏ ‏يبرر‏ ‏السرقة‏ ‏بالمعنى ‏الذى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يشيع‏ ‏هذه‏ ‏الأيام‏ ‏تحت‏ ‏زعم‏ ‏أية‏ ‏مبررات، ‏فعندك‏ ‏مثلا‏ ‏وحيد‏ ‏حامد‏ ‏السينارست، ‏يعترف‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يكتب‏ ‏قصة‏ ‏واحدة‏ ‏ولو‏ ‏فى ‏صفحة‏ ‏واحدة، ‏لكنه‏ ‏يتناول‏ ‏القصة‏ ‏ويحولها‏ ‏إلى ‏سيناريو‏ ‏بشكل‏ ‏ممتاز، ‏فيعتبر وكأنه‏ ‏‏مؤلف‏ ‏القصة‏ ‏بشكلها التمثيلى، ‏وحكى ‏الأستاذ‏ ‏عن‏ ‏سيناريست‏ ‏كان‏ ‏يعمل‏ ‏معه‏ ‏بالإسكندرية‏ ‏فى ‏قصة‏ “‏امبراطورية‏ ‏ميم‏” ‏لإحسان‏ ‏عبد‏ ‏القدوس، ‏وكان‏ ‏يشكو‏ ‏له‏ ‏من‏ ‏عجزه‏ ‏عن‏ ‏كتابة‏ ‏القصة‏ ‏رغم‏ ‏حذقه‏ ‏لحبكة‏ ‏السيناريو‏ ‏كما‏ ‏ينبغى، ‏وأن‏ ‏هذا‏ ‏لا‏ ‏يعيبه‏ ‏إطلاقا، ‏ولا يعيقه أصلاً.

انتقلنا‏ ‏إلى ‏منزل‏ ‏توفيق‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏تحدثنا‏ ‏هاتفيا مع‏ ‏أحمد‏ ‏مظهر‏ ‏‏لعدة ‏مرات،‏ ‏كان‏ ‏التليفون‏ ‏مشغولا، ‏قال‏ ‏توفيق‏ ‏إنها‏ ‏مريم‏ ‏فخر‏ ‏الدين‏ ‏أو‏ ‏نادية‏ ‏لطفى، ‏الأولى ‏لا‏ ‏تكف‏ ‏عن‏ ‏الحكاوى ‏عن‏ ‏الناس، ‏والثانية‏ ‏أكثر‏ ‏تحفظا‏ ‏لكنها‏ ‏أطلق‏ ‏لسانا، ‏وسأل‏ ‏الأستاذ‏ ‏عن‏ ‏عادل‏ ‏كامل، ‏فهاتف‏ ‏توفيق‏ ‏أخاه‏ ‏بشرى، واطمأن عليه.

فى ‏المنزل‏ ‏عاد‏ ‏الحديث‏ ‏إلى ‏رواية‏ “‏مراعى ‏القتل” لفتحى أمبابى، ‏أنا‏ ‏الذى أعدت ‏فتحه، ‏لو‏ ‏علم‏ ‏مؤلف‏ ‏هذه‏ ‏الرواية‏ ‏كم‏ ‏شغلتنا‏ ‏روايته‏ ‏هذه‏ ‏لسـر‏ ‏سرورا‏ ‏شديدا، ‏‏لأنها ‏احتلت‏ ‏من‏ ‏الأستاذ‏ ‏هذه‏ ‏المساحة‏ ‏من‏ ‏الوعى ‏والوقت، ‏قلت‏ ‏لتوفيق يا ترى‏ ‏لماذا‏ ‏لا‏ ‏تظهر هذه القصة فيلما رائعا، ‏قال‏ ‏إن‏ ‏تصوير‏ ‏الحرب‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏عشرات‏ ‏الألوف‏ ‏من‏ ‏الجنيهات‏ ‏إن‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏مئات، ‏قلت‏ ‏لكنك‏ ‏ستجد‏ ‏سبيلا‏ ‏إلى ‏الاختزال‏ ‏والإحالة‏ ‏والإزاحة، ‏قال‏ دعنا ‏نرى أى منتج يقبل، ‏وشرحت‏ ‏للأستاذ‏ ‏تضفّر‏ ‏تيارات‏ ‏الرواية‏ ‏الثلاث‏ ‏حتى ‏أصبحت‏ ‏مثل‏ ‏ضفيرة‏ ‏الفلاحة‏ ‏الجميلة‏ المتجمعة فى ضفيرة واحدة.

وحكى توفيق عن سيناريت ‏ظل‏ ‏لا‏ ‏يعمل‏ ‏عشرين‏ ‏سنة‏ ‏لأن‏ ‏المنتجين‏ ‏أصبحوا‏ ‏يخافون‏ ‏منه‏ ‏بعد‏ أن كلفهم ما لم يحسبون فى فيلم ‏إبنة‏ ‏ريان‏ ‏مثلا، ‏فرحت‏ ‏حين‏ ‏ذكر توفيق فيلم‏ ‏ابنة‏ ‏ريان‏ ‏وقلت‏ ‏له‏ ‏عن‏ ‏نقدى ‏لها، ‏وأنه‏ ‏نشر‏ ‏فى ‏الأهرام،‏ ‏وأوجزت‏ ‏له‏ ‏فكرتى ‏عن‏ ‏التقابل‏ ‏الرباعى ‏وعن‏ ‏القس‏ ‏حين‏ ‏يتعرى ‏فيصبح‏ ‏عنينا‏ ‏فى مقابل‏ ‏العاشق‏ ‏الضابط‏ ‏العدو‏ ‏حين‏ ‏يتعرى ‏فيصبح‏ ‏مسخا بدائيا، ‏وفرحت‏ ‏لفرحة‏ ‏توفيق‏ ‏بهذا‏ ‏التفسير، و‏وعدنى ‏أن‏ ‏يحضر‏ لى ‏نسخة من ‏الفيلم، ‏ووعدته‏ ‏أن‏ ‏أحضر‏ ‏له‏ ‏النقد، ‏وأن‏ ‏أحضر‏ ‏له أيضا ‏نقد‏ ‏الفيلم‏ ‏الإيرانى “‏الغريب‏ ‏والضباب‏” ‏الذى ‏ظهر‏ ‏لى ‏نقده‏ ‏فى ‏نشرة‏ ‏نادى ‏السينما، ‏حكيت‏ ‏له‏ أيضا ‏عن‏ ‏نقدى ‏أيضا‏ ‏لمسرحية‏ ‏هنرى ‏الرابع‏ (‏بيراندللو‏)([26]) ‏على ‏مسرح‏ ‏الطليعة وقد نشر فى الأهرام أيضا فى دنيا الثقافة، وحين تعجب الأستاذ من إسهاماتى هذه، وكأنى ناقد محترف، أكدت له أننى إنما‏ ‏أصنف‏ ‏نفسى ‏باعتبارى “‏متلق‏ ‏محاور‏” ‏لا‏ ‏أكثر، فأنا ‏‏‏أتلقى ‏بصوت‏ ‏مسموع، أو بقلم جاهز، ثم إنى‏ ‏أرصد‏ ‏بعض‏ ‏هذا‏ ‏التلقى ‏فى ‏كلام‏ ‏مكتوب دون أن أشغل نفسى إن كان ‏ينشر‏ ‏أولا‏ ‏ينشر،‏ ‏ما دمت قد سجلته، وهو عادة ينشر بترحيب مناسب، هذا كل ما فى الأمر.

حكى ‏توفيق‏ ‏كيف‏ ‏عرض‏ “‏ديفيد‏ ‏لين‏” ‏على ‏صديقه‏ ‏أنتونى ‏كوين‏ ‏انتاج‏ ‏فيلم‏ ‏إبنة‏ ‏ريان‏ ‏فى ‏حدود‏ ‏مليون‏ ‏دولار، ‏لكنه‏ ‏لم‏ ‏يفلح‏ ‏أن‏ ‏يكمل‏ ‏خوفا‏ ‏من‏ ‏مفاجآت‏ ‏شطح‏ ‏التكلفة، ‏ثم‏ ‏انتقل‏ ‏إلى ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏فاطمة‏ ‏رشدى، ‏وعزيز‏ ‏عيد، ‏وخلافها‏ ‏مع‏ ‏يوسف‏ ‏وهبى ‏لأنها‏ ‏تأخرت‏ ذات ليلة، ‏وكيف‏ ‏استقلت‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏عن‏ ‏يوسف‏ ‏وهبى ‏وفتحت‏ ‏مسرحها‏ ‏وصار‏ ‏الحوار والتنافس‏ ‏بينها‏ ‏وبين‏ ‏يوسف‏ ‏وهبى ‏مثلما‏ ‏كان‏ ‏بين‏ ‏نجيب‏ ‏الريحانى ‏وعلى ‏الكسار، ‏وذكر‏ ‏تعبير‏ ‏قالته‏ ‏فاطمة‏ ‏رشدى ‏ليوسف‏ ‏وهبى ‏وهى تعلن ‏اعتزازها‏ ‏بأنوثتها‏ ‏وقيمة‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تجنيه‏ ‏من‏ ‏ورائها‏ (!!!).

عدت‏ ‏أسأل‏ ‏توفيق‏ ‏صالح‏ ‏كيف‏ ‏يمكن، ‏لو أخرج مراعى القتل، وهى مليئة بصور الفقر المدقع،‏ ‏أن‏ ‏يجعل‏ ‏الممثل‏ ‏يعيش‏ ‏الفقر‏ ‏ويمثله، ‏لو‏ ‏كان‏ ‏الممثل‏ ‏غنيا‏ ‏لم‏ ‏يعرف‏ ‏الحرمان‏ ‏أصلا،‏ ‏وضربت‏ ‏له‏ ‏مثلا‏ ‏بى ‏وبأولادى ‏وكيف‏ ‏أننى ‏كنت‏ ‏مع‏ ‏إخوتى ‏نفرك‏ ‏على ‏البيضة‏ ‏الواحدة‏ ‏قطعتين‏ ‏من‏ ‏الجبن‏ ‏القريش‏ ‏حتى تكفينا ‏غموسا‏ ‏نحن‏ ‏الثلاثة، فعرفنا الفقر والتوفير برغم أن أبى لم يكن فقيرا، ‏أما‏ ‏أولادى ‏فيصعب‏ ‏تماما‏ ‏أن‏ ‏أقدم‏ ‏لهم‏ ‏معنى ‏الفقر‏، وذكرت له وللأستاذ كيف أننى عملت تجربة محاولة إشعارهم بنوع من الفقر ‏أثناء‏ ‏رحلتنا‏ ‏إلى ‏الخارج، (التى سجلتها فى الترحالات) ([27]) ‏حين‏ ‏أعطيت‏ ‏كلا‏ واحد ‏منهم‏ ‏مبلغا‏ ‏محددا‏ ‏من‏ ‏المال‏ ‏للأكل‏ ‏والمبيت‏ ‏والفسح‏ طول الرحلة ‏واشترطت عليهم‏ ‏أن‏ ‏يتدبروا‏ ‏أمورهم، ‏لكن‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏كان‏ ‏تمثيلا‏ ‏ لضيق ذات اليد وليس واقعا فظا، ثم إنى بحثت عن آثار علاقتهم بهذه التجربة بعد عودتنا فوجدت أنه لم‏ ‏يتبق‏ ‏منها ‏شىء تقريبا، قال توفيق‏ ‏‏أن‏ ‏وظيفة‏ ‏المخرج‏ ‏والسيناريت‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏ينقلا‏ ‏حالة‏ ‏المعايشة‏ مثلا: الفقر المهين فى مراعى القتل، ‏إلى ‏الممثل‏ ‏‏حتى ‏ينسى ‏كل‏ ‏ما‏ ‏عدا‏ ‏أنه‏ ‏فقير، ‏‏‏أثنى الأستاذ ‏على ‏تعبير‏ ‏ ‏يوسف‏ ‏وهبى عن الفقر فى أفلامه ومسرحياته ‏وهو‏ ‏إبن‏ ‏الباشا، ‏وأنه لم‏ ‏يتميز‏ ‏إلا‏ ‏فى ‏أدوار‏ ‏الفقر،‏ ‏وأن‏ ‏من‏ ‏أعظم‏ ‏أعماله‏ ‏هو‏ “‏أولاد‏ ‏الفقرا”، ‏وجرى ‏حديث‏ ‏على ‏علاقته‏ ‏بأمينة‏ ‏رزق‏ ‏التى قيل أنها ‏صعدت‏ ‏على ‏خشبة‏ ‏المسرح‏ ‏سنة‏ 1926 ‏وهى ‏تقول‏ ‏إنها‏ ‏كان‏ ‏عندها‏ 14 ‏سنة‏ ‏والمؤكد‏ ‏أنها‏ ‏كانت‏ ‏أكبر‏ ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏بأربع‏ ‏سنوات‏ ‏على ‏الأقل‏.‏

حكيت‏ ‏للأستاذ‏ ‏عن‏ ‏قراءتى ‏لكتاب‏ ‏جانترب([28])‏ ‏عن‏ ‏الظاهرة‏ ‏الشيزيدية‏ ‏كأساس‏ ‏لتكوين‏ ‏البشر‏ ‏وسلوكهم‏ ‏وكيف‏ ‏قرأت‏ ‏هذا‏ ‏الكتاب‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏أوصلت‏ ‏زوجتى ‏وإبنى ليأخذوا ‏المركب‏ ‏من‏ ‏فينسيا‏ ‏سنة‏ 1969 ‏فأمطرت‏ ‏الدنيا‏ ‏على ‏وأنا‏ ‏داخل‏ ‏الخيمة أستعد للعودة إلى باريس، ‏وظللت‏ ‏محبوسا‏ ‏مع‏ ‏الكتاب ثلاثة أيام‏ ‏فى ‏انتظار‏ ‏توقف‏ ‏المطر‏ ‏لأجمع الخيمة‏، ‏فأنهيت الكتاب، ثم ‏أعدت‏ ‏قراءته‏ ‏مرتين،‏ ‏وكيف أثـرْى‏ ‏فكرى وحفزنى إلىى تطويره استلهاما من بعض عطائه، ‏وقلت‏ ‏لتوفيق‏ ‏إننى ‏فسـرت‏ ‏فيلم‏ “‏الغريب‏ ‏والضباب”([29])‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏المنطلق‏، منطلق العلاقة بالموضوع، والنزوع للعودة إلى الرحم.

أثناء‏ ‏توصيلى ‏للأستاذ، ‏وكنت فى حالة حرافيشية نشطة سمَحتْ لى أن أواصل الحديث معه، قلت: ‏إن‏ ‏ ‏الأصالة‏ تتجلى فى الإبداع الحقيقى حتى لو تناول فكرة مكررة، وأنه بقدر ما يكون المبدع قد عايش فكرةً ما، او حدثا ما‏ ‏فى ‏واقع وعيه،‏ فإنه يستطيع أن يبعث فيه الجديد من خلال الشكل الذى يختاره، ‏فلا‏ ‏يجوز‏ ‏أن‏ ‏يقرأ‏ ‏أحدهم‏ ‏عملا، ‏أو‏ ‏فكرة، ‏ثم‏ ‏يقول‏ ‏أنا‏ ‏سوف‏ ‏أكتب‏ ‏رواية‏ ‏عن‏ ‏هذه‏ ‏الفكرة، ‏فى ‏الأغلب‏ ‏سوف‏ ‏يفتقد‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏العمل‏ ‏تلقائية ‏الأصالة، ‏لكنه‏ ‏لو‏ ‏عاش‏ ‏الفكرة فى عمق مستوى من الوعى، ‏ثم حضرته وهو يشكل إبداعه، فإنها ستحضر جديدة مختلفة حتى لو كانت مكررة، فيصدر العمل أصيلا فى شكله الجديد.

 كان الأستاذ جالسا بجوارى أثناء العودة، ولم أستطع أن أقيس مدى انحناءة رأسه لأقرر مدى موافقته، فرحت أننى قلت له رأيى ونحن معا حتى أثناء قيادتى السيارة عائدين، وفرحت أنه لم يأمرنى أن انتبه للقيادة وأن أؤجل الحكى عن مثل هذه الآراء إلى مكان آخر فى حال آخر،

 يبدو أننى كنت أتكلم بالقصور الذاتى بعد هذه الليلة البهيجة.

تصبح على خير أيها الرجل الجميل

الحلقة الرابعة والأربعون

حلم سريع أثناء القيلولة

الجمعة: 11/3/1995

كادت القاعدة تصبح ألا أحضر لقاء يوم الجمعة مع أنه فى بيتى، وذلك بسبب سفرى المنتظم نهاية الأسبوع كما ذكرت، حين أقول له إنه أصبح بيته أكثر من بيتى، لا اقولها مجاملة، وإنما فرحة، هذا‏ ‏الأسبوع‏ ‏هو فى بيتى أيضا، أعنى بيته، الحمد لله، لم أحضر لقاءه الأسبوع الماضى، دون أدنى حرج، ‏كان‏ ‏الأستاذ‏ ‏طيبا‏ ‏”ملعلعلا”‏ هذه الليلة، ‏ربنا‏ ‏يخليه‏، جرى ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏التاريخ‏ ‏وتدوينه ومدى المصداقية ‏ ‏فى ذلك كله، ياه!! لن ينتهى هذا الحديث أبدا، مثله مثل حديث الديمقراطية، وأيضا موضوع احتمال أن يتولى الإخوان الحكم، ضربت مثلا لأبين مدى اهتزاز مصداقية التاريخ:‏ ‏كتابة‏ ‏هذه‏ ‏المذكرات مثلا، ‏فلو‏ ‏أن‏ ‏واحدا‏ ‏طلب‏ ‏من‏ ‏الجلوس‏ ‏معنا‏ ‏الآن‏ ‏أن‏ ‏يسجل‏ ‏ما‏ ‏حدث‏ ‏هذه‏ ‏الليلة‏ ‏لمدة‏ ‏ساعة‏ ‏واحدة، ‏بعد‏ ‏سبع‏ ‏دقائق‏ ‏من‏ ‏انتهاء‏ ‏الحديث‏ ‏فكم‏ ‏منا‏ ‏سيتفق‏ ‏مع‏ ‏كم منا فى حكى نفس الحكاية؟ فما بالك إذا طالبناه بحكيها بنفس الألفاظ، ‏ ‏وهنا‏ ‏ثارت‏ ‏قضية‏ ‏كتابة‏ ‏الأناجيل‏ (‏والأحاديث‏ ‏النبوية‏ الشريفة): ‏قال‏ ‏الأستاذ‏: ‏إن ‏الأناجيل‏ ‏كتبت‏ ‏بعد‏ ‏سبعين‏ ‏سنة‏ ‏من‏ ‏موت‏ ‏المسيح، ‏وباسترجاع‏ ‏تاريخ‏ ‏المسيح‏ ‏الذى ‏لم‏ ‏تستمر‏ ‏رسالته‏ ‏سوى ‏أربع‏ ‏سنوات‏ ‏قال‏ ‏الأستاذ‏ ‏أنظر‏ ‏ ‏ماذا‏ ‏بقى ‏للناس‏ من ذلك ‏بعد‏ ‏كل‏ ‏شىء‏: ‏الرومان‏ ‏بهيلمانهم‏ ‏وسلاحهم‏ ‏ينتهون‏ ‏هكذا‏ ‏أمام‏ ‏شاب‏ ‏وديع‏ ‏يعيش‏ ‏فى ‏حارة‏ ‏ويشفى ‏بعض‏ ‏المرضى، ‏لا بد أن الأمور كانت مهيأة لهذه النقلة، مثلما‏ ‏حدث‏ ‏فى ‏الإتحاد‏ ‏السوفيتى، ‏فحين‏ ‏همس، ‏ثم‏ ‏قال، ‏ثم‏ ‏أعلن‏ ‏جورباتشوف‏ ‏بأنه‏ “‏لا‏” ‏ليس هكذا، وتصدى لما‏ ‏يجرى ‏من‏ ‏حكم‏ ‏شمولى، ‏وشيوعية‏ عمياء ‏قاسية، ‏إنهار‏ ‏الإتحاد‏ ‏السوفيتى، ‏ربما كان مثل ذلك هو ما فعله‏‏ ‏ابن‏ ‏الامبراطور‏ ‏الرومانى ‏حين‏ ‏آمن‏ ‏بالمسيحية، ‏لكنه‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏طاح‏ ‏فى ‏غير‏ ‏المسيحين‏ ‏نساء‏ ‏ورجالا‏ ‏وأطفالا‏ ‏فانعكست‏ ‏الآية، ‏قلت‏ ‏له‏ ‏ألا‏ ‏يطمئننا‏ ‏هذا‏ إلى ‏أنه‏ ‏فعلا‏ “‏لا‏ ‏يصح‏ ‏إلا‏ ‏الصحيح‏” ‏وأنه‏ ‏لا‏ ‏الحكم‏ ‏حاليا، ‏ولا‏ ‏حكم‏ ‏الجماعات‏ ‏إياها‏ ‏لو‏ ‏جاءت‏ ‏ ‏مهما‏ ‏اشتد‏ ‏عودها‏ ‏وعلا‏ ‏صوتها، سوف يدوم أى منهما، مادام‏ ‏توجه‏ ‏هذا‏ ‏وذاك‏ ‏هو‏ ‏ضد‏ ‏التاريخ‏ ‏وضد‏ ‏صالح‏ ‏البشر، ‏فأقرّ ‏كلامى ‏الذى ‏تعلمته‏ ‏منه‏ ‏أصلا‏ (مع أننى غير مقتنع به تماما جدا). ‏

انتقل‏ ‏الكلام‏ ‏إلى ‏غلبة‏ ‏التفكير‏ ‏التآمرى ‏فى ‏الشرق‏ ‏خاصة، ‏وقال أحدهم أن‏ ‏جمال‏ ‏عبد‏ ‏الناصر‏ ‏نفسه ليس إلا صنيعة‏ ‏الأمريكان، ‏وحتى ‏حرب‏ 67 ‏قيل‏ ‏أنها‏ ‏كانت‏ ‏للتخلص‏ ‏من‏ ‏عبد‏ ‏الحكيم‏ ‏عامر، ‏نبّهنا الأستاذ بوضوح: أنه ليس إلى هذه الدرجة، وإلا لصدقنا الإشاعة التى ‏أشاعها‏ ‏الإخوان‏ ‏أن‏ ‏عبد‏ ‏الناصر‏ ‏كان‏ ‏يهوديا‏ ‏وكان‏ ‏يسكن‏ ‏فى ‏حارة‏ ‏اليهود‏ ‏مع‏ ‏أبيه،‏ ‏ولا‏ ‏يسكن‏ ‏فى ‏حارة‏ ‏اليهود‏ ‏إلا‏ ‏يهودى، ‏فى حين أن المسألة كلها هى ‏ ‏أن‏ ‏حى ‏الخرنفش يقع‏ ‏بجوار‏ ‏حارة‏ ‏اليهود، ويبدو أن نافذة ‏ ‏منزل‏ ‏ ‏والد‏ ‏عبد‏ ‏الناصر‏ ‏كانت تطل‏ ‏على ‏حارة‏ ‏اليهود، ‏لكن‏ ‏خذ‏ ‏عندك‏.‏

فجأة‏ ‏قال‏ ‏الأستاذ‏ ‏أنه‏ ‏أثناء‏ ‏نوم‏ ‏القيلولة‏ ‏هذه‏ ‏الظهيرة‏ ‏حلم‏ ‏بجمال‏ ‏عبد‏ ‏الناصر‏ ‏وكان‏ ‏الحلم‏ ‏هكذا‏:‏

‏”‏هو‏ ‏جالس‏ ‏يتكلم‏ ‏أو‏ ‏يهم‏ ‏بأن‏ ‏يتكلم‏ ‏فى ‏التليفون‏ ‏وإذا‏ ‏بعبد‏ ‏الناصر‏ ‏يدخل‏ ‏عليه‏ ‏فأسرع‏ ‏بإنهاء‏ ‏المكالمة‏ ‏أو‏ ‏قطعها‏ ‏ليترك‏ ‏التليفون‏ ‏لعبد‏ ‏الناصر‏ ‏الذى ‏تكلم‏ ‏فعلا‏ ‏وطلب‏ ‏رقما‏ ‏يذكره‏ ‏الأستاذ‏ ‏بوضوح‏ ‏وهو‏ 1616، (‏ستاشر‏ ‏ستاشر‏) ‏ثم‏ ‏سمع‏ ‏صوت‏ ‏آخر‏ ‏فى ‏الردهة‏ ‏يقول‏: ‏إن‏ ‏عبد‏ ‏الناصر‏ ‏يكلم‏ ‏واحدة، ‏وأنه‏ ‏لابد‏ ‏متزوج‏ ‏من‏ ‏أخري‏”.‏

إنتهى ‏الحلم‏.‏

فرحت‏ ‏أن‏ ‏يتطوع‏ ‏الأستاذ‏ ‏بحكى ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏الحلم‏ ‏هكذا‏ ‏بهذه‏ ‏البساطة، وتعجبت بينى وبين نفسى من هذا الوضوح، ‏واجتهد‏ ‏الجلوس‏ ‏فى ‏التفسير، ‏دعابة‏، ‏وجِدَّا، “‏ستاشر‏ ‏ستاشر‏” ‏هذه‏ ‏واحدة، ‏وزكى ‏سالم‏ ‏يقول‏ ‏لعل‏ ‏هذا يبين‏ ‏أن‏ ‏عبد‏ ‏الناصر‏ ‏الذى ‏نعرفه غير عبد الناصر الذى وصفه الأهرام ‏مؤخرا‏ ‏وأكد على مرحه‏، وأن ‏عبد‏ ‏الناصر‏ ‏- مثل أى بشر-‏ ‏له‏ ‏جانب‏ ‏آخر، ‏أو ‏كما‏ ‏يقول‏ ‏الحلم‏: ‏زوجة‏ ‏أخرى، ‏و‏لم أشارك فى تفسير الحلم تأكيدا لموقفى من حكاية تفسير الاحلام مما ذكرته مكررا، كل ما عقبت به – ربما لنفسى- هو أن ما بلغنى هو أن بداخل الأستاذ طفل جميل، له خيال بديع، وأن مستويات وعيه هى‏ ‏حقل‏ ‏خصب‏ ‏مليء‏ ‏بعبد‏ ‏الناصر‏ ‏وغيره، ‏وفى نفس الوقت يصلنى من حكى الحلم وسلاسة النقلات نوع الحركية الدمثة بين مستويات وعيه، وأستنتج كم أن‏ ‏ظاهر‏ ‏الاستاذ‏ ‏قريب‏ ‏جدا‏ ‏من‏ ‏باطنه، ‏وأن‏ ‏خياله‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏السن‏ ‏مازال‏ ‏نشطا‏ ‏تماما، ومتناغما مع أفكاره ومواقفه([30]).

 على  ‏ذكر‏ ‏السن، ‏نسيت‏ ‏أن‏ ‏أثبت‏ ‏ما‏ ‏حدثنا‏ ‏الأستاذ به‏ ‏أمس‏ (فى لقاء الحرافيش) ‏عن‏ ‏أولاد‏ ‏أخيه‏ ‏إبراهيم‏ ‏الذين‏ ‏ماتوا‏ ‏الواحد‏ ‏تلو‏ ‏الآخر‏ ‏وهم‏ ‏بعد‏ ‏فى ‏العقد‏ ‏السادس‏ ‏أثناء‏ ‏العمل‏ ‏رغم‏ ‏أن‏ ‏والدهم‏ ‏معمر‏، ثم‏ ‏عرج‏ ‏إلى ‏والدته‏ ‏التى ‏عمرت‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏يناهز‏ ‏المائة سنة‏، وقد ‏كانت‏ ‏تتبع‏ ‏جميع‏ ‏العادات‏ ‏السيئة‏ (‏الغذائية‏ ‏والصحية‏) ‏المشهورة‏ ‏بتقصير‏ ‏العمر، ‏وحتى ‏السجائر التى‏ ‏لم‏ ‏تكن‏ ‏تدخنها، ‏لكن‏ ‏الأخ‏ ‏الأكبر‏ ‏راح‏ ‏يداعبها‏ ‏فى ‏سن‏ ‏الثمانين‏ ‏ويعزم‏ ‏عليها‏ ‏بالسجائر، ‏فتمسكت‏ ‏بها‏ ‏حتى ‏الوفاة.

‏وأمس‏ ‏أيضا‏ ‏(فى جلسة الحرافيش كذلك) جاء‏ ‏ذكر‏ ‏وفاة‏ ‏أمينة‏ ‏زغلول‏ ‏صاحبة‏ ‏محلات‏ “‏فلفلة‏”، ‏ماتت‏ ‏ثانى ‏أيام‏ ‏العيد، ‏وجرى الحديث عنها، وكيف أنها كانت‏ ‏إمرأة‏ ‏لها‏ ‏تاريخ زاخر، ‏أحبها‏ ‏توفيق‏ ‏صغيرا‏، من بعيد لبعيد، ‏فهى ‏من‏ ‏الاسكندرية، ‏وتزوجت‏ ‏إبن‏ ‏أخت‏ ‏الأستاذ‏ ‏واسمه‏ ‏نبيل على ما أذكر،‏ ‏واتهموا‏ ‏الأستاذ‏ ‏أنه‏ ‏شجعه ‏على ‏ذلك، ويعقب‏ هو ‏على هذه الإشاعة أنه:‏ “‏والله‏ ‏العظيم‏ ‏تلاتة‏ ‏لا‏ ‏شجعتُه‏ ‏ولا‏ ‏حاجة‏” ‏ويحكى ‏القصة‏: ‏وكيف‏ ‏أنه‏ ‏جاء‏ه بصفته خاله يسأله عن‏ ‏رأيه‏ ‏فى ‏امرأة‏ ‏جميلة‏ ‏يحبها، ويريد أن يقترن بها، ‏فقال‏ ‏له‏ ‏: أنت‏ ‏تسافر‏ ‏إلى ‏الخارج‏ ‏كثيرا، ‏فانتظر‏ ‏حتى ‏ترجع بعد‏ ‏أن تبتعد‏ ‏‏عنها‏ ‏مدة، ‏ ‏وعن‏ ‏زوجتك‏ ‏وأولادك أيضا، ‏ثم‏ ‏فكـِّر‏ ‏بهدوء‏.‏ وقد فعل، وسافر، وفكر‏ ‏بهدوء، ‏وتزوجها‏، ‏أنا‏ ‏مالي‏!!‏؟‏”، ويضحك، ونضحك.‏

كانت‏ ‏تيمة‏ فيلم “‏إبنة‏ ‏ريان”‏ ‏قد‏ ‏أخذت‏ ‏حيزا‏ ‏أمس‏ ‏جعلنى ‏أتوقف‏ ‏أمام‏ ‏ذكريات‏ ‏الأستاذ‏ ‏وهو‏ ‏يحكى ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏التيمة‏ ‏المكررة‏ ‏تيمة ‏ ‏الذى ‏يذهب‏ ‏للانتقام‏ ‏فيقع‏ ‏فى ‏حب‏ ‏غريمه‏ – ‏تكررت‏ ‏فى ‏دعاء‏ ‏الكروان‏ ‏لطه‏ ‏حسين، ‏وفى ‏كيلوباترا، ‏وكذلك‏ ‏تيمة‏ ‏زوجة‏ ‏الأخ‏ ‏التى ‏تغوى ‏شقيق‏ ‏زوجها‏ ‏أو‏ ‏إبن‏ ‏زوجها‏ ‏ثم‏ ‏تتهمه هو أنه الذى أغواها، ‏من‏ ‏أول‏ ‏إمرأة‏ ‏العزيز وأنت قادم، ‏فذكرته بأن‏ ‏هذه‏ ‏التيمة‏ ‏ربما هى التى جاءت فى ملحمة ‏الحرافيش‏ ‏(ربما عزيز الناجى..)‏ ‏.. ‏ولم أستطرد، ولم يعقب.

رجعنا إلى حديث الإشاعات ومصداقية التاريخ وقال لنا الأستاذ كيف أن السلطة والإنجليز كانوا قد منعوا اسم سعد زغلول من التداول، ‏حتى كان‏ ‏ساعى ‏البريد‏ ‏يكتب‏ “‏سعد‏ ‏زغلول‏” ‏على ‏الخطابات، ‏وكان‏ ‏بائع‏ ‏البيض‏ ‏يكتب‏ “‏سعد‏ ‏زغلول‏” ‏على ‏البيض، ‏فسارت إشاعة ‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏الفراخ‏ ‏تبيض‏ ‏بيضا‏ ‏مكتوبا ‏عليه‏ “‏سعد‏ ‏زغلول”، ورفضها سعد باشا طبعا، ونفاها، وأوصى بعدم تداولها.

وعلى ‏ذكر‏ ‏تليفون‏ ‏عبد‏ ‏الناصر‏ – ‏فى ‏الحلم‏- ‏ورقم‏ ‏”ستاشر ستاشر”‏ ‏الذى ‏تكرر‏، ‏تذكر‏ ‏الأستاذ‏ ‏أغنية‏ لا أعرفها لسيد‏ ‏درويش تقول:‏ “‏خمسة‏ ‏فى ‏ستة‏ ‏بستاشر، ‏وباريس‏ ‏فى ‏الوجه ‏البحرى‏” ‏وعقب‏ ‏عليها‏، وربما تذكر أحدنا أغنية شادية: “خمسة فى ستة بتلاتين يوم غايب عنى وغاب النوم”، وقلت له إنه كانت عندنا أغنية تسخر من المدرسين بظُرف، كنا نرددها رسميا فى احتفالات المدرسة الابتدائية فى زفتا، بسماح اساتذتنا ومشاركتهم وفيها فقرة تقول:

جه أستاذ الحصة الساتة، أستاذ هندسة ويّا حساب،

 قال لى اضرب لى خمسه فْ ستة، ولا اتفضل برّه الباب،

 قلت يا بيه أضرب مين فيهم،

 دول تلاتين ما اقدرشى عليهم،

 أنا غلطان؟

 مش غلطان؟

 إمال يعنى اتعاقب ليه؟

 الأستاذ الحق عليه،

 ويضحك الأستاذ، وأعيد عليه كيف أن المدارس الآن تزيّف وعى الأطفال بأغان مديح ماسخه من أول “مدرستى أيا محلاها، أهواها وأدوب فى هواها” حتى “والفضل كلّه لبابا جمال” .. ثم الفضل كله لبابا سادات” وربما أحسوا أن البيت سوف ينكس لو قالوا “والفضل كله لبابا مبارك”.. وربما لهذا أرجعوا حاليا “الفضل كله لماما سوزان..”، حتى لا ينكسر بيت الشعر ولا يعقب الأستاذ، ويصلنى من جديد احترامه الحقيقى لمن فى موقع مسئولية حقيقى، فأنتبه إلى صمته الآن وأقترح – عابثا- اقترابا من الواقع واحتراما لمشاعره، وحفاظا على الأولاد والبنات أن يقلبوا الأغنية هكذا: “والفضل بعضو لبابا جمال…الخ” ويضحك الأستاذ عاليا على إحلال “بعضو” مكان “كله”، وكأنه قبل اعتذارى. ‏

ثم تواصل‏ ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏سعد‏ ‏زغلول، ‏وهل‏ ‏له‏ ‏أخطاء‏ ‏جسيمة‏ ‏أم‏ ‏لا، ‏وأردت‏ ‏أن‏ ‏أعفى ‏الأستاذ‏ ‏من‏ ‏الاضطرار‏ ‏للحديث‏ ‏عن‏ ‏أخطاء‏ ‏هذا‏ ‏الزعيم‏ ‏الذى ‏يحبه‏ ‏حبا‏ ‏شديدا، ‏فإذا‏ ‏به‏ ‏يكشف‏ ‏محاولاتى ويرفضها ‏ويحكى ‏عن‏ ‏بعض‏ ‏أخطاء‏ ‏سعد، ‏مثل‏ ‏إصراره‏ ‏أن‏ ‏يرأس‏ ‏الوفد‏ ‏دون‏ ‏عدلى ‏يكن‏ ‏الذى ‏كان‏ ‏رئيسا‏ ‏للوزارة، ‏وكان‏ ‏من‏ ‏البديهى ‏أن‏ ‏يرأس‏ ‏الوفد‏ رئيس الوزارة

وعلى ‏ذكر‏ ‏التاريخ‏ ‏ومفارقاته‏ ‏ذكر‏ ‏الاستاذ‏ ‏ثانية‏ ‏كيف‏ ‏أنه كثيرا ما‏ ‏تسمى ‏عصر ما‏ ‏باسم المستضعفين فيه وليس باسم الطغاة‏، وعلى ‏ذكر سعد‏ ‏زغلول‏ ‏يحكى‏ ‏الاستاذ‏ ‏أنه‏ ‏حين‏ ‏كان‏ ‏سكرتيرا‏ ‏لعلى ‏عبد‏ ‏الرازق‏ (‏عرفه‏ ‏عن‏ ‏طريق‏ ‏الشيخ‏ ‏مصطفى ‏عبد‏ ‏الرازق‏)، ‏يذكر‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ عنده فى مكتبه ليوقع‏ ‏بعض‏ ‏الأوراق، ‏ودخل‏ ‏عليه‏ ‏أحد‏ ‏وزراء‏ ‏”عدلى ‏يكن”، ‏وعرّفه‏ ‏الوزير‏ ‏بالاستاذ، ‏فحسبه‏ ‏من‏ ‏عائلة‏ ‏محفوظ‏ ‏أحد‏ ‏أقطاب‏ ‏الأحرار‏ ‏الدستوريين، ‏فقال‏ ‏له‏ ‏بالحرف‏ ‏الواحد‏ “‏شوف‏ ‏يا‏ ‏سيدى ‏عايزين‏ ‏يخرّجوا‏ ‏الإنجليز!!! ‏دول‏ ‏هـمّا ‏يخرجوا‏ ‏النهارده، ‏واحنا‏ ‏وراهم‏ ‏بكره”، ‏ويضيف الاستاذ:‏ ‏إن‏ ‏نسبة‏ ‏كثيرة‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الصفوة‏ (‏أصحاب‏ ‏المصالح‏) ‏كانت‏ ‏تقول‏ ‏إن‏ ‏أعباء‏ ‏الاستقلال‏ ‏كبيرة‏ (‏جيش‏ ‏وأسطول‏ ‏وطيران‏.. ‏الخ‏)، ‏وكانت‏ ‏تفكر‏ ‏فى ‏صورة‏ ‏مثل‏ ‏صور‏ ‏الدومينكون، ‏وأن‏ ‏كثيرا‏ ‏منهم‏ ‏كانوا‏ ‏يستكثرون‏ ‏الإستقلال‏ ‏على ‏مصر‏، فذكرت‏ ‏له‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏كان‏ ‏موقف‏ ‏بعض‏ ‏العامة‏ ‏أيضا، ‏وحكيت‏ ‏له ما حكاه لى والدى عن زميل له مدرس لغة عربية كان ما زال معمما، زميله فى مدرسة العباسية الابتدائية فى الثلاثينات، وقد أعلن هذا الشيخ من  مزاعم موقع العارف ببواطن الأمور عن رأيه فيما ما ينتظر مصر بعد هذا الاستقلال، أعلن تحفظه على قدرة مصر لإدارة شؤونها، (ربما بمناسبة معاهدة 1936)‏ ‏وقال‏ الشيخ زميل والدى ‏فى ‏ذلك‏ ‏كلاما‏ ‏أشبه‏ ‏بما‏ ‏قاله‏ ‏وزير عدلى يكن فى مكتب على عبد الرازق للأستاذ من حيث أننا لسنا أهلا لتحمل مسئولية الاستقلال، وساء موقف هذا الشيخ زملاءه فى المدرسة، وكان من بينهم شاعر ظريف نظم فيه شعرا حكاه لى والدى، وما زلت أذكر نصه، وطلب منى الأستاذ روايته إن كنت أذكره، فقلت أن الشاعر الساخر هجا زميله المعترض على استقلال مصر  قائلا:

خَرِفَ‏ ‏الشيخٌ‏ ‏فضلا         ‏ رام‏ ‏يعلو‏ ‏فتدلـَّى

ماله‏ ‏وهو‏ ‏إبن‏ ‏مصر‏           ‏ساءه‏ ‏أن‏ ‏تستقلاَّ

من‏ ‏لـِرِجْلى ‏بقفاه‏ ‏            إنه‏ ‏يصلح‏ ‏نعلا

ويضحك‏ ‏الأستاذ مبتهجا‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏الهجاء‏ ‏الظريف، وبالذات من وصف الشاعر للشيخ الذى لا يسره أن تنال مصر استقرارها وكيف أن “قفاه” يصلح نعلا‏، ولم‏ ‏أذكر‏ ‏له‏ ‏أن‏ ‏والدى ‏كان‏ ‏يربط‏ ‏هذه‏ ‏الحادثة‏ ‏باستجابة‏ ‏جدتى ‏لأمى (‏حماته) ‏حين‏ ‏دخل‏ ‏عليها‏ ‏فرحا‏ ‏مهللا‏ ‏فى نفس المناسبة وهو يصيح‏: ‏”مصر‏ ‏استقلت‏ ‏يانينة”، ‏فمصمصت‏ ‏شفتيها ‏آسفة وقالت وهى تخبط صدرها‏: “‏يا‏ ‏عيني‏!!” (‏وكان‏ ‏والدى ‏قد فسر‏ ‏لنا ذلك‏ أنها‏ ‏فهمت‏ ‏كلمة “استقلت”‏ ‏على ‏أنها‏ ‏من‏ ‏القليل‏ ‏والقلة وليس من “الاستقلال”)

وانتقل‏ ‏الحديث‏ ‏إلى ‏عرابى، ‏وأنه‏ ‏أيضا‏ ‏اتهم‏ ‏بأنه‏ ‏استُعْمِلَ‏ ‏ضمن‏ ‏مؤامرة‏ ‏ما‏، وقلت‏ ‏رأيى فى أن ‏‏هؤلاء‏ ‏الناس‏ التاريخيين ‏لا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نكتفى ‏بتقييم‏ ‏حماسهم‏ ‏وحسن‏ ‏نيتهم،‏ ‏كما‏ ‏لا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نتغافل عن أخطائهم ‏‏‏مهما‏ ‏بدت‏ ‏الشهامة‏ ‏ومهما وعدت‏ ‏البدايات، ‏وأثار أحدهم احتمال ‏ ‏مقارنة‏ ‏تثبت‏ ‏أن‏ ‏ثمة‏ ‏شبه‏ ‏بين‏ ‏عرابى ‏وعبد‏ ‏الناصر، ‏وأن‏ ‏عرابى – ‏مثلا‏- ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏يفهم‏ ‏لا‏ ‏فى ‏الحرب‏ ‏ولا‏ ‏فى ‏السياسة‏، وأنه أقدم على ما ليس فى قدرته مثلما فعل عبد الناصر سنة 67، وأن ثورة عرابى لم تكن ثورة بل كانت “هوجة” تماما مثلما كانت ثورة 1952 “حركة مباركة” وليست ثورة. ودافع‏ ‏بعض‏ ‏الجلوس‏ ‏عن‏ ‏فكرة‏ ‏الثورة‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏خابت، ‏وانتقل الحديث إلى ‏عبد‏ ‏الناصر ‏وكيف‏ ‏أنه‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏حرك‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏القوّات‏ ‏قبل‏ 5 ‏يونيو، ‏عاد‏ ‏يؤكد بعد أن حدث ما حدث ما معناه: أنه “ما كنشى قصده”، و:‏ “‏أنه‏ ‏والله‏ ‏العظيم‏ ‏ما‏ ‏كان‏ ‏ينوى ‏الحرب‏” ‏ولم يوافق أكثر الجلوس على هذا الهجوم هكذا بعد كل هذه السنين والإنجازات، وقرأت وجه توفيق صالح وشعرت أنه من أكثر المعارضين للهجوم على عبد الناصر هكذا.

وعلى ‏ذكر‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يصح‏ ‏إلا‏ ‏الصحيح‏ ‏قلت‏ ‏للأستاذ‏: ‏ألا‏ ‏يظن‏ – ‏مثلما‏ ‏أظن‏- ‏أن‏ ‏إسرائيل‏ ‏تحمل‏ ‏مقومات‏ ‏هدمها‏ ‏حين‏ ‏تجمعت‏ ‏هكذا‏ ‏بعد‏ ‏شتات، ‏فجمعت‏ ‏خليطا‏ ‏من‏ ‏البشر‏ ‏بلا تجانس ثقافى كافٍ، وكل ما يجمع ناسها ليس إلا‏‏ ‏‏مزاعم‏ ‏دينية‏ ‏‏هشه‏، وأضفتُ أننى أتصور أنه مهما بلغت قوتهم المادية والحربية، أنه سوف يظل أساس تجمعهم هكذا ضد التاريخ، فرد علىّ الأستاذ قائلا: إن ‏هذا‏ ‏يتوقف‏ ‏على ‏ماذا‏ ‏يفعلون، ‏وماذا‏ ‏سيفعلون، ‏لا‏ ‏أحد‏ ‏يحصل على ‏ ‏مقومات‏ ‏وجوده تبعا ‏لما‏ ‏يقوله‏ ‏التاريخ منفصلا عن الحاضر، ‏وإنما‏ ‏الذى ‏يحدد‏ ‏مصير‏ ‏الأمم‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏تقوم‏ ‏به‏ ‏فعلا‏ ‏الآن‏، ومدى تناسبه‏ ‏مع‏ ‏مقتضيات‏ ‏العصر‏ ‏ومع‏ ‏خير ‏ناسهم واحتياجاتهم، قلت‏ ‏له‏ ‏إن‏ ‏مجرد‏ ‏الشعور‏ ‏بالتميز‏ ‏يحكم‏ ‏عليهم‏ ‏بالفناء، ‏فما‏ ‏لا‏ ‏يصلح‏ ‏لكل‏ ‏الناس‏ ‏لن‏ ‏يصلح‏ ‏لأحد بما فى ذلك ناسهم، وأن التاريخ ينحاز لمن ينحازون لصالح المجموع، أى أن استمرار أية مجموعة من الناس إنما يتوقف على اتجاه سهم ما ‏يتجهون‏ ‏نحوه‏ ‏وما‏ ‏يعدون‏ ‏به البشر كافة فى نهاية النهاية، ‏وقال‏ ‏”حافظ عزيز”‏ ‏مندفعا‏ ‏إن‏ ‏هذه‏ ‏القبـَلية‏ ‏مرفوضة‏ ‏حتى ‏على ‏المستوى ‏البيولوجى، ‏فلو‏ ‏أن‏ ‏خلية‏ ‏من‏ ‏خلايا‏ ‏الجسم‏ ‏حاولت‏ ‏أن‏ ‏تتميز‏ ‏و‏أن‏ ‏تتفوق‏ ‏على ‏الخلايا‏ ‏اللاتى ‏لا‏ ‏تمثلها‏ ‏لماتت‏ ‏لتوها، ونبهته‏ ‏أن‏ ‏الذى ‏يحكم‏ ‏علاقة‏ ‏خلايا‏ ‏الجسم‏ ‏ببعضها‏ ‏ليس‏ ‏التماثل‏ ‏وإنما‏ ‏التكامل والتكافل،‏ ‏فمن‏ ‏المستحيل‏ ‏‏أن‏ ‏تكون‏ ‏الخلية‏ ‏الكبدية‏ ‏مثل‏ ‏خلية‏ ‏المخ‏ ‏مثل‏ ‏خلية‏ ‏الأظافر، ‏لكن‏ ‏الذى ‏يجمع‏ ‏هذه‏ ‏الخلايا‏ ‏هو‏ ‏الوجود‏ ‏الحيوى ‏المتكامل‏ ‏فى ‏جسد‏ كائن حى ‏يقال‏ ‏له‏ ‏إنسان، وأن الخلية التى تختلف عن جارتها دون تكافل، ليس بالضرورة أن يكون مصيرها الموت فهى قد تتوحش بغباء حتى تنقلب سرطانا يقضى على حياة الكائن كله بكل خلاياه، وهى ضمن ذلك.

ثم يعود الحديث إلى التاريخ ويدور ‏حول‏ ‏كتابة‏ ‏الأناجيل، ‏ويقال أنها‏ ‏تربو‏ ‏على ‏الأربعين، ‏وإلى درجة أقل تناقش كتابة‏ ‏الأحاديث، ‏ويذكرنا أحدهم أن ‏ ‏حادثة‏ ‏المائدة‏ ‏التى ‏نزلت‏ ‏من‏ ‏السماء‏ ‏لم‏ ‏ترد‏ ‏أصلا‏ ‏فى ‏بعض‏ ‏الأناجيل، ويقول‏ ‏توفيق‏ ‏صالح‏ ‏إنه‏ ‏أجرى ‏تجربة‏ ‏على ‏طلبة‏ ‏معهد‏ ‏السينما‏ ‏أيام‏ ‏كان‏ ‏يحاضر‏ ‏فيها‏ ‏وذلك‏ ‏بأن‏ ‏عرض‏ ‏عليهم‏ ‏مشهدا‏ ‏قصيرا‏ (‏بضع‏ ‏دقائق‏) ‏ثم‏ ‏طلب‏ ‏منهم‏ ‏أن‏ ‏يعيدوا‏ ‏هذا‏ ‏المشهد، ‏فكانت‏ ‏النتيجة‏ ‏أنه‏ ‏لم‏ ‏تتماثل‏ ‏حكاية‏ ‏واحد‏ ‏منهم‏ ‏مع‏ ‏الآخر‏.‏

وينبهنا‏ ‏الأستاذ‏ ‏أن‏ ‏المقارنة‏ ‏تحتاج إلى وقفة لنتبين الفرق، وأنه‏ ‏علينا‏ ‏أن‏ ‏نتذكر‏ ‏أن‏ ‏الرواة‏ ‏قديما‏ ‏كانوا‏ ‏يتمتعون‏ ‏بذاكرة‏ ‏خاصة‏ ‏وفائقة، ‏لانعدام‏ ‏وسائل‏ ‏التسجيل‏ ‏الأخرى، ‏فأذكر‏ ‏له‏ ‏إسم‏ ‏الكتاب‏ ‏المترجم‏ عن “الحضارة ‏الشفاهية‏ ‏والحضارة الكتابية”([31])، ‏ولا ننتهى إلى اتفاق جامع،‏ و‏تظل‏ ‏مصداقية‏ ‏التاريخ‏ ‏رهن‏ ‏المناقشة‏.‏

ونعود‏ ‏إلى ‏الإشارة‏ ‏التى ‏ذكرتها‏ ‏عقب‏ ‏عودتى ‏من‏ ‏أسيوط‏ ‏ ضمن ممثلى لجنة الثقافة العلمية عن‏ ‏ ‏اللغة‏، وكيف أن اللغة هى نبض‏ ‏غائر‏ ‏فى ‏البيولوجيا، ‏وأنها ‏تتشكل‏ ‏فى ‏الكلام‏ ‏حسب‏ ‏اللسان، ‏وأن ‏ ‏القرآن‏ الكريم حين ‏نزل‏ ‏فى الجزيرة العربية ‏ ‏أطلق‏ ‏سراح هذه‏ ‏البيولوجيا‏ ‏اللغوية‏ لأهل‏ ‏هذا‏ ‏اللسان‏ ‏فاقتربوا‏ ‏من‏ ‏فطرتهم‏ ‏فأسلموا، ‏وأكرر دهشتى وإعجابى بهؤلاء الذين لا يتقنون العربية ثم يسلمون، وعادت الإشارة إلى إسلام السفير الألمانى “‏مراد‏ ‏هو‏فمان‏” وما وصلنى من كتابه الذى أشرت إليه سالفا ([32]) وكيف أنه التقط نبض القرآن الكريم هكذا وهو ليس عربيا، وأُعْلـِنُ خجلى من، وأسفى على، ‏أهل‏ ‏اللسان‏ ‏العربى ‏الذين‏ ‏تنازلوا‏ ‏عن‏ ‏إعادة‏ ‏معايشة‏ ‏لغة‏ ‏قرآنهم‏ ‏وأهدروا‏ ‏هذه‏ ‏الفرصة‏ ‏النادرة، ‏ولم‏ ‏يعجب‏ ‏الكلام‏ ‏بعض‏ ‏الجلوس، ‏ووصلنى‏ ‏تعليق‏ ‏الأستاذ‏ من درجة هزة رأسه كنوع‏ ‏من‏ “‏الموافقة‏ ‏المحدودة‏”، ‏وهذا‏ ‏هو‏ ‏طبعه‏ ‏الغالب‏ ‏حين‏ ‏لا‏ ‏يريد‏ ‏الإعتراض‏ ‏الصريح‏.‏

كانت‏ ‏معنا‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏اليوم‏ ‏د‏. ‏مها‏ ‏وصفى ‏وزوجها‏ ‏الطيار‏ ‏محمد، ‏وقد‏ ‏ذكرت‏ ‏بعض‏ ‏حوارها‏ ‏مع‏ ‏شخص ‏مسيحى ‏لم‏ ‏تجد‏ ‏بينها‏ – ‏وهى ‏المسلمة‏ ‏المحجبة‏ – ‏وبينه‏ ‏فروقا‏ ‏تذكر‏ ‏إذا‏ ‏قيست‏ ‏المسألة‏ ‏بمقاييس‏ ‏الفطرة‏ ‏والبسط‏ ‏والإبداع‏ ‏والتوجّه‏ ‏للخير، ‏وقلت‏ ‏للأستاذ‏ ‏هل‏ ‏يذكر‏ ‏مسألة‏ ‏القيم‏ والأخلاق ‏الجديدة‏ ‏التى تصورتُ، أو أملتُ أنها قادمة لا محالة وكنت قد ‏عدَّدْتـُها له، وبينّت كيف أننى أعتقد أنها ‏على ‏وشك‏ ‏الولادة‏ ‏مع‏ ‏هذه‏ ‏التغيرات‏ ‏العملاقة‏ ‏فى “‏الوسائل‏” الحديثة، ثم الأحدث فالأحدث، ‏وأكملت‏: ‏إننى ‏أحسب‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏القيم‏ ‏الجديدة‏ ‏سوف‏ ‏تقع‏ ‏فى ‏منطقة‏ ‏ما‏ من الوعى البشرى بحيث ‏تكرس‏ ‏كلا‏ ‏من‏ “‏الإيمان”‏ ‏و”الواقعية‏” ‏حالة‏ ‏كونهما‏ ‏متجهين‏ ‏إلى ‏”عدل‏ ‏ممكن‏” (‏ولو نسبى‏) ‏إذ‏ ‏يبدو‏ ‏أن‏ ‏العدل‏ (‏وهو‏ ‏اسم‏ ‏الله‏) ‏هو‏ ‏قيمة‏ ‏جاذبة‏ ‏إليه (إلى الله)، ‏لكن يبدو أنها ‏ليست‏ ‏ممكنة‏ ‏التحقيق‏ ‏”هنا‏ ‏والآن” (حالا). وأضيف أن ‏العدل‏ ‏هو‏ ‏احتمال‏ ‏دائم‏ ‏الحضور، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏ناقص‏ ‏التجلى، ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏فى ‏كل‏ ‏حال‏ ‏دائم‏ ‏الجذب‏ ‏إليه، ‏والله‏ (‏العدل‏ سبحانه) ‏هو‏ ‏أيضا‏ ‏كذلك، ‏دائم‏ ‏الحضور‏ ‏دائم‏ ‏النداء‏ ‏إليه، ‏وهذا غير‏ ‏الوصول‏ ‏إليه، ‏ولم‏ ‏أستطع‏ ‏أن‏ ‏أشرح‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏ذلك، ‏وحين‏ ‏يصل‏ ‏الحوار‏ ‏إلى ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏التنظير‏ ‏يتوقف‏ ‏الأستاذ‏ ‏عن‏ ‏التحاور، ‏فقد‏ ‏لاحظت‏ ‏أنه‏ ‏ذو‏ ‏حضور فلسفى، ‏وتوجه‏ ‏فلسفى، ‏وإيحاءات‏ ‏فلسفية، ‏لكنه‏ ‏قادر‏ ‏على ‏أن‏ ‏يصيغ‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏فى ‏لغة‏ ‏غير‏ ‏فلسفية، ‏لغة‏ ‏عادية‏ ‏أشد‏ ‏ما‏ ‏تكون‏ ‏العادية، ‏وهذا‏ ‏من‏ ‏أروع‏ ‏ما‏ ‏عرفته‏ ‏من‏ ‏تجلياته‏ ‏فى ‏الفعل‏ ‏اليومى، ‏فى ‏القول‏ ‏اليومى، ‏فى ‏السرد‏ ‏اليومى.‏

ونرجع‏ ‏إلى ‏حضور‏ ‏الدكتورة‏ ‏مها‏ ‏وصفى ‏وما‏ ‏جرنا‏ ‏إليه‏ ‏من‏ ‏حديث‏ ‏عن‏ ‏خبرة‏ ‏وروعة‏ “‏الولادة‏” (‏البيولوجية‏) ‏وكيف‏ ‏أن‏ ‏التدخل‏ ‏الطبى ‏الحديث‏ ‏بالتخدير‏ ‏شبه‏ ‏الحتمى ‏عند‏ ‏الولادة‏ ‏قد‏ ‏حرم‏ ‏الأمهات‏ ‏من‏ ‏معايشة‏ ‏هذه‏ ‏الخبرة، ‏ويعترض‏ ‏توفيق‏ ‏صالح‏ ‏محتجا‏ ‏من‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏آلام‏ ‏الولادة‏ ‏كما‏ ‏عاينها‏ ‏ويسمع‏ ‏عنها‏ ‏هى ‏خبرة‏ ‏رائعة كما تقول د. مها، ‏وأنبهه‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏الألم‏ ‏ليس‏ ‏مناقضا‏ ‏لروعة‏ ‏الخبرة‏ ‏وعمقها، ‏وأحيله‏ ‏إلى ‏الدكتورة‏ ‏مها‏ (‏وعندها‏ ‏طفلان‏)، ‏فتتحدث‏ ‏عن‏ ‏خبرتها‏ ‏أثناء‏ ‏الولادة، ‏وأنها‏ ‏كانت‏ ‏على ‏يقين‏ ‏من‏ ‏الفرج القريب، ‏ومن‏ ‏عبور‏ ‏القادم‏ ‏المضيق‏ ‏بسلام‏ ‏بفضل‏ ‏الله، ‏فيؤكد‏ ‏توفيق‏ ‏صالح‏ ‏أن‏ ‏ذلك‏ ‏تفسير‏ ‏عقلانى ‏يستند‏ ‏إلى ‏موقف‏ ‏دينى، ‏لكن‏ ‏الألم‏ ‏الذى ‏لا‏ ‏يخففه‏ بالضرورة ‏هذا‏ ‏اليقين‏ ‏الدينى ‏هو‏ ‏ألم‏ ‏بكل‏ ‏ما‏ ‏تحمل‏ ‏هذه‏ ‏الكلمة‏ ‏من‏ ‏معنى، ‏فأعود‏ ‏أحاول أن أوصّل له‏ ‏موقفى ‏من‏ ‏أن‏ ‏الألم‏ ‏لم‏ ‏يصبح‏ ‏كذلك‏ ‏فى ‏أغلب‏ ‏حالات‏ ‏الولادة‏ ‏العادية‏ ‏إلا‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏انفصلت‏ ‏الأم‏ (‏الانثى‏) ‏عن‏ ‏الطبيعة، ‏وافتقدت‏ ‏الأم‏ ‏إلى ‏التدريب‏ ‏على برامج الحركية المرنة، بما فى ذلك ‏حركية‏ ‏الدخول‏ ‏والخروج، ‏التى تتجلى فى مخاض الولادة الذى يتراوح بين الاحتواء‏ ‏والسماح‏.. ‏الخ‏.‏ ‏وحكيت‏ ‏عن‏ ‏معلوماتى فى باريس عن مراكز التدريب على ‏ “‏الولادة‏ ‏بدون‏ ‏ألم”، ‏ ‏وعن‏ ‏الخبرة‏ ‏التى ‏وصفتها ‏بعض‏ ‏الأمهات‏ من ‏أنهن يصلن‏ ‏إلى “‏ذروة هزة‏ ‏الجماع‏” ‏أثناء‏ ‏الولادة، ‏ثم عن‏ مساعدة أمىّ ‏خالتى “‏صِدّيقة‏” (سديقه) ‏التى ‏ذهبت‏ ‏تجمع‏ ‏بعض‏ ‏الملوخية‏ لأمى ‏من‏ ‏حقول‏ ‏القطن‏ وهى فى شهرها التاسع، ثم عادت‏ ‏تحمل‏ ‏وليدها‏ ‏الذى ‏ولدته‏ ‏وحدها‏ ‏فى ‏الحقل، ‏فلفته‏ ‏فى ‏طرحتها، ‏وربطت‏ ‏الحبل‏ ‏السرى ‏بنفسها، ‏وتخلصت‏ ‏من‏ ‏”الخلاص” فى الترعة‏ ‏بمعرفتها، ‏ثم‏ ‏وضعت‏ ‏طفلها‏ ‏فى “المشنة‏”ـ فوق ‏الملوخية‏، ‏وعادت‏ ‏تحمله‏ ‏على ‏رأسها‏ ‏إلى ‏الدار‏ ‏سائرة‏ ‏على ‏قدميها فى نشاط رائع وفرحة غامرة.

ويجرنا‏ ‏هذا‏ ‏الحديث‏ ‏إلى ‏تفسيرى ‏لطقوس‏ ‏السبوع، ‏وكيف‏ ‏أن‏ ‏الولادة‏ ‏النفسية‏ ‏تتأخر‏ ‏كثيرا‏ ‏عن‏ ‏الولادة‏ ‏الجسدية، ‏وأضيف أن‏ ‏هذا‏ ‏أيضا‏ ‏من‏ ‏ضمن‏ ‏التشوهات‏ ‏التى ‏لحقت‏ ‏بالعملية‏ ‏الإنجابية، ‏إثر‏ ‏الإنفصال‏ ‏عن‏ ‏الطبيعة، ‏فراح‏ ‏الحدْس‏ ‏الشعبى ‏يستلهم‏ ‏وجدانه‏ ‏فألف‏ ‏هذه‏ ‏الطقوس‏ ‏التى ‏يريد‏ ‏بها‏ ‏أن‏ ‏يشحذ‏ ‏إنتباه‏ “‏الأم‏” ‏حتى ‏تدرك‏ ‏أن‏ ‏ما‏ ‏كان‏ ‏بداخلها‏ ‏قد‏ ‏أصبح‏ ‏خارجها، ‏قلت‏: ‏إن‏ “‏دق‏ ‏الهون‏” ‏هو‏ ‏للأم‏ ‏وليس‏ ‏للطفل، ‏ثم‏ ‏إنهم‏ ‏يطلبون‏ ‏من‏ ‏الأم‏ ‏أن‏ ‏تخطى ‏وليدها‏ ‏فى ‏الغربال‏ ‏سبع‏ ‏مرات، وكأنهم‏ ‏مع‏ ‏كل‏ ‏دقة “هون”، ‏ومع‏ ‏كل‏ ‏خطوة (وتخطية) ‏ ‏يقولون‏ ‏لها‏ “‏هذا‏ ‏هو‏ ‏طفلك‏ ‏خارجك‏ – ‏صـدّقى ‏أن‏ ‏ما‏ ‏كان‏ ‏بالداخل‏ ‏ملكك‏ ‏وحدك، ‏أصبح‏ ‏كيانا‏ ‏مستقلا‏ ‏منفصلا‏ ‏عنك”، ‏وأضفت‏ ‏أننى ‏حاولت‏ ‏أن‏ ‏أعمل‏ ‏بحثا‏ ‏علميا‏ ‏لأثبت بعض هذا، ‏فظهرت‏ ‏النتائج‏ ‏مضحكة، ولم تثبت شيئا، ‏وعزوت ذلك ليس‏ ‏لقصور‏ ‏فى ‏الفرض، ‏ولكن‏ ‏لخيبة‏ ‏فى ‏الطريقة‏ (‏المنهج‏) ‏فسؤال‏ ‏الأم‏ (‏مثلا‏) ‏عن‏ ‏معنى ‏كذا‏ ‏أو‏ ‏كيت، ‏أو‏ ‏عن‏ ‏ما‏ ‏تشعر‏ ‏به‏ ‏إزاء‏ ‏هذا‏ ‏الطقس‏ ‏أو‏ ‏تلك‏ ‏الأغنية‏ “‏برْجَالاتَكْ… برْجَالاتَكْ ‏” ‏”إسمع‏ ‏كلام‏ ‏أمك”‏ (‏ربما لطمأنتها ‏أنه‏ ‏مازال‏ ‏طوع‏ ‏إشارتها‏)، ‏”ولا‏ ‏تسمعشى ‏كلام‏ ‏أبوك، ‏عشان‏ ‏أمك‏ ‏بتعرف‏ ‏عن‏ ‏أبوك‏”.. ‏إلخ‏ ‏حين‏ ‏تُسأل‏ ‏الأم‏ ‏بالألفاظ‏ ‏أثناء‏ ‏إجراء‏ ‏بحث‏ ‏علمى ‏عن‏ ‏كل‏ ‏هذا‏، ‏لابد‏ ‏أن نتوقع أنها سوف تجيب عن أى شىء إلا عن ما يعنيه هذا الفرض من التأكيد على حركية الوصل/الفصل، وعلى برنامج الدخول والخروج، وعن الولادة النفسية..إلخ.

(ملحوظة: أكتب‏ ‏هذه الإضافة‏ ‏يوم‏ 22/3/1995 ‏فى ‏أنطاكيا‏ ‏بتركيا، ‏فى ‏شرفة‏ ‏فندق‏ ‏متواضع‏ ‏اسمه‏ “‏سارة‏”، ‏وقد وجدت‏ ‏فى ‏أوراقى ‏مقتطفا‏ ‏عن‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏لا أعرف متى أثبتّه، حين قال لى: أن ‏‏بعض‏ ‏الأتراك، ‏أو‏ ‏الذين‏ ‏من‏ ‏أصل‏ ‏تركى، ‏كانوا‏ ‏يرددون‏ ‏مازحين‏ ‏أو‏ ‏جادين‏ ‏ردا على ‏من‏ ‏يفخر‏ ‏أن‏ “‏النبى ‏عربى‏” ‏كانوا‏ ‏يردون‏ ‏قائلين‏: ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏النبى ‏عربى.. ‏فربنا‏ ‏تركى!!).

الحلقة الخامسة والأربعون

فى الجو غيم حجب القمر

الأحد: 13/3/1995

هذا مكان غير مناسب، أتأكد أكثر فأكثر أننا لم نوفق فى اختياره، سوف أبحث حتما عن بديل.

 ‏حضر الأستاذ مصطفى ‏أبو‏ ‏النصر، ‏ورجحت أنه ‏ ‏فى ‏مثل‏ ‏سنى ‏أو‏ ‏أكبر‏ ‏قليلا، ‏وهو صديق قديم من أصدقاء الأستاذ وأحد رواد لقاء ‏قصر‏ ‏النيل مع الأستاذ لمدة طويلة (كما فهمت)، ‏كان‏ ‏معه‏ ‏م‏. ‏نعيم‏ ‏صبرى، ‏وزكى ‏سالم، ‏كان‏ ‏الضوء‏ ‏الأبيض‏/النيون‏ ‏(أو‏ ‏النايلون‏ ‏كما‏ ‏يسمونه‏ ‏فى ‏بلدنا‏) ‏سىء ومزعج، ‏شغلنى ‏على ‏الأستاذ‏ ‏قليلا‏ ‏أو‏ ‏كثيرا، ‏وجاء‏ ‏ذكر‏ ‏الحلم الذى حكاه‏ ‏الأستاذ يوم الجمعة وظهر فيه عبد الناصر، ثم بادر الأستاذ يحكى ‏‏ حلماً ‏آخر‏ ‏مـر‏ ‏به‏ ‏فى ‏قيلولة‏ ‏اليوم ‏ ‏قال‏:‏

حلمت‏ ‏أنى ‏وكل‏ ‏أفراد‏ ‏أسرتى (‏الصغيرة‏) ‏قد‏ ‏دخلنا‏ ‏بهوا‏، ‏وإذا‏ ‏به‏ ‏مثل‏ ‏المسرح‏ ‏الدائرى، ‏وكان‏ ‏الممثلون‏ ‏يروحون‏ ‏ويجيئون‏ ‏بلا‏ ‏حدود‏ ‏فاصلة‏ ‏بين‏ ‏المسرح‏ ‏والمشاهدين‏ ‏الذين‏ ‏لم‏ ‏يتجاوزونا‏ ‏على ‏حد‏ ‏إدراكى ‏حينئذ، ‏واختلط‏ ‏المتفرجون (‏نحن‏) ‏بالممثلين،‏ ‏حتى ‏حصلت‏ ‏ربكة‏ ‏بدأت‏ ‏تتصاعد‏ ‏معها‏ ‏مخاوفى ‏ورهبتى ‏ودهشتى، ‏الممثلون‏ ‏ذاهبون‏ ‏عائدون، ‏ونحن‏ ‏كما‏ ‏ذكرت، ‏ولم‏ ‏ينقذنى (‏ينقذنا‏) ‏من‏ ‏هذا‏ ‏الموقف‏ ‏إلا‏ ‏فتح‏ ‏الأبواب‏ ‏ودخول‏ ‏الناس، ‏فاطمأننت، ‏وصحوت

طبعا لم يخطر فى بالى أى تفسير، وكم مرة قبل ذلك أعلنت للأستاذ موقفى الرافض لمبدأ تفسير الأحلام أصلا من ابن سيرين حتى فرويد، ومع ذلك قلت وأنا أؤكد أننى أمزح: إننى أقرأ هذا الحلم كأننا ‏نحن‏ ‏الممثلون‏ ‏وقد اقتحمنا‏ ‏بيتك الكريم‏ ‏الذى ‏كان‏ ‏لا يقترب منه إلا أقرب الأقربين وبإذن خاص جدا‏ (‏قبل‏ ‏نوبل‏)، لكن الحادث والصداقة سمحا لنا أن نلتف حولك بهذه العشوائية الطيبة المحبة اللحوح، ومع ذلك فنحن نبدو كأننا نقوم بأدوار مرسومة، ليس بمعنى التمثيل، وإنما بسماح التدخل والالتزام وغير ذلك، أدوار يختلط‏ ‏فيها‏ ‏المتفرج‏ ‏بالممثل، ‏وكأننا‏ ‏رغم‏ ‏حسن‏ ‏النوايا‏ والحب الحقيقى – ‏نحول‏ ‏بينك‏ ‏وبين‏ ‏الناس من جهة، وفى نفس الوقت نقلق خصوصية أسرتك الطيبة الصغيرة من جهة أخرى، ‏صحيح‏ ‏أننا ناس من الناس، ولكننا لا نمثل الناس الذين هم نسيج وعيك الشخصى والإبداعى، ‏ويبدو‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الموقف‏ ‏يضجرك‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر، ‏ولن‏ ‏ينقذك‏ ‏مـنا‏ ‏إلا‏ ‏الناس‏ ‏الحقيقيين‏.‏

وابتسم‏ ‏الأستاذ ولم يعلق، ولم يعلق أحد، وخجلت من نفسى، كيف أرفض فكرة التفسير ثم أقوم بمحاولة تفسير الحلم هكذا؟!!

وعاد الحديث مرة أخرى إلى‏ ‏حادث‏ 4 ‏فبراير، (أو لعله طرق لأول مرة، لا أذكر)، وكيف قبل النحاس أن يضغط الانجليز على الملك وكأنهم يفرضونه عليه، وفى الحقيقة أنهم كانوا يعملون لصالحهم، وهو فى نفس الوقت يقبل لصالح بلده مع وعى كامل بحدود المحتل، وأعاد الأستاذ دفاعه ‏عن‏ ‏النحاس‏ ‏باشا‏ ‏دفاعا‏ ‏مجيدا، ‏وقال‏ ‏إنه‏ ‏أنقذ‏ ‏الشرعية، ‏وأنقذ‏ ‏البلد، ‏ورفض‏ ‏المساومة، ‏وتأكدت من جديد أنه أحب ويحب النحاس مثلما أحب سعد زغلول، وإن اختلف نوع الحب.

ثم سألنى الأستاذ عن عمرى أيام هذا الحادث (1942) فقلت أننى كنت حول الثامنة، أو التاسعة، وحكيت للأستاذ ‏ ‏كيف‏ ‏دخلت‏ ‏المدرسة‏ ‏متأخرا‏، وكيف قاومت محاولات والدى حتى سن الثامنة، مع أنى الولد الأصغر بين إخوتى الأربعة الذكور المتتالين تباعا (مات أحدهم وأنا فى الثالثة) وبعدى بنتان، وكيف أن أبى جرجرنى جرا ذات صباح لإرغامى ‏على ‏الذهاب‏ ‏إلى ‏المدرسة‏، حتى إذا وصلنا قرب بابها يئس منى وتركنى أعدو وحيدا عائدا إلى البيت دون أن ينشغل على احتمال توْهى، وأنى رجعت عدوا إلى البيت لست أدرى كيف، ‏وحكيت أيضا كيف شاطنى ‏أبى ذات صباح ونحن فى طنطا ‏وأنا فى ‏الصالة‏ أقاوم الذهاب للمدرسة ‏فتدجرت‏ ‏حتى ‏وجدت‏ ‏نفسى ‏على ‏أرضية‏ ‏الحمام، ‏وحين‏ ‏غلب‏ ‏غلابه‏ ‏أخذ‏ ‏يعلمنى ‏بعض‏ ‏الحروف‏ ‏والأرقام‏ ‏والحساب‏ ‏بالمنزل‏، ‏وأذكر‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏يعطينى ‏ثلاثة‏ ‏جنيهات مصروف الشهر أصرف منه على طلبات أمى طول الشهر، ‏وأكتبها، وأجمع وأطرح، وكان يتبقى من هذا المبلغ بعض القروش، فى حين كان مرتب والدى آنذاك، ‏ ‏خمسة‏ ‏عشر‏ ‏جنيها‏ ‏بالتمام والكمال، وكان بمثابة ثروة كاملة، يوفر منها ما يسمح له بشراء أرض جديدة بين الحين والحين، وكان ثمن ‏ ‏الفدان‏ ‏يتراوح‏ ‏ما‏ ‏بين‏ ‏اربعين‏ ‏جنيها‏ ‏وثمانين‏ ‏فى ‏تلك‏ ‏الأيام‏.‏

ويذكر‏ ‏الأستاذ‏ ‏أن‏ ‏مرتبه‏ ‏كان‏ ‏ثمانية‏ ‏جنيهات‏ ‏أول‏ ‏تعيينه‏ ‏وأن‏ ‏هذا‏ ‏المبلغ‏ ‏كان‏ ‏ثروة‏ ‏خطيرة، ‏وبدأت‏ ‏الأسعار‏ ‏تتحرك‏ ‏مع‏ ‏قدوم‏ ‏الحلفاء، ‏ونرجع إلى حادث 4 ‏فبراير‏‏، ولا يضجر الأستاذ من تكرار استنكار الحادث من أحد السائلين غيرى، لا أذكر من، ويعيد الأستاذ أن النحاس باشا حين قبل الوزارة، نجح‏ ‏أن‏ ‏يسد‏ ‏الباب‏ ‏أمام‏ ‏ذلك‏ ‏النداء‏ ‏الذى ‏صار‏ ‏يسرى ‏بين‏ ‏الناس‏ ‏يقول‏ “‏إلى ‏الأمام‏ ‏ياروميل‏”، وكأن ‏ ‏النازى ‏هو القادر أن ينقذنا من الاحتلال، وهذا ضد الموقف الوطنى للوفد والنحاس، وربما كان الملك يؤازر هذا الحل الإحلالى، احتلال مكان احتلال، وأنه كان يميل إلى أن ينتصر الألمان، برغم أنه لا يمكن التأكد من ذلك، لا أيامها ولا بعد ذلك، قلت‏ ‏للأستاذ‏ ‏اننى ‏فى ‏هذه‏ ‏الفترة‏ ‏كنت‏ ‏أسمع‏ ‏نداءات‏ ‏وأغان مضادة‏ ‏وكأنها‏ ‏معمولة‏ ‏قصدا‏ ‏لتوازن‏ ‏القوى، ‏فعندنا‏ ‏فى ‏بلدنا‏ ‏كان‏ ‏الأطفال‏ ‏يرددون‏” ‏يا‏ ‏هتلر‏ ‏يا‏ ‏بن‏ ‏المـَارَهْ (المرَةْ)‏ ‏خليت‏ ‏الجاز‏ ‏بالكسكارة‏ “(‏التذكرة‏)”، ‏يا‏ ‏هتلر‏ ‏يا‏ ‏بن‏ ‏المجنون‏ ‏خليت‏ ‏الجاز‏ ‏بالكابون”، ‏وكأن‏ ‏هتلر‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏ولع‏ ‏فى ‏الأسعاروليس‏ ‏الحرب‏.‏

ويرجع الأستاذ فجأة إلى التعقيب ‏‏على ‏حكايتى ‏عن‏ ‏المدرسة‏، ويقول إنه كان‏ ‏يعتقد‏ ‏وهو‏ ‏طفل‏ ‏أن‏ ‏المدرسة‏ ‏قد أنشئت خصيصا‏ ‏لعقاب‏ ‏الأطفال‏ ‏الذين‏ ‏لا‏ ‏يسمعون‏ ‏الكلام، ‏و‏حتى ‏لا‏ ‏يتشاقى ‏الأطفال‏ ‏فى ‏البيوت، ‏فكان‏ ‏يذهب‏ ‏إلى ‏والده‏ ‏يعده‏ ‏ويقسم‏ ‏له‏ ‏أنه‏ ‏لن‏ ‏يتشاقى، ‏وبالتالى ‏فلا‏ ‏حاجة‏ ‏به‏ ‏إلى ‏الذهاب‏ ‏إلى ‏المدرسة ([33]).

ثم بذكر أ.‏ ‏مصطفى ‏أبو‏ ‏النصر‏، ربما تعقيبا على مرتب والدى (15 جنيه) ومرتب الأستاذ (8 جنيه)، أنه ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏نشر‏ ‏عدة‏ ‏قصص‏ ‏هنا‏ ‏وهناك،‏ ‏شجّعه‏ ‏أحمد‏ ‏حسن‏ ‏الزيات‏ ‏أن‏ ‏يقدم‏ ‏على ‏نشر‏ ‏قصصه، ‏ففرح، ‏لكن‏ ‏الزيات‏ ‏قال‏ ‏له‏ ‏إن‏ ‏ذلك‏ ‏قد‏ ‏يكلفه‏ ‏عشرة‏ ‏جنيهات، ‏فانزعج‏ ‏انزعاجا‏ ‏شديدا، ‏قائلا‏ ‏فى ‏نفسه‏ “‏يا‏ ‏نهار‏ ‏أسود‏ ‏عشرة‏ ‏جنيهات، ‏إن‏ ‏شاء‏ ‏الله‏ ‏ما‏ ‏اتنشروا‏”، ‏فقد‏ ‏ ‏كان‏ ‏يحسب‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏النشر‏ ‏سوف‏ ‏يعود‏ ‏عليه‏ ‏ببضع‏ ‏جنيهات، ‏لا‏ ‏أن‏ ‏يكلفه‏ ‏عشرة‏ ‏جنيهات، ‏وكانت‏ ‏العشرة‏ ‏جنيهات‏ ‏أيامها‏ ‏ثروة، ‏أيام‏ ‏كانت‏ ‏العشر‏ ‏بيضات‏ ‏بقرش، ‏والثلاث‏ ‏أرطال‏ ‏لحمة‏ ‏بأم‏ ‏عشرة‏، ‏والكبريت‏ ‏يباع‏ ‏مجانا‏ (‏فوق‏ ‏البيعة‏)، ‏مع‏ ‏علبة‏ ‏السجائر، ‏ويذكر‏ ‏الأستاذ‏ ‏أغنية‏ ‏ظهرت‏ ‏أيام‏ ‏صدقى ‏باشا‏ ‏تشير‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏صدقى ‏مسئول‏ ‏عن‏ ‏الغلاء، ‏وعن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏للكبريت‏ ‏ثمنا‏ ‏أصلا‏ ‏وليس‏ ‏مجانيا‏ ‏كما‏ ‏كان‏ ‏يعطى ‏هكذا‏ – ‏على ‏البيعة‏- ‏فوق‏ ‏كل‏ ‏علبة‏ ‏سجائرة، ‏تقول‏ ‏الأغنية‏: (‏يدندنها ‏الأستاذ‏).‏

قالت‏ ‏تعالى ‏بـِيتْ،‏ ‏وادّيك‏ ‏كاسين‏ ‏نبيتْ .. صدقى ‏غـَلـَّى ‏الـكبريتْ،‏‏يحيا‏ ‏النحاس‏ ‏باشا

وألاحظ نطق “بـِيتْ” وليس بيٌت” لضبط النغم والسجع، وأعقب على الحس الشعبى الجميل الذى نجح أن فى تحضير هذه الحزمة الرائعة لحضور وعى الأستاذ ‏بين‏ ‏الحب‏ ‏والمزاج‏ ‏والسياسة‏، ‏وكأن‏ ‏النحاس‏ ‏باشا‏ ‏هو‏ ‏المنقذ‏ ‏القادر أن يرحم‏ ‏الناس‏ ‏من‏ ‏الغلاء الذى سبّبه صدقى باشا، ‏وأشعر‏ ‏كم‏ ‏كان‏ ‏رائعا‏ ‏ألا‏ ‏تختزل‏ ‏الوطنية‏ ‏إلى ‏مواقف‏ ‏جادة‏ ‏متزمته‏ ‏قاهرة‏،(يحيا النحاس باشا).‏

الثلاثاء:15/3/1995

فرح بوت، ذهبت‏ ‏أودع‏ ‏الأستاذ، ‏سوف‏ ‏أسافر‏ ‏إلى سوريا بعد‏ ‏غد، ‏عاد‏ ‏الغيطانى ‏من‏ ‏المغرب، ‏ولم‏ ‏يظهر‏ ‏العقيد، ‏حضر‏ ‏عمدة الجلسة‏ (‏عماد‏ ‏العبودى‏)‏ ‏من‏ ‏روسيا‏ ‏وحسن‏ ‏ناصر موجود وإن كنت غير متأكد هل كان مع العمدة فى روسيا أم لا، ‏وشخص‏ ‏لا‏ ‏أعرفه‏، ثم محمد‏ ‏يحيى ‏وزكى ‏سالم‏ – ‏كان‏ ‏الأستاذ‏ ‏مرحا‏ ‏يسأل‏ ‏جمال ‏ عن ‏القعيد وسفره للمغرب، ثم مازحاً: عما‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏قد‏ ‏أذاع‏ ‏الأخبار‏ ‏للملك‏ ‏الحسن، (‏كما‏ ‏يفعل‏ ‏لنا‏)، ‏ويحكى ‏جمال‏ ‏عن‏ ‏استقبالهم‏ ‏فى ‏المغرب‏ ‏وعن‏ ‏القهر‏ ‏البالغ‏ ‏الإحكام، ‏واستحالة‏ ‏الحصول‏ ‏على ‏معلومات‏ ‏عادية‏ ‏دون‏ ‏إذن‏ ‏رسمى، ‏ويضيف أنه يبدو أن الحكومات العربية قد نجحت، فى الاتفاق على شىء واحد، ‏على ‏اختلاف‏ ‏مواقفها‏ ‏السياسية‏، لكنها اتفقت أن تكون كلها ‏حكومات‏ ‏بوليسية‏ ‏أساسا‏ (‏أكتب‏ ‏هذا‏ ‏الكلام‏ ‏وأنا‏ ‏راجع لتوى‏ ‏من‏ ‏سوريا‏‏) ‏المغرب‏ ‏فى ‏أقصى ‏اليمين،‏ ‏وسوريا‏ ‏على ‏يمين‏ ‏اليسار،‏ ‏والأردن‏ ‏فى ‏وسط‏ ‏اليمين‏ ‏الملكى، ‏ونحن نأخذ قطفة بوليسية من كل فريق حسب مقتضى الحال، ‏المهم‏ ‏حكى ‏الغيطانى ‏عن‏ ‏الجائزة‏ ‏التى ‏يعطيها‏ ‏الملك‏ ‏للكتاب‏ ‏بالفرنسية‏ ‏الذى ‏لم‏ ‏يسعدهم‏ ‏الحظ‏ ‏لنيل‏ ‏جائزة‏ ‏فرنسية‏ ‏معينة‏ (‏لا‏ ‏أذكر‏ ‏اسمها‏) ‏وكان‏ ‏تساؤل‏ ‏الغيطانى ‏والعقيد‏ وسميح‏ ‏القاسم‏ ‏والطيب‏ ‏صالح‏ وقد التقيا بهما هناك بين‏ ‏مجموع‏ ‏الأدباء‏ ‏الذين‏ ‏دعوا‏ ‏من‏ ‏العالم‏ ‏العربى ‏للمشاركة‏ ‏فى ‏حفل‏ ‏الولاء، ‏كان‏ ‏تسائلهم حول هذا الإجراء‏: ‏أليس‏ ‏الأولى ‏هو‏ ‏تخصيص‏ ‏جائزة‏ ‏للكتاب‏ ‏العرب؟ ‏وأسأل متحفظا‏ ‏عن‏ ‏كثرة‏ ‏الجوائز‏ ‏هذه‏ ‏الأيام‏ التى تعطَى ‏من‏ ‏كل‏ ‏صوب‏ ‏وحدب،‏ ‏وهل‏ ‏هذا‏ ‏حافز‏ ‏للإبداع‏ الحقيقى فعلا، أم أنها أصبحت كأنها إحياء لتقليد عطايا‏ ‏الخلفاء‏ ‏والحكام‏ ‏للشعراء‏ ‏أيام‏ ‏زمان‏؟ ألا يوجد سبيل آخر ‏لا‏ ‏يحمل‏ ‏مظنة‏ ‏الدعاية‏ ‏الفجة‏ ‏يمكن‏ ‏للأثرياء‏ ‏العرب‏ ‏المهتمين‏ (‏أو‏ ‏المتصورين‏ ‏أنهم‏ ‏مهتمين‏) ‏بالأدب‏ ‏والإبداع‏ ‏أن يدفعوا به مسيرة الإبداع بشكل مختلف؟ ‏ولم‏ ‏يوافقنى ‏الغيطانى ‏تماما‏، ‏ولم‏ ‏يعلق‏ ‏الأستاذ‏.‏

وانتقل‏ ‏الحديث‏ ‏إلى ‏زيارة‏ ‏الرئيس‏ ‏لليابان، ‏وكان‏ ‏هناك‏ ‏حادث‏ ‏إطلاق‏ ‏النار‏ ‏عندنا من‏ ‏شخص ‏قيل أنه معتوه‏ ‏على ‏أتوبيس‏ ‏سياحى ‏به‏ ‏يابانييون، ‏وكان‏ ‏تعقيب‏ ‏القعيد‏ ‏غير‏ ‏مريح لى، شعرت معه أنه يكره النظام بغض النظر حتى عن ما يلحق بالسياحة من مثل هذا التخريب، وتمنيت، وربما أعلنت، أنه يا ليتنا نستطيع أن نفصل كرهنا أو نقدنا للنظام، عن حرصنا على مصلحة الوطن مهما كان حاكمه، و‏يسأل‏ ‏الأستاذ‏ ‏سؤالا‏ ‏بسيطا‏ ‏مهما‏ ‏هكذا‏ ‏باللفظ‏: ‏ما‏ ‏رأيكم، ‏متى‏ ‏تعتبر‏ ‏زيارة‏ ‏الرئيس‏ ‏لليابان‏ ‏ناجحة؟، وأعتقد أنه كان يعنى: متى تعود على البلد بخير ما؟ ‏وقال‏ ‏كل‏ ‏منا‏ ‏رأيه‏ ‏جدا‏ ‏أو‏ ‏هزلا، ‏حتى قال أحدنا ساخراً (لا أذكر من): “إنها تكون ناجحة ‏ ‏إذا‏ ‏لم‏ ‏يعـد‏ ‏الرئيس‏ ‏من‏ ‏هناك‏ ‏أصلا”، ويضحك الجميع ولا يشاركهم الأستاذ، هذا الرجل يحب البلد مهما كان حاكمها، ونسأله عن إجابته هو، فيقول عن مؤشرات نجاح الزيارة: “إذا زاد حجم التجارة والتصدير إن أمكن، أو إذا زادت الأفواج السياحية، أما الزيارات للزيارات وتبادل الرأى والاتفاق التام على كل شىء، وخصوصا مشكلة الشرق الأوسط، فهذا كلام لا يحتاج إلى تعليق يا خبر!! هذا الرجل يعلمنا طول الوقت!!.

 ‏‏وينتقل‏ ‏الحديث‏ ‏إلى ‏زيارة‏ ‏عماد‏ ‏العبودى ‏لروسيا‏، واشتعال الأسعار هناك، ‏ويقول‏ ‏إن‏ ‏الوجبة‏ ‏التى ‏كانت‏ ‏تتكلف‏ ‏بضع‏ ‏دولارات‏ ‏لمجموعة‏ ‏من‏ ‏الناس، ‏أصبحت‏ ‏تكلف‏ ‏الفرد‏ ‏الواحد‏ ‏بين‏ ‏خمسين‏ ‏ومائة‏ ‏دولار، ‏وينزعج الأستاذ من الرقم خصوصا بعد أن ترجمه أحدهم إلى جنيهات مصرية، ويشيرعماد إلى شعوره بسلطة المافيا تحت الحكم الجديد هناك، ويصدق الأستاذ بالكاد تلك الأرقام، ويتحسب لمستقبل العالم لو زادت الحكومات السرية، والألعاب تحت المائدة ‏ ‏ ‏.‏

قال‏ ‏الغيطانى ‏إنه‏ ‏غير‏ ‏مستريح‏ ‏هذه‏ ‏الأيام، ‏وأنه‏ ‏يشعر‏ ‏بشعور غامض قريب من شعوره قبيل مصيبة ‏ 1967،‏… ‏فيكمل‏ ‏الأستاذ‏ “‏فى ‏الجو‏ ‏غيم‏”، (‏ولم‏ ‏أكن‏ ‏أعرف‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏أغنية‏ ‏قديمة‏ ‏لعبد‏ ‏الوهاب وبحثت عنها فإذا بكلماتها شديدة الرقة تقول‏:

فى الجو غيم حجب القمر وحرمنى من حُسن جماله

يا هل ترى عازل ظهر ولا عزول حب وصاله

وسلمت‏ ‏على ‏الأستاذ‏ ‏واستأذنته فى الغياب لبضعة أيام  بسبب سفرى للخارج فى مهمتى كمقرر امتحانات الزمالة العربية فى الطب النفسى، والتى تعقد اجتماعاتها فى دمشق بانتظام، وتمنى لى السلامة بأبوة جميلة، ثم أضاف قبل ان أنصرف أنه أبلغ الدكتور فلان أن يؤجل التحاليل الراتبة بضعة أيام حتى أعود من رحلتى ما دمت لن أتأخر إلا هذه البضعة أيام، وشعرت بثقته وفضله، ودعوت له، وقبـّلت يده، وانصرفت وكأننى آخذ منه ما يكفينى حتى أعود من رحلتى القصيرة.

الحلقة السادسة والأربعون

هامش غريب وسط الخواطر

الأربعاء: 16/3/1995

ذهبت‏ ‏إلى ‏بولمان‏ ‏المعادى ‏أودعه‏ ‏بمناسبة سفرى فى مهمة علمية دورية إلى سوريا، ‏وجدت‏ ‏د‏. ‏صلاح‏ ‏فضل، ‏ومحمد يحيى، ‏وزكى ‏سالم، ‏سأله‏ ‏د‏. ‏صلاح‏ ‏عن‏ ‏علاقته‏ ‏بالسفر‏ (‏ربما بمناسبة‏ ‏ذكر سفرى‏) ‏فحكى الأستاذ لنا ‏بداية‏ ‏هذه‏ ‏العلاقة، ‏وتطورها، ‏وأنه‏ ‏فى ‏صغره‏ ‏كان‏ ‏يتمنى ‏السفر، ‏وينتظره، ‏ويستعد‏ ‏له، ‏وربما‏ ‏تأكد‏ ‏ذلك‏ ‏أيام‏ ‏تلهفه‏ ‏على ‏السفر‏ ‏فى ‏بعثة‏ ‏ما، ‏وأنه‏ ‏فى ‏السفرتين‏ ‏الوحيدتين‏ ‏اللتين‏ ‏سافرهما‏ (قبل السفر الاضطرارى لاجراء العملية فى لندن): ‏مرة‏ ‏إلى ‏اليمن‏ (‏أياما‏ ‏معدودة‏)، ‏وأخرى ‏إلى ‏يوغسلافيا، ‏أيام‏ ‏أن‏ ‏كانت‏ ‏يوغسلافيا‏ ‏يوغسلافيا‏، ‏سـُرَّ‏ ‏أثناءهما‏ ‏سرورا‏ ‏شديدا، ‏وأحب‏ ‏السفر‏ ‏حبا‏ ‏جما، وكانت‏ ‏الطبيعة فى كلتيهما‏ ‏رائعة‏ ‏مثيرة، ‏لكن الحنين لم يعاوده تلقائيا لإعادة التجربة، ‏وقلت‏ ‏له‏ ‏إنه قد خطر لى يوما تفسيرا لعزوفه عن السفر، لا أذكر أننى أثبته فيما كتبت عنه، وهو أن ذلك يرجع غالبا إلى استغنائه عنه، نتيجة‏ ‏ثراء‏ ‏خياله، ‏وتجدد‏ ‏وجاهزية تفجر‏ ‏وعيه‏، فهو‏ ‏يسافر‏ ‏فى ‏الداخل‏ ‏بما‏ ‏يغنيه‏ ‏عن‏ ‏سفر‏ ‏الخارج، وداخله ليس داخلا شخصيا ذاتيا مغلقا بقدر ما هو واقع آخر يحتوى كل ما وصله من ناحية، وما أعاد تشكيله من ناحية أخرى حتى لو لم يتجلّ فى إبداعه الظاهر، ‏وأن‏ ‏كثيرين‏ ‏يسافرون‏ ‏ولا‏ ‏يسافرون، ‏إذ‏ ‏يعودون‏ ‏بعد‏ ‏السفر‏ ‏مثلما‏ ‏كانوا‏: ‏أكثر‏ ‏ثباتا‏، وألمع ‏ ‏ ‏صقلا، ‏ووافقنى ‏- تقريبا- وأنا أودعه، وقال لى مازحاُ “ترجع لنا بالسلامة أقل صقلا!!”.

 وضحكنا، ‏وفرحت، ‏وقبـّلته‏ ‏وأستأذنت‏.‏

كان الأستاذ قد أضاف أثناء نقاشنا حول هذه المسألة: ‏أنه‏ ‏حين‏ ‏كبر، ‏واستسلم‏ ‏للنظام‏ (‏قالها‏ ‏بالفرنسية ‏System ‏لست‏ ‏أدرى ‏لماذا‏ ‏فـَـرْنَسَ‏ ‏هذه‏ ‏الكلمة‏)، ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏هناك‏ ‏مجال‏ ‏لكسر‏ ‏هذا‏ ‏النظام‏ ‏حتى ‏فى ‏شكله‏ ‏اليومى ‏داخل‏ ‏القاهرة، ‏فما‏ ‏بالك‏ ‏بنقلةٍ‏ ‏إلى ‏الخارج.

وقد‏ ‏عايشت‏ ‏هذا‏ ‏النظام‏ ‏بكل‏ ‏أبعاده‏ ‏خلال‏ ‏الشهور‏ ‏الثلاثة‏ ‏الأخيرة، ‏ولم‏ ‏أكن‏ ‏أتصور‏ ‏أن‏ ‏له‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏القدسية‏ ‏الطقسية‏ ‏التى ‏تصل‏ ‏إلى ‏حد‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏سببا‏ ‏مباشرا‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏العزوف‏ ‏عن‏ ‏السفر‏.

هامش‏ ‏عن‏ ‏الناس‏ ‏والطريق

22/3/1995

هذه‏ ‏ثالث‏ ‏مـرة‏ ‏أسافر‏ ‏فيها‏ ‏إلى ‏سوريا‏ ‏مضطرا، ‏وكنت‏ ‏أود‏ ‏أن‏ ‏أكتب‏ ‏ترحالا خاصا (رابعا) أحكى فيه عن خبراتى فى ‏ سفرى ‏إلى ‏البلاد‏ ‏العربية، ‏ولكننى ‏لم‏ ‏أفعل، ‏ويبدو‏ ‏أننى‏ ‏لن‏ ‏أفعل‏ – ‏فقط‏ ‏أريد‏ ‏أن‏ ‏أضيف‏ ‏هذا‏ ‏الهامش‏ ‏الذى ‏أكتبه‏ ‏فى‏ ‏أنطاكية‏، وقد عثرت عليه مكتوبا بهذا النص فى كراسة تسجيلى لذكرياتى مع الأستاذ، هل يا ترى كان ذلك لأن اليوم التالى كان يوم الحرافيش، أو لأى سبب آخر، وجدت ما يلى :

‏….. يبدو إن‏ ‏السفر‏ ‏عندى ‏هو‏ ‏القطيعة‏ ‏الاضطرارية، ‏وهو‏ ‏الالتحام‏ ‏الإرادى معا، ‏القطيعة‏ ‏مع‏ ‏كل‏ ‏النظام‏ ‏الجارى ‏مهما‏ ‏بلغ‏ ‏من‏ ‏قوته‏ ‏وروعته‏ ‏ولزومه‏ ‏وفائدته، ‏والالتحام‏ ‏مع‏ ‏كل‏ ‏جديد‏ ‏على ‏الطريق‏ ‏من‏ ‏الناس‏ ‏والطبيعة، ‏لا‏ ‏يتم‏ ‏هذا‏ ‏إلا‏ ‏بسفر‏ ‏حقيقى، ‏وقد حاولت أن أقلب أى انتقال إلى سفر حقيقى، ‏وقد‏ ‏تميز‏ ‏سفرى ‏الجديد‏ ‏الآن‏ ‏بالقدرة‏ ‏المادية‏ ‏الكافية، ‏بعكس‏ ‏الفاقة‏ ‏والحسابات‏ ‏السالفة‏ ‏فى ‏أسفارى ‏السابقة، ‏‏سواء كنت‏ ‏مدعـوا‏ ‏على ‏حساب‏ ‏غيرى ‏بصفتى ‏الرسمية، ‏أعيش‏ ‏على ‏حسابهم‏ بضعة أيام، وتكون المهمة علمية، مشبوهة عادة، لذلك أكرهها كأنى أرتكب ذنبا، برغم فرصة لقاء الزملاء وبعض الأصدقاء.

 الحمد لله أننى حضرت بسيارتى حتى أنطلق بها إلى اصلى عائدا إلى الأردن فالعقبة فبلدى فنفسى‏.‏

………….

وجدت كلاما مرسلا كثيرا  مكتوبا بعد هذه الفقرة، وقد   حذفت أغلبه، إلا أنى أبقيت على هذه الفقرة كعينة من هذا الكلام المفكك كما هو، وأنصحك – عزيزى القارئ – ألا تقرأه فإن فعلت ولو لعنتنى فلك الحق، ولكن ربما يصلك بصيص من ضوءً على منهج كتابة هذه الخواطر، وها هو ذا:

المركب‏ ‏ثانى ‏مرة، ‏الكابينة، ‏المرأة‏ ‏الطويلة، ‏السوداء،‏ ‏الوصول‏ -‏الـــكيلو‏ 85  – ‏الكرنك‏ – ‏النوم‏ ‏ – ‏عمان‏ – ‏إربد‏ – ‏العجلة‏ – ‏الرمثة‏ – ‏السائق‏ – ‏العرب‏ – ‏العراق‏ – ‏السودان‏ – ‏موريس‏ – ‏حمص‏ – ‏فندق‏ ‏أمير‏ – ‏الحدود‏ – ‏جرابلس‏ – ‏الجسر‏ – ‏الدوار‏ – ‏الباب‏ – ‏بنبج‏ – ‏محمد‏ ‏صبحى – ‏السائق‏ – ‏طريق‏ ‏دولى – ‏البوليس‏ – ‏الولد‏ – ‏الرجوع‏ – ‏نور‏ – ‏عبد‏ ‏الله‏ (‏الخادم‏) ‏بالفندق‏ – ‏المقلب‏ – ‏خلدون‏ – ‏السبت‏: ‏سفر‏ – ‏مطر‏ – ‏سفر‏ ‏مطر‏.‏

رجل‏ ‏الجمرك‏ ‏التركى ‏يصلى – ‏ولا‏ ‏مليم‏ – ‏سفر‏ – ‏ولا‏ ‏بنزين، ‏ولاعلامة‏ – ‏سفر‏ – ‏المساحة‏ – ‏اللمبة‏ ‏الحمراء‏ – ‏سفر‏ – ‏العاصفة‏ ‏-البرق‏- ‏الهاموش- ‏ ‏سفر‏ – ‏الشام‏ – ‏العناد‏ – ‏درعا‏ – ‏الشام‏ – الرجل ‏الأردنى – ‏الفندق‏ – ‏الفندق‏ – ‏العجلة‏ – ‏النوم‏ – ‏الفجر‏ – ‏العجلة‏ – ‏دِرعا‏ – ‏دكتورة فدْوى – ‏الذكرى – ‏عمان‏ – ‏السوق‏ ‏القديم‏ – ‏السفر‏ – ‏البطرا‏ – ‏العجلة‏ – ‏الراجعة‏ – ‏التوْهة‏ – ‏الظلام‏ – ‏الشبورة‏ – ‏فندق‏ ‏الرشيد‏ – ‏الاستراحة‏ – ‏العشاء‏ – ‏الرجل الأردنى- النزيل ‏العراقى‏ – ‏الأردنى – ‏المصرى – ‏اليدين‏ ‏فى ‏جيب‏ ‏السروال‏ – ‏أبو‏ ‏البنات‏ – ‏ابو‏ ‏محمد‏ – ‏الشهامة‏ – ‏القلاب‏ – ‏الطريق‏ – ‏النجار‏ – ‏الوقفة‏ – ‏الدخان‏ – ‏الشهامة‏ ‏الناقصة‏ – ‏الشهامة‏ ‏الكاملة‏ – ‏الستر‏ – ‏الجمرك‏ – ‏المهم‏ – ‏نويبع‏ – قرية ‏الصيادين‏ – ‏محمد‏ – ‏مىْ – ‏الركن‏ -‏طابا‏ – ‏مصر‏ – ‏سونستا‏. ‏مأمون‏ – ‏الأتراك‏ ‏أنطاكية‏- حربيات، ‏محسن، ‏سارة‏ – (‏أبو‏ ‏محمد‏) ‏الاسكندرونة‏ – ‏عطل العربية‏ – ‏خطبة‏ ‏الجمعة، ‏البداية‏ – ‏التقاط‏ ‏الأنفاس‏ – ‏التسويق‏ !! ‏العشاء‏ – ‏الغناء‏ – ‏ ‏على مطر (رحمه الله)‏

وبعد

آسف،

خجلت – بصراحة- أن أضمّن كل هذا الهامش الذى لا أملك لإثباته هنا الآن تفسيرا،

ولا أعرف ما هى علاقته أو حتى علاقة الهامش الأول بالاستاذ وشرف صحبته تحديدا،

 هممت أن أحذفهما مرة أخرى احتراما للقارئ، ورفضا لمزيد من الحديث عن نفسى دون حضور الأستاذ، لكن لا،  هذا ما كان يجرى، وإلا فلماذا سجلته؟

ولكن أين الأستاذ؟

وما دخل القارئ بما بداخلى؟

 وما دخل الأستاذ نفسه بما سجلته هكذا؟

ما هذا؟

 أين الأستاذ؟

ولكن من قال أنه ليس بداخلى وأنا أكتب هذا الكلام؟

أنا متأكد أنه له دخل قوى وإيجابى وطيب، له دخل ونصف، ومن يعجبه !! (واللى عاجبه).

ثم إنى لم أفتعله،

لقد وجدته مكتوبا هكذا فى كراسة تسجيل خواطرى مع الأستاذ فى هذا التاريخ، وجدته “هكذا” بعد خمسة عشر سنة من كتابته،

 طبعا كل كلمة لوّحت لى بذكرى غامضة، أو شخص طيب، أو طبيعة جميلة، أو معلومة جديدة، لكننى لم أتبين ماذا وراءها تحديدا، وأيضا لم أحاول أن أتذكر أى شىء يتعلق بها أصلا، إلا ما حل بوعيى رغما عنى، لكن ما أنا متأكد منه هو أننى لم أثبت كل ذلك فى كراسة تسجيل خواطرى فى شرف صحبة الأستاذ لمجرد أنه ليس عندى ورق آخر أسجله فيه، لا بد أن هناك علاقة ما،

 أشعر أننى مدين له حتى “بذلك”.

ما هو “ذلك” ؟

ليس مهما !!

لكنه صاحب الفضل دائما.‏

وهو حاضر معى أبدا

الحلقة السابعة والأربعون

عن مناقب السفر

السبت‏ 1/4/1995‏

أسبوعين‏ ‏إجازة (15 – 31 ‏مارس‏)‏، ‏فرصة، ‏أرى ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏الذى ‏كان ‏والذى ‏يجرى ‏عن‏ ‏بعد، كنت قد سافرت‏ ‏إلى ‏دمشق‏ ‏عبر‏ ‏الأردن، ‏ومنها‏ ‏إلى ‏أنطاكيا‏ (‏وضاحيتها‏ ‏حربيات‏) ‏فالإسكندرونه‏ ‏ثم‏ ‏عدت، ‏وكان‏ ‏من‏ ‏بين‏ ‏أهداف‏ ‏امتداد‏ ‏السفر‏ ‏العلمى الترحالى ‏إلى ‏هذه‏ ‏الاستراحة‏ ‏البعيدة‏ ‏أن‏ ‏أكمل‏ ما رسمت له تدريجيا من ‏نقلة‏ ‏الابتعاد‏ ‏المنظم‏ ‏عن‏ ‏الاستاذ، ‏وأيضا‏ ‏أن‏ ‏أنظر‏ ‏من‏ ‏على ‏مسافة‏ ‏إلى ‏هذا‏ ‏الذى ‏كان‏ ‏خلال‏ ‏ثلاثة‏ ‏أشهر، ‏كان‏ ‏الاستاذ‏ ‏معى ‏طول‏ ‏الوقت‏ – ‏طبعا‏ – ‏لكنه‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏معى ‏بالمعنى ‏السائد‏” ‏سواء‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏الاشتياق‏ ‏أم‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏الانشغال، ‏بل‏ ‏كان‏ ‏معى ‏بمعنى “‏الاجترار‏” ‏و‏”‏التمثل‏” ‏لما‏ ‏بلغنى ‏منه، ‏وتعلمته، ‏أو‏ ‏حاولت‏ ‏أن‏ ‏أتعلمه.

 فور عودتى مررت‏ ‏على ‏الاستاذ‏ ‏بمنزله مساء‏ نفس اليوم – السبت – ‏أطمئن عليه، ‏كان‏ ‏زكى ‏سالم‏ ‏هناك، ‏عجبت، ‏فعادةً‏ ‏زكى ‏لا‏ ‏يحضر‏ ‏هذا‏ ‏اليوم‏ ‏الذى ‏خصصه‏ ‏الأستاذ‏ ‏لمقابلات‏ ‏وارتباطات‏ ‏أخرى، ‏شرح‏ ‏لى ‏الأستاذ‏ ‏الموقف‏: ‏وقال‏ ‏إن‏ ‏يوم‏ ‏السبت‏ ‏هو‏ ‏يوم‏ ‏سلماوى ‏وأكمل‏: ‏يعنى ‏يوم‏ ‏الأهرام، ‏وسلماوى ‏مسافر‏ ‏إلى ‏إسبانيا، ‏فوجدت‏ ‏نفسى ‏سوف‏ ‏أقضى ‏كل‏ ‏بعد‏ ‏الظهر‏ ‏وحدى ‏خاليا، ‏فاستنقذت‏ ‏بزكى ‏سالم، ‏ولولا‏ ‏أنه‏ ‏حضر‏ ‏لما‏ ‏عرفت‏ ‏كيف‏ ‏أمضى ‏هذا‏ ‏اليوم، ‏إلى ‏هذه‏ ‏الدرجة‏‏ ‏لا‏ ‏يطيق‏ الأستاذ ‏أن‏ ‏يمضى ‏ولو‏ ‏بعد‏ ‏ظهر‏ ‏يوم‏ ‏واحد‏ ‏وحيدا، يبدو أن الإعاقات الحسية قد أحوجته أكثر فأكثر لما هو “ناس” و”نحن” – الأصدقاء المنتظمين – أقرب عيّنه من الناس غير أسرته الكريمة، ‏تبينت أكثر فأكثر‏ ‏إلى ‏أية ‏مرحلة‏ ‏قد‏ ‏وصلت به الإعاقات الحسية ‏وأى ‏التزام‏ ‏قد‏ ‏تصدَّينا‏ ‏له، ‏ ‏وأيه ‏خسارة‏ ‏كبيرة‏ ‏لنا‏ ‏وللأستاذ‏ لّحقت به وبنا ‏مما‏ ‏أراده‏ ‏الله‏ ‏بهذه‏ ‏الإعاقات‏ ‏المتأخرة‏، ومع ذلك فهو قـَدرْهـُاَ وأكثر (قدّها وقدودْ).

سألنى عن ‏العطل الذى أصاب عربتى وأنا عائد بها من الرحلة، وكان قد بلغه النبأ، قلت: إنها ‏عملتها‏ ‏قبل‏ ‏العقبة‏ ‏بأربعين‏ ‏كيلو‏ ‏متر‏ا، وأنى تحايلت على العطل حتى وصلت إلى العبـَّارة، وأنها حافظتْ على العهد حتى وصلنا نويبع وخرجت بها من العبارة بالكاد، لكنها رفضت الحركة بمجرد أن خرجنا من الميناء، وأنها بذلك عملت الأصول وزيادة، إذْ قدرت ظروف الغربة، وحدثته عن علاقتى بها، وكيف أن عربتى صديقة كلها نظر، عوّدتنى ألا تعملها إلا حين تضمن اللطف أولاً، وضحك الاستاذ، ‏سألنى عن‏ ‏الرحلة‏ ‏وعن‏ ‏الصحة، ‏وأجبت‏ ‏باختصار‏ ‏مشيرا‏ ‏إلى ‏إجراءات‏ ‏جمرك‏ ‏نويبع‏ ‏السخيفة‏ ‏التى ‏لم‏ ‏تحترم‏ ‏مهمتى ‏العلمية، ‏ولا‏ ‏أستاذيتى، ‏ولا‏ ‏إسمى ‏بالمقارنة‏ ‏بما‏ ‏لقيته‏ ‏من‏ ‏احترام‏ ‏الأردنيين‏ ‏والسوريين، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏الاتراك‏ ‏أكرمونى ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏هؤلاء‏ ‏العرب‏ ‏والمصريين، كان يطلب التفاصيل حتى تصورت أنها‏ ‏دراسة‏ ‏مقارنة‏ ‏عبر‏ ‏كل‏ ‏الحدود‏ ‏التى ‏عبرتها‏ ‏بالسيارة، جرّنا الحديث إلى ‏موضوع ‏احترام‏ ‏إنسانية‏ ‏الانسان، ‏وقلت‏ ‏له‏ ‏إننى ‏لاحظت‏ ‏فى أغلب ‏البلاد‏ ‏التى ‏مررت‏ ‏بها‏ ‏أن‏ ‏ثمة‏ ‏دولة‏ ‏هناك‏ ‏بغض‏ ‏النظر ‏عن‏ ‏الأيديولوجى ‏أو‏ ‏نوع‏ ‏الحكم، ‏أما‏ ‏عندنا‏ ‏فتوجد‏ ‏عضلة‏ ‏بوليسية‏ ‏متضخمة‏ ‏وعمياء‏ ‏فى ‏جسد‏ ‏دولة‏ ‏هزيلة ، ‏وأن‏ ‏هذه‏ ‏الإجراءات‏ ‏المضحكة التى تجرى عند الوصول إلى نويبع هى إجراءات مهينة فعلا مهما كانت التبريرات‏ ‏لضبط‏ ‏المفرقعات‏ ‏أو‏ ‏المخدرات، ‏بل‏‏ ‏هى ‏إجراءات‏ ‏تعلم‏ ‏الناس‏ ‏السذج‏ ‏أين‏ ‏يخبئون‏ ‏مايريدون‏ ‏فى ‏المرات‏ ‏القادمة، ‏قلت له إن‏ ‏الأمر قد‏ ‏وصل‏ ‏إلى ‏درجة‏ ‏أنهم‏ ‏رفعوا‏ ‏غطاء‏ ‏منقى (‏فلتر‏) ‏الهواء‏ ‏ليروا‏ ‏إن‏ ‏كنت‏ – ‏أنا‏ ‏الاستاذ‏ ‏الجامعى ‏فى ‏مهمة‏ ‏علمية‏ – ‏قد‏ ‏خبأت‏ ‏فيه‏ ‏هذا‏ السلاح ‏أو‏ ‏ذاك‏ المخدر ‏إلخ، ‏وبعد‏ ‏حديث‏ ‏معاد‏ ‏أجبت‏ ‏به‏ ‏عن‏ ‏بعض‏ ‏تساؤلات‏ ‏زكى ‏سالم‏ ‏عن‏ ‏السفر‏، عاد الاستاذ يستدرجنى، شرحت‏ ‏ما‏ ‏ينبغى ‏إيضاحه‏ ‏عن‏ ‏نوع‏ ‏هذه‏ ‏الأسفار‏ ‏التى ‏تقربنى ‏من‏ ‏الناس‏ الذين لا أعرفهم ‏ومن‏ ‏نفسى ‏ومن‏ ‏الطبيعة، ‏فتجعلنى أعيد النظر فيما أحمل‏ ‏فى ‏عقلى ‏ووجدانى، وكيف أنها‏ ‏تتيح‏ ‏لى ‏فرصة‏ ‏معا‏يشة “ما ليس كذلك”‏ ‏وأنها تفك قيدى المتواصل فى عملى فى بلدى وأنا‏ ‏مربوط‏ ‏فى ‏عجلة‏ ‏الاستعباد‏ ‏اليومى، ‏وقلت له مرة أخرى:‏ ‏إن‏ ‏السفر‏ ‏عندى ‏هو‏ ‏تقليب‏ ‏للوعى، ‏أما‏ ‏التنقل‏ ‏بين‏ ‏فنادق‏ ‏الخمس‏ ‏نجوم‏ ‏فى ‏بلاد‏ ‏مختلفة‏ ‏فهو ‏يمحو فضائل السفر محوا، ‏بل‏ ‏إنها تنقلات ‏قد‏ ‏تؤخذ‏ “‏بالناقص‏” ‏بأن توهمنى بنقلةٍ ما، فى حين أنها إما تثبت أكثر ما أنا فيه، ‏ثم قلت له‏ ‏كيف وصلنى بشكلٍ ما احتمال أنه يبدو‏ ‏أن‏ ‏اغلب‏ ‏الأردنيين‏ ‏حتى ‏من‏ ‏أصل‏ ‏فلسطينى ‏يحبون‏ ‏مليكهم‏، ‏وتحفظ‏ ‏زكى ‏سالم‏ ‏على ‏ذلك‏ ‏قائلا‏ ‏إن‏ ‏معظم‏ ‏العرب‏ (‏وربما‏ ‏العالم‏ ‏الثالث‏) ‏يميلون‏ ‏إلى ‏تقديس‏ ‏الحاكم‏ ‏والاعتماد‏ ‏عليه، ‏وضرب‏ ‏لذلك‏ ‏مثل‏ ‏الملك‏ ‏الحسن‏ ‏فى ‏المغرب‏ ‏وصدام‏ ‏فى ‏العراق، ‏على ‏اختلافهما، ‏فشرحت‏ ‏وجهة‏ ‏نظرى، ‏وأن‏ ‏ثمَّ‏ ‏فرقا بين‏ ‏التقديس‏ ‏والطاعة‏ ‏وبين‏ ‏الحب‏ ‏والولاء، ‏وأظن‏ ‏أننى ‏حين‏ ‏أسمع‏ ‏من‏ ‏بائع‏ ‏عاديات‏ ‏أردنى ‏أن‏ ‏الملك‏ ‏حسين‏ ‏هو‏ “‏أحسن‏ ‏ملك‏” ‏فى ‏العالم‏ “‏فأنبهه‏ ‏أنه‏ ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏هناك‏ ‏ملوك كثيرون‏ ‏فى ‏العالم للمقارنة، ‏فيؤكد‏: “‏إذن‏ ‏فهو‏ ‏أحسن‏ ‏واحد‏ ‏فى ‏العالم‏”، ‏لا‏ ‏أستطيع‏ ‏أن‏ ‏أدعى ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏نتيجة‏ ‏للقهر‏ ‏أو‏ ‏للعبادة‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏أحاول‏ ‏أن‏ ‏أفهم‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الحاكم‏ (‏هذا‏ ‏الملك‏) ‏يضع‏ ‏فى ‏اعتباره‏ ‏مشاعر‏ ‏الناس‏ ‏الحقيقية‏ ‏حتى ‏ولو‏ ‏كان‏ ‏يتصرف‏ ‏تصرفات‏ ‏خاصة‏ ‏غير‏ ‏مقبولة‏ ‏أو‏ ‏شائنة، ‏أما‏ ‏الحاكم‏ ‏عندنا‏ – ‏فى ‏مصر‏ – ‏ففى تقديرى أنه لا يعتنى أن يبحث عن أية ‏وسيلة‏ ‏اتصال‏ ‏مباشرة‏ ‏مع‏ ‏وعى الناس، ‏حتى يبدو لى أنه‏ ‏قد استغنى عن‏ ‏رأى ‏الناس‏ ‏حقيقة‏ ‏وفعلا، ‏وإنما‏ ‏يجرى ‏التوصيل‏ ‏والتأويل‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏كلام‏ ‏مكتوب‏ ‏فى ‏تقارير‏ ‏أو‏ ‏وسطاء‏ ‏مشكوك‏ ‏فى ‏مصداقيتهم، ‏وأقول‏ ‏للاستاذ‏ ‏إن‏ ‏المصرى ‏فى ‏الخارج‏ ‏أصبح‏ ‏له‏ ‏حضور‏ ‏لابد‏ ‏من‏ ‏إعادة‏ ‏دراسته، ‏ولا‏ ‏ينبغى ‏الاكتفاء‏ ‏بالقول‏ ‏بأن‏ ‏سفر‏ ‏المصريين‏ ‏للارتزاق‏ ‏قد‏ ‏هدم‏ ‏الأسرة‏ ‏المصرية‏ ‏وصبغ‏ ‏الأخلاق‏ ‏بصبغة‏ ‏خليجية‏ ‏كما‏ ‏جرى ‏الحديث بين أصدقائنا معه‏ ‏عدة‏ ‏مرات‏، ‏وخاصة‏ ‏ونحن‏ ‏نناقش‏ ‏رواية‏ ‏مراعى ‏القتل لفتحى أمبابى، ‏وأنقل‏ ‏للاستاذ‏ ‏حديثا‏ ‏مع‏ ‏موظف‏ ‏فى ‏فندق‏ ‏بالبتراء‏ ‏قال‏ ‏لي‏: ‏إن‏ ‏المصرى ‏بالنسبة‏ ‏للأردنى ‏له‏ ‏وضع‏ ‏خاص، ‏نحن‏ ‏لانستطيع‏ ‏أن‏ ‏ننسى ‏أو‏ ‏نهمل‏ ‏أو‏ ‏أن‏ ‏نستغنى ‏عن‏ ‏المصريين، ‏وذلك‏ ‏لأسباب‏ ‏ثلاثه‏: ‏الأول‏: ‏إن‏ ‏فى ‏الأردن‏ ‏ثلاثة‏ ‏أرباع‏ ‏مليون‏ ‏مصرى والثانى‏: ‏أننا‏ ‏مرتبطون‏ ‏برواد‏ ‏الثقافة‏ ‏المصرية‏ ‏السابقين‏ ‏والحاليين‏ ‏من‏ ‏أول‏ ‏طه‏ ‏حسين‏ ‏والعقاد‏ ‏إلى ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏ويوسف‏ ‏إدريس‏ ‏والغيطانى، ‏والثالث‏: ‏وهو‏ ‏العامل‏ ‏الأهم‏ ‏الذى ‏لا‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏ينكره‏ ‏أو‏ ‏يغفله‏ ‏كبير‏ ‏أو‏ ‏صغير، ‏ملك‏ ‏أو‏ ‏خفير، ‏هو‏ ‏التليفزيون‏ ‏المصرى (كان ذلك سنة 1995!!) ويعجب‏ ‏الأستاذ‏ ‏بهذا‏ ‏الرأى ‏المنظم‏ ‏من‏ ‏شخص‏ ‏عادى ‏وليس‏ ‏معلقا‏ ‏سياسيا‏ ‏أو‏ ‏محللا‏ ‏اجتماعيا.‏

وقلت‏ ‏للاستاذ‏ ‏إننى ‏راجع‏ ‏وعندى ‏فرض‏ ‏غريب‏ ‏جدا، ‏وهو‏ ‏أن‏ ‏ما‏ ‏نحكيه‏ ‏عن‏ ‏سلبيات‏ ‏سفر‏ ‏المصريين‏ ‏هو‏ ‏جانب‏ ‏واحد‏ ‏من‏ ‏القضية، ‏وأننى ‏أتصور‏ ‏أن‏ ‏خمسة‏ ‏ملايين‏ ‏من‏ ‏المصريين‏ ‏يتعرون‏ ‏ويعملون‏ ‏ويهانون‏ ‏ويثرون‏ ‏ويتركون‏ ‏أولادهم‏ ‏اوزوجاتهم‏ ‏وراءهم‏ ‏أو‏ ‏يصحبونهم، ‏هؤلاء‏ ‏جميعا‏ ‏سوف‏ ‏يُحدثون‏ – ‏وراء‏ ‏وبعد‏ ‏ومع‏ ‏سلبياتهم‏ – ‏تغييرا‏ ‏إيجابيا‏ ‏فى ‏مسار‏ ‏الانسان‏ ‏المصرى بشكل أو بآخر، ‏هذا‏ ‏فرض‏ ‏حضرنى غريبا‏ ‏من‏ ‏تجربة‏ ‏محدودة‏ ‏جدا، ‏فى ‏الأردن‏ ‏فقط،، ‏حيث‏ ‏أن‏ ‏كل‏ ‏مصرى ‏قابلته‏ ‏بلا‏ ‏استثناء‏ ‏قام‏ ‏نحوى ‏بما‏ ‏احتوانى ‏وأكرمنى ‏وطمأننى، ‏فكل‏ ‏من‏ ‏قابلت‏ ‏من‏ ‏مصر، ‏رحب، ‏وفرح، ‏وفضفض، ‏واشتاق، ‏وأصلح، ‏وأكرم‏ ‏وودّع، ‏ودَعى – ‏وقد‏‏ ‏ركزت على هذه الأفعال فى ذاتها، وأنها أفعال تلقائية كريمة دون‏ ربطها ‏بالمفعول‏ ‏به‏ ‏الذى ‏هو‏ ‏شخصى، ‏لأننى ‏بسبب‏ ‏ما، ‏لم‏ ‏أتصور‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏موجه‏ ‏لشخصى، ‏وإنما‏ ‏لما‏ ‏أمثله‏: “‏مصر‏”.‏

وأضفت‏ ‏له‏ ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏التصور‏ ‏قد‏ ‏تأكد لى وأنا أعامل‏ ‏العمال‏ ‏المصريين‏ ‏فى ‏الخارج لأداء‏ ‏بعض‏ ‏المهام‏ ‏البسيطة‏ ‏التى احتاجتها ‏السيارة، ‏فإذا بهم‏ ‏يساعدوننى ‏بمنتهى ‏الشهامة، ‏ويرفضون‏ ‏أخذ‏ ‏أى ‏مقابل‏ ‏مقابل‏ ‏خدماتهم، ‏فى رأيى أنهم أصبحوا‏ ‏يمثلون‏ ‏البنية‏ ‏الأساسية‏ ‏لمجتمعات‏ ‏عربية‏ ‏عديدة، ‏وأنهم‏ ‏يتغربون‏ ‏فى ‏صمت‏ ‏ويواصلون‏ ‏الليل‏ ‏والنهار‏ ‏فى ‏صبر، ‏وقد‏ ‏خطر‏ ‏لى ‏هذا‏ ‏الخاطر‏ ‏دون‏ ‏إغفال‏ ‏كل‏ ‏سلبيات‏ ‏الغربة‏ ‏والاغتراب،‏ ‏ودون‏ ‏نسيان‏ ‏هذه‏ ‏المراره‏ ‏التى ‏صاغتها‏ ‏رواية فتحى‏ ‏امبابى “مراعى ‏القتل”، ‏خطر‏ ‏ببالى ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الخمسة‏ ‏ملايين‏ ‏فى ‏الخارج‏ ‏تجمع‏ ‏من‏ ‏الإيجابيات‏ ‏الصغيرة، ‏وتنمى ‏العلاقة‏ ‏بالعمل، ‏وبالقدرة‏ (‏فصاحب‏ ‏العمل‏ ‏يعتمد‏ ‏عليهم‏ ‏بلا‏ ‏بديل‏) ‏وبالتواصل‏ ‏الصامت‏ ‏مع‏ ‏الأقران‏ ‏والأرض‏ (‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏يجرى ‏تحت‏ ‏السطح‏ ‏حسب‏ ‏الوهم‏ ‏الآمل‏ ‏الذى ‏أقدمه‏ ‏بهذا‏ ‏الفرض‏) – ‏خطر‏ ‏فى ‏بالى ‏أن‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏سوف‏ ‏يتجمع‏ – ‏ مرة أخرى رغم‏ ‏السلبيات‏ – ‏ليصبح‏ ‏هو‏ ‏القوة‏ ‏الحقيقية‏ ‏المغيرة‏ ‏لمجتمعنا‏ ‏فى ‏المستقبل‏ ‏القريب‏ ‏أو‏ ‏البعيد، ‏هز‏ ‏الاستاذ‏ ‏رأسه دون موافقة مريحة، ‏وثار‏ ‏زكر‏ ‏سالم‏ ‏ولم‏ ‏يوافقنى ‏على ‏أىٍّ ‏مما‏ ‏قلت،‏ ‏وبدأ‏ ‏يعدد‏ ‏السلبيات، ‏وأخلاق‏ ‏الغدر‏ ‏التى ‏تنمو‏ ‏فى ‏الخارج، ‏وعبادة‏ ‏القرش، ‏وبيع‏ ‏الكرامة، ‏وأن‏ ‏العينة‏ ‏التى ‏قابلتها‏ ‏هى مجرد مصادفة، وأن مالقيته كذلك هو ‏بصفتى ‏الشخصية‏ ‏، وأن ما وصلنى هكذا ‏لا‏ ‏يعنى ‏شيئآ‏ ‏بالنسبة‏ ‏للمستقبل، ‏وقاطعته‏ ‏منبها‏ ‏أننى ‏لم‏ ‏أنكر‏ ‏كل‏ ‏ذلك، ‏ولكننى، ربما ‏استجابة‏ ‏لخيال‏ ‏ آملٍ ‏حتى ‏لوشطح‏، ‏خيالٍ‏ ‏يقلب‏ ‏السلبيات‏ ‏إيجابيات‏ ‏هكذا‏ ‏والسلام، ‏ضحك‏ ‏الاستاذ‏ من خلافنا الذى أوصلناه إليه أولا بأول، ‏وخيل‏ ‏إلىّ ‏أنه عاد‏ يشاركنى أملى ‏صامتا‏ ‏مهما بدا أبعد عن الواقع جدا، ‏ولم‏ ‏يواصل‏ ‏زكى ‏سالم‏ ‏العناد‏، ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏يبدو‏ ‏أنه‏ ‏لم‏ ‏يقتنع‏ ‏بحرف‏ ‏مما‏ ‏قلت.

الأحد 2/4/1995

‏ ‏دقائق‏ ‏معدودة‏، ‏مررت‏‏ ‏على ‏الاستاذ‏ ‏فى ‏الماريوت، ‏القاعة‏ ‏مازالت‏ ‏متسعة‏ ‏غير‏ ‏لائقة، ‏والحضور‏ ‏عدد‏ ‏محدود‏: ‏نعيم‏ – ‏زكى – ‏سعاد‏ – ‏منال‏ ‏ثم‏ ‏حضر‏ ‏مصطفى ‏أبو‏ ‏النصر، ‏وريمون‏ ‏الأمريكى ‏الذى ‏يجرى ‏دراسة‏ ‏على ‏الاستاذ،‏ ‏هكذا يقول!! وهو‏ ‏شاب‏ ‏شديد‏ ‏الأمركة، ‏سطحى ‏التفكير‏ ‏مشكوك‏ ‏فى ‏أمره، ‏ثم‏ حضر ‏واحد‏ ‏اسمه‏ ‏”احمد”‏ ‏كنت‏ ‏قد‏ ‏عرفته‏ ‏عن‏ ‏طريق ابنتى‏ “‏مى ‏عبد‏ ‏الصبور‏” ‏وبسبب‏ ‏أزمتها، و‏تطرق‏ ‏الحديث‏ ‏إلى ‏سفرى ‏من‏ ‏جديد، ‏وحادث‏ ‏الطريق، ‏ورأى ‏شابٍّ‏ ‏سورى ‏آخر‏ ‏فى “‏الحزن‏ ‏القومي‏” ‏السائد‏ ‏فى ‏الوعى ‏السورى، كنت قد ‏لاحظت‏ ‏أن‏ ‏كل‏ ‏الطرق‏ ‏واللافتات‏ ‏تعلن‏ ‏أنهم‏ ‏يهنئون‏ ‏أنفسهم‏ ‏بفوز‏ ‏الرئيس، ‏فهو حضور دائم كما، تقول أغلب اللافتتات‏ – ‏”‏الأسد‏ ‏إلى ‏الأبد”، ‏قلت‏ ‏للأستاذ‏ ‏إننى ‏توقفت‏ ‏كثيرا‏ عند ‏كلمة‏ “‏الأبد‏”‏، فقد وصلتنى بمعنى‏ ‏أن‏ ‏اختفاء‏ ‏أو‏ ‏موت‏ ‏الأسد‏ ‏مرادف‏ لقيام‏ ‏القيامة، ‏أو‏ ‏أنه‏ ‏على ‏أحسن‏ ‏الفروض‏ – ‏لن‏ ‏يختفى أبدا، ‏يجرى ‏هذا‏ ‏ويتكرر تعليق هذه اللافتات‏ ‏رغم‏ ‏موت‏ ‏إبنه‏ ‏باسل‏ ‏الذى ‏مازالت‏ ‏صورته‏ ‏وكلمات‏ ‏العزاء فيه‏ ‏معلقة‏ ‏فى ‏كل‏ ‏أنحاء‏ ‏سوريا، ‏يبدو أنهم أنكروا بإصرار واعٍ أية‏ ‏علاقة‏ ‏بين‏ ‏حقيقة‏ ‏الموت وبين كلمة “الأبد”،‏ ‏لم ينتبهوا حتى أن ‏باسل‏ ‏الشاب الأسد الصغير قد ‏مات‏، ‏وظلوا يرددون نفس الشعار أن‏ ‏”الأسد‏ ‏إلى ‏الأبد”‏!!! ‏وسألت‏ ‏الأستاذ، ‏وهو‏ ‏الذى ‏تناول‏ ‏موضوع‏ “‏الأبد‏” ‏هذا‏ ‏فى ملحمة ‏الحرافيش‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏زاوية، ‏سألته‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏تفسير‏ ‏كلمة‏ “‏الأبد‏” ‏هذه ‏فى ‏تلك‏ ‏الإعلانات،‏ ‏فضحك‏ ‏مصطفى ‏أبو‏ ‏النصر‏ ‏وقال‏ ‏ربما‏ ‏هى ‏لزوم‏ ‏السجع‏ “‏الأسد‏ – ‏الأبد‏”، “‏حافظ‏ ‏الأسد‏ ‏إلى ‏الأبد‏”، ‏فقلت‏ ‏للاستاذ‏ ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏يذكرنى ‏برواية‏ ‏عن‏ ‏أحد‏ ‏الخلفاء‏ ‏الذين كانوا‏ ‏لا يجيدون‏ ‏قرض‏ ‏الشعر، ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏كان‏ ‏يصر‏ ‏على ‏المحاولة‏ ‏مهما‏ ‏كانت‏ ‏النتيجة، ‏وفى ‏يوم‏ ‏حضره‏ ‏قاض من ‏قضاة‏ ‏مدينة‏ “‏قُمْ‏” ‏فخاطبه‏ ‏أنه‏: “‏أيها‏ ‏القاضى ‏بقُمْ‏”، ‏ووجد‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الخطاب‏ ‏يصلح‏ ‏شطرا‏ ‏لبيت‏ ‏شعر،‏ ‏فانتهزها‏ ‏فرصة‏ ‏وحاول‏ ‏أن‏ ‏يكمل‏ ‏البيت، ‏فتعذر‏ ‏عليه الأمر‏ ‏فى ‏البداية، ‏ثم‏ ‏اضطر‏ ‏أن‏ ‏يكمل‏ فقال: أيها القاضى بقُمْ “‏قد‏ ‏عزلناك‏ ‏فقم‏” – ‏ضحك‏ ‏الاستاذ‏ ‏وقال‏ ‏الحمد‏ ‏لله‏ ‏أن‏ ‏حكامنا‏ ‏لايقرضون‏ ‏الشعر، ‏ولا‏ ‏يحاولون‏ ‏ذلك، ‏فلربما‏ ‏لو‏ ‏فعلوا‏ ‏زنقتهم‏ ‏القافية‏ ‏فقطعوا‏ ‏عنا‏ ‏المعاش‏.‏

قال‏ ‏لى ‏الاستاذ‏: ‏كنت‏ ‏أريد‏ ‏أن‏ ‏أعرفك‏ ‏على ‏صديق‏ ‏مصرى، ‏حضر‏ ‏إلى ‏بيتك‏ ‏يوم‏ ‏الجمعة‏ ‏وأنت‏ ‏غائب‏ ‏هو‏ ‏دكتور‏ (‏أحمد‏ ‏شموع‏) ‏وهو‏ ‏ألمانى ‏الجنسية‏، ‏يعيش‏ ‏الآن‏ ‏فى ‏ألمانيا‏ ‏منذ‏ 34 ‏سنة‏، ‏وهو‏ ‏يصر‏ ‏على ‏أن‏ ‏يرانى ‏مهما‏ ‏قصرت‏ ‏زيارته‏ ‏لمصر‏، ‏وكلما‏ ‏حضر‏ ‏أحضر‏ ‏معه‏ ‏بسكويتا‏ ‏وشيكولاته‏ ‏مخصصين‏ ‏لمرضى ‏السكر‏، ‏ومرة‏ ‏سألنى ‏د‏. ‏صفر‏، (‏من‏ ‏الاسكندرية‏).‏ هل‏ ‏كنت‏ ‏تحلم‏ ‏وأنت‏ ‏فى ‏درب‏ ‏هرمز‏ ‏أن‏ ‏تأكل‏ ‏بسكوتا‏ ‏من‏ ‏ألمانيا‏، ‏قلت‏ ‏له‏ ‏ولا‏ ‏من‏ ‏شارع‏ ‏عماد‏ ‏الدين‏.

كانت‏ ‏د‏. ‏سعاد‏ ‏موسى ‏موجودة‏ ‏فى ‏الماريوت – كما أشرت -‏ ‏فقلت‏ ‏للاستاذ‏ ‏إن‏ ‏هذه‏ ‏التلميذة‏ ‏كلمتنى ‏هاتفيا‏ ‏بعد‏ ‏عودتى ‏وقالت‏ ‏أننى ‏أوحشتها‏ ‏بغيابى ‏هذين‏ ‏الأسبوعين‏، ‏مع‏ ‏أنى ‏قد‏ ‏أكون‏ ‏فى ‏القاهرة‏ ‏ولا‏ ‏أراها‏ ‏لمدة‏ ‏شهور‏، ‏ولا‏ ‏أوحشها‏، ‏وهكذا‏ ‏يبدو‏ ‏أن‏ ‏السفر‏ ‏يذكرنا‏ ‏ببعضنا‏ ‏البعض‏، ‏ويعطى ‏قيمة‏ “‏أخرى” ‏للزمن‏، أو أن علاقتنا المشتركة به هى التى تجمعنا بشكل جديد، ‏وهز‏ ‏الاستاذ‏ ‏رأسه‏.‏

لم‏ ‏يحضر‏ ‏توفيق‏ ‏صالح‏، ‏وقال‏ ‏الاستاذ‏ ‏أنه‏ ‏سمع‏ ‏أنه‏ ‏قد‏ ‏يكلَّف‏ ‏بعمل‏ ‏فيلم‏ ‏تسجيلى (‏أو‏ ‏تأريخي‏) ‏عن‏ ‏الملك‏ ‏عبد‏ ‏العزيز‏ ‏آل‏ ‏سعود‏، ‏وأن‏ ‏احمد‏ ‏مظهر‏ ‏هو‏ ‏الذى سوف يكتبه،‏ ‏وأوصى ‏أن‏ ‏يخرجه‏ ‏توفيق‏ ‏صالح‏ ‏خاصة‏.‏

شكى ‏لى ‏الأستاذ‏ ‏أن‏ ‏جرعة‏ ‏المنوم‏ ‏لم‏ ‏تعد‏ ‏تفيد‏، ‏ثم راح‏ ‏يطمئننى ‏ألا‏ ‏أخاف‏ ‏أن يتعود عليه‏، ‏فلم‏ ‏يعد‏ ‏فى ‏العمر‏ ‏ما‏ ‏يسمح‏ ‏بالتعود‏، ‏فقلت له ‏أولا‏: ‏إن‏ ‏ما‏ ‏يتعاطاه‏ ‏ليس‏ ‏منوما‏، ‏وثانيا‏:‏ ‏ألم‏ ‏يقل‏ ‏لى هو شخصيا ‏أن‏ ‏المرحومة‏ ‏والدته‏ ‏قد‏ ‏بدأت‏ ‏تدخن‏ ‏السجائر‏ ‏بعد‏ ‏الثمانين‏ ‏أثر مداعبة أخيه ‏الأكبر لها‏، ‏وأنها‏ ‏ظلت‏ ‏تدخن‏ بعد ذلك ‏حتى ‏النهاية‏، ‏فبدا‏ ‏عليه‏ ‏غيظ‏ ‏طيب‏ ‏لتذكرى ‏الواقعه‏

 ‏ثم‏ ‏ضحك‏ ‏ضحكة‏ ‏طفل‏ ‏فُقِست‏ ‏مناورته‏ ‏للحصول‏ ‏على ‏قطعة‏ ‏شكولاته‏ ‏إضافية‏.‏

 

الحلقة الثامنة والأربعون

“الإسلام فى بؤرة وعيه” غير “الإسلام هو الحل”

الاثنين‏: 2/4/1995

ذهبت‏ ‏إلى ‏صوفتيل‏ ‏المعادى ‏قبله، ‏لم‏ ‏يكونوا‏ ‏قد‏ ‏أعدوا‏ ‏المكان بعد، ‏أخلوا‏ ‏لنا‏ ‏سويت‏ ‏فى ‏الدور‏ ‏الحادى ‏عشر، حضر ‏ فى الموعد تماما فاستطعت أن أمضى ‏معه‏ ‏نصف‏ ‏ساعة كاملة، اشبعتنى لأجوع أكثر، جاءت‏ ‏سيرة‏ ‏الوسام‏ ‏الذى ‏سيحضر‏ ‏سفير‏ ‏فرنسا‏ ‏لتقليده‏ ‏للاستاذ‏ ‏يوم‏ ‏السبت، مع سلماوى، فعلا هو وزير خارجيته كما أسماه مرارا، ‏قال‏ ‏لى إنه‏ ‏لا يدرى ‏أين‏ ‏سيستقبل‏ ‏السفير، ‏فإن‏ ‏الصالون‏ فى بيته ‏ضيق، ‏ثم‏ ‏إن‏ ‏الكراسى ‏ذهبت‏ ‏للإصلاح، ‏ثم‏ ‏أردف ضاحكا: ‏أحسن لنا‏ ‏نقابله‏ ‏فى ‏بئر‏ ‏السلم‏ ‏أمام‏ ‏باب‏ ‏الشقة، ‏ونأخذ‏ ‏منه‏ ‏الوسام، ‏وسلام‏ ‏سلام، ‏مع‏ ‏السلامة‏ ‏ياخواجه، ‏قالها‏ ‏وهو‏ ‏يمثل‏ ‏الاستقبال‏ ‏الــ‏ “‏قوام‏ ‏قوام” ‏مثل‏ ‏أولاد‏ ‏البلد‏ ‏الذين‏ ‏يحرجون‏ ‏من‏ ‏زيارة‏ ‏باشا‏ ‏أو‏ ‏حاكم‏ ‏أو‏ ‏أى ‏أحد‏ ‏من‏ ‏علية‏ ‏القوم‏ فى الشارع وهم يعزمون عليه أن يتفضل نصف نصف، وهم يخفون خجلهم القوى الشريف ‏من‏ ‏مظهرهم‏ ‏ومن منزلهم‏ ‏المتواضع‏، طبعا قالها هو يضحك ويتبسط، ويتواضع جدا دون ادعاء. تحدثنا‏ ‏عن‏ ‏الجو، وتقلباته المفاجئة فى هذا الشهر “إبريل” ‏وقلت‏ ‏له‏ ‏إن المرحوم عبد الرحيم غنيم ‏الذى كان النائب العام الذى حقق فى حريق القاهرة، يناير 1952 وكان ابنه صديقى وزميلى فى كلية الطب، وكنا نذاكر معا عنده فى بدروم فيلته فى مصر الجديدة، وكنا فى سنة خامسة طب، فكان عبد الرحيم بك يدخل علينا فى مثل هذا الوقت من العام ينبهنا ألا نتخفف من ملابس الشتاء بسرعة، ويقول لنا مثلا بالفرنسية أن ‏إبريل‏ ‏شهر‏ ‏التقلبات‏ غدار، وأن عليك ألا تنزع خيطا واحدا من ملابس الشتاء فيه، أما مايو، فافعل فيه ما تريد، ‏ ‏وقال‏ ‏نعيم‏ ‏صبرى، وكان قد حضر قبل أن أغادر، ‏إن‏ ‏ت‏ – ‏إس‏ – ‏إليوت‏ ‏قد‏ ‏وصف‏ ‏إبريل‏ ‏فى ‏الأرض‏ ‏الخراب‏ ‏بأنه‏ “‏ذلك‏ ‏الشهر‏ ‏المجنون‏ ‏المتقلب”.

‏ ‏حكيت‏ ‏للاستاذ‏ ‏حكاية‏ ‏طريفة‏ ‏حدثت‏ ‏فى ‏اجتماع‏ ‏لجنة‏ ‏الثقافة‏ ‏العلمية‏ ‏بالاشتراك‏ ‏مع‏ ‏اللجنة‏ ‏القومية‏ ‏لمشروع‏ ‏اليونسكو‏ + 2000 ‏للنوعية‏ ‏الثقافية‏ ‏والعلمية، ‏وقلت‏ ‏له‏ ‏إن‏ ‏عميد كلية جميل شاعر عالم‏ ‏كان‏ ‏يجلس‏ ‏بجوارى، أثناء الاجتماع ‏وأن‏ ‏الكلام‏ ‏كان‏ ‏فاترا‏ ‏ومعادا‏ ‏وتحصيل‏ ‏حاصل‏، وتبادلنا الهمس والنظرات، وشعرت معه كيف أن بعض المجتمعين يبدون مثل جماعة ‏من‏ ‏موظفين‏ ‏تجاوزت‏ ‏أعمارهم‏ ‏العمر‏ ‏الافتراضى ‏للتفكير، ‏ناهيك‏ ‏عن‏ ‏التجديد‏ ‏والإبداع، ‏وبعد أن عجزنا –سيادة العميد وأنا- أن نتابع ونساهم ونأمل، رحنا نتبادل حوارا جانبيا همسا، وعلى الورق، قال العميد الصديق أن مثل هذا النقاش قد يدور أحيانا هكذا حتى فى مجلس الجامعة، وأن جلسته فى المجلس تقع عادة بجوار عميد كلية لغة عربية، وهو شاعر ظريف أيضا، وحين يشعران بمثل ما نشعر به الآن يتبادلان كتابة بعض الشعر على الورق الموضوع أمامهما، أغلبه شعر قديم فكه، قلت له، والمناقشة على أشدها: مثل ماذا؟ فراح يكتب على ورقة أمامه شعرا كتبه شاعر يصوّر عنّته ويتعاطف مع عجزه قائلا:

ينام على طرف الفتارة  خامدا … له حركات ما تحس بها الكف

كما يرفع الفرخ ابن يومين رأسه … إلى أبويه ثم يدركه الضعف

وغير‏ ‏ذلك‏ ‏مما‏ ‏هو‏ ‏أكثر‏ ‏صراحة‏ ‏وأدل‏ ‏معنى، ‏وضحك‏ ‏الاستاذ‏ بطيبة وسماح، فاطمأننت أننى لم أتجاوز، واستأنفت‏ أقول ‏‏له:‏ أخشى ما أخشاه أن تكون قد أصابتنا عنة فكرية مثل التى وصفها هذا الشاعر، وأننى أتصور أن هذه العنة قد أصابت أدمغة بعضنا حتى لم نعد نقدر على التفكير المغامر المقتحم، ولاحظت أن الأستاذ لم يعلق، ربما لأننى قلت هذا التعقيب السخيف وأنا واقف أودعه لأنصرف، وربما التقط هو ذلك وخشى أن يعطلنى، أو يؤاخذنى.

ما أكرمه وأرقه.‏

الجمعة: 7/4/1995 (‏فى ‏بيتى)‏

منذ‏ ‏زمن‏ ‏ ‏لم‏ ‏أجلس‏ ‏مع‏ ‏الاستاذ‏ ‏فى لقاء الجمعة فى بيتى، كل هذه‏ ‏الساعات‏ ‏الثلاث على بعضها!!، ‏عدت‏ ‏من‏ ‏سيناء‏ صباح اليوم ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏سافرت‏ ‏لإحضار‏ ‏العربة‏ ‏التى كنت تركتها للإصلاح فى‏ ‏نويبع، وكان ابنى قد حضر إلينا بعد عطل السيارة الذى أشرت إليه سابقا ونقلنا ورجعنا بعربته أنا ووالدته إلى القاهرة، وكان لا بد أن أعود معه لأستعيد عربتى بعد اصلاحها وكل يقود عربته، ففاتتنى جلسة الحرافيش أمس، وقلت لنفسى: أعوضها اليوم، ‏كنت‏ ‏فعلا‏ ‏فى ‏حاجة‏ ‏إلى ‏جلسة‏ ‏طويلة، ‏ومناقشة‏ ‏عميقة، ‏وحضور‏ ‏محيط، ‏وقد‏ ‏تحقق‏ ‏كل‏ ‏ذلك، ‏د‏. ‏رمضان‏ ‏بسطاويسى ‏حضر‏ ‏بعد‏ ‏غيبة‏ ‏طويلة، ‏وقلت‏ ‏له‏ ‏إننى ‏محتج‏ ‏على ‏غيابه‏ ‏بعد‏ ‏مقابلة‏ ‏واحدة‏ ‏مع‏ ‏الاستاذ، ‏كذلك‏ ‏حضر‏ ‏”قدرى” (‏أدريان) ‏وأولاده الأطفال معه، ‏وتحفظت أن يشاركونا الجلسة كلها حتى لا تصبح المسألة فرجة من ناحيتهم، وربما حرجا من ناحيتنا، وقد رضوا بذلك، وطلبوا التقاط صورة مع الأستاذ فرحب كالعادة، وانصرفوا، ‏كذلك‏ ‏حضر‏ الصديق ياسر‏ ‏المحامى ‏وزوجته‏ السيدة “نهى”، ‏ياسر‏ ‏هذا‏ ‏يمثل‏ ‏لى ‏ برنامج حاسوب‏‏ ‏محاماة‏ ‏محكم،‏ ‏أظنه‏ متخصص ‏فى ‏موضوع‏ ‏العقود، ويحكى لنا كثيرا عن علاقته القانونية بعائلة ساويرس، ‏وهناك‏ ‏فى ‏خلفية ذلك‏ ‏برنامج‏ ‏اتفاقية‏ ‏عاطفية‏ ‏محدودة‏ ‏مع‏ ‏زوجته‏ ‏وأولاده، وربما معنا، ‏ربما كل هذا هو ما يحكم‏ ‏مستوى ‏مناقشاته‏ بشكل أو بآخر، ‏فيخيل إلى أن كل‏ ‏ما‏ ‏عدا‏ ‏ذلك‏ ‏من‏ ‏مساحة‏ ‏فكره‏ ‏غير‏ ‏جاهز‏ ‏للاستعمال، ما هذا؟ أعتقد أننى أبالغ فى حكمى على الناس، هذا عكس ما يفعله الاستاذ تماما!! ما هذا؟

 “‏حافظ” ‏هو‏ ‏الذى ‏أحضر‏ ‏الاستاذ‏ ‏من‏ ‏بيته‏ ‏ولحقنا‏ ‏محمد‏ ‏يحيى، ‏ثم‏ ‏أ‏.د‏.مجدى ‏عرفه‏ زميلى وتلميذى فى قصر العينى.‏

أعدت‏ ‏على ‏الاستاذ‏ ‏هذا‏ ‏الفرض‏ (‏أو‏ ‏الشطح‏): ‏القائل‏ ‏إن‏ ‏وراء‏ ‏غربة‏ ‏الملايين‏ ‏الخمسة‏ ‏من‏ ‏المصريين‏ ‏إيجابيات‏ ‏قابلة‏ ‏للتراكم‏ ‏مع الأيام، وهى تتجمع ‏ ‏فيما‏ ‏بينها عرضا، ‏على ‏مساحة‏ ‏العالم‏ ‏العربى ‏وربما تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك، وقد تتجمع طولا مع مرور الأيام، وتكلمت عن تفاؤلى باحتمال غلبة إيجابياتٍ قد لا تظهر آثارها إلا بعد حين، لم‏ ‏يوافقنى ‏أحد‏ ‏من‏ ‏الحاضرين، تماما ‏ ‏مثلما‏ ‏فعل‏ ‏زكى ‏سالم‏ ‏فى ‏بيت‏ ‏الأستاذ يوم السبت الماضى، ‏وهز‏ ‏الاستاذ‏ ‏رأسه‏، أعدت تعداد‏ ‏بعض‏ ‏الإيجابيات‏ ‏التى لاحظتها على من قابلت من مصريين أثناء رحلتى مثل التى سجلتها من قبل، فراح حافظ يعدد عينات ‏من‏ ‏الإهانة‏ ‏التى ‏يتلقاها‏ ‏المصرى ‏فى ‏الخارج، ‏والنذالة‏ ‏التى ‏يبديها‏ ‏المصرى ‏ليقطع‏ ‏عيش‏ ‏زميله‏ ‏المصرى ‏هناك، ‏وبالمقارنة‏ ‏لا‏ ‏يفعل‏ ‏ذلك‏ ‏لا‏ ‏السودانى ‏ولا‏ ‏الفلسطينى ‏ولا‏ ‏التايلاندى ‏ولا‏ ‏الهندى، ‏أصررت‏ ‏على ‏موقفى، ‏وقلت‏ ‏إننى ‏لم‏ ‏أنكر‏ ‏هذه‏ ‏السلبيات، ‏ولم‏ ‏أنكر‏ ‏أنهم‏ ‏يعودون‏ ‏لا‏ ‏لينتجوا‏ ‏وإنما‏ ‏ليبنوا‏ ‏بيتا‏ ‏من‏ ‏المسلح‏ ‏فى ‏الأرض‏ ‏الزراعية، ‏يجلسون‏ ‏أمامه، ‏وفى ‏داخله، ‏يتفرجون‏ ‏على ‏أفلام‏ ‏الجنس‏ ‏والمسلسلات، ‏أو يتزوجون الزوجة الثانية بلا مبرر، ومع‏ ‏ذلك‏ ‏فمازال‏ ‏الفرض الذى طرحته يملؤنى، ‏فالمصرى ‏له‏ ‏تاريخ، ‏وله‏ ‏عواطف، ‏وله‏ ‏رؤية، ‏وهذه‏ ‏السلبيات‏ ‏الكثيرة‏ التى تظهر بإلحاح ‏على السطح، هى التى ‏ ‏تغطى ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏بغطاء‏ ‏سميك‏ ‏لكنه‏ ‏ليس‏ ‏له‏ ‏حيوية‏ ‏ولا‏ ‏مرونه، ‏وأن هذا الغطاء‏ ‏سوف‏ ‏يتشقق‏ ‏حتما‏ ‏ليخرج‏ ‏ما‏ ‏وراءه‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏قد‏ ‏تجمع‏ ‏إيجابيا، ‏وأعلنت‏ ‏صراحة‏ ‏أننى ‏لم‏ ‏أستبعد‏ ‏احتمال‏ ‏أننى ‏أخدع‏ ‏نفسى، ‏وأقحم‏ ‏عليها‏ ‏تفاؤلا‏ ‏يبرر‏ ا‏ستمرارى فى هذه الحياة على هذه الأرض بين ناسى هؤلاء جدا، ‏تفاؤلا‏ ‏ليس‏ ‏له‏ ‏ما‏ ‏يبرره‏ ‏على ‏أرض‏ ‏الواقع، ‏لكننى ‏لا أملك الفكاك منه، ‏وحتى ‏لو‏ ‏أننى ‏وافقت‏ ‏على ‏الرؤية التى طرحها‏ ‏حافظ عزيز، وهى رؤية واقعية عارية تماما‏ ‏فلابد‏ ‏أن‏ ‏أضيف‏: ‏إن‏ ‏ذلك‏ ‏يعنى ‏أن‏ ‏أتحمل مسئولية المشاركة فى معالجة هذه السلبيات والتخلص من آثار أغلبها، ‏أمّا‏ ‏لو‏ ‏صحت‏ ‏رؤيتى (‏فروضى) ‏فإن‏ ‏هذا‏ ‏يعنى ‏أن‏ ‏الإيجابيات‏ – ‏وسط‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏القهر‏ – ‏موجوده،‏ ‏وفى ذلك ‏ما يشجعنى على البقاء حيا، إذْ يبرر استمرارى، وكررت‏‏ أننى ‏أعترف‏ ‏بكل‏ ‏هذا‏ ‏القهر، ‏ولكن‏ ‏هل‏ ‏وراء‏ ‏فرط‏ ‏القهر‏ – ‏هكذا‏ – ‏إلا‏ ‏التحريك‏ ‏فالتغيير، ‏فيقول‏ ‏محمد‏ ‏يحيى ‏إن‏ ‏صحت‏ ‏فروضك‏ ‏هذه‏ ‏‏فإن‏ ‏التحريك‏ ‏والتغيير‏ ‏قد‏ ‏حدثا‏ ‏فعلا، ‏ولكن‏ ‏فى ‏الاتجاه‏ ‏الآخر، ‏فى ‏تغذية‏ ‏هذا‏ ‏الشكل‏ ‏من‏ ‏”التدين‏ ‏السلبى” ‏الحالى، ‏وراح يشرح ما يعنيه من تعبير “‏التدين‏ ‏السلبى” ‏وأنه‏ ‏أشمل‏ ‏من‏ ‏نشاط‏ “‏الجماعات‏”، ‏وأوافقه‏ ‏من حيث المبدأ،‏ ‏لكننى ‏أتجاوزه‏ ‏إلى ‏أننا‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏نحترم‏ ‏الدور‏ ‏الاقتصادى ‏للمصرى ‏المهاجر، ‏وأنه يمكن أن‏ ‏يمثل‏ ‏البنية‏ ‏التحتية‏ ‏للتغيير‏ ‏الإيجابى ‏القادم، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏هو‏ قد يكون ‏المسكٍّن‏ ‏الأساسى ‏لآلامنا‏ ‏الراهنة، ‏ويفتح‏ ‏”قدرى” ‏زاوية‏ ‏البرجل‏ ‏على ‏الآخر، ‏فيعلن‏ ‏أننا‏ ‏فى ‏عصر‏ ‏الكيانات‏ ‏الكبيرة، ‏وأن‏ ‏التفكير‏ ‏فى ‏الحلول‏ ‏الجزئية‏ ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏يصلح‏ ‏لأحد، ‏فالعمالقة‏ ‏يتجمعون‏ ‏وينظمون‏ ‏أمورهم‏ ‏فيما‏ ‏بينهم، ‏ويقسمون‏ ‏الأرزاق، ‏وعلينا‏ ‏أن‏ ‏نبحث‏ ‏عن‏ ‏موقفنا‏ ‏ونصيبنا‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الزفة‏ ‏العالمية، ‏بدلا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏نرهق‏ ‏انفسنا‏ ‏بحلول‏ ‏جزئية‏ ‏ومرحلية، ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏تفشل‏ ‏إن‏ ‏هى ‏انفصلت‏ ‏عن‏ ‏النظام‏ ‏الأشمل‏. رحّبَ‏ ‏الاستاذ‏ ‏بهذا‏ ‏الاتجاه‏ ‏العالمى، ‏وبدا‏ ‏أنه‏ ‏ينتظر‏ ‏أن‏ ‏نكون‏ ‏أعضاء‏ ‏عاملين ‏فى ‏مجتمع‏ ‏واحد‏ ‏واسع‏ ‏رحب‏ ‏متسامح، ‏لكننى ‏سارعت‏ ‏بالتحذير‏ ‏من‏ ‏الاستسلام‏ ‏للأدوار‏ ‏التى ‏ترسم‏ ‏لنا، ‏والتى ‏تبدأ‏ ‏بتقسيم‏ (‏وتنظيم‏) ‏الأرزاق‏، ‏ثم‏ ‏تنتهى ‏بتشكيل‏ ‏العقول‏ ‏والوعى، ‏وسألت‏ “‏قدرى” ‏وهو يدعم‏ ‏الرأى ‏المستقبلى ‏التجمعى ‏العالمى، سألته ‏عن‏ ‏نصيبنا‏ ‏من‏ ‏الصناعات‏ ‏المستقبلية، ‏قال‏ مثلا: ‏هناك‏ ‏صناعة‏ ‏شرائح‏ ‏الكمبيوتر‏ (‏فيما‏ ‏يخص‏ ‏اللغة‏ ‏العربية‏) ‏وهى ‏التى ‏ستمثل‏ ‏ثالث‏ ‏صناعة‏ ‏فى ‏عالم‏ ‏المستقبل‏ ‏على ‏مستوى ‏العالم، ‏وهناك‏ ‏الصناعات‏ ‏ذات‏ ‏العمالة‏ ‏الكثيفة‏ ‏مثل‏ ‏صناعة‏ ‏السيراميك، ‏وتوقف‏ ‏الحديث‏ ‏قليلا‏ ‏والأستاذ‏ ‏منشرح‏ ‏الصدر‏ ‏أننا‏ ‏أخيرا‏ ‏سوف‏ ‏نجد‏ ‏مكانا‏ ‏فى ‏التقسيمة‏ ‏العالمية الجديدة، ‏هذا الرجل يأخذ كل الأمور مأخذ الجد حتى كأننا مجلس وزراء مصغر وهو رئيسه، قلت‏ ‏لقدرى: ‏إذن، ‏أنت‏ ‏تريد‏ ‏أن‏ ‏تبلغنا‏ ‏أن‏ ‏قدرنا‏ ‏الآن‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏ننتظر‏ ‏توزيع‏ ‏الأنصبة، ‏وأن‏ ‏نبدأ‏ ‏وننتهى ‏بالضبط‏ ‏حيث‏ ‏يضعونا، ورفضت ذلك وحذرت منه، ‏حاول‏ قدرى ‏أن‏ ‏ينفى ‏هذه‏ ‏المبالغة‏ ‏لكن ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏لديه‏ ‏بديل، ‏أعدت السؤال‏: ‏أليس‏ ‏عندنا‏ ‏مبادأة‏ ‏نقترحها‏ ‏تصلح‏ ‏لنا؟ ‏وأنه لامانع‏ ‏أن‏ ‏نعرضها‏ ‏على ‏أسيادنا‏ ‏العالميين، ‏لعلهم‏ ‏يجدون‏ ‏لها‏ ‏مكانا‏ ‏فى ‏خططهم‏ ‏العملاقة؟‏ ‏وسألت قدرى مرة أخرى أستوضح: أى الصناعات تتصور أنها تليق بقدراتنا، فقال إنها الصناعات القذرة، مثل صناعة الأسمدة والأسمنت، قلت يعنى إنهم ‏ينظفون‏ ‏بيئتهم‏ ‏على ‏حساب‏ ‏بيئتنا، ‏ثم أضفت‏: ‏حتى ‏لوكنا‏ ‏نستأهل‏ ‏ذلك‏ ‏أو‏ ‏لا‏ ‏نملك‏ ‏غيره‏، ‏ألا‏ ‏تخاف‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏هذا‏ ‏النموذج‏ ‏فى ‏تقسيم‏ ‏الصناعات‏ ‏وتوزيع‏ ‏الأرزاق‏ ‏هو‏ ‏هو‏ ‏النموذج‏ ‏المطروح‏ ‏لتثبيت‏ ‏الأفكار‏، ‏وتوزيع‏ ‏المعتقدات؟‏ ‏نبه‏ ‏د‏. ‏مجدى ‏عرفه‏ ‏على ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏النقاش‏ ‏الذى ‏قد‏ ‏يؤدى ‏بنا‏ ‏إلى ‏خطأ ‏الوقوع‏ ‏فى ‏نوع‏ ‏من‏ ‏التفسير‏ ‏التآمرى، ‏ووافقته‏ ‏على ‏هذا‏ ‏التحذير، ‏لكننى ‏أضفت‏ ‏أن‏ ‏تجنب‏ ‏التأويل‏ ‏التأمرى ‏لا يعنى ‏بحال‏ ‏من‏ ‏الأحوال‏ ‏الاستسلام‏ ‏للثقة‏ ‏الطفلية، ‏إن‏ ‏علينا‏ ‏أن‏ ‏ندرس‏ ‏أحوالنا‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏الذى ‏يدرسون‏ ‏فيه‏ ‏أحوالنا‏ (‏ضمن‏ ‏أحوال‏ ‏العالم‏) ‏ونرى ‏ما‏ ‏نتميز‏ ‏به‏ ‏فكرا‏ ‏ووعيا‏ ‏وتاريخا، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏قدرة‏ ‏ومهارة‏ ‏وعمالة، ‏ثم‏ ‏نقترح‏ ‏ما‏ هو ‏أليق بنا ولو ‏ ‏فى ‏اطار‏ ما ‏ ‏يخططون‏ لنا.‏

انتقل‏ ‏محمد‏ ‏يحيى ‏إلى ‏جوار‏ ‏الاستاذ‏ ‏ليقترح شيئا‏ ‏ما‏ ‏عن ما هو‏ ‏نحن‏ ‏قائلا‏: ‏إنه‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نبحث‏ ‏أولا‏ ‏وقبل‏ ‏كل‏ ‏شيء‏ ‏عن ‏ما‏ ‏نتتميز‏ ‏به‏ ‏لدرجة‏ ‏تقرب‏ ‏من‏ ‏استبعاد‏ ‏المنافسة، ‏فنحن‏ ‏نتميز‏ ‏بالجو‏ ‏المعتدل‏ ‏طول‏ ‏العام، ‏والشواطيء، ‏والآثار، ‏والموقع‏ ‏الجغرافى، ‏وبالتالى ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏دخلنا‏ ‏الأول‏ ‏من‏ ‏السياحة‏ ‏لا‏ ‏من‏ ‏الصناعة، ‏فقلت‏ ‏له‏ ‏إنها‏ ‏صناعة‏ ‏السياحة، ‏قال، ‏ليكن، ‏يلى ‏ذلك‏ ‏الزراعة، ‏أو‏ ‏صناعة‏ ‏الزراعة‏ ‏إن‏ ‏شئنا، ‏وافقه الأستاذ فرحا بافكاره، وقال: ‏ولكن‏ ‏ما العمل‏ و‏قد‏ ‏بدأنا‏ ‏نحن‏ ‏نضرب‏ ‏ما‏ ‏نتميز‏ ‏به، ‏حتى أننا يمكن أن‏ ‏نضرب سياحتنا بأيدينا وكأننا بذلك ننتحر؟ وطأطأ رأسه بحزنٍ واضح آسفاً.

رجع‏ ‏قدرى ‏إلى ‏التنبيه‏ ‏إلى ‏أنهم‏ (‏فى ‏العالم‏ ‏الجديد‏) ‏لايصنفون‏ ‏الدول‏ ‏بالتقدم‏ ‏والتخلف، ‏ولا‏ ‏بالعالم‏ ‏الأول‏ ‏أو‏ ‏الثانى، ‏وإنما‏ ‏يصنفونها‏ ‏على ‏أساس‏ ‏الطريقة‏ ‏التى ‏يتبعها‏ ‏ساسة‏ ‏دولة‏ ‏من‏ ‏الدول‏ ‏فى ‏اتخاذ‏ ‏القرار، ‏وضرب مثلا:‏ ‏القنبلة‏ ‏الذرية، ‏فهم‏ ‏لا‏ ‏يخشون‏ ‏من‏ ‏دولة‏ ‏متقدمة‏ ‏أو‏ ‏دولة‏ ‏غنية، ‏وإنما‏ ‏يخشون‏ ‏من‏ ‏دولة‏ ‏تملك‏ ‏أسرار‏ ‏القنبلة‏ ‏الذرية، ‏أو‏ ‏تملك‏ ‏القنبلة‏ ‏الذرية، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏يحكمها‏ ‏فرد‏ (‏أو‏ ‏حكم‏ ‏شمولى ‏يتبع‏ ‏فردا‏ مثل‏ ‏صدام‏ ‏حسين) ‏هنا‏ ‏يصبح‏ ‏الخطر‏ ‏فى ‏أن‏ ‏يصدر‏ ‏هذا‏ ‏الفرد‏ ‏قرارا‏‏ ‏تترتب‏ ‏عليه‏ ‏حرب‏ ‏ذرية، ‏وبالتالى ‏يتضح‏ ‏مدى ‏الرعب‏ ‏الذى ‏يصيبهم‏ ‏من‏ ‏تصور‏ ‏احتمال‏ ‏امتلاك‏ ‏أية ‏دولة‏ ‏للقنبلة‏ ‏الذرية‏ ‏أو‏ ‏أسرارها‏ ‏طالما‏ ‏أنها‏ ‏ليست‏ ‏ديمقراطية‏، فبدا الكلام ‏مقنعا‏ ‏للاستاذ‏ ‏خاصة، فهو فى صالح “الديمقراطية”، ولم أتردد فى العودة إلى التحفظ على المبالغة فى تقديس ‏هذه‏ ‏الديمقراطية‏ ‏الغربية، ‏وكررت اعتراضى ‏أن‏ ‏نرضى ‏طول‏ ‏الوقت‏ ‏أن‏ ‏نقاس‏ ‏بمسطرتهم، ‏وأن نتواجد تحت لافته تعريفهم‏ ‏للديمقراطية، ‏أو ‏لحقوق‏ ‏الإنسان، ‏وهكذا، ‏وقلت‏ ‏إنهم‏ ‏أنفسهم‏ ‏يراجعون‏ ‏الديمقراطية‏ ‏التى ‏يمارسونها‏ ‏حاليا، ‏كما‏ ‏يراجعون‏ ‏مسألة‏ “‏الديمقراطية‏ ‏بالإنابة”‏ التى كادت تصبح أقرب‏ ‏إلى ‏النكته‏ ‏أو‏ ‏الخدعة، ‏وأن الاتجاه‏ ‏الآن‏ ‏يتجه‏ ‏إلى البحث عن ‏ديمقراطية‏ ‏تتماشى ‏مع‏ ‏اللامركزية‏ ‏المتزايده، ‏والحلول‏ ‏الذاتية‏ ‏المتكاملة‏ ‏فى ‏الكل، ‏والتى تتيح الاشتراك‏ ‏المباشر‏ ‏لكل‏ ‏المشتغلين‏ ‏فى ‏موقع‏ ‏بذاته‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏الممارسة، ‏أن يسهموا فى اتخاذ القرار، وهنا‏ ‏بدأ ‏الكلام‏ ‏متناقضا‏ ‏مع‏ ‏الاتجاه‏ ‏إلى ‏تصور‏ ‏اتجاه‏ ‏العملقة‏ ‏وتقسيم‏ ‏الأرزاق‏ (‏ذُكرت‏ ‏طبعا‏ ‏اتفاقية‏ ‏الجات‏ ‏عدة‏ ‏مرات‏ ‏أثناء‏ ‏النقاش‏)، ‏فقال‏ ‏د‏.‏رمضان‏ ‏بسطويسى ‏إن‏ ‏هناك‏ ‏اتجاها‏ ‏مستقبليا‏ ‏يعد‏ ‏بالعكس‏ ‏تماما، ‏هذا الاتجاه‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏أن‏‏ ‏أوربا‏ ‏تسير أكثر فأكثر نحو ‏المزيد‏ ‏من‏ ‏اللامركزية، ‏وراح ‏يؤكد‏ ‏أن‏ ‏الكيانات‏ ‏الصغيرة‏ ‏تتشكل‏ ‏بعدد‏ ‏أكبر، ‏وبتنظيم‏ ‏أكثر‏ ‏استقلالا، ‏حتى ‏ربما ‏فى ‏النهاية قد تحل محل‏ ‏النظام‏ ‏العالمى ‏المشار‏ ‏إليه، ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏يحدث‏ ‏دون‏ ‏انفصال‏ ‏عن‏ ‏الكيان‏ ‏الكلى، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏بعض‏ ‏الكيانات‏ ‏تنظر‏ ‏إلى ‏ضعف‏ ‏دور‏ ‏الدولة‏ ‏فى ‏الدول‏ ‏النامية‏ ‏مثلنا‏ ‏باعتباره‏ ‏مزية‏ ‏لا‏ ‏عيبا، ‏حيث‏ ‏تمضى ‏الحلول‏ ‏الذاتية‏ ‏إلى ‏تحقيق‏ ‏غايات‏ ‏لا‏ ‏تستطيع‏ ‏الدولة‏ ‏القيام‏ ‏بها‏ أولا‏ ‏ينبغى ‏أن تقوم‏ ‏بها، فيقتصر دور الدولة على ان ‏تصبح بمثابة ‏شبكة‏ ‏الاتصالات‏ ‏التى ‏تجمع‏ ‏هذه‏ ‏الجزئيات‏ ‏المستقلة‏ ‏بأقل‏ ‏قدر‏ ‏من‏ ‏التدخل، ‏وألتقط‏ ‏الخيط‏ ‏لأعلن‏ ‏أن‏ ‏علينا‏ ‏من‏ ‏الآن‏ ‏أن‏ ‏نبحث‏ ‏عن‏ ‏تميزنا، ‏وأن‏ ‏نحدد‏ ‏هويتنا، ‏وأن‏ ‏نؤكد‏ ‏دورنا‏ ‏المحتمل، ‏اقتصادا‏ ‏وفكرا، ‏ووعيا‏ ‏فماذا‏ ‏عندنا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نضيفه‏ ‏إليهم‏ ‏من‏ ‏موقفنا‏ ‏الخاص فعلا؟ قال‏ ‏الاستاذ‏ ‏دون‏ ‏تردد‏: ‏عندنا‏ ‏الإسلام، ‏ليس‏ ‏عندنا‏ ‏شيء‏ ‏متميز‏ ‏ومختلف‏ ‏غيره، ‏فالحرية‏ ‏هم‏ ‏رواد‏ ‏الحرية، ‏والديمقراطية‏: ‏هم‏ ‏الذين‏ ‏صنعوها‏ ‏ويحافظون‏ ‏عليها، ‏وحقوق‏ ‏الانسان‏: ‏هم‏ ‏أيضا‏ ‏روادها، ‏فلو‏ ‏حاولنا‏ ‏أن‏ ‏نصدر‏ ‏أو‏ ‏ندعى ‏ملكية‏ ‏أيا من‏ ‏هذه‏ ‏المنظومات‏ ‏لوجدنا‏ ‏أنفسنا‏ ‏مقلدين‏ ‏متأخرين‏ ‏عنهم‏ ‏بمراحل‏ ‏كبيره، ‏فليس‏ ‏عندنا‏ ‏سوى ‏الاسلام، ‏لم‏ ‏أكد‏ ‏أنتبه للعودة‏ ‏‏إلى ‏الحديث‏ ‏القديم‏ ‏حتى ‏قفز‏ ‏محمد‏ ‏يحيى ‏قائلا، ‏وحتى ‏فى ‏الاسلام، هم‏ ‏متقدمون‏ ‏عنا‏ ‏فيه‏، من‏ ‏واقع‏ ‏الحس‏ ‏والوعى ‏والممارسة، ‏وليس‏ ‏بالضرورة‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏النص‏ ‏والفقه والتفسير، ‏وافقت‏ ‏فى ‏داخلى ‏بشروطى، ‏لكننى ‏أعلنت‏ ‏الحذر‏ ‏والرفض‏ ‏خشية‏ ‏الاستسهال‏ ‏والنكسة، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏تعجبت‏ ‏للاستاذ‏ ‏الذى ‏يضع‏ ‏الاسلام‏ ‏هكذا‏ ‏فى ‏بؤرة‏ ‏وعيه‏ ‏باعتباره‏ ‏منظومة‏ ‏متميزة‏ ‏فعلا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تضيف‏ ‏إلى ‏الإنسانية‏ ‏ما‏ ‏تحتاجه، ‏الأرجح أن هذا الرجل يعرف إسلاما آخر غير ذلك “الإسلام” الذى “هو الحل” المزعوم، يعرف إسلاما حقيقيا وصله من إبداعه وعلاقته بربه بقدر ما وصله من نقد واقع ما انحدر إليه سلوك ناسه، لم أعلن أيا من ذلك، وخشيت ‏أن‏ ‏ننزلق‏ ‏إلى ‏نقاش‏ ‏معاد‏ ‏حول‏ ‏ما‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏هؤلاء‏ ‏المسمون‏ ‏إسلاميون‏ ‏يمثلون‏ ‏الاسلام‏ ‏الذى ‏يعنيه الأستاذ‏ ‏أم‏ ‏لا، ‏وينبه‏ ‏د‏. ‏رمضان‏ ‏بسطاويس‏ ‏إلى ‏قدرات‏ ‏الانسان‏ ‏المصرى ‏التى ‏تتضاعف‏ ‏أضعافا‏ ‏كثيرة‏ ‏إذا‏ ‏ما‏ ‏وضع‏ ‏تحت‏ ‏ضغط، ‏فى ‏الداخل‏ ‏أو‏ ‏فى ‏الخارج، ‏فيقول‏ ‏الاستاذ‏ ‏ولماذا‏ ‏تخص‏ ‏المصرى ‏بذلك، ‏ألا‏ ‏ينطبق‏ ‏هذا‏ ‏على ‏الإنسان‏ ‏فى ‏كل‏ ‏زمان‏ ‏ومكان، ‏ويقول‏ ‏قدرى ‏إن‏ ‏معادلة‏ ‏الانتاج‏ ‏تحتاج‏ ‏إلى: ‏إنسان‏ ‏جيد‏ (‏القدرة‏ ‏والأداء‏ ‏والمهارة‏) ‏ونظام‏ ‏جيد‏ (‏يستوعب‏ ‏هذه‏ ‏القدره‏ ‏والآداء‏ ‏والمهارة‏)، وأنه إذا ‏‏اختل‏ ‏أحدهما‏ (‏الإنسان‏ ‏أو‏ ‏النظام‏) ‏توقف‏ ‏الانتاج‏ ‏وتحقق‏ ‏الفشل، ‏فالإنسان‏ ‏المصرى ‏الجيد‏ ‏يفشل‏ ‏فى ‏مصر‏ (‏عادة‏) ‏لأن‏ ‏النظام‏ ‏سيء، ‏فإذا‏ ‏خرج‏ ‏وانضغط‏ ‏انطلق‏ ‏وأنجز، ‏وأوافق‏ ‏بتردد، ‏لأن‏ ‏الخواجة‏ ‏الذى ‏يحضر‏ ‏إلى ‏مصر‏ ‏قد‏ ‏يبذل‏ ‏جهدا‏ ‏مناسبا‏ ‏حتى ينجح و‏يحقق‏ ‏القدر‏ ‏الملائم‏ ‏مما يريد، إذن فنظامنا يسمح ‏بأن‏ ‏يُظهر‏ ‏هذا الخواجة جودته وسطنا، ‏ثم إن الانسان‏ ‏الجيد حقيقة‏ ‏لا‏ ‏يكتفى‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏ترسا‏ ‏فى ‏نظام‏ ‏جيد، ‏ولكن‏ ‏عليه‏ ‏أيضا‏ ‏أن‏ ‏يجتهد‏ ‏ليقيم‏ ‏نظاما‏ ‏جيدا‏ ‏إن‏ ‏لم‏ ‏يوجد، ‏وهذا‏ ‏أمر ‏أصعب‏، لكنه وارد، بل واجب.‏

ويسألنى – ‏د‏. ‏رمضان‏ ‏بسطويسى ‏سؤالا‏ ‏شخصيا مباشرا‏ يسمعه الأستاذ بوضوح : ‏هل‏ ‏يسافر‏ ‏للخليج‏ ‏ليجمع‏ ‏ثمن‏ ‏الشقة‏ ‏التى ‏دفع‏ ‏أول‏ ‏قسط‏ ‏لها‏ ‏مؤخرا، ‏أم‏ ‏يستمر‏ ‏هنا‏ ‏يواصل الليل بالنهار وهو لا يكاد يسدد ديونه؟ ولا يتردد ‏ ‏الاستاذ‏ ‏فى ‏الإجابة‏: ‏أن‏ ‏سَافرْ‏ ‏سَافرْ، ‏فهذا‏ ‏عمل‏ ‏شريف‏ ‏سبق‏ ‏إليه‏ ‏كل‏ ‏أساتذتك‏: ‏زكى ‏نجيب‏ ‏محمود‏ ‏مثلا، ‏ثم يضيف مشجعا أن د‏. ‏زكى ‏نجيب‏ ‏يذكر‏ ‏هذه‏ ‏الفترة‏ ‏بالخير، ‏وأنها‏ ‏كانت‏ ‏من‏ ‏أثرى ‏فترات‏ ‏إنتاجه‏، ويتحفظ‏ ‏د‏. ‏رمضان‏ ‏على ‏نوع‏ ‏انتاج‏ ‏زكى ‏نجيب‏ ‏محمود‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الفترة، برغم إقراره بوفرته، ‏وتثار‏ ‏احتمالات‏ ‏أن‏ ‏المصرى ‏المسافر‏ ‏يتمثل‏ ‏ثقافة أخرى‏ ‏وقد تحركه إلى‏ ‏وجودا ثْرَى، ‏فأضيف‏ ‏وهو‏ ‏بهذا‏ ‏قد‏ ‏يساهم‏ ‏فى ‏تحقيق‏ ‏الفرض‏ (‏أو‏ ‏الحلم‏) ‏الذى ‏افترضته‏ ‏فى ‏بداية‏ ‏الجلسة، ‏وهو‏ ‏أن‏ ‏المسافرين‏ ‏المصريين‏ ‏يمكن أن يمثلوا مشروع ‏الطفرة‏ ‏القادمة‏ ‏فى ‏تاريخ‏ ‏مصر، ‏يستوى ‏فى ‏ذلك‏ ‏العامل‏ ‏الماهر‏ ‏المشارك فى رمى الخرسانة، ‏وأستاذ‏ ‏الجامعة‏ ‏المساهم‏ ‏فى ‏التنظيم‏ ‏العقلى ‏وتشكيل‏ ‏الوعي‏.‏

كان‏ ‏الاستاذ‏ ‏قد‏ ‏سأل‏ ‏قبل‏ ‏مدة ‏عن‏ ‏الساعة‏ ‏فظن‏ الضيوف ‏الجدد‏ (‏مثل‏ ‏د‏. ‏مجدى ‏عرفه‏) ‏أنه‏ ‏سئم‏ ‏الجلسة، ‏لكننا‏ ‏حين‏ ‏أجبنا‏ ‏انها‏ ‏الثامنة‏ ‏انفرجت‏ ‏اساريره‏ ‏وقال‏ “‏كويس”، وحين‏ ‏بلغت‏ ‏التاسعة‏ ‏والنصف إلا دقيقتين، ‏سأل‏ ‏ثانية‏ ‏فأجبناه بما هى، ‏فعلق تعليقه المكرر أنه:‏ “‏يا‏ ‏سلام‏ ‏علىّ”، ‏رنت‏ ‏فى ‏أذنى ‏أغنية‏ ‏من‏ ‏بلدنا‏ ‏تنغم‏ ‏هذا‏ ‏المقطع‏ ‏تقول‏: “‏آانا‏ ‏بنت‏ ‏عمك ‏- فنرد نقول “ايوه” – فتكمل:، ‏يا‏ ‏سلام‏ ‏علايّا”، ‏وهكذا، ومن فرحتى بما قال، كدت أغنى له الأغنية، لكننى تراجعت، إلا أن الإغنية لم تتراجع وأكملت”‏ ‏لالْبِسْلَكْ‏ ‏قطيفة،( ‏أيوه)،‏ ‏واقلع‏ ‏لك‏ ‏قطيفه، (‏أيوه‏) ‏واقعد‏ ‏لك‏ ‏نضيفة (أيوه)، ‏‏يا‏ ‏سلام‏ ‏علايّا”، وأعود أنظر إليه وأتذكر قوله – يا سلام علىَّ- فرحا بساعته البيولوجية، وهو يقول الذى جلب إلىّ كل هذه الفرحة والذكرى، وأقول لنفسى منغما: ‏يا‏ ‏سلام‏ ‏علااايّا”

على السلالم، وهو يهم بركوب العربة، ينبهنى ‏مؤكدا‏ ‏أن‏ ‏أحضر‏ ‏إلى ‏منزله‏ ‏غدا‏ ‏قبل‏ ‏السادسة، ‏لأننى ‏و”توفيق”‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏نكون‏ ‏فى ‏استقبال‏ ‏السفير‏ ‏وصحبه‏ ‏وهو‏ ‏قادم‏ ‏ليقلده‏ ‏النيشان، ‏ووعدته‏ ‏أنى سأجتهد تماما فى ذلك، ‏لكننى ‏كنت‏ ‏مترددا‏ ‏وأنا أتساءل: ‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏دورى أنا ‏فى ‏هذا، ‏وخاصة‏ ‏وقد‏ ‏علمت‏ ‏أن‏ ‏آخرين‏ ‏يحرصون‏ ‏أو‏ ‏يتكالبون‏ ‏على ‏حضور‏ ‏مثل هذا‏ ‏الحفل‏ ‏المحدود، وأضمر اعتذارى، وأمتنع عن الوعد الصريح المحدد، ‏قلت‏ ‏لمحمد‏ ‏إبنى ‏بعد‏ ‏انصراف‏ ‏الاستاذ، ‏ما‏ ‏هو‏ ‏دورى ‏أنا‏ ‏فى ‏مثل‏ ‏ذلك؟‏ ‏فقال‏ ‏فى ‏احتجاج‏ ‏طيب‏: ‏هل من‏ ‏الضرورى ‏أن‏ ‏تعرف‏ ‏دورك‏ ‏دائما‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏تبدأه،‏ ‏إذهب‏ ‏وخلاص، ‏مادام‏ ‏دعانا، ‏فلنذهب، وأعرف ضمنا أنه دعاه أيضا، هو وحافظ، ‏وأحسب‏ ‏أنه‏ ‏ذكر‏ ‏زكى ‏سالم‏ ‏طبعا،

 قلت‏ ‏لنفسى ‏ستكون‏ ‏زحمة‏ ‏لا‏ ‏مبرر‏ ‏لها،‏ ‏لكننى ‏من‏ ‏بعد‏ ‏آخر‏ ‏شعرت‏ ‏بسخف اعتذارى،

 ولم أقرر شيئا. ‏

الحلقة التاسعة والأربعون

السفير الفرنسى والوسام

السبت:‏ 8/4/1995

جمال‏ ‏الغيطانى ‏لم يدخل بعد إلى شقة الاستاذ، أحسن، لمحته واقفا على ‏باب العمارة ‏وسط‏ ‏الحرس، ‏وصلت‏ ‏فى ‏السادسة‏ ‏والربع، ‏سحبت‏ ‏جمال‏ ‏إلى ‏ناحية‏ ‏لأهمس‏ ‏له‏ ‏وكأننى ‏أبرر‏ ‏حضورى ‏حتى ‏لا‏ ‏يحسبنى ‏متطفلا‏ – ‏قلت‏: ‏إن‏ ‏الاستاذ‏ ‏قد‏ ‏دعانى ‏للحضور، ‏فما‏ ‏هو‏ ‏دورى ‏بالضبط، ‏قال‏ ‏جمال‏ ‏بطيبة‏: ‏يبدو‏ ‏أنه‏ ‏من‏ ‏تقاليد‏ ‏هذه‏ ‏المناسبات‏ ‏أن‏ ‏يطلب‏ ‏من‏ ‏الاستاذ‏ ‏أن‏ ‏يقوم‏ ‏بدعوة‏ ‏من‏ ‏يختار‏ ‏من‏ ‏أصدقائه‏ ‏ومحبيه‏ ‏ليشاركوه‏ ‏هذه‏ ‏المناسبة، ‏ويبدو‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏تقاليد‏ ‏فرنسية‏ ‏بوجه‏ ‏خاص، ‏قلت‏ ‏إذن‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏اختارك‏ ‏واختارنى، ‏قال‏: ‏نعم، ‏تأكدت‏ ‏وفرحت‏ ‏وعلمت‏ ‏أن‏ ‏توفيق‏ ‏بالداخل‏ ‏ودخلنا، ‏وجدت‏ ‏الاستاذ‏ ‏حليقا، ‏وتوفيق‏ ‏أنيقا، ‏والصالة‏ ‏جاهزة‏ ‏لاستقبال‏ ‏السفير، ‏وكان‏ ‏الاستاذ‏ ‏مرحا‏ ‏خجلا‏ ‏جميلا‏ ‏متواضعا، ‏وحين‏ ‏دخل‏ ‏جمال‏ ‏قال‏ ‏الاستاذ‏: ‏إذن‏ ‏من‏ ‏الذى ‏فى ‏الخارج‏ ‏لاستقبال‏ ‏السفير، ‏قلنا‏ ‏له‏: ‏لا‏ ‏أحد، ‏وإنه‏ ‏ليس‏ ‏من‏ ‏الضرورى ‏أن‏ ‏ينتظره‏ ‏أحد، ‏فشوح‏ ‏بيده‏ ‏قائلا‏ “‏لايصح‏ ‏دا‏ ‏سفير‏!!” ‏ضحكنا، ‏وتصورت‏ ‏أننا‏ ‏فى ‏بلدنا‏ ‏وأن‏ ‏عمدة‏ ‏بلد‏ ‏مجاور‏ ‏جاء‏ ‏يزور‏ ‏أحد ا‏‏لمواطنين‏ ‏البسطاء‏ ‏المعروفين‏ ‏بالطيبة‏ ‏والبركة، ‏فإذا‏ ‏بهذا‏ ‏المواطن‏ ‏يضرب‏ ‏لخمة، ‏‏ ‏وهو لا‏ ‏يعرف‏ ‏أصول‏ ‏استقبال‏ ‏العمد، ‏ويسأل‏ ‏عن‏ ‏مشايخ‏ ‏البلد‏ ليكونوا فى استقبال العمدة، أو يروح ‏يحتمى ‏بالجيران‏ ‏والأحباب‏ ‏ممن‏ ‏يعرفون‏ “‏فى ‏هذا” ‏ الطقس الخاص بزيارة العمد، ‏حضر‏ ‏سلماوى ‏وحضر‏ ‏الباقون، ‏ثم‏ ‏المسشار‏ ‏الثقافى ‏الفرنسى، ‏ومدير‏ ‏المركز‏ ‏الثقافى ‏الفرنسى ‏وزوجاتهما‏ ‏، ‏وحضر‏ ‏محمد‏ ‏يحيى ‏وحافظ‏ ‏ومعهما‏ ‏باقتان‏ ‏من‏ ‏الورد‏ ‏الجميل، ‏ونظرت‏ ‏إلى ‏يوسف‏ ‏القعيد‏ ‏وقلت‏ ‏له‏ ‏فاتتنا‏ ‏الأصول‏ ‏نحن‏ ‏فلاحان، ‏أين‏ ‏الورود؟، ‏قال‏ ‏إيش ‏عرّفنا،

 ‏وحضر‏ ‏السفير‏.‏

إنسان‏ ‏رقيق‏ ‏متواضع‏ ‏متحضر‏ ‏بحق، ‏وبدأت‏ ‏مراسم‏ ‏الاحتفال

نادى ‏الأستاذ على ‏الزوجة الفاضلة ‏ ‏والبنات الكريمات، ‏وجلسوا‏ ‏فى ‏الصالون‏ ‏الداخلى ‏وظل‏ ‏الاستاذ‏ ‏جالسا‏ ‏والسفير‏ ‏واقفا‏ ‏يقول‏ ‏كلمته‏ ‏التى ‏حضرها‏ ‏بنفسه‏ (‏هكذا‏ ‏أخبر الأستاذ ‏بعدها‏) ‏والتى ‏كانت‏ ‏طويلة‏ ‏نسبيا‏ ‏غير‏ ‏ما‏ ‏كنت‏ ‏أتوقع، ‏وكان‏ ‏المترجم‏ ‏قد‏ ‏أعدّ لها ‏ ‏ترجمة‏ ‏جاهزة‏/ ‏أخذ‏ ‏يقرأها‏ ‏على الاستاذ‏ ‏فقرة‏ ‏فقرة‏.‏

كانت‏ ‏كلمة‏ ‏السفير‏ ‏من‏ ‏أحسن‏ ‏ما‏ ‏سمعت‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏العاطفة، ‏والتحضر‏ ‏والنقد‏ ‏الأدبى، ‏والإحاطة‏ ‏الانسانية‏ (‏سوف‏ ‏أحاول‏ ‏الحصول‏ ‏على ‏نصها‏ ‏وإن‏ ‏كنت‏ ‏أفضل‏ ‏أن‏ ‏أعيد‏ ‏روحها‏ ‏حالا‏ ‏من‏ ‏الذاكرة‏)‏

‏ ‏تناول‏ ‏السفير‏ “‏نجيب‏ ‏محفوظ”‏ ‏كرمز، ‏وكمعنى، ‏ ممثلا لما‏ ‏هو‏ ‏مصر، ‏ولما‏ ‏هو‏ ‏عصر، ‏وبدا من كلمته أنه قد‏ ‏أحاط‏ ‏بأعماله‏ ‏وكأنه‏ ‏قرأها‏ ‏جميعها، ‏وأظهر‏ ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏قارئ‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ، ‏وإن‏ ‏لم‏ ‏يزر‏ ‏القاهرة‏ ‏القديمة‏ ‏خاصة‏ ‏يمكنه‏ ‏أن‏ ‏يشم، ‏أريجها، ‏وأن‏ ‏يلمس‏ ‏بلاط‏ ‏شوارعها‏ ‏وهو‏ ‏يقرأ‏ ‏محفوظ، ‏كما‏ ‏أكد‏ ‏ما‏ ‏سمعته‏ ‏من‏ ‏الطيب‏ ‏صالح‏ ‏من‏ ‏قبل‏ ‏وهو‏ ‏أن‏ ‏العالمية‏ ‏ليست‏ ‏فى ‏أن‏ ‏تتكلم‏ ‏لغة‏ ‏عالمية، ‏ولكن‏ ‏فى ‏أن‏ ‏تتعمق‏ ‏فى ‏موقعك‏ ‏الوطنى، ‏وتلم‏ ‏به، ‏وتبرع‏ ‏فيه‏ وبذلك ‏تساهم‏ ‏فى ‏نسيج‏ ‏العالم‏ ‏كله‏ ‏بتقديم‏ ‏هذه‏ ‏الجزئية‏ ‏بأروع‏ ‏ما‏ ‏تحمل‏ ‏ملتحمة‏ ‏ومتكاملة‏ ‏فى ‏الوجود‏ ‏البشرى ‏بحضوره‏ ‏الشامل‏ ‏المتكون‏ ‏من‏ ‏جمّاع ‏ ‏المكونات ‏الوطنيه‏ ‏فى ‏كل‏ ‏أنحاء‏ ‏العالم، ‏وأعجبت‏ بكل ذلك‏.‏

ثم انتقل السفير إلى ‏مديح‏ جزئية لم أقبلها أبدا ‏من‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ، ‏فذكر بالإطراء الشديد كلمة نجيب محفوظ‏ ‏الأسبوعية‏ ‏فى ‏الأهرام‏ ‏كل‏ ‏خميس، ولا أعرف كيف ‏اعتبرها‏ ‏السفير‏ ‏من‏ ‏أهم‏ ‏ما‏ ‏يميز‏ ‏محفوظ‏ ‏وهو‏ ‏يواكب‏ ‏الأحداث‏ ‏اليومية‏ ‏ويتعاطف‏ ‏مع‏ ‏الناس، ‏وخاصة‏ ‏البسطاء‏ ‏والمتألمين، ليكن، له ما رأى.

ثم‏ ‏أشار‏ السفير ‏إلى ‏معنى ‏الوسام‏ – ‏والأوسمة‏ – ‏وأنها‏ ‏فى ‏ذاتها‏ ‏لا‏ ‏تضيف‏ ‏شيئا‏ ‏لصاحبها‏ ‏إلا‏ ‏أنها‏ ‏تذكره‏ ‏بذاته، ‏وقد‏ ‏تسمح‏ ‏له‏ ‏بشيء‏ ‏من‏ ‏الغرور‏ ‏المشروع، ‏لكن‏ ‏القيمة‏ ‏الحقيقية‏ ‏لوجود‏ ‏انسان‏ ‏مثل‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏هو‏ ‏قدرته‏ ‏على ‏تخطى ‏الوسائل‏ ‏إلى ‏الغايات، ‏فلا‏ ‏السلطة‏ ‏ولا‏ ‏الثروة‏ ‏ولا‏ ‏الشهرة‏ ‏تمثل‏ ‏عنده‏ ‏قيمة‏ ‏فى ‏ذاتها، ‏وإنما‏ ‏تتمثل‏ ‏القيمة‏ ‏فى ‏العقل‏ ‏والمعرفة‏، ‏وقد‏ ‏كدت لأول وهلة ‏أتصور‏ ‏أنه يشير بذلك ‏ ‏إعلاء‏ ‏للموسوعية‏ ‏أو‏ ‏الثقافة‏ ‏بمعناها‏ ‏المعقلن فتحفزت – بداخلى – للرفض، ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏أضاف‏ ‏أنه‏ ‏يعنى ‏بذلك”.. ‏القدرة‏ ‏على ‏تحمل‏ ‏مسئولية‏ ‏الحياة‏ ‏على ‏أرض‏ ‏الواقع‏ ‏وسط‏ ‏الناس‏ ‏البسطاء”.

 ‏أىُّ ‏قمة‏ ‏فى ‏التعبير‏ ‏وأى ‏روعة‏ ‏فى ‏التقدير‏، شكرا سيادة السفير النيل.

حين‏ ‏سألت‏ ‏السفير‏ – ‏فيما‏ ‏بعد كلمته‏ – ‏كيف‏ ‏ألمّ ‏بنجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏الكاتب‏ ‏والمبدع‏ ‏والروائى ‏والشخصى ‏والإنسان‏ ‏هكذا، ‏وهل‏ ‏قرأ‏ ‏كل‏ ‏أعماله،‏ ‏أجاب‏ ‏أن‏ ‏ماقرأه‏ ‏مترجما‏ ‏كان‏ ‏يكفى، ‏وفرحت‏ ‏به‏ ‏وملت‏ ‏على ‏محمد‏ ‏إبنى ‏وقلت‏ ‏له‏: ‏الآن‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏أصدقك‏ ‏أن‏ ‏عندهم‏ ‏إسلام‏ ‏أكثر‏ ‏منا.

وكان‏ ‏السفير‏ ‏قد‏ ‏أشار‏ ‏إلى ‏أنه‏ ‏يشرفه‏ ‏أن‏ ‏يمثل‏ ‏بلاده‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الفترة، ‏وأنه‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏اقترح‏ ‏إسم‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏لينال‏ ‏هذا‏ ‏الوسام‏ ‏الذى ‏لم‏ ‏ينله‏ ‏عربى ‏من‏ ‏قبل،‏ ‏ ورد‏ ‏شيخنا فى‏ ‏كلمة‏ ‏مرتجلة‏ ‏كان‏ ‏أهم‏ ‏ما‏ ‏وعيته‏ ‏منها‏ ‏أنها طمأنتنى إلى دقة ما تلقيته ‏من‏ ‏روح‏ ‏كلمة‏ ‏السفير، ‏قال‏ الأستاذ ‏إن‏ ‏كلمة السفير ‏لم‏ ‏تصدر‏ ‏عن‏ ‏شخص‏ ‏يشغل‏ ‏منصبا‏ ‏رسميا‏ ‏ويؤدى ‏مهمة‏ ‏رسمية، ‏وإنما‏ ‏كانت‏ ‏نابعة‏ ‏من‏ ‏عواطفه‏ ‏النبيلة‏ (‏وهذا‏ ‏ما‏ ‏أحسست‏ ‏به‏ ‏تماما‏ ‏وإن‏ ‏كنت‏ ‏أقر‏ ‏أننى ‏كنت‏ ‏أعجز‏ ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏التعبير‏) ‏ثم‏ ‏أشار‏ ‏إلى ‏فضل‏ ‏الثقافة‏ ‏الفرنسية‏ ‏عليه‏ ‏من‏ ‏سبيلين‏: ‏الأول‏: ‏وهو‏ ‏طريق‏ ‏مباشر‏ ‏نتيجة‏ ‏لقراءته‏ ‏للأدب‏ ‏الفرنسى ‏مترجما‏ ‏ومباشرة‏ (‏وإن‏ ‏كان‏ ‏قد‏ ‏قرأ‏ ‏قليلا‏ ‏بالفرنسية‏ ‏مثل‏ ‏نانا‏ ‏لأميل‏ ‏زولا، ‏قال‏ ‏لى هذا‏ ‏فيما‏ ‏بعد‏)  ‏والسبيل‏ ‏الثانى ‏عن‏ ‏طريق‏ ‏غير‏ ‏مباشر، ‏لأن‏ ‏كثيرا‏ ‏من‏ ‏اساتذته‏ ‏تربوا‏ ‏فى ‏ربوع‏ ‏فرنسا‏ ‏فنقلوا‏ إليه – إلينا- ‏ما‏ ‏تشبع‏ ‏به‏ ‏وتفتح‏ ‏عليه، ‏وذكر‏ ‏من‏ ‏أمثال‏ ‏هؤلاء‏ ‏الاساتذة‏ ‏الشيخ مصطفى ‏عبد‏ ‏الرازق‏ ‏وطه‏ ‏حسين‏ ‏وزكى ‏نجيب‏ ‏محمود، ‏أخذت‏ ‏الصور‏ ‏وتبودلت‏ ‏التهانى، ‏وجرت‏ ‏أحاديث‏ ‏جانبية‏ ‏وحضر‏ ‏ريمون‏ ‏الأمريكى ‏ثقيل‏ ‏الظل، ‏وراح‏ ‏يصوِّر،‏ ‏وقال‏ ‏له‏ ‏الاستاذ‏ ‏ألم‏ ‏يشبع‏ ‏صورا، ‏هذه‏ ‏هى ‏الصوره‏ ‏المائة‏ ‏ألف‏ ‏على ‏الاقل، ‏ويحكى ‏الأستاذ‏ – بناء على طلبنا – ‏بعد‏ ‏انصراف‏ ‏السفير‏ ‏وهو‏ ‏يداعب‏ ‏الوسام‏ ‏على ‏صدره‏ ‏عن‏ ‏أول‏ ‏الأوسمة‏ ‏والنياشين، ‏ويذكر‏ ‏بالخير‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏فى ‏الأهرام‏ ‏عند‏ ‏بلوغه‏ ‏الخمسين([34])‏ ‏ويقول‏ ‏إن‏ ‏صلاح‏ ‏جاهين‏ ‏كان‏ ‏يعد‏ ‏للاحتفال‏ ‏بهذه‏ ‏المناسبة‏ ‏فى ‏الأهرام‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏حسنين‏ ‏هيكل‏ ‏حين‏ ‏علم‏ ‏بذلك‏ ‏قرر‏ ‏أن‏ ‏يقوم‏ ‏الأهرام‏ ‏بهذا‏ ‏التكريم‏ ‏وقدم‏ ‏له‏ ‏كأسا ‏رمزيا‏.‏ ثم‏ ‏ذكر‏ ‏حصوله‏ ‏على ‏جائزة‏ ‏الدولة‏ ‏التقديرية‏ ‏وكانت‏ ‏قيمتها‏ 2500 ‏جنيه، ‏ ‏فتقول‏ ‏زوجتة‏ ‏الفاضلة‏ ضاحكة ‏أنها‏ ‏كانت‏ ‏جائزة‏ ‏أدبية‏ ‏فقط‏ ‏لأنها‏ ‏لم‏ تشعر بآثار ‏قيمتها‏ ‏المادية، ‏فيضحك‏ ‏الاستاذ‏ ‏ويقول‏ ‏إنه غير مسئول عن مآل المكافأة، ‏ ‏ويضحك، فنضحك.

ويذكر‏ لنا الأستاذ أنه حصل على هذه التقديرية ‏فى ‏نفس‏ ‏السنة‏ ‏التى ‏نالها‏ ‏فيها‏ ‏السنهورى ‏فى ‏العلوم‏ ‏الاجتماعية، ‏وكان‏ ‏ذلك‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏ ‏ضرب‏ ‏فى ‏مجلس‏ ‏الدولة، ‏وكان‏ ‏عبد‏ ‏الناصر‏ ‏ساعتها‏ ‏فى ‏الخارج، ‏وحين‏ ‏عاد‏ ‏وعلم‏ ‏أن‏ ‏السنهورى ‏أخذها قيل أنه‏ ‏ثار‏ ‏احتج، ‏وقيل‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏على ‏وشك‏ ‏إلغائها‏ ‏وسحبها‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏أخذوها‏ ‏وليس‏ ‏فقط‏ ‏من‏ ‏السنهورى ‏ويعقب‏ ‏محمد‏ ‏سلماوى (‏وهو‏ ‏ناصرى ‏قح‏): ‏أنه‏ “‏شفت‏ ‏الديمقراطية” ‏وينقض‏ ‏يوسف‏ ‏القعيد‏ ‏باعتبار‏ ‏التعليق‏ ‏خيانة‏ ‏لناصريته‏ ‏ويهدده‏ ‏القعيد‏ ‏مازحا‏ ‏أنه‏ ‏سيبلغ‏ ‏الحزب، ‏وأنصرف‏ ‏والأستاذ ‏ ‏يرجونى ‏من جديد أن ‏آخذ‏ ‏بالى ‏من‏ ‏حكاية‏ ‏النوم‏ ‏هذه، فأذهب‏ ‏وأرجع‏ ‏له‏ ‏آخر‏ ‏الليل،‏ ‏وأضيف‏ ‏عقارا بريئا‏ ‏كنت‏ ‏سمعت‏ ‏أنه‏ ‏استجاب‏ ‏له‏ ‏منذ‏ ‏ثلاثين‏ ‏سنة‏ ‏حين‏ ‏وصفه‏ ‏له‏ ‏د.منصور‏ ‏فايز، ‏وأعطيه‏ ‏له‏ ‏وأنا‏ ‏على ‏يقين‏ ‏من‏ ‏جدواه‏ ‏لأسباب‏ ‏لا‏ ‏داعى ‏لتفصيلها‏.‏

الإثنين: 10/4/1995

ماريوت‏، ‏الاستاذ‏ ‏مع‏ ‏زكى ‏سالم‏ ‏وحافظ‏ ‏وعادل‏ ‏عزت، ‏ابتداء‏ ‏من‏ ‏اليوم ‏ ‏أتصور، ‏ ‏أو‏ ‏آمل‏، ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏تسجيل‏ هذه الخواطر – ‏فيما‏ ‏عدا‏ ‏يوم‏ ‏الحرافيش‏ – ‏تسجيلا‏ ‏برقيا، ‏للقطات‏ ‏عابره‏، سألته‏ ‏عن‏ ‏أخبار‏ ‏النوم‏ ‏قال‏ ‏إنه‏ ‏نجح‏ ‏فى ‏أن‏ ‏ينصرف‏ ‏عن‏ ‏التركيز‏ ‏عليه، ‏وأنه‏ – ‏بالتالى – ‏نام‏ ‏يوما‏ ‏طيبا‏ ‏فى ‏مجموعه‏، ‏قلت‏ ‏له‏ ‏إن‏ ‏هناك‏ ‏أغنية‏ ‏تساعده‏ ‏على ‏أن‏ ‏يكف‏ ‏عن‏ ‏لعبة‏ ‏القط‏ ‏والفار‏ ‏هذه‏ ‏مع‏ ‏النوم‏ ‏وأن هذه الأغنية ‏تنتهى ‏بأنه‏ “‏ييجى ‏ما‏ ‏يجيش‏ (‏ترد‏ ‏المجموعة‏: ‏ييجى) ‏مايهمنيشى (‏ييجى)، ‏ويطلب منى أن أقول له بقية الأغنية، وهى لا تقال إلا بنغمتها، فأحاول أن أعدد ‏ ‏الإغراءات‏ ‏والصفقات التى كانت ترد تباعا فى الأغنية وهى تقول: ‏ييجى ‏عالما‏‏صورة‏ (‏ييجى) ‏والْقـُطْ لُو‏ ‏صُورَة‏، (‏ييجى)، ييجى ‏عالمحطة‏ (‏ييجى) ‏وادبح‏ ‏له‏ ‏بطه‏ (‏ييجى).. ‏إلخ، ‏ويضحك‏ ‏الاستاذ‏ ‏ويردد‏ ‏النغمة‏ “‏ييجي”، ‏وأقول‏ ‏له‏ أن ألأغنية تنتهى بما أوصُّـىِ به بعض مرضاى أحيانا، فهى تنتهى قائلة: ييجى ما يجيش، ييجى، ما يهمنيش، ييجى، بس الوله ييجى، وأننى ‏أقول‏ ‏لبعض‏ ‏مرضاى ‏أن‏ ‏عليهم أن يتحدُّوا النوم لا أن يستجلبوه وينتظروه سلبيا، وأن يعتبروا أنه ممنوع إلا إن غـَـلـَـبـَـهم فعلا، غـَـصـْـباً عنهم، وأن كثيرين منهم تفيدهم هذه النصيحة، وأذكر للأستاذ كيف أن بعض أقربائى كان ينصحنى وأنا صغير أن أستجلب النوم بأن أصعد درجة درجة – فى خيالى – على سلم إلى السماء لا ينتهى أبدا حتى يغلبنى النوم،، ‏فيرد‏ ‏قائلا‏: ‏إنهم‏ ‏كانوا‏ ‏يقولون‏ ‏لنا‏ ‏أيضا‏: ‏حاول‏ ‏أن‏ ‏تتهجى “‏تشيكوسلوفاكيا‏ ‏ونضحك‏.‏

‏ ‏هذا‏ ‏الرجل‏ ‏الحاضر‏ ‏يبادر‏ ‏بالتقاط‏ ‏المعنى ‏المقابل‏ ‏دائما‏ ‏أبدا

انتبهت‏ ‏أن‏ ‏عادل‏ ‏عزت‏ ‏يعمل‏ ‏فى ‏الطباعة‏ أساسا ‏وليس‏ ‏فى ‏النشر، ‏وجرى ‏حديث‏ ‏عن‏ ‏دور‏ ‏الكمبيوتر‏ ‏فى ‏تطوير‏ ‏الطباعة، ‏والجمع‏ ‏التصويرى، ‏وغير‏ ‏ذلك‏ ‏وقلت‏ ‏للأستاذ‏ ‏إننى ‏جربت‏ ‏الكتابة‏ ‏على ‏الكمبيوتر‏ ‏مباشرة‏ ‏لمدة‏ ‏ست‏ ‏سنوات‏ ‏تقريبا، ‏لكننى ‏عدت‏ ‏إلى ‏القلم‏ ‏منذ‏ ‏بضعة‏ ‏شهور، ‏والآن‏ ‏أستطيع‏ ‏أن‏ ‏أحكم، ‏فسألنى، ‏أيهما‏ ‏أفضل، ‏قلت‏ ‏للكتابة‏ ‏العلمية، ‏الكمبيوتر‏ ‏أفضل، ‏وللكتابة‏ ‏الأدبية‏! ‏القلم‏ ‏أفضل‏.‏

سألنى ‏زكى ‏سالم‏: ‏لماذ‏ ‏توقفت‏ ‏مجلة‏ “‏الانسان‏ ‏والتطور‏” ‏عن‏ ‏الصدور‏ فصمتُّ، ‏والتقط‏ ‏نعيم‏ ‏صبرى ‏ما‏ ‏أنا‏ ‏فيه، ‏وما‏ ‏قد‏ ‏يعنيه‏ ‏الصمت‏ (‏وكان‏ ‏قد‏ ‏حضر‏ ‏ثم‏ حضر ‏محمد‏ ‏يحيى)، ‏قال‏ ‏نعيم‏ ‏يبدو‏ ‏أن‏ ‏الحديث‏ ‏له‏ ‏شجون، ‏وقلت‏ ‏للاستاذ‏: ‏أظن‏ ‏أن‏ ‏مجلة‏ ‏الفرد‏ ‏الواحد‏ (‏أو‏ ‏الفرد‏ ‏الواحد‏ ‏أساسا‏) ‏لها‏ ‏عمر‏ ‏افتراضى ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏تتوقف‏ ‏فى ‏نهايته، ‏والإ‏ ‏فـَـتـُـرَتُ، ‏أو‏ ‏تشوَّهـَـتْ‏، من احتمال التكرار، ولم أكن مقتنعا تماما بما أقول، ‏قال‏ ‏الاستاذ‏ ‏لماذا فعلا توقفت، وقد كانت تمثل ‏وجهة‏ ‏نظر‏ ‏متدفقة، ‏حتى لو لم ‏ ‏تكن‏ ‏عملا‏ ‏جماعيا‏ ‏بالشكل‏ ‏العادى؟ قلت له: إنه التمويل فى نهاية النهاية، فقد كان العدد الواحد ‏يكلفنا‏ ‏بضعة ‏ ‏مئات‏ ‏من‏ ‏الجنيهات، وكيف أن هذا كان مبلغا باهظا أيامها، وأنها كانت لا تبيع إلا بضع عشرات من الأعداد، ‏كان‏ ‏عادل‏ ‏عزت‏ ‏قد‏ ‏حكى ‏أنه‏ ‏أصبح‏ ‏صاحب‏ ‏مطبعة‏ ‏بالصدفة‏ ‏حين‏ ‏ذهب‏ ‏يطبع‏ ‏ديوان‏ ‏شعر، ‏فعرض‏ ‏عليه‏ ‏صاحب‏ ‏المطبعة‏ ‏أن‏ ‏يشاركه‏ ‏ففعل، ‏ثم‏ ‏كان‏ ‏ما‏ ‏كان، ‏وأعدت‏ ‏حكاية‏ ‏تأليف‏ ‏كتاب‏ ‏السيكوباثولوجى ‏وكيف‏ ‏أننى ‏اشتريت‏ ‏صندوق‏ ‏حروف‏ ‏لإتمام‏ ‏مؤتمٍر علمىّ ما‏، ‏ثم‏ ‏وجدت‏ ‏العامل‏ ‏عندى ‏ليس‏ ‏له‏ ‏عمل‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏ترك‏ ‏عمله‏ ‏الأصلى ‏اكراما‏ ‏لى (‏لينقذ‏ ‏الموقف‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏عجزت‏ ‏عن‏ ‏الاتفاق‏ ‏مع‏ ‏أى ‏مطبعة‏ ‏على ‏إنجاز‏ ‏كتيب‏ ‏المؤتمر‏ ‏فى ‏الوقت‏ ‏المناسب‏) ‏وكان‏ ‏علىّ ‏أن‏ ‏أعطيه‏ 18 ‏صفحة‏ ‏يوميا‏ ‏حتى ‏يجد‏ ‏عملا، ‏فقررت‏ ‏أن‏ ‏أشرح‏ ‏ديوان‏ “‏سر‏ ‏اللعبة”، ‏فخرج‏ ‏كتاب‏ ‏السيكوباثولوجى ‏الذى ‏أعتبر‏ ‏أنه أهم‏ ‏عمل‏ ‏فى ‏تاريخى، ‏وهو‏ ‏يناهز‏ ‏الألف‏ ‏صفحة، ‏ثم‏ ‏عودة‏ ‏إلى ‏حديث‏ ‏الكمبيوتر، ‏أكملت للاستاذ ‏إن‏ ‏مسألة‏ ‏القص‏ ‏واللصق‏ ‏هذه‏ ‏ليست‏ ‏مفيدة‏ ‏دائما، ‏فأحيانا‏ ‏كثيرة‏ ‏يكون‏ ‏التبييض‏ (‏بالقلم‏) ‏إعادة‏ ‏كتابة، ‏وأحيانا‏ ‏يخرج‏ ‏النص‏ ‏بعد‏ ‏التبييض‏ ‏وقد امتلأ ‏بأفكار‏ ‏جديدة‏ ‏تماما‏ ‏تختلف عن‏ ‏الفكرة‏ ‏الأصلية، ‏وهذا‏ ‏ما‏ ‏يعيدنا‏ ‏إلى ‏احترام‏ ‏كتابة‏ ‏المضطر‏ (‏شريطة‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏مبدعا‏) ‏مطمئنين‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏ ‏أنه‏ ‏مهما‏ ‏كان‏ ‏الدافع‏ ‏للكتابة، ‏فإن‏ ‏الناتج‏ ‏مضمون‏ ‏قيمته‏ ‏مادام‏ ‏الكاتب‏ ‏يملك‏ ‏أدوات‏ ‏وقدرات‏ ‏وانطلاقة‏ ‏المبدع، ‏ولكن‏ ‏الكمبيوتر‏ ‏يحرم‏ ‏الكاتب‏ ‏من‏ ‏التبيض‏ ‏بالمعنى ‏الحقيقى ‏فيكتفى عادة ‏بالاحتفاظ‏ ‏بأغلب‏ ‏النص‏ ‏الأول‏ “‏مع‏ ‏إجراء‏ ‏عملية‏ ‏قص‏ ‏ولصق‏ ‏قد‏ ‏لا‏ ‏تصل‏ ‏بالنص‏ ‏فى ‏صورته‏ ‏النهائية‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏كان‏ ‏يعد‏ ‏به‏.

وقلت‏ ‏له‏ ‏إننى ‏سمعت‏ ‏مرة‏ ‏من‏ ‏جمال‏ ‏الغيطانى ‏أنه‏ ‏ينقل‏ ‏بخط‏ ‏يده‏ ‏بعض‏ ‏كتب‏ ‏التراث، ‏ويسمى ‏هذه‏ ‏العملية‏ “‏القراءة‏ ‏الثقيلة” (‏قياسا‏ ‏على ‏المدفعية‏ ‏الثقيلة‏ ‏فى ‏الحرب‏) ‏وأنه‏ ‏بهذه‏ ‏القراءة‏ ‏البطيئة‏ ‏المكتوبه‏ ‏يعايش‏ ‏النص‏ (‏التراثى ‏خاصة‏) ‏معايشة‏ ‏عميقة‏ ‏متأملة‏.

ويقول‏ ‏الاستاذ‏ ‏إنه‏ ‏كان‏ ‏يفعل‏ ‏مثل‏ ‏ذلك‏ ‏صغيرا‏ ‏حين‏ ‏يقرأ‏ “‏نظرات” ‏مصطفى ‏لطفى ‏المنفلوطى، ‏ذلك‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏يكتب‏ ‏مقلدا‏ ‏نظراته‏ ‏هو‏ ‏أيضا‏ ‏على ‏نفس‏ ‏النمط، ‏وربما‏ ‏بنفس‏ ‏الألفاظ، ‏وكان‏ ‏حين‏ ‏يقرأ‏ “‏أيام”‏ ‏طه‏ ‏حسين، ‏يكتب‏ ‏عن‏ ‏نفسه‏ ‏لنفسه‏ ‏شيئا‏ ‏شبيها‏ ‏بذلك، ‏حتى ‏يذكر‏ ‏عن‏ ‏نفسه‏ ‏أشياء‏ ‏لم‏ ‏تحدث‏ ‏أولا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تحدث، ‏مثل‏ ‏أنه‏ ‏ذهب‏ ‏للكتاب‏ ‏فى ‏القرية، ‏وأنه‏ ‏كان‏ ‏يتحسس‏ ‏الأشياء، ‏هكذا‏ ‏يؤكد‏ ‏الأستاذ‏ ‏احتمال‏ ‏تحقيق‏ ‏الفرض‏ ‏الذى ‏أتبناه‏ ‏فى ‏شرحى ‏لبعض‏ ‏جوانب‏ ‏الإبداع‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏المبدع‏ (‏القاص‏ ‏والممثل‏ ‏خاصة‏) ‏يتمتع‏ ‏بشيء‏ ‏أشبه‏ ‏بشخصية‏ “‏كأن”، ‏ولكن‏ ‏بما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يسمى ‏الجانب‏ الإيجابى ‏لها تماما، ‏وهى ‏الشخصية‏ ‏التى ‏تتصف‏ ‏بالقدرة‏ ‏على ‏التقمص‏ ‏اللاشعورى، ‏سواء‏ ‏لكاتب‏ ‏آخر ([35])، ‏أو‏ ‏للواقع، ‏والتقمص‏ ‏هنا‏ ‏ليس‏ ‏تقليدا‏ ‏تماما، ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏تمثل‏ ‏كامل‏ “‏للآخر”، ‏وبشكل‏ ‏لاشعورى ‏أساسا، ‏هذا‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يقع‏ ‏بين‏ ‏المرونة‏ ‏والواقعية‏ ‏الحقيقية‏.‏

وعاد‏ ‏الاستاذ‏ ‏يحكى ‏عن‏ ‏قراءاته‏ ‏صغيرا، ‏وكيف‏ ‏كان‏ ‏يتابع‏ بعض ما ينشر مسلسلا ‏فى ‏الأهرام‏، وأنه كان يواظب على قراءة المختار (ريدرز ديجست) ‏وكان‏ ‏الأخير‏ ‏تدور‏‏ ‏رواياته‏ ‏تقريبا‏ ‏حول‏ ‏موضوع‏ ‏واحد، ‏وهو‏ ‏بنت‏ ‏الكونت‏ ‏أو‏ ‏اللورد‏ ‏التى ‏أحبت‏ ‏الميكانيكى ‏أو‏ ‏السائق، ‏أو‏ ‏العكس‏: ‏ابن‏ ‏اللورد‏ (‏الباشا‏) ‏الذى ‏أحب‏ ‏بنت‏ ‏الحارة، ‏وكان‏ ‏لا‏ ‏يكف‏ ‏عن‏ ‏تكرار‏ ‏هذه‏ “‏التيمة”.

الخميس: 13/4/1995

كنت‏ ‏قد‏ ‏قررت‏ بينى وبين نفسى‏ ‏أن‏ ‏أنهى ‏هذه‏ ‏الكتابة‏ ‏بعد احتفالية ‏ ‏الوسام‏ ‏الفرنسى، لماذا يا ترى؟ ‏

هل‏ ‏فترتُ‏ ‏أنا؟‏ ‏هل‏ ‏توصلت إلى معرفة محيطة بهذا الرجل تكفينى بقية حياتى؟ هل‏ ‏ابتعدت‏ُ ‏عنه قليلا‏ ‏أو‏ ‏كثيرا‏ ‏بعد‏ ‏سفرية سوريا؟‏ ‏هل‏ ‏خفت‏ ‏من‏ ‏التكرار؟ وهل يا ترى حين أكف عن الكتابة، سوف أبتعد أكثر أم أقترب أكثر؟ الذى أنا متأكد منه هو أن حبى لهذا الرجل سوف يظل هو هو، وأكثر.

اليوم‏ ‏هو‏ ‏أول‏ ‏يوم‏ لى مع الحرافيش‏ ‏بعد‏ ‏عودتى، ‏مررت‏ ‏على ‏توفيق‏ ‏صالح‏ ‏وأحمد‏ ‏مظهر، ‏كانا‏ ‏ينتظران‏ ‏بالشارع‏ الواحد تلو الآخر، برغم‏ ‏وصولى ‏مبكرا، وكانت العاصفة‏ ‏الترابية‏ ‏على ‏أشدها

كان‏ ‏الاستاذ‏ ‏وحده‏ ‏تقريبا‏ ‏فى ‏الشقة، ‏وصلنا‏ ‏مبكرا، ‏تأخرنا‏ ‏فى ‏البيت‏ ‏انتظارا‏ ‏لعربة‏ ‏الحراسة، ‏أحمد‏ ‏مظهر‏ ‏يحكى ‏عن‏ ‏تجربته‏ ‏التطوعيه‏ ‏مع‏ طلبة وطالبات ‏كلية‏ ‏معهد‏ ‏السينما، ‏ويسأل‏ ‏عن‏ ‏إسم‏ ‏مدينة‏ ‏فى ‏فرنسا‏ ‏وهل‏ ‏توجد‏ ‏مدينه‏ ‏اسمها‏ “‏لورد” ‏مثلا، ‏ذلك‏ ‏لأنه‏ ‏رجح‏ ‏أنها‏ ‏كذلك، ‏فأحكى ‏له‏ ‏أنها‏ ‏قرية‏ ‏صغيرة فى جنوب فرنسا، وأننى زرتها أثناء مسحى هذا البلد الجميل، وأن فيها‏ ‏كنيسة‏‏ ‏اسطورية‏ ‏بها شهرة دينية‏ ‏خاصة، ‏وهى ‏تزار‏ ‏للتبرك‏ ‏وأننى شاهدت مئات العصى معلقة لمن ذهبوا إليها مشلولين وعادوا منها سائرين منتصبى القامة، وأن هذا لم يهزنى إطلاقا لأن عندنا فى العيادة الخارجية فى قصر العينى يمكن أجمع مثل هذا العدد وأكثر من العصى ممن يحضرون للعيادة بما يسمى الشلل الهستيرى، ويشفون بجلسة واحدة من خلال الإيحاء، أو التفسير، أو التعويض أو أى إجراء علاجى شديد البساطة يجعل المريض يتكلم بلسانه عن ما كان يقوله بإعاقته، لكن العامة والسمعة والاحتفالية والجو الدينى شىء آخر، لا ارفضه، ولا أصفق له طبعا. ‏وأسأل مظهر عن ما الذى ذكره بها وما المناسبة، فيقول‏ ‏إنها‏ ‏الكلمة‏ ‏التى ‏كانت‏ ‏ناقصه‏ ‏فى ‏حل‏ ‏الكلمات‏ ‏المتقاطعة‏ ‏هذا‏ ‏الصباح، أنا عرفت عن هذا الفارس غرامه بالتاريخ، وباللغة، وبالفن، وكنت أحسب ان اسم هذا البلد خطر له متعلقا بأى من هذا، أو حتى بحكاية صديق أو صديقة زارتها وشفيت، أما أن أفاجأ بعد كل هذا الحكى والشرح أنها كلمة ناقصة من الكلمات المتقاطعة؟ لا يا عم احمد، وضحكت، ولم أكتم عنه دهشتى، فيوافقنى على متنوع اهتماماته ويأتى اسم “شيلى” فى السياق، ولا أذكر أية تفصيلة دارت حول هذا البلد، لكنها كانت مناقشة مهمة، ‏ويراهن‏ ‏مظهر‏ ‏توفيق‏ ‏إن‏ ‏نطق‏ ‏إسم‏ “‏شيلي” ‏نطقا‏ ‏صحيحا‏ ‏وأنه‏ ‏سوف‏ ‏يعطه‏ ‏آلف‏ ‏جنيه‏ ‏إن‏ ‏فعل، ولا أفهم، ‏ويغير توفيق الحديث ويحكى ‏كيف‏ ‏استدعت‏ ‏أم‏ ‏كلثوم‏ ‏رجاء‏ ‏الجداوى، ‏وأن‏ ‏الأخيرة‏ فوجئت بالهجوم الحار الحميم، فأفزعتها المفاجأة، ‏بل المباغته، فحاولت ان تفر هاربة لكن تمت مطاردة طريفة داخل الشقة، لا يعرف توفيق كيف انتهت، لكنه سمع بعض ذلك.

صمم‏ ‏توفيق‏ ‏صالح‏ ‏ألا‏ ‏نشترى ‏السودانى ‏هذا‏ ‏اليوم‏ ‏تجنبا‏ ‏للعاصفة، ‏وقبل‏ ‏الاستاذ‏ ‏وهو‏ ‏متضجر‏ ‏ضجرا‏ ‏متوسطا، ‏وهو‏ ‏يكرر‏ ‏ليه‏ ‏يا‏ ‏توفيق؟‏ ‏عادة‏ ‏يا‏ ‏توفيق؟ ليه نقطعها يا توفيق؟ ربنا ما يقطعلكشى عادة يا شيخ!

الليلة‏ ‏عموما‏ ‏الاستاذ‏ ‏ليس‏ ‏منتبها‏ ‏نفس‏ ‏الانتباه‏ ‏الذى ‏اعتدناه، ‏وأنا‏ ‏فى ‏فتورى ‏الانسحابى ‏لا‏ ‏أنكشه، ‏توفيق‏ ‏فتح‏ ‏معه‏ ‏أحاديث بدت‏ ‏لى ‏معادة، ‏مثل‏ ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏ما وصلت إليه مبالغ وطقوس النقطة‏ ‏فى ‏الملاهى الليلية، ‏وعن‏ ‏لوسى، ‏وعن‏ ‏الفيلم‏ ‏الذى ‏زعموا‏ ‏أنه‏ ‏سيخرجه‏ ‏لها، (‏وأظن أننى كنت‏ ‏قد‏ ‏أشرت‏ ‏إلى ‏ماكتبوه‏ ‏عن‏ ‏ذلك، ‏فى ‏مجلة كاريكاتير‏ ‏أول‏ ‏أمس‏) ‏ثم‏ ‏عن عادل‏ ‏إمام‏ ‏الذى ‏يقبض‏ ‏المليون‏ ‏جنيه نقدا وعدا فى ‏الفيلم‏ ‏الواحد، وكيف أنه لا‏ ‏يطلع‏ ‏إلى ‏خشبة‏ ‏المسرح‏ ‏إلا‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏يدخل‏ ‏إليه‏ ‏شقيقه‏ ‏فى ‏الكواليس ‏و‏يطمئنه‏ ‏على ‏أنه‏ ‏قد‏ ‏قبض‏ ‏نسبته‏ ‏فى ‏الشباك‏ ‏ويريه‏ ‏الشنطة، ‏وعن‏ ‏محمود‏ ‏عبد‏ ‏العزيز‏ ستون ألفا ‏ويكتب‏ ‏العقد‏ ‏بثلاثين‏ ‏وأحمد‏ ‏زكى 400000 ‏ويكتبه‏ ‏بخمس‏ ‏وعشرين‏ ‏وأسأله‏: ‏ثم‏ ‏ماذا؟‏ ‏أين‏ ‏يذهبون‏ ‏بهذه‏ ‏النقود، ‏وحق‏ ‏الدولة‏ ‏ورصف‏ ‏الشوارع‏ ‏وفتح‏ ‏المدارس، ‏ثم‏ ‏كيف‏ ‏يقفون‏ ‏على ‏المسرح‏ ‏أو‏ ‏يمثلون‏ ‏فى ‏السينما‏ ‏دور‏ ‏الانسان‏ ‏المكافح‏ ‏المطحون، ‏وهات‏ ‏يا نقد‏ ‏فى ‏النظام‏ ‏السياسى، ‏وفى ‏الفساد، ‏وفى ‏التهرب‏ ‏الضريبى، إن صحت الأرقام التى ذكروها لنا الآن، فتصلنى ردود تبريرية عادية، بصراحة مقنعة، فهكذا تسير الأمور..‏

وننتقل‏ ‏إلى ‏شقة‏ ‏توفيق‏ ‏صالح‏ ‏ويعتذر‏ ‏مظهر عن مواصلة السهرة معنا، ‏ويغفوا‏ ‏الأستاذ‏ ‏بعد‏ ‏الأكل‏ ‏عدة‏ ‏مرات‏ وهو جالس، ويقول توفيق: “‏سيبه‏ ‏يستريح‏ ‏شوية”، ‏ولا‏ ‏أقبل‏ ‏ذلك انشغالا عليه، لكننى ‏أتركه، ‏وحين‏ ‏يفيق‏ ‏من‏ ‏إغفاءته‏ ‏التى طالت حتى انشغلت، ‏أسأله‏ ‏هل‏ ‏شعر‏ ‏الآن‏ ‏أنه‏ ‏ينام‏ وهو جالس، ‏فيقول‏ ‏لى ‏أبدا‏ إنه ‏لم‏ ‏ينم، ‏فأنشغل أكثر، حتى أننى فكرت أنه ربما تكون ‏شكواه‏ ‏من‏ ‏الأرق‏ ‏لها‏ ‏علاقة‏ ‏بهذه‏ ‏الملاحظة، وأقول له ما دار بذهنى، واحتمال أنه ‏ينام‏ ‏لكنه‏ ‏يشعر‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏ينام‏ ‏مثلما حدث الآن، ‏فيوافقنى ‏بطيبة‏ ‏ولا يستبعد ‏ذلك، ‏ويقول‏ ‏إنه‏ ‏أحيانا‏ ‏يستنتج‏ ‏أنه‏ ‏نام‏ ‏من‏ ‏الحلم، ‏ ‏فمثلا‏ ‏يجد‏ ‏نفسه‏ ‏مستيقظا‏ ‏وكأنه‏ ‏لم‏ ‏ينم، ‏ثم‏ ‏يتلفت‏ ‏حوله‏ ‏سائلا، ‏”لكن‏ ‏أين‏ ‏يوسف‏ ‏السباعى؟ ‏أو‏ ‏أين‏ ‏السحار؟”، ‏وحين‏ ‏لا‏ ‏يجد‏ ‏هذا‏ ‏أو‏ ‏ذاك، ‏يعلم‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏يحلم‏ ‏بهما، ‏وأنه‏ ‏استيقظ، ‏وأنه‏ ‏حين‏ ‏افتقدهما‏ ‏أدرك‏ ‏بأثر‏ ‏رجعى – ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏نائما، ‏وأن‏ ‏ذلك‏ ‏كان‏ ‏حلما‏ ‏وأتصور‏ ‏أن‏ ‏من‏ ‏أهم‏ ‏معالم‏ ‏تركيب‏ ‏المبدع‏ ‏أن‏ ‏المسافة‏ ‏بين‏ ‏وعى ‏الحلم‏ ‏ووعى ‏اليقظة‏ ‏قليلة، ‏وأن‏ ‏الانتقال‏ ‏من‏ ‏مستوى ‏إلى ‏مستوى ‏يتم‏ ‏بسهولة، ‏ومرونة، ‏ووفرة‏، ‏وأطمئن‏ ‏على ‏نوم‏ ‏الاستاذ‏ ‏قليلا‏ ‏أو‏ ‏كثيرا‏.

وتمضى ‏الليلة‏ ‏فاترة

أم أننى ‏أنا‏ ‏الذى ‏أصبحت‏ ‏فاترا‏؟

 ‏أو‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏القلم‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏أصابه‏ ‏الفتور؟

 

الحلقة الخمسون

“ليلة القدر”: الطاهر بن جلون

الجمعة: 14/4/1995

….. اليوم ندوة‏ ‏الجمعة‏ ‏الثقافية، ‏ندوة‏ ‏المستشفى، ‏الحضور‏ ‏ليس كله اختياريا، الأطباء الأصغر فى المستشفى يحضرون كجزء من التدريب، ما علاقة الأدب بالطب النفسى، “هذا هو” (اللى حصل)، الرئيس (أنا) يريد ذلك، ‏‏العمل المقدم للمناقشة‏ ‏هو‏ “‏ليلة‏ ‏القدر”، ‏رواية‏ ‏قصيرة، ‏المؤلف‏: ‏الطاهر‏ ‏بن‏ ‏جلون‏([36]) ‏الذى ‏حصل‏ ‏بها‏ ‏على ‏جائزة‏ ‏جونلور‏ ‏الفرنسية‏، ‏كتبها‏ ‏سنة‏ 1987 ‏وترجمها‏ ‏فتحى ‏العشرى 1988، ‏فى ‏رأيى ‏أنها‏ ‏رواية‏ ‏شديدة‏ ‏الجودة، (‏وحضر الندوة‏ ‏الأستاذ توفيق‏ ‏صالح‏ ‏وناقشتها‏ ‏بشجاعة‏ ‏حُسْنة‏ ‏عبد‏ ‏الجواد‏ ‏وحضر‏ ‏رأفت‏ ‏الدريدى ‏وعلاء‏ .؟؟. (نسيت اسمه الثانى: ‏كاتب‏ ‏قصة‏ ‏قصيرة‏) ‏وقال‏ ‏الأخير‏ ‏فى ‏تعليقه‏ ‏إن‏ ‏الكتابة‏ ‏خيانة‏ ‏للخبرة‏ ‏الإبداعية‏ ‏المعيشة‏، ‏خيانة‏ ‏من‏ ‏الدرجة‏ ‏الأولى، ‏والترجمة‏ ‏خيانة‏ ‏من‏ ‏الدرجة‏ ‏الثانية، وفرحت بالتعليقين ‏وتكلمنا‏ ‏عن‏ ‏الواقع‏ ‏والموضوعية‏ ‏والجنس‏ ‏والإسلام، ‏ورفضت‏ ‏مقدمة‏ ‏العشرى ‏كما‏ ‏رفضت‏ ‏من‏ ‏قبل‏ ‏أكثر‏ ‏مقدمات‏ سامى ‏الدروبى ‏لروايات‏ ‏ديستويفسكى ‏رغم‏ ‏الدقة‏ ‏المتناهية‏ ‏التى ‏لاحظتها‏ ‏فى ‏الترجمة، لماذا يفرض (أو حتى يعرض) المترجم رأيه وهو ليس ناقدا، وربما يجانبه الصواب، فيشكك القارئ فى قدرته على الترجمة برغم فائق مهارته فيها، للمترجم الحق فى التقديم إن كان يترجم عملا علميا، أو تراثيا، أو تاريخيا، أما الأدب، فيكفى أن يترجم دون تقديم حتى لا يتعرض النص لما لا يحتمله.

اليوم الجمعة، والأستاذ فى منزلى على بعد خطوات، وأنا مشغول به مشتاق إليه برغم عدم مضى أربع وعشرين ساعة على فراقه، أمس الحرافيش، لكن قربه الجغرافى منى هكذا، وانشغالى بمن يشغله بعد تسريب ورقة صغيرة إلىّ وأنا أدير الندوة، جعلانى أسرع بإنهاء الندوة، أظن دون إجهاض، سارعت إلى بيتى لاهثا.

كان‏ ‏إبنى مصطفى المكلف باستقباله نيابة عنى يجالسه بعد أن استأذن الصديق الذى صاحبه لبعض الوقت، لم أنجح أبدا فى أن أجذب إبنى مصطفى هذا إلى صداقة الأستاذ ولو حتى من باب التشرف والتعرف، محمد إبنى هو صديق الأستاذ دون ضغط منى بغض النظر عن صداقتى له، وقد كان مشغولا معنا فى الندوة الثقافية فهو المشرف عليها المسئول عنها شهريا، مصطفى يحب الأستاذ طبعا مثلنا، مثل كل الناس، لكن أبدا، ‏وحين‏ ‏ذهبت‏ إلى المنزل ‏وعاتبته ‏على ‏هذه‏ ‏الرسالة‏ ‏التى أرسلها لى فتعجلتُ إنهاء الندوة قال لى إن الصديق الذى اصطحب الأستاذ استأذن لأمر خاص لمدة ما، وأنه‏ ‏ظل‏ ‏مع الأستاذ‏ ‏وحيدا‏ ‏لمدة‏ ‏نصف‏ ‏ساعة، ‏وأن‏ ‏الكلام‏ ‏انتهى، ‏وأن‏ ‏الصمت‏ ‏إمتد‏ ‏وأنه‏ ‏خاف‏ ‏من‏ ‏الملل‏ ‏والإملال‏ ‏فأرسل‏ ‏الرسالة‏، بقية الأصدقاء حضروا معنا الندوة بعد إذن الأستاذ، بل بتشجيعه، فحدث هذا المأزق، ومع ذلك لم يبد عليه أى علامة تشير إلى أى مأزق..

كنت‏ ‏أتوقع‏ ‏أن‏ ‏يعلق‏ ‏توفيق‏ ‏صالح‏ ‏على ‏الندوة‏ ‏إيجابيا‏ ‏أكثر‏ ‏مما‏ ‏فعل، ‏لكنه‏ ‏لم‏ ‏يذكر‏ ‏إلا حسنة‏ ‏عبد‏ ‏الجواد‏ ‏باحترام‏ ‏وتقريظ‏ ‏شديدين، ‏ولم‏ ‏يحك ‏ ‏للاستاذ‏ ‏شيئا‏ ‏ذا بال عن‏ ‏الندوة‏ ‏ففتحت موضوعها أوجزها له، فإذا به يقول ‏ ‏إنه‏ ‏قرأ‏ ‏هذه‏ ‏الرواية، “‏أليست‏ ‏الرواية‏ ‏التى ‏فيها‏ ‏شيخ‏ ‏أعمى ‏يمص‏ ‏أو‏ ‏يلعق‏ ‏إصبع‏ ‏البطلة‏ ‏أو‏ ‏شيئا‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏القبيل”، ‏وتعجبت‏ ‏لأن‏ ‏هذه‏ ‏اللقطة‏ ‏هى ‏من‏ ‏أقصر‏ ‏اللقطات‏ ‏وأبهتها‏ ‏ظهورا‏ ‏ وقد مرت بى فى خلفية ‏جوهر‏‏ ‏السياق‏ ‏ ‏ضمن‏ ‏ألف‏ ‏تفصيلة‏ ‏أخرى، ‏فكيف‏ ‏‏يتذكر‏ ‏الأستاذ‏ ‏هذه‏ ‏اللقطة هكذا، ‏وكيف‏ ‏أَسْمَى ‏القنصل‏ ‏باسم‏ “‏الشيخ” ‏لمجرد‏ ‏أنه‏ ‏أعمى، ‏وهو‏ ‏ليس‏ ‏شيخا‏ ‏البتة، ‏ولم‏ ‏أرد‏ ‏أن‏ ‏أتطرق‏ ‏إلى ‏هذا أكثر من ذلك، ‏وأبديت دهشتى وفرحتى بذاكرته، وحين‏ ‏ذكرته‏ ‏كيف‏ ‏كان يذكر ‏ ‏نص الحوارات تقريبا‏ ‏عند‏ ‏ديستويفسكى ‏حينما ‏ ‏دارت المناقشة بيننا من قبل حول مواعظ ‏‏القس‏ ‏زوسيما‏ ‏فى ‏الاخوة‏ ‏كراما‏ ‏زوف، ‏وأنه‏ ‏كان‏ ‏يمكن‏ ‏إلغاء‏ ‏أغلبها‏، ووافق الأستاذ على ذلك وأذكر أننى سجلت هذا الحوار قبلا، ذاكرة الأستاذ فى هذه السن رائعة، انتقائية، تفصيلية، مذهلة، ‏ويقول‏ ‏توفيق‏ ‏صالح‏ ‏إن‏ ‏ما‏ ‏يثبت‏ ‏فى ‏الصغر‏ ‏غير‏ ‏ما‏ ‏يمر‏ ‏عابرا‏ ‏فى ‏الكبر‏ (‏شيء‏ ‏أشبه‏ ‏بالتعليم‏ ‏فى ‏الصغر‏ ‏كالنقش‏ ‏على ‏الحجر) وأرفض هذا التفسير التبسيطى، ولا أزيد.

وتجرى ‏أحاديث‏ ‏كثيرة‏ ‏- كالعادة- عن‏ ‏الاقتصاد‏ ‏والدولة‏ ‏والديمقراطية، ‏والنمور‏ ‏الأسيوية، ‏وتختلف‏ ‏الآراء‏ ‏حول‏ ‏ضروره‏ ‏الديمقراطية‏ ‏كشرط‏ ‏للنمو‏ ‏الاقتصادى، ‏وعن‏ ‏نمو‏ ‏فيتنام‏ والصين دون‏ ‏ديمقراطية‏ ‏غربية، ‏ولكن‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏صفقات‏ ‏مع‏ ‏أمريكا سرية وعلنية، ‏وعن‏ ‏اختفاء‏ ‏قيمة‏ ‏العمل‏ ‏فى ‏التربية‏ ‏العربية، ‏وأذكر‏ ‏للأستاذ‏ ‏موقف‏ ‏طبيبة‏ ‏مصرية‏ ‏أرملة‏ ‏ولها‏ ‏ولدان، وهى مسلمة وملتزمة بتفاصيل ما انتقته من دينها كما وصلها أو كما اختارت، وكان كل همها ‏أن‏ ‏تنتهى ‏بولديها ‏ ‏إلى ‏الحصول‏ ‏على ‏شهادة‏ ‏كبيرة‏ ‏ودخلا‏ ‏وفيرا‏ ‏ومركزا‏ ‏اجتماعيا‏ فوقيا، ‏على شرط ألا يبذلا جهدا حقيقيا فعلا، وقد قالت لى فى سياق ترتيباتها لمستقبل أسرتها أن ابنها الأول يحب التجارة، ‏لكنه‏ ‏شاطر دراسيا، ‏وخسارة المجموع الذى حصل عليه فى الثانوية العامة، فليذهب‏ ‏إلى ‏كلية‏ ‏الصيدلة، ‏ويحصل‏ ‏على ‏شهادة‏ “‏حلوة” ‏ثم‏ ‏يفتح‏ ‏صيدلية‏ ‏ويعين‏ ‏فيها‏ ‏مساعدين‏ ويرتاح هو حيث يمكن أن يديرها عن بعد ويقبض المكسب، وخلاص، أما الإبن الثانى، وهو أشطر، و‏يريد‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏طبيبا،‏ ‏فليكن، ‏على ‏شرط‏ ‏أن‏ ‏يتخصص‏ ‏فى ‏التحاليل‏ ‏مما يسمح له أن ‏يعين‏ ‏مساعدين‏ ‏يقومون‏ ‏عنه‏ ‏بالعمل، وما عليه إلا التوقيع، ولا‏ ‏أحد‏ ‏يوقظه‏ ‏بالليل، ‏ولا‏ ‏يتعب‏ ‏نفسه، وكأن هذه السيدة ربت ولديها، وتفوقا، ودخلا كليتى القمة هاتين، ليجلسا عن بعد يرتاحان ويجمعان ما يسمح به القانون والشطارة، وأعقـِّبُ متسائلا: هل هذه هى طموحات الأسرة المصرية المسلمة المتدينة لأولادها المتميزين ذكاء وتحصيلا دراسيا، ‏ ‏فيقول‏ ‏الاستاذ، ‏وأين‏ ‏قيمة‏ ‏العمل‏ ‏فى ‏الإسلام الذى تنتمى إليه هذه السيدة؟ ألم تقل إنها مسلمة ملتزمة؟ أليس العمل والاتقان هما محوران أساسيا فى الإسلام، فأعقب أننى أعتقد أن هذه السيدة تمارس الدين مع ربنا بنفس الطريقة التجارية، ولا أزيد.

ثم نعود إلى ‏مقدمة‏ ‏فتحى ‏العشرى ‏لعمل‏ ‏بن‏ ‏جلون‏ “‏ليلة‏ ‏القدر” ‏وعلاقته‏ ‏بالاسلام، ‏مع‏ ‏إشاره‏ ‏بن‏ ‏جلون‏ ‏نفسه‏ ‏إلى ‏التلميح‏ ‏العابر‏ ‏بأن‏ ‏الاسلام‏ ‏هو دين‏ ‏الحرية‏ ‏والسماح، ‏وأشير‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏رأيى ‏فى ‏الندوة‏ ‏كان‏ ‏من‏ ‏مدخل‏ ‏آخر‏ ‏تماما‏ ‏حيث‏ ‏كان‏ ‏البعد‏ ‏الاسلامى ‏الذى ‏وصلنى ‏هو‏ ‏تصالح‏ ‏الجسد‏ ‏مع‏ ‏الجنس‏ ‏مع‏ ‏الدين‏ ‏فى ‏كلية‏ ‏إنسانية‏ ‏على ‏متدرج‏ ‏الترقى ‏البشرى ‏نحو‏ ‏الإيمان‏ ‏الحقيقى، ‏وهذا‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏ميز العمل عندى إذا كان لا بد أن ننظر إليه – رغما عنى- ‏‏من‏ ‏البعد‏ ‏الإسلامى، ‏وقد‏ ‏تناوله‏ ‏بن‏ ‏جلون‏ ‏بشكل‏ ‏مبدع‏ ‏شجاع، ‏ ‏فلم‏ ‏يفترض‏ ‏زواجا‏ ‏ولم‏ ‏يشترط‏ ‏نواهٍ ‏قامعة، ‏قدم‏ ‏بن‏ ‏جلون‏ ‏هذا‏ ‏البعد‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يذكر‏ ‏أنه‏ ‏الإسلام، ‏فى ‏حين‏ ‏قدم‏ ‏بعد‏ ‏التشويه‏ ‏الذى ‏قامت‏ ‏به‏ ‏أخوات‏ ‏البطلة‏ ‏عقابا‏ ‏لها، ‏حتى ‏يحرموها‏ ‏من‏ ‏الجنس‏ ‏أصلا، ‏على ‏أنه‏ ‏الصورة‏ ‏التعصبية‏ ‏العمياء‏ ‏لبعض‏ ‏الممارسات‏ ‏التى ‏تسمى ‏إسلامية‏.‏

الحلقة الواحد والخمسون

دويتو جديد، وثروة جديدة

الخميس‏: 20/4/1995 (‏حرافيش‏ / ‏سولو‏: ‏دوتّو‏)‏

…. اعتذر‏ ‏توفيق الليلة، ‏وطلب‏ ‏منى ‏أن‏ ‏يتناول‏ ‏الاستاذ‏ ‏العشاء ‏عندى، ‏وافقت‏ ‏طبعا، ‏هل‏ ‏أنا‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏النهار، كنت آمل‏ ‏أن‏ ‏يحضر‏ ‏أحمد‏ ‏مظهر، ‏لم‏ ‏أجده فى منزله، ‏ولم‏ ‏يعتذر، ‏ما‏ ‏الحكاية‏ – ‏للمرة‏ ‏الثانية سوف‏ ‏أجالس‏ ‏الاستاذ‏ ‏وحدنا‏ ‏لمدة‏ ‏ساعات‏ ‏حرافيشية، ‏وهى ‏المرة‏ ‏الثالثة‏ ‏عامة‏ ‏إذا‏ ‏أضفنا‏ ‏إلى ‏جلستى ‏الحرافيش‏ ‏يوم‏ ‏الاثنين‏ الأول ( ‏يوم‏ ‏ما‏ ‏اتقابلنا‏ ‏إحنا‏ ‏الاثنين‏)‏.

حين وصلت إلى منزله لم يتردد

‏- ‏أهلا‏ وسهلا

‏- ‏هل‏ ‏ننتظر‏ ‏أحدا؟

‏- ‏الساعة‏ ‏كام؟‏

-‏ستة‏ ‏وخمسة؟‏ ‏

-ياللا‏ ‏بينا‏.‏

“فورت‏ ‏جراند”، ‏جلسة‏ ‏الصالة‏ ‏الكبيرة‏ فى الفندق ‏أجمل‏ ‏من‏ ‏جلسة‏ ‏الركن‏ ‏القصى الذى اعتدنا اللجوء إليه فى هذا الفندق، ‏نجلس‏ ‏وسط‏ ‏الناس، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏وحدنا، ‏لايحتاج‏ ‏الأمر‏ ‏إلى ‏علو‏ ‏الصوت، ‏مررنا‏ ‏على “‏بتاع‏ ‏السوداني” (برغم أن الليلة لن تنتهى فى بيت توفيق)، ‏لم‏ ‏أكن‏ ‏أعرف‏ ‏مقدار‏ ‏ما‏ ‏يشترى ‏توفيق، ‏قال‏ ‏الاستاذ‏: ‏نصف‏ ‏سودانى، ‏ونصف‏ ‏لب‏ ‏أبيض، ‏أخرج‏ ‏الاستاذ‏ ‏عشرة‏ ‏جنيهات، ‏هو‏ ‏الذى ‏يدفع‏ ‏كل‏ ‏ليلة‏ ‏الحرافيش‏ ‏لايوجد‏ ‏احتمال‏ ‏آخر، لم أعرف ماذا سأفعل بالسودانى، وهل سيتركه فى عربتى بعد العشاء كما اعتاد أن يفعل فى بيت توفيق‏.‏

كان‏ ‏الاستاذ‏ ‏قد‏ ‏أخبرنى ‏أن‏ “‏مندوبة” ‏من‏ ‏فندق‏ ‏فورت‏ ‏جراند ([37]) ‏ قد‏ ‏زارته‏ ‏فى ‏المنزل‏ ‏وأعطته‏ ‏بطاقة‏ ‏تسمح‏ ‏له‏ (‏ولنا‏) ‏بتخفيض‏ 50% ‏فى ‏كل‏ ‏خدمات‏ ‏الفندق، ‏وسألته‏ ‏هل‏ ‏كانت‏ ‏جميلة، ‏فزاغ‏ ‏وقال‏ ‏إنها‏ ‏قرأت‏ ‏عليه‏ ‏بعض‏ ‏شعرها‏ ‏الذى ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏زجلا‏ ‏أو‏ ‏شيئا‏ ‏لطيفا، ‏وأنه‏ ‏وعدها‏ ‏بأن‏ ‏يعطيه‏ (‏شعرها‏) ‏لمن‏ ‏يهمه‏ ‏الأمر، ‏كررت‏ ‏السؤال‏ ‏عن‏ ‏جمالها‏ ‏قاصدا أن أنكشه أكثر، فقهقه‏ ‏حين‏ ‏لاحظ‏ ‏إصرارى ‏وقال‏: ‏”مش‏ ‏بطالة”‏.‏

عرجت‏ ‏إلى ‏حديثه‏ ‏هذا‏ ‏الصباح‏ ‏فى ‏الأهرام‏ ‏عن‏ ‏العقاد، ‏ورغم‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏موضوعيا‏ ‏كالعادة، ‏فقد‏ ‏كان‏ ‏مجاملا‏ ‏رقيقا‏ ‏كالعادة‏ ‏أيضا، ‏وأكثر، ‏قلت‏ ‏له‏ ‏إننى ‏أخشى ‏عليه‏ ‏من‏ ‏فرط‏ ‏المجاملات‏ ‏هذه، كما أخشى ‏حين‏ ‏يجمع‏ ‏سلماوى ‏هذه‏ ‏الحوارات‏ ‏التى ‏وصف ‏من‏ ‏خلالها‏ ‏من‏ ‏عاصر‏ ‏وعاشر مِمَّن‏ ‏أحب وتابع ولو عن بعد، ثم أضفت: إننى ‏‏أخشى أن‏ ‏تخرج‏ هذه الأحاديث ‏فى ‏النهاية‏ ‏بأقل‏ ‏من‏ ‏قيمتها من واحد مثله ‏ ‏كشاهد‏ ‏أمين‏ (‏لم‏ ‏أستعمل‏ ‏كلمة‏ ‏”شاهد‏ ‏على ‏العصر” احتجاجا على برنامج عمر بطيشة الذى طال حتى لملم) – ‏قلت‏ ‏له‏ ‏إن‏ ‏شهادته‏ مهمة جدا للناس، لكنها ‏انتقائية، ‏وانها ‏تنتقى ‏الإيجابيات‏ ‏دون‏ ‏غيرها، ‏وتصر‏ ‏على ‏المجاملات‏ ‏دون‏ ‏المؤاخذات، ‏وهذا‏ ‏يضعفها‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر، ‏هز‏ ‏الاستاذ‏ ‏رأسه‏ ‏مليا‏ ‏ثم‏ ‏قال‏: ‏إن‏ ‏هذه‏ ‏لقطات‏ ‏سريعة‏ ‏ومحدوده، ‏وهى ‏ليست‏ ‏نقدأ‏ ‏أو‏ ‏دراسة‏: ‏لا‏ ‏للشخصية‏ ‏ولا‏ ‏لعمل‏ ‏بذاته، ‏وموقفى ‏الآن‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏أظهر‏ ‏الإيجابيات‏ ‏أو‏ ‏الانطباعات‏ ‏الطيبة‏ ‏التى ‏وصلتنى ‏وتصلنى، ‏وهى ‏كثيرة‏ ‏وحقيقية‏ ‏دون‏ ‏مبالغة، ‏وهذا‏ ‏لا‏ ‏يعنى ‏بداهة‏ ‏إغفال أو إنكار ‏السلبيات‏ ‏إن‏ ‏وجدت‏ – ‏وهناك‏ ‏غيرى ‏يقوم‏ ‏بالإحاطة‏ ‏وإكمال‏ ‏الصورة‏ ‏بطريقة‏ ‏شاملة‏ ‏ومسئولة، ‏ثم‏ ‏إنى ‏لست‏ ‏ناقدا‏ ‏ولا‏ ‏مؤرخا‏ ‏لهذا‏ ‏أو‏ ‏ذاك، ‏وأنا‏ ‏حين‏ ‏أنقد، ‏وقد‏ ‏نقدت‏ ‏فعلا‏ ‏وكثيرا، ‏أستعمل‏ ‏الأسلوب‏ ‏الذى ‏أحذقه‏ ‏وأتقنه، ‏وهو‏ ‏الرواية، ‏فى ‏زمن‏ ‏عبد‏ ‏الناصر‏ ‏نقدت‏ ‏ونقدت‏ ‏ونقدت، ‏خذ‏ ‏عندك‏ ‏ميرامار، ‏ثرثرة‏ ‏فوق‏ ‏النيل، ‏وفى ‏عهد‏ ‏السادات‏ ‏صباح‏ ‏الورد، ‏وحب‏ ‏تحت‏ ‏المطر‏ ‏وكان‏ ‏نقدا‏ ‏شديدا‏ ‏وخطيرا، ‏وكانوا‏ ‏فى ‏السلطة، ‏وهذا‏ ‏هو‏ ‏دورى ‏النقدى ‏وهو‏ ‏ليس‏ ‏مقصودا‏ ‏فى ‏ذاته، ‏لكنه‏ ‏حتما‏ ‏يظهر‏ ‏فى ‏السياق‏ ‏الروائى، ‏قلت‏ ‏له‏ ‏فأنت‏ ‏توظف‏ ‏الرواية‏ ‏للنقد، ‏إذا‏ ‏عنَّ‏ ‏لك‏ ‏نقدا، ‏وتكتفى ‏بالمجاملة‏ ‏فى “‏الرأي”‏ إذا طلب منك الرأى

قال‏ بتواضع: ‏تقدر‏ ‏تقول‏ ‏كذا(كده)

ومع‏ ‏ذلك‏ ‏أو‏‏اصل‏ ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏العقاد‏ ‏وعن‏ ‏كتاب‏ ‏أنيس‏ ‏منصور، وشطحه، واستسهاله، ‏وتجاوزاته، ‏وأقول‏ ‏للاستاذ‏ ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏ما‏ ‏ذكر‏ ‏فى ‏الأهرام‏: ‏إننى ‏لاحظت‏ ‏أن‏ ‏العقاد‏ ‏كانت‏ ‏له‏ ‏سلبيات‏ ‏بلا‏ ‏حصر‏ ‏رغم‏ ‏موسوعيته‏ ‏وإحاطته‏ ‏وملاحقته للمنشور فى مختلف التخصصات، ‏فيوميء‏ ‏الاستاذ‏ ‏برأسه متسائلا، ‏فأُكـْـمـِل‏: ‏إن‏ ‏أنيس‏ ‏منصور، ‏مع‏ ‏حبه‏ ‏الشديد‏ ‏والبنوى ‏لهذا‏ ‏الرجل‏ ‏العظيم، ‏قد‏ ‏استطاع‏ ‏أن‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏هذه‏ ‏السلبيات‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر، ‏بل‏ ‏إنه‏ ‏استطاع‏ ‏أن‏ ‏يكشف‏ ‏عن‏ ‏جوانب‏ ‏كثيرة‏ ‏من‏ ‏نسائياته‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يدخل‏ ‏فى ‏التفاصيل، ‏ودون‏ ‏أن‏ ‏يحرج‏ ‏ذكراه‏ ‏ودون‏ ‏أن‏ ‏يخفى الكثير على ما أعتقد، ‏وأنا‏ ‏أعتبر‏ ‏هذا‏ ‏من‏ ‏أمهر‏ ‏مهاراته‏، ثم‏ ‏أضيف‏ ‏أننى ‏أخذت‏ ‏على ‏العقاد‏ ‏نقده‏ ‏لأبى ‏نواس‏ ‏الحسن‏ ‏بن‏ ‏هانئ، ‏فى ‏حين‏ ‏احتلفت‏ ‏بقراءته‏ النقدية ‏لابن‏ ‏الرومى، ‏وقد‏ ‏أسفت‏ ‏أن‏ ‏تصدى ‏العقاد‏ ‏لمنطقة‏ ‏علمية‏ ‏طبية، ‏هى ‏منطقة‏ ‏اضطرابات‏ ‏الغدد‏ ‏الصماء، ‏فأفتى ‏فيها‏ ‏بما لا يُقبل من طالب طب ‏ ‏فى السنة الثانية‏ ‏فى الكلية،، ‏وقد‏ ‏قلت‏ ‏لنفسى ‏وأنا‏ ‏أقرأ‏ ‏للعقاد ‏هذا‏ ‏الجزء‏ ‏فى ‏كتابه‏ ‏الحسن‏ ‏بن‏ ‏هانى: ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏شأنه‏ ‏وقد‏ ‏تجرأ‏ ‏على ‏الطب‏ ‏هكذا، ‏فمن‏ ‏يضمن‏ ‏لى ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يفعل‏ ‏نفس‏ ‏الشيء‏ ‏فى ‏الفلسفة‏ ‏والتاريخ؟

ويعقب‏ ‏الاستاذ‏ بصدر رحب بأنه ربما كانت ‏عقدة‏ ‏العقاد، نتيجة ‏مبالغات‏ ‏تعويضية، ‏بدأت‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏رفض‏ ‏سعد‏ ‏زغلول‏ (‏أو‏ ‏وزير‏ ‏المعارف‏ ‏العمومية‏ ‏فى ‏وزارة‏ ‏سعد‏) ‏أن‏ ‏يرسل‏ ‏العقاد‏ ‏إلى ‏بعثة‏ ‏فى ‏الخارج، ‏ذلك‏ ‏أنه‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏حصل‏ ‏سعد‏ ‏باشا‏ ‏على ‏عدد‏ ‏من‏ ‏المنح‏ ‏للبعثات‏ ‏باشتراطات‏ ‏شهادات‏ ‏محلية‏ ‏معينة‏ ‏وما‏ ‏إلى ‏ذلك، ‏ذهب‏ ‏العقاد‏ ‏وعرض‏ ‏أو‏ ‏طلب‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏أحد‏ ‏المرشحين، ‏لكن‏ ‏الوزير‏ ‏اعتذر‏ ‏له‏ ‏باعتباره‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏يخالف‏ ‏ابسط‏ ‏قواعد‏ ‏المبعوثين‏ ‏بضرورة‏ ‏الحصول‏ ‏على ‏الشهادة‏ ‏المحلية‏ ‏التى ‏تؤهله‏ ‏لذلك، ‏وأحس‏ ‏العقاد‏ ‏بالصفعة‏ ‏قاسية‏ ‏وأعتقد‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الصد‏ ‏هو‏ ‏من‏ ‏أهم‏ ‏ما‏ ‏دفع العقاد إلى الانطلاق نهلا من كل مصادر المعرفة دون استثناء، وتعجبت للقصة، ولم أعلق.

لا أعرف ما الذى جاء بذكر الإدمان، وكان الأستاذ حريصا أن يلم بكل ما لم تتح له فرصة أن يباشره شخصيا، فذكرت له رأيى فيما أسميه ثقافة الإدمان، وحكيت له عن حادثة خطيرة أقدم عليها مدمن ممن أعالج حاليا بعشوائية قاسية، وأوذىَ فيها بعض أهله دون أن يندم كما توقعت، ولا حتى قبـِل أن يعتذر أثناء العلاج، ولم أعرف لم ربطت هذا الحادث بما ساد العالم من سرعة الاستجابة للمثيرات بالحسم التفجيرى، حتى لو أخذ شكل المقاومة، وربطت بين هذا الحادث وبين ‏ ‏تفجير‏ ‏سيارة‏ ‏فى ‏تل‏ ‏إبيب، ‏أو‏ ‏قتل‏ ‏مجموعة‏ ‏من‏ ‏البوليس‏ ‏المصرى ‏فى ‏المنيا، ‏أو‏ ‏تفجير‏ ‏دراجة‏ ‏بخارية‏ ‏فى ‏لندن‏ (‏إيرلندا‏) ‏أو‏ ‏اليابان، ‏ورغم‏ ‏الاختلاف‏ ‏الشديد، ‏فإن ثم إعلان‏ ‏على ‏مستوى ‏العالم‏ يقول ‏إن الناس ‏لم‏ ‏يعودوا‏ ‏يحتملون، ‏وأن‏ ‏الحوار‏ ‏انقطع‏ ‏بينهم‏ ‏وبين‏ ‏السلطات‏ ‏التى ‏تقهرهم، ‏وبينهم وبين بعضهم، وأن المسألة تتمادى نحو مزيد من : ‏علىّ ‏وعلى ‏أعدائى، نبهنى‏ ‏الاستاذ قائلا: ‏أنت تتكلم عن الإرهاب ولا أعرف لماذا تربطه بالإدمان، قلت له إنى آسف، فالربط واهٍ فعلا، لكن يبدوا أننى جمعت بين الظاهرتين تعسفا نتيجة لشعورى الشخصى، وليس من وحى أى وجه شبه موضوعى، وأنهما على كل حال ‏شكلان‏ ‏من‏ ‏أشكال‏ ‏الهرب‏ ‏القهرى ‏الشامل‏ ‏والحاسم‏ ‏والمدمر، ‏هناك‏ ‏هرب‏ ‏إلى ‏الأمام‏ ‏علىّ وعلى ‏أعدائى (‏يظهر‏ ‏فى ‏شكل‏ ‏الإرهاب‏)، ‏وهناك‏ ‏هرب‏ ‏إلى ‏الداخل‏ ‏أد‏مر‏ ‏به‏ ‏نفسى ‏وألغى ‏به‏ ‏الآخرين‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت، ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏يظهر‏ ‏فى ‏شكل‏ ‏الإدمان‏ ‏أو‏ ‏أى ‏صورة‏ ‏أخرى ‏من‏ ‏صور‏ ‏المرض‏ ‏النفسى، مع احتمالات مضاعفات إيذاء الغير كمظاهر جانبية، ‏

هز‏ ‏الأستاذ رأسه‏ ‏وصمت، ‏فتصورت‏ ‏أنه‏ ‏اكتفى ‏بالاستماع‏ ‏لتفسير موقفى، ‏لكن وصلنى رفضه بشكل ما، وكنت أشاركه بعض ذلك دون أن أدرى، وصدق حدسى، فبعد فترة صمت قال : ليس‏ ‏الأمر‏ ‏كذلك، ‏فالإرهاب‏ – ‏رغم‏ ‏توحد‏ ‏مظهره‏ – ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏إرهابا‏ ‏واحدا، ‏وبالتالى ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تجمع‏ ‏ما‏ ‏كان‏ ‏يحدث‏ ‏عندنا‏ ‏أيام‏ ‏الانجليز‏ ‏مثل‏ ‏مقتل‏ ‏السردار، ‏وأعمال‏ ‏جماعة‏ ‏اليد‏ ‏السوداء، ‏ثم ما يحدث‏ ‏الآن‏ ‏فى ‏أيرلندا‏ ‏طلبا‏ ‏للاستقلال، ‏وفى ‏إسرائيل‏ ‏فى ‏اتجاه‏ ‏التحرير، أن تجمع كل هذا مع الإرهاب مع العشوائى والتدميرى، ‏ثم إن هناك‏ ‏إرهاب مبرر بأسباب‏ ‏دينية‏ ‏مثل‏ ‏بعض‏ ‏الذى ‏يحدث‏ ‏عندنا‏ ‏أو‏ ‏فى ‏الجزائر، ‏وهناك‏ ‏إرهاب‏ ‏لأسباب‏ ‏مادية،‏ ‏مثل‏ ‏إرهاب‏ ‏المافيا‏ ‏فى ‏إيطاليا‏ ‏وغيرها، ‏وهناك‏ ‏إرهاب‏ ‏الدولة‏ ‏مثل‏ ‏ما‏ ‏يحدث‏ ‏فى ‏العراق، ‏وعلى ‏ذلك‏ ‏فالتعميم‏ ‏‏خطر دائما‏، أما‏ ‏عن‏ ‏الادمان، ‏فقد‏ ‏تكون‏ ‏هناك‏ ‏رابطة‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏حداثة‏ ‏ ‏ ‏وسرعة‏ ‏انتشاره‏ ‏فى نفس التوقيت فـَـتـَـواكـَـبَ ‏مع‏ ‏ظاهرة‏ ‏الإرهاب زمنيا لا أكثر، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏لا‏ ‏يبرر‏ ‏جمعهما‏ ‏هكذا كما فعلتَ، شعرت بالمنطق السليم الذى نبهنى إلى تسرعى فى الجمع، وتعجبت لما قلت، وفرحت بيقظة الأستاذ ورفضه، وتنبهت إلى ‏ملاحظة‏ ‏الاستاذ‏ ‏أن‏ ‏الإرهاب‏ ‏كان‏ ‏موجودا‏ ‏على ‏مختلف‏ ‏أنواعه‏ ‏بالطول‏ ‏أيضا‏ ‏عبر‏ ‏التاريخ، ‏مثل‏ ‏القرصنة، ‏وقطاع‏ ‏الطرق، ‏والقتل‏ ‏بالأجر‏ ‏وغير‏ ‏ذلك، ‏وقلت‏ ‏له‏ ‏اعترافى هذا وأعلنت عن تراجعى، واضفت أنه يبدو أننى كنت متحمسا مندفعا بشعورى الشخصى، وأن ما جعلنى أتمادى فى هذا الربط الواهى هو أننى ذكرت هذا الرأى، وبدا مقبولا فى بعض الندوات العلمية التى حضرها أجانب، فسألنى بحب استطلاع، “‏وماذا‏ ‏قال‏ ‏الخواجات‏ ‏عن‏ ‏رأيك‏ ‏هذا؟”، وهنا تنبهت إلى أن أحدا ‏من‏ ‏المشاركين‏ ‏فى ‏الندوة‏ ‏من‏ ‏الزملاء المحليين والأجانب‏ ‏قد‏ ‏انتبه‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏انتبه‏ ‏إليه‏ ‏الاستاذ، أو لعل الوقت لم يسمح، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏ما‏ ‏بلغنى ‏أثناء‏ ‏الندوة‏ ‏وبعدها‏ ‏هو‏ ‏نوع‏ ‏من‏ ‏الموافقة‏ ‏للفروض‏ ‏التى ‏طرحتها، ‏وهذا‏ ‏الفرض‏ ‏هو‏ ‏أولها‏ ‏وأهمها‏، مع أننى أقر الآن أنه أضعفها.

ودعوت‏ ‏له، ‏

استطرد‏ ‏الاستاذ‏:‏

أما‏ ‏عن‏ ‏الإرهاب‏ ‏فى ‏مصر، ‏فله‏ ‏وضع‏ ‏خاص، ‏واعتقد‏ ‏أن‏ ‏بذرته‏ ‏ألقيت‏ ‏فى ‏وعى ‏الناس‏ ‏والشباب‏ ‏بعد‏ ‏إحباط‏ 1967، ‏فقد‏ ‏انهارت‏ ‏قيمة‏ ‏الاشتراكية، ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏أغلق‏ ‏ملف‏ ‏الوطنية‏ ‏التى كانت مستثارة طول الوقت بذلك‏ ‏التحدى ‏المستمر‏ ‏الذى ‏كان‏ ‏مصدره‏ ‏وجود‏ ‏المستعمر أمام الناس جهارا نهارا، ‏وقد لعب‏ ‏الحكام‏ ‏بالنار بعد‏ 67 – ‏لعبوا بالنار‏ ‏بدءا‏ ‏بإعلان‏ ‏التوبة‏ والتظاهر بالعودة إلى الله، مستسهلين إعلان‏ ‏الحاجة‏ ‏إلى ‏التدين، وكأن ما حدث هو نتيجة لبعدنا عن التدين، وليس لسوء تدبيرنا وخيبة استعدادنا، وخطأ حساباتنا، ومنذ هذه الهزيمة وتبريرها الواهى هكذا: ‏ترعرعت‏ ‏البذرة‏ ‏حتى ‏ظهرت‏ ‏النباتات‏ ‏السامة‏ ‏كما نرى‏ (‏هذه‏ ‏ليست‏ ‏ألفاظه‏ ‏تماما‏).‏

قلت‏ ‏له‏: ‏ليكن، ‏لكن‏ ‏الشعب‏ ‏المصرى – ‏كما‏ ‏أعرفه‏ ‏قبل‏ ‏الفترة‏ ‏الأخيرة‏، ‏له‏ ‏طبعه‏ ‏الخاص‏ ‏الذى ‏يسمح‏ ‏له‏ ‏باستيعاب‏ ‏الصدمة‏ ‏دون‏ ‏الاندفاع‏ ‏فى ‏الإنفعال، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏هذه‏ ‏الطبيعة‏ ‏المتميزة‏ ‏حيرتنى ‏حتى ‏فى ‏باب‏ ‏تخصصى ‏العلمى، ‏وما‏ ‏مارسته‏ ‏مما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يسمى ‏البحث‏ ‏العلمى الإكلينكيى، ‏ثم استطردت: دعنى أعود مرة أخرى إلى خصوصية‏ ‏معينة‏ ‏فى ‏مسألة‏ ‏الإدمان، ‏فالشعب‏ ‏المصرى ‏لا‏ ‏يعانى ‏من‏ ‏ظاهرة‏ ‏إدمان‏ ‏الكحول‏ ‏كظاهرة‏ ‏قائمة‏ ‏أو‏ ‏مهددة‏ ‏رغم‏ ‏أن‏ ‏الكحول‏ ‏متاح‏ ‏وغير‏ ‏محرم‏ ‏قانونا، ‏والزعم‏ ‏بأن‏ ‏الوعى ‏الدينى ‏هو سبب ذلك‏ ‏زعم‏ ‏ينفيه‏ ‏تواتر‏ ‏تعاطيه‏ فى مصر فى الطبقات الأدنى والأعلى (وإلى درجة أقل فى الطبقات المتوسطة)، ‏كما‏ ‏ينفيه‏ ‏انشار‏ ‏الكحولية‏ ‏فى ‏بلاد‏ ‏أكثر‏ ضبطا وربطا ومنعا له باسم الدين ‏مثل‏ ‏السعودية‏ ‏أو‏ ‏السودان، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏لا‏ ‏يصح‏ ‏أن‏ ‏نفهم‏ ‏أن‏ ‏السماح الحكومى عندنا ‏هو‏ ‏الذى ‏جعل‏ ‏الناس‏ ‏تعزف‏ ‏عن‏ ‏تعاطية، ‏فالسماح‏ ‏فى ‏العالم‏ ‏الغربى – ‏فرنسا‏ ‏مثلا‏ – ‏لم‏ ‏يمنع‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏ثلث‏ ‏الأسرّة‏ ‏المخصصة‏ ‏للأمراض‏ ‏النفسية‏ ‏مشغولة‏ ‏بالمضاعفات‏ ‏النفسية‏ ‏لتعاطى ‏الكحول، ‏وقد‏ ‏حاولت‏ ‏بحث‏ ‏هذه أسباب هذه ‏ ‏المسألة عندنا، ندرة الحكولية المسببة للأمراض النفسية برغم انتشار التعاطى، ‏ ‏ ‏حاولت‏ ‏وضع‏ ‏فروض‏ ‏لتفسيرها، ‏وعجزت، ‏وقلت له إننى عموما ‏ ‏أرفض‏ ‏الأرقام‏ ‏والتحذيرات‏ ‏التى ‏تلوح‏ ‏بها‏ ‏بعض‏ ‏الأبحاث‏ ‏الأحدث‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏الكحول‏ ‏هو‏ ‏المشكلة‏ ‏القادمة‏ ‏فى ‏مصر، ‏ذلك‏ ‏لأننى ‏طبيب‏ ‏ممارس‏ ‏وطوال‏ ‏حوالى 40 ‏عاما‏ ‏من‏ ‏الممارسة، ‏وطوال‏ ‏ملاحظاتى ‏فى ‏مستشفاى ‏الخاص‏ ‏منذ‏ 22 ‏سنة، ‏لم‏ ‏أقابل‏ ‏كحوليين‏ ‏مصريين مرضى بمضاعفات إدمان الكحول وحده ‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏عشرين أو ثلاثين‏ شخصا برغم ‏أن‏ ‏هناك‏ ‏العديد‏ ‏العديد‏ ‏من‏ ‏الكحوليين‏ ‏العرب‏ ‏يحضرون للعلاج من‏ ‏مختلف‏ ‏الأقطار، ‏بل من الأقطار‏ ‏التى تطبق الشريعة حرفيا‏، وأرجعت كل ذلك إلى ما تصورته من طبع ناسنا ربما عندهم قدرة خاصة تساعدهم فى الكف عن الاندفاع والتمادى، وربما ترجع هذه القدرة إلى علاقتهم بالتاريخ أو لأى سبب آخر، سألنى الأستاذ ليتأكد: عشرين أو ثلاثين كحوليا مصريا خلال أربعين سنة؟ أجبت بالإيجاب، هز‏ ‏الاستاذ‏ ‏رأسه‏ ‏متعجبا‏، ‏فلاحظت ‏ ‏أننى ‏كنت‏ ‏أطرح‏ ‏عليه‏ ‏هذه‏ ‏المسألة‏ ‏وكأنى ‏أحدث‏ ‏زميلا‏ ‏متخصصا‏ ‏سوف‏ ‏يهدينى ‏إلى ‏تفسير‏ ‏أو‏ يقترح ‏فرضا‏ ‏يساعدنى ‏على ‏فهم‏ ‏هذه‏ ‏الملاحظة، ‏وقد‏ ‏أضفت‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الملاحظة‏ ‏لا‏ ‏تنطبق‏ ‏على ‏مواد‏ ‏أخرى ‏مثل‏ ‏الهيروين، ‏وهى ‏المشكلة‏ ‏الأحدث‏ ‏التى ‏نواجهنا‏ ‏هنا‏ ‏الآن‏ ‏فى ‏مصر، ‏ونحن‏ ‏فيها‏ ‏مثلنا‏ ‏مثل‏ ‏الغرب‏ ‏وألعن، ‏ومثل‏ ‏ ‏العرب‏ ‏المدعين فرط التدين وأخيب، ويبدو أن ثمة‏ ‏عوامل‏ ‏غير‏ ‏ظاهرة‏ ‏على ‏السطح‏ ‏تؤكد ‏غرابة‏ ‏الملاحظة، ‏وحين‏ ‏جاء‏ ‏ذكر‏ ‏الحشيش‏ ‏قال‏ ‏الاستاذ‏ ‏مؤكد‏ ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏عقارا‏ ‏إدمانيا، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏السجائر‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏إدمانا‏ ‏أكثر‏ ‏منه، ‏ووافقته‏ ‏(‏رغم‏ ‏بعض‏ ‏الإشارات‏ ‏البحثيه‏ ‏الأحدث‏) ‏وكانت‏ ‏حجته‏ ‏بسيطة‏ ‏للغاية، ‏فإن‏ ‏متعاطى ‏أو‏ ‏مدمن‏ ‏الحشيش‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يتوقف‏ ‏عنه‏ ‏طول‏ ‏أيام‏ ‏الاسبوع‏ ‏ولا يلجأ إليه إلا فى ‏ ‏نهاية‏ ‏الاسبوع، ‏بل‏ ‏إنه‏ ‏قد‏ يتعاطاه ‏ ‏فى ‏المصيف‏ ‏فقط‏ ‏دون‏ ‏سائر‏ ‏العام، ‏وهذا‏ ‏لا‏ ‏ينطبق‏ ‏حتى ‏على ‏السجائر‏ ‏ولا‏ ‏على ‏المواد‏ ‏الأخرى، ‏وفرحت‏ ‏بهذا‏ ‏النقاش‏ ‏العلمى ‏الأمين‏ ‏الذى ‏أَفـْتـَقـِرُ‏ ‏إلى ‏مثله‏ ‏فى ‏أكثر‏ ‏المحافل‏ ‏العلمية‏ ‏تقعرا‏ ‏وتخصصا‏.‏

عدت‏ ‏أشير‏ ‏إلى ‏جرعة‏ ‏الإدمان وثباتها الآمِنْ، ‏وكيف‏ ‏أننى ‏وأنا‏ ‏طفل‏ ‏حول‏ ‏السابعة‏ ‏كنت‏ ‏أقدم‏ ‏القهوة‏ ‏لعم‏ ‏طِلِبْ‏ (‏المعلم‏ ‏طلب‏) ‏النقـّاش‏ ‏صباحا، ‏قهوه‏ ‏سادة، ‏فيُخرج‏ ‏من‏ “‏حُـق”‏ ‏صفيح‏ ‏يضع‏ ‏فيه‏ ‏الدخان‏ ‏السايب‏ ‏ما‏ ‏يشبه‏ ‏الخرزة‏ ‏السوداء‏ ‏ويضعها‏ ‏تحت‏ ‏ضرسه‏ ‏قبل‏ ‏القهوة، ‏وعليها‏ ‏حتى ‏ثانى ‏يوم، ‏وقد‏ ‏سألته‏ ‏طبعا‏ ‏عما‏ ‏يفعل، ‏وابتسم‏ ‏وقال‏ ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏هو ما يعينه‏ ‏ويعدل‏ ‏مزاجه، ‏وتكررت‏ ‏مهمتى ‏هذه‏ ‏مع‏ ‏صانع‏ ‏القواديس‏ ‏والقلل‏ (‏عم‏ ‏فرج‏) ‏الذى ‏استجلبه‏ ‏والدى ‏عدة‏ ‏أشهر‏ ‏ليصنع‏ ‏قواديس‏ ‏لبرج‏ ‏حمام‏ ‏لم‏ ‏ينجح، ‏وعلمت‏ ‏مؤخرا‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الخرزة‏ ‏السوداء‏ ‏كانت‏ ‏قطعة‏ ‏أفيون، ‏حكيت هذه الحكاية لأبين للأستاذ أن جرعة ثابتة من مخدر ما، لها وظيفة بعينها، تؤديها بكفاءة، ولا تزيد أبدا، لا تعتبر إدمانا بحال، فرح الأستاذ بالمعلومة وبدا لى أنها لاقت هوى ما فى نفسه.

لم أفرح بهذا اللقاء الثنائى المحدود كما فرحت به أول مرة، ويبدو أننى نسيت نفسى، وجرجرت الأستاذ إلى مسائل تشغلنى أنا، وهى ليست بالضرورة تهمه، لاحظت بعد فترة صمت قصيرة أننى كنت ‏ألقى ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏الأسئلة‏ ‏على ‏الأستاذ‏ ‏وكأنه‏ ‏سيجيبنى ‏عنها‏ ‏الإجابات‏ ‏الشافية‏ ‏الحاسمة، أثناء مراجعتى نفسى، ومحاولتى أن أنتبه لأتراجع، فوجئت بالأستاذ وقد رفع حاجبيه بعد تفكير عميق يسألنى : ‏عندك‏ ‏حق‏ ‏فى ‏التساؤل، ‏ترى ‏ماذا‏ ‏حدث فى بلدنا؟‏ ‏لماذا‏ ‏التمادى ‏الآن‏ ‏هكذا؟ ولماذا لا نجد أمثلة مثل عمك طلب النقاش، وعمك فرج صانع القلل والقواديس، فرحت أننى لم أكن أثقل عليه، وقلت له أنا أنتظر منك الإجابة فأنت أستاذى حتى فى مهنتى، واكتفيت بما لطفنى به، ولو مجاملة.

ذكرت‏ ‏للأستاذ‏ ‏حادثة‏ ‏وقعت‏ ‏لى ‏هذا‏ ‏الصباح‏ ‏حين‏ ‏ذهبت‏ ‏مع‏ ‏إبنى ‏لشراء‏ ‏سيارة، ‏وحين عرف اسمى‏ ‏مسئول‏ ‏المبيعات‏ انشرح وجهه باشا فتصورت أنه ذكر‏ ‏أنه‏ ‏قرأ‏ ‏لى ‏هنا‏ ‏أو‏ ‏هناك، ‏أو‏ ‏شاهدنى ‏أو‏ ‏سمعنى ‏فى ‏بعض‏ ‏البرامج، ‏وإذا‏ ‏به‏ ‏يقول‏: “‏أنا‏ ‏سمعت‏ ‏عنك‏ ‏كثيرا، ‏وأنت‏ ‏لاتعرفنى”، ‏قلت‏ ‏فى ‏نفسى ‏مفهوم، ‏لكنه‏ ‏مضى ‏يقول‏: ‏لقد‏ ‏حملتـَنى ‏على ‏كتفك‏ ‏من‏ ‏حوالى ‏خمسين‏ ‏عاما، ‏هل‏ ‏تعرف‏ ‏واحد‏ ‏اسمه‏ ‏ابراهيم‏ ‏سويلم، ‏فجأة‏ ‏قـفرت‏ ‏إلى ‏ذهنى ‏صورة‏ ‏قطار‏ ‏الدلتا، ‏ومركب‏ ‏تسير‏ ‏فى ‏النيل‏ ‏تتجه‏ ‏إلى ‏قناطر‏ ‏زفتا، ‏قال لى المندوب‏: ‏أنا‏ ‏إبنه، أنا لم أقابل حضرتك من قبل، لكنك ‏كلما‏ ‏ظهرتَ‏ ‏فى ‏التليفزيون‏ ‏قالت‏ ‏لى ‏أمى ‏هذا‏ ‏الدكتور‏ ‏كان‏ ‏يحملك‏ ‏وأنت‏ ‏بعد‏ ‏إبن‏ ‏شهور، ‏قلت‏ ‏للاستاذ‏ ‏إننى ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏ذهبت‏ ‏إلى ‏المنزل‏ ‏عادت‏ ‏لى ‏بانوراما‏ ‏مرئيه، ‏وكأن‏ ‏شريطا‏ ‏سينمائيا‏ ‏يدور‏ ‏أمامى، ‏ولست‏ ‏أدرى ‏كيف‏ ‏تذكرت‏ ‏كل‏ ‏التفاصيل‏: كنا فى زفتا، وكان عم ابراهيم سويلم هذا ناظر محطة بلدتنا “هورين” على خط الدلتا بين زفتا وبركة السبع، ‏كان‏ ‏عندى ‏أيامها ‏ ‏عشرة‏ ‏أو‏ ‏أحد‏ ‏عشر‏ ‏سنة، ‏فكيف‏ ‏قفزت‏ ‏أمامى ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏الصور‏ ‏بكل‏ ‏هذه‏ ‏التفاصيل‏ ‏هكذا، ‏(ما زلت أحكى للأستاذ).. صادقت أسرتنا أسرة عم إبراهيم سويلم، وكنا نستضيفهم فى الأعياد فى زفتا، ‏تذكرت‏ بوضوح شديد يوما‏ ‏كنا‏ ‏فى ‏مركب‏ نيلى على وشك أن نشد الرحال إلى قناطر زفتا فى نزهة يوم جمعة، وكان معنا عم ابراهيم وأسرته، وخلع ‏ ‏أخى ‏الأكبر‏ (13 ‏سنة‏) ‏خاتمه الذهبى ‏ ‏حتى ‏يستطيع‏ ‏التجديف، ‏فوقع‏ ‏منه‏ ‏فى النيل قرب ‏الشاطئ، ‏ونزل‏ ‏البحارة‏ ‏وصبيانهم‏ ‏يخرجون‏ ‏الطين‏ “‏سولية‏ “‏سولية”، (= كتلة طينية محدودة) ‏ويفحصونها، ‏وأبى ‏يشك‏ ‏أن‏ ‏أحدهم‏ ‏سيجد‏ ‏الخاتم، ‏وسيدفنه‏ ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏التناول‏ ‏حتى ‏نيأس، ‏ثم‏ ‏يعود‏ ‏لالتقاطه‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏ننصرف، ‏لكن‏ ‏أيا من‏ ‏هذا‏ ‏لم‏ ‏يحدث، ‏وأخرجه‏ ‏أحد‏ ‏البحارة وهو يفتش فى إحدى كتل الطين، ‏وفرحنا، ‏لكننى ‏أذكر‏ ‏أننى ‏نظرت‏ ‏إلى ‏والدى ‏حانقا‏ ‏رافضا‏ ‏سوء‏ ‏ظنه، ‏واهتزت‏ ‏صورته‏ ‏وأحببت أمانة الرجال، ولعلى كنت أحمل مندوب المبيعات ابن عم إبراهيم سويلم على كتفى كما ذكرت أمه فى هذا اليوم، انتبهت إلى شدة انتباه الأستاذ ومتابعته لى وأنا أحكى له حكاوى شخصية شديدة الخصوصية، لكننى كنت قد تعودت قراءة وجهه، فوجدت أنه كان متابعا مرحبا فعلا، حتى أنه سألنى عن بعض التفاصيل، فتشجعت وأكملت بعض ذكريات نفس السن، فى زفتا أيضا: ‏كان‏ ‏والدى ‏قد‏ ‏اشترى ‏منزلا‏ ‏من‏ ‏ثلاث‏ ‏أدوار‏ ‏كل‏ ‏دور‏ ‏شقة، ‏سكنا نحن فى‏ ‏أحد‏ ‏أدواره، وأجرنا الدورين الآخرين ‏وجاء‏ ‏مهندس‏ ‏أعزب، ‏يبدو‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏فنانا، ‏كانت‏ ‏له‏ ‏لحية‏ ‏محدودة‏ ‏أسفل‏ ‏الذقن ‏فحسب، ‏ولا‏ ‏أذكر‏ ‏إن‏ ‏كان‏ ‏يدخن‏ ‏غليونا‏ ‏أم‏ لا (‏أحسب‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏يفعل ‏ ‏لزوم‏ ‏الفن‏ ‏والهندسة‏)، ‏وكان‏ ‏والدى ‏قد‏ ‏صحبنى ‏يوما‏ ‏لزيارته‏ ‏ولبعض‏ ‏المصالح، ‏ولأننى ‏سمعت‏ أبى ‏يذكر هذا الساكن ونحن فى شقتنا بصفات شديدة القبح، تعجبت جدا أنه‏ ‏أخذه بالحضن وكال له المديح حين التَقيا، ‏وما‏ ‏إن‏ ‏انصرفنا‏ ‏حتى ‏اكفهر‏ ‏وجه‏ ‏والدى ‏ثانية، ‏وأرسلنى ‏وحدى (‏وأنا‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏السن‏) ‏أطلب‏ ‏منه‏ ‏الإيجار، ‏وتساءلت‏ ‏ساعتها‏ ‏لم‏ ‏لم‏ ‏يطلبه‏ ‏هو‏ ‏شخصيا‏ وكنا عنده ‏‏منذ‏ ‏دقائق، ‏ولماذا ‏ ‏يستعملنى ‏هكذا‏ ‏فيما‏ ‏لا‏ ‏يقدر‏ ‏عليه، ‏واهتزت‏ ‏صورة‏ ‏والدى ‏مثل‏ ‏الهزة‏ ‏الأولى وهو يشك فى البحارة‏، نظرت إلى الأستاذ وهو ينصت بكل حب وسماح، وفرحت حتى كأنى نسيت أننى شيخ فى العقد ‏السابع‏ ‏من‏ ‏عمرى، وجدتنى ‏أنتسب‏ ‏إلى ‏والد‏ ‏جديد، ‏لا‏ ‏تهتز‏ ‏صورته، ‏ولا‏ ‏أريدها‏ ‏أن‏ ‏تهتز، ‏فهل‏ ‏ياترى ‏أنا‏ ‏الغى ‏من‏ ‏رؤيتى ‏ومن‏ ‏كتابتى ‏هذه‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يهز‏ ‏صورة‏ ‏الأستاذ؟‏ ‏أليس‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏افتعال‏ ‏يضر‏ ‏بصورته‏ ‏أكثر‏ ‏مما‏ ‏يحدد‏ ‏ملامحه، ‏إن‏ ‏ما‏ ‏أكـَّـدَ‏ ‏عظمة‏ ‏والدى ‏عند‏ى هو أن صورته كانت قابلة ‏للاهتزاز، ‏فلماذا‏ ‏لا‏ ‏أقبل‏ ‏أن‏ ‏تهتز‏ ‏صورة‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏تأكيدا‏ ‏لإنسانيته، ‏وزيادة‏ ‏فى ‏موضوعية ما يصلنى منه وعنه، ‏وقلت لنفسى: علىّ أن‏ ‏أنتبه‏ ‏إلى ‏هذا‏ ‏الذى ‏أفعله‏.‏

قال‏ ‏الاستاذ‏ ‏فجأة‏ إن ‏كل‏ ‏ما‏ ‏يتعلق‏ ‏بتجارب‏ ‏النوم، ‏وفاعلية‏ ‏الحبوب‏ ‏المساعدة‏ ‏على ‏ذلك‏ ‏لم تنجح كما كان يتصور، وكان قد اعتذر عن أن نكمل السهرة فى بيتى (كان توفيق قد اعتذر هذه الليلة كما قلت فى البداية)، وسألنى الأستاذ عن الساعة، فقلت له إنه ما زال أمامنا أكثر من نصف ساعة، وأننا ‏مازلنا‏ ‏مبكرين‏ ‏بالنسبة‏ ‏للعودة‏ ‏ليلة‏ ‏الحرافيش، ‏وأننا قد‏ ‏لانجد‏ ‏أحدا‏ من أفراد الأسرة ‏فى ‏المنزل، ‏وهو لم يتناول عشاءه، قال‏ ‏نذهب‏ ‏نتمشى ‏فى ‏طريق‏ ‏الاسكندرية، ‏وقد‏ ‏كان، ‏فرحت بهذا ‏الشيخ‏ ‏الذى ‏يواصل‏ ‏الحياة‏ ‏هكذا‏ ‏بما‏ ‏تبقي‏.‏

انطلقت بالسيارة وهو بجوارى والحارس خلفنا، وسيارة الحراسة تتبعنى على طريق الإسكندرية، وتذكرت أن هذا لم يدرج فى خط سير سيارة الحراسة، وقلت للحارس أن يخبرهم أن يتصرفوا، حتى لو عادوا هم آفلين خشية مخالفة الأوامر، ولم أذكر للأستاذ أية تفاصيل عن تصرفى هذا، فأنا أعلم أنه كان سيعترض حرصا على مصلحة هؤلاء الطيبين، ولكن تم الاتصال والإذن نتيجة لحسم إصرارى غالبا.

فى ‏الطريق‏ ‏الصحراوى ‏ظل الأستاذ ‏ ‏صامتا‏ ‏مدة‏،‏ ‏وتصورته‏ ‏قد‏ ‏أغفى، ‏لكنه‏ ‏فجأة‏ ‏قال‏: “‏أنا‏ ‏أتعمد‏ ‏ألا‏ ‏أحدثك‏ ‏حتى ‏تنتبه‏ ‏للطريق‏ ‏المظلم‏ ‏وحتى ‏تتبين‏ ‏الفتحة‏ ‏التى ‏ستلف‏ ‏حولها‏ ‏لنرجع”، قالها برقته البالغة بدلا من أن يقول “كفى هذا، وارجع بنا”. ‏ ‏

وضحك‏ ‏عاليا

وضحكت‏ ‏راضيا

ورجعنا” ‏احنا‏ ‏الاثنين”‏

كان‏ ‏يوما‏ ‏خاصا‏ ‏مرهقا‏ ‏نسيت نفسى فيه حتى بدا لى أننى أضجرته بقصصى الخاصة، لكننى أبدأً لم أستشعر ملله ولا أحسب أنه أخفاه.

 ومع ذلك، لم تكن صحبتنا نحن الاثنين منفردين مثل ذلك اليوم الأول الذى اختليت به وحكيت عنه: “يوم ما اتقابلنا احنا الاتنين”([38])

ملحوظة:

حين‏ ‏جاء‏ ‏وقت‏ ‏الحساب‏ ‏رفض‏ ‏الاستاذ‏ ‏استعمال‏ ‏بطاقة‏ ‏التخفيض التى أعطتها له المندوبة الجميلة التى زارته بالمنزل، ‏ووجدت‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏حياء‏ ‏مصريا‏ ‏رقيقا‏ ‏رغم‏ ‏تعارضة‏ ‏مع‏ ‏كل‏ ‏الأحدث‏ ‏فى ‏المعاملات،

استعمال هذا الخَصْم الاستثنائى الكريم حق بسيط، لكن عدم استعماله كرم وأجمل،

‏ماذا‏ ‏أعمل فيما أتعلمه من ‏حياء‏ ‏ورقة‏ ‏هذا‏ ‏الرجل؟!!

الحمد لله.

الحلقة الثانية والخمسون

صديق قديم فى زيارة خاطفة

الجمعة: 21/4/1995

..بيتى!! كما كل مساء جمعة، هو فى ‏بيتى، ‏قلت مرارا أن الاستاذ سمح لى ألا أكون فى استقباله فى بيتى فى نهاية الاسبوع، فحرمت من التعرف بشكل أوثق على مجموعة الجمعة الطيبة([39]) هو القريبة النشطة المحبة  وفرحت بأنهم يحضرون فى ضيافته هو.

العدد‏ ‏قليل، ‏والجو‏ ‏ربيع، ‏والدنيا‏ ‏بخير

الأستاذ ‏أسامة عبد الكريم، شقيق صاحبة مجلة‏ ‏شموع لوتس عبد الكريم‏، ‏ألمانى الإقامة والجنسية (مزدوجة)، ‏هو‏ ‏الذى ‏حكى لى ‏الاستاذ‏ ‏عنه، وودّ لو أنه‏ ‏يعرّفنى ‏به، ‏وقد‏ ‏عرفته، رجحت‏ ‏أن عمره‏ ‏يناهز‏ ‏عمرى ‏أو‏ ‏أكثر‏ ‏قليلا، لكنه‏ ‏يتحدث‏ ‏مع‏ ‏الاستاذ‏ ‏عن‏ ‏أحداث‏ ‏ثورة‏ 19 ‏وحول‏ معاهدة 36 ‏بما‏ ‏لا‏ ‏أعرف‏ ‏ولم‏ ‏أعايش‏، فرحت به وتعجبت من ‏هذا‏ ‏”المريد”‏ ‏الذى ‏يأتى ‏من‏ ‏بعيد، ‏والذى ‏حدد‏ ‏ميعاد‏ ‏سفره‏ ‏فى ‏الثالثة‏ ‏صباحا‏ (‏أى ‏بعد‏ ‏انتهاء‏ ‏جلسة‏ ‏الليلة‏ ‏بخمس‏ ‏ساعات ‏فقط)، و‏مع‏ ‏ذلك‏ ‏حضر‏ ‏ليأخذ‏ ‏جرعة‏ ‏لازمة‏ ‏من‏ ‏الاستاذ‏ ‏قبل‏ ‏سفره‏) ‏بالإضافة‏ ‏إليه‏ ‏كان‏ ‏هناك‏ ‏يوسف عزب، ‏وقدرى (أدريان)، ‏وحافظ‏ ‏عزيز، كانوا موجودين باكرا، ثم ‏ ‏لحقنا‏ ‏محمد‏ بعد بعض‏ ‏الوقت‏ ثم الصديق الدائم زكى سالم ثم الآخرون.‏

بدا‏ ‏حديث‏ ‏الليلة‏ ‏بالتاريخ، ‏أثاره‏ ‏الأستاذ‏ أسامة عبد الكريم ‏واستجاب‏ ‏له‏ ‏الاستاذ‏ ‏بدقة‏ ‏وحيوية،‏ تكلموا‏ ‏عن‏ ‏المهاجرين، ‏من‏ ‏أفراد‏ ‏جماعة‏ ‏اليد‏ ‏السوداء،‏ ‏وعن‏ ‏واحد‏ ‏من‏ ‏أسرة‏ ‏عنايت‏ ‏حكم‏ ‏عليه‏ ‏غيابيا‏ ‏فى ‏حادث‏ ‏مقتل‏ ‏السردار‏ ‏وسافر‏ ‏إلى ‏السويد‏ ‏وظل‏ ‏هناك‏ ‏حتى ‏الآن‏ (‏وتساءلوا إن‏ ‏كان‏ ‏مازال‏ ‏على ‏قيد‏ ‏الحياة‏) ‏وعن‏ ‏واحد‏ ‏اسمه‏ ‏نجيب..(غالبا)، ‏مسلم‏، و‏هو‏ ‏الذى ‏وشى ‏بـِقـَـتـَـلة‏ ‏السردار، ‏ورفضه‏ ‏الناس، ‏أغلب‏ ‏الناس، ‏وسافر‏ ‏وأمضى ‏عشرات‏ ‏السنين‏ ‏فى ‏الخارج، ‏وحين‏ ‏عاد‏ ‏إلى ‏الوطن، ‏لم‏ ‏يستقبله‏ ‏أحد، ‏ولم‏ ‏يرحب‏ ‏به‏ ‏أحد، ‏ولم‏ ‏يستطع‏ ‏البقاء‏ ‏فسافر‏ ‏من‏ ‏جديد‏.‏

أظن‏ ‏أن‏ ‏الحديث‏ ‏كان‏ ‏يدور‏ ‏حول‏ ‏قوة جموع ‏الناس‏ ‏الضاغطة‏ ‏والدالة‏ ‏والقادرة‏ ‏على ‏القبول‏ ‏وعلى ‏الرفض‏، ‏وعن‏ ‏قيمة‏ ‏الوعى ‏العام‏ ‏فى ‏تحديد‏ ‏أحكام‏ ‏التاريخ، ‏فى ‏هذا‏ ‏السياق‏ ‏جاء‏ ‏ذكر‏ ‏واحد‏ ‏لواء‏ ‏اسمه‏ ‏شاهين‏ (‏باشا‏)، ‏كان‏ ‏يسكن‏ ‏العباسية‏ ‏جارا‏ ‏من‏ ‏جيران‏ ‏الاستاذ، ‏و حسب حكى الأستاذ: كانت‏ ‏له‏ ‏ثلاث‏ ‏بنات، ‏وكان‏ ‏شديد‏ ‏القسوة‏ ‏فى ‏معاملة‏ ‏المتظاهرين‏ ‏والثوار‏ ‏ضد‏ ‏الانجليز، ‏وبدا كرهه‏ ‏الناس‏ ‏كرها‏ ‏لا‏ ‏مزيد ‏عليه‏ ‏لما‏ ‏أقدم‏ ‏عليه‏ ‏من‏ ‏إهانات‏ ‏وسحل‏ ‏وسحق‏ ‏وإيذاء‏ ‏للمتظاهرين‏ ‏والثوار، ‏وفى ‏آخر‏ ‏حياته‏ ‏رفضه‏ ‏الناس‏ ‏رفضا‏ ‏كاملا، ‏وأحس‏ ‏هو‏ ‏بذلك‏ ‏فاعتزلهم‏ ‏كئيبا‏ ‏حتى ‏بنى ‏لنفسه‏ ‏ما‏ ‏يشبه‏ ‏الاستراحة‏ ‏فى ‏المقبرة، ‏حتى ‏إذا‏ ‏مات‏ لا يحتاج أن ‏يسير‏ ‏فى ‏جنازته أحد، ‏وكانت‏ ‏بناته‏ ‏حلوات، ‏واحدة‏ ‏منهن‏ ‏أصبحت‏ ‏ملكة‏ ‏إذ‏ ‏تزوجها‏ ‏آخر‏ ‏ملوك‏ ‏ليبيا‏ ‏من‏ ‏عائلة‏ ‏السنوسى، ‏واكتشف‏ ‏الأستاذ‏ ‏بالمصادفة‏ ‏أن‏ ‏ابنة ‏ ‏إحدى ‏هذه‏ ‏البنات‏ ‏قد‏ ‏تزوجها‏ ‏إبن‏ ‏اخته،‏ ‏وحكى ‏لنا‏ ‏أنه‏ ‏أثناء‏ ‏واجب‏ ‏عزاء‏ ‏عند‏ ‏ابن‏ ‏أخته هذا، ‏وأثناء‏ ‏جلوس‏ ‏الاستاذ‏ ‏فى ‏الصالون، ‏وجد‏ ‏شاهين‏ ‏باشا‏ ‏فى ‏مواجهته‏ معلقا على الحائط (‏وكان‏ ‏لايعرف‏ ‏الصلة‏ ‏تحديدا‏ بينه وبين زوجة ابن أخته) ‏صورة‏ ‏بالحجم‏ ‏الطبيعى، ‏وكانت‏ ‏له‏ ‏نظرة‏ ‏ثاقبة‏ ‏وصارمة‏ ‏وقاسية، ‏وكان‏ ‏واقفا ‏شاهرا ذراعه وقفة ذات دلالة، ‏وقد‏ ‏أحس‏ ‏الأستاذ‏ (‏مازال‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏يحكى) ‏برجفة، ‏وخفق‏ ‏قلبه‏ ‏خوفا‏ ‏حقيقيا‏ ‏من‏ ‏الرجل‏ ‏والنظرة‏ ‏حتى ‏غيّر‏ ‏موقعه‏ ‏فعلا‏ ‏وحرّك‏ ‏كرسيه‏ ‏بحيث‏ ‏لا‏ ‏تأتى ‏جلسته‏ ‏فى ‏مواجهة‏ ‏صورة‏ ‏شاهين‏ باشا ونظراته.‏

ويضيف‏ ‏الاستاذ‏ ‏أن‏ ‏الناس‏ ‏حين‏ ‏ألّفوا‏ ‏ورددوا‏ ‏فى ‏العباسية، ‏‏أغنية‏ “‏على ‏عِيلِيوَةْ،‏ “‏ياللى” ‏ضرب‏ ‏الزُّمّيرّةْ‏ ‏،…ياللى..،”، وهى الأغنية التى انتشرت فى كل البلاد بعد ذلك، ‏أنهوها‏ ‏بذكر‏ ‏شاهين‏ ‏هذا‏ ‏الذى ‏مات‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏ينجب‏ ‏ولدا‏، وكنت أحفظ الأرجوزة كلها منذ صغرى، وإن كنت لا أعرف أصلها، وتعجب الأستاذ وطلب منى أن أرددها، ففعلت كما كنا نغنيها أطفالا بنغمتها الطروب، ‏وعلى ما أذكر كنا نردد “ياللوا”…، بدلا من “ياللى” كما ذكرها الأستاذ، وكان البنات فى الأرجوزة تسعة (ربما لزوم السجع)، وليسوا ثلاثة كما ذكر لنا الأستاذ، تقول ‏ ‏الأرجوزة:

على ‏عليوه‏ ‏،…ياللوو..،

ضرب‏ ‏الزميرة‏ ‏،…ياللوو..،

ضربها‏ ‏حربى ‏،…ياللوو..،

نطت‏ ‏فى ‏قلبى ‏،…ياللوو..،

قلبى ‏رصاص‏ ‏،…ياللوو..،

أحمد‏ ‏رقاص‏ ‏،…ياللوو..،

رقاص‏ ‏على ‏مين‏ ‏،…ياللوو..،

عَالىَ ‏شاهين‏ ‏،…ياللوو..،

شاهين‏ ‏ما مات‏ ‏،…ياللوو..،

خَلِّفْ‏ ‏بنات‏ ‏،…ياللوو..،

خلفهم‏ ‏تسعه‏ ‏،…ياللوو..،

قاعدين‏ ‏عالقصعة‏ ‏،…ياللوو..،

ياخى ‏جـَـتـْـهـُـمْ‏ ‏لسعة‏ ‏،…ياللوو..،

‏ويبدو‏ ‏أن الأستاذ‏ ‏كان‏ ‏يحفظ‏ ‏بعضها‏ ‏فقط، ‏أو‏ ‏كان‏ ‏يركز‏ ‏على ‏الجزء‏ ‏الأخير‏ ‏منها‏ ‏فحسب، ‏ووجدت نفسى وأنا ‏أسترجع‏ ‏كلماتها‏ ‏‏أنها‏ ‏قد‏ ‏تعنى ‏فعلا‏ ‏مواجهة‏ ‏الثوار‏ ‏لرصاص‏ ‏شاهين‏ ‏بقلوب‏ ‏أقوى ‏من‏ ‏الحديد‏ (‏الذى ربما ‏تشير‏ ‏إليه‏ ‏الأغنية‏ ‏هنا‏ ‏أنها‏ قلوب من ‏الرصاص‏ – ‏قلبى رصاص ياللوو‏) ‏ثم‏ ‏يرقص‏ ‏الناس‏ (أحمد رقاص)، ‏فرحا‏ ‏بالتحدى ‏والنصر‏ ‏على ‏هذا‏ ‏القاهر‏.‏

ثم‏ ‏يتبادل‏ ‏الأستاذ‏ ‏والأستاذ‏ ‏أسامة‏ ‏أغانى ‏شعبية‏ ‏أخرى ‏لها‏ ‏علاقة‏ ‏بالثورة‏ ‏تخاطب‏ ‏اللنبى ‏وتعايره‏ ‏أننا‏ ‏أخذنا‏ ‏الاستقلال‏ ‏والحرية‏ ‏بالرغم‏ ‏منه‏ ‏ومن‏ ‏حركاته‏ ‏ويذكر‏ ‏يوسف عزب، ‏أو‏ ‏حافظ‏ ‏أو‏ ‏كلاهما‏ ‏صورة‏ ‏شاهين‏ ‏باشا‏ ‏التى ‏ظهرت‏ ‏بشكل‏ ‏ما‏ ‏فى ‏رواية‏ ‏الاستاذ‏ ‏”صباح‏ ‏الورد” وهى من الروايات النادرة للأستاذ التى لم أقرأها ‏بعد.‏

ويذكر‏ ‏الاستاذ‏ ‏تضحيات‏ ‏أبناء‏ ‏الشعب‏ ‏العاديين‏ ‏من‏ ‏أجل‏ ‏الثورة‏ ‏والاستقلال‏ ‏فيأتى ‏ذكر‏ ‏واحد‏ ‏كان‏ ‏يحضر‏ (يصنّع) ‏القنابل‏ اليدوية ‏فى ‏بدروم‏ ‏النقراشى ‏باشا‏ ‏شخصيا، ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏رفض‏ ‏الاعتراف‏ ‏عليه‏ ‏حتى ‏أعدم،‏ ‏ويذكر‏ ‏الاستاذ‏ ‏أن‏ ‏اسمه‏ ‏كان‏ ‏فيه‏ ‏موسى ‏ويذكر‏ ‏الأستاذ‏ ‏أسامة عبد الكريم‏ ‏أن‏ ‏اسم هذا الشخص‏ ‏كان‏ ‏فيه‏ ‏محمود‏ ‏أو‏ ‏الخراط، ‏حاولت أن أجمع كل ذلك فأصبح اسمه عندى “‏محمود‏ ‏موسى ‏الخراط”‏ (وهو ليس كذلك).

وعلى ‏ذكر‏ ‏النقراشى ‏باشا‏ ‏أقول‏ ‏للاستاذ‏ – ربما أعيد عليه – ‏لقد‏ ‏فهمت‏ ‏حبك‏ ‏لسعد، ‏لكننى ‏لم‏ ‏أستوعب‏ ‏حبك‏ ‏للنحاس‏ ‏باشا، ‏مع أننى شخصيا كنت أحبه لطيبته برغم أننى لم أكن وفديا أبدا، كما‏ ‏أن‏ ‏العقاد‏ ‏برغم‏ ‏تقديره‏ ‏لسعد‏ ‏حتى ‏كتب‏ ‏فيه‏ ‏كتابه‏ ‏الرائع، ‏كان‏ ‏إذا‏ ‏ذكر‏ ‏النحاس‏ ‏باشا‏ ‏على ‏حد‏ ‏رواية‏ ‏أنيس‏ ‏منصور‏ ‏تهكم‏ ‏ووصفه‏ ‏بأوصاف‏ ‏لا‏ ‏أحب‏ ‏أن‏ ‏أكررها‏ ‏نظرا‏ ‏لحبك‏ ‏له ولحبى له أيضا، ‏وأستدرك بسرعة أننى لا أطلب تفسيراً بمعنى التفسير، ‏فالحب‏ ‏لا يحتاج‏ ‏إلى ‏تفسير، لكننى أحب أن أتعرف على النحاس باشا أكثر من خلال هذه العاطفة النقية، قلت له: صحيح ‏أننى ‏تيقنت‏ ‏بكل‏ ‏وسيلة‏ ‏أنك‏ ‏إنما‏ ‏تحب‏ ‏كل‏ ‏الناس‏ ‏ما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏شك، ‏لكن‏ ‏هذا‏ ‏الحب‏ ‏للزعيم‏ ‏الثانى ‏شغلنى، برغم أنك حدثتنا عنه مرارا، ولكن عندى رغبة أن أسمع منك ذلك ثانية.‏

ويقول‏ ‏الاستاذ‏: ‏عندك‏ ‏حق، ‏أنا‏ ‏اعترف‏ ‏أننى ‏أحببت‏ ‏النحاس‏ ‏حبا‏ ‏جما، ‏كان‏ ‏عندى ‏يمثل‏ ‏امتدادا‏ ‏لسعد، ‏كما‏ ‏يمثل‏ ‏الطيبة‏ ‏المصرية‏ ‏القوية‏ ‏السلسة، ‏وأذكر‏ ‏أننى ‏حين‏ ‏كنت‏ ‏أجلس‏ ‏فى ‏قهوة‏ “‏لابيه” ‏فى ‏الاسكندرية‏ (‏ذكرنى ‏اسمها‏ ‏بقهوة‏ La Pais ‏فى ‏ميدان‏ ‏الأوبرا‏ ‏فى ‏باريس‏ ‏كانت‏ ‏ملتقى ‏الزعماء‏ ‏المصريين‏ ‏أيضا‏) ‏وكان‏ ذلك‏ ‏اثناء‏ ‏انتقال‏ ‏الوزارة‏ ‏إلى ‏الاسكندرية، ‏وكان‏ النحاس باشا ‏يمر‏ ‏فى ‏ساعة‏ ‏معينة‏ ‏بعد‏ ‏الظهر، ‏كنت‏ ‏أنتظر‏ ‏مروره وهو يتمشى فى تلك الساعة‏ ‏بالثانية‏ ‏وبشوق‏ ‏عارم، ‏وحين‏ ‏يمر‏ ‏أشعر‏ ‏يفرحة‏ ‏طاغية‏ ‏لأنى ‏لمحته، ‏وكأنها‏ ‏فرحة‏ ‏الطفل الذى لمح أباه.

وأعرج‏ ‏بالحديث‏ ‏إلى‏ ‏النقراشى‏ ‏وأحمد‏ ‏ماهر، ‏فيذكرهم‏ ‏الاستاذ‏ ‏بنفس‏ ‏العاطفة‏ ‏والولاء، ‏ويقول‏ ‏إنك‏ ‏لاتعلم، ‏إنه‏ ‏حين‏ ‏خرج‏ ‏النقراشى ‏وأحمد‏ ‏ماهر‏ ‏وهيكل‏ ‏من‏ ‏الوفـد‏ ‏خرجنا‏ ‏معهم‏ ‏لخلاف‏ ‏مبدئى، ‏معظم‏ ‏ثلتنا‏ ‏خرجت‏ ‏وأصبحنا‏ ‏مع‏ ‏النقراشى‏ ‏وأحمد‏ ‏ماهر، ‏لكن‏ ‏النقراشى ‏أخطأ‏ ‏خطأ‏ ‏العمر‏ ‏لأنه‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يزوّر‏ ‏الانتخابات، ‏أو‏ ‏وافق‏ ‏على ‏ذلك‏ ‏وهو‏ ‏وزير‏ ‏داخلية، ‏هنا‏ ‏انهار‏ ‏أمام‏ ‏أعيننا، ‏فلا‏ ‏يوجد‏ ‏شيء‏ ‏فى ‏الدنيا‏ ‏يبرر‏ ‏التزوير‏ ‏واختراق‏ ‏المبادئ، ‏فرجعت‏ ‏إلى ‏الوفد‏، ‏لكن‏ ‏كثيرين‏ ‏ممن‏ ‏خرجوا‏ ‏معى ‏وجدوا‏ ‏تبريرا‏ ‏لهذا‏ ‏التزوير، ‏ولم‏ ‏يرجعوا‏.‏

وتطرق‏ ‏الحديث‏ ‏عابرا‏ ‏إلى ‏سينا‏ء ‏حتى ‏وصل‏ ‏إلى ‏تاريخ‏ ‏ضمها‏ ‏إلى ‏مصر‏ ‏وهو‏ ‏حوالى 1836 (على ‏حد‏ ‏قول‏ أستاذ ‏أسامة‏ ‏وذاكرتى) ‏وقلت‏ ‏له:‏ ‏كتمِّ ‏على ‏الخبر‏ ‏أحسن‏ ‏اليهود‏ ‏يسمعوا، ‏وقال‏ أستاذ‏. ‏أسامة‏: ‏هم‏ ‏يعرفون‏ ‏تماما‏ ‏تاريخ‏ ‏منحها‏ ‏لمحمد‏ ‏على ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏رفض‏ ‏عروضا‏ ‏أوسع‏ ‏واستمر‏ ‏فى ‏حملته‏ ‏على ‏الشام

ثم‏ ‏ثارت‏ ‏قضية‏ “‏الأب” (‏هكذا‏ ‏أسميها‏ ‏بديلا‏ ‏عن‏ ‏ما‏ ‏يناقش تحت عنوان:‏ ‏حاجة‏ ‏الشباب إلى‏ ‏المثل‏ ‏الأعلى) ‏قلت‏ ‏للاستاذ‏ ‏إن‏ ‏جيلكم، ‏وإلى ‏درجة‏ ‏أقل‏ ‏جيلى، ‏نشأ‏ ‏وعنده‏ ‏شخص‏ ‏يحبه، ‏يهتف‏ ‏له، ‏ويفخر‏ ‏به، ‏ينتمى ‏لما‏ ‏يمثله، (‏وليس‏ ‏بالضرورة‏ ‏يريد‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏مثله‏ – ‏لهذا‏ ‏أرفض‏ ‏تسمية‏: ‏المثل‏ ‏الأعلى) – ‏وجيلى، ‏إلى ‏درجة‏ ‏أقل‏ – ‏كان‏ ‏عنده‏ ‏بعض‏ ‏ذلك، ‏ولكن‏ ‏بشكل‏ ‏أقل‏ ‏تجسيدا‏ ‏فى ‏شخص واحد، ‏مثل‏ ‏حسن‏ ‏البنا، ‏وبعض‏ ‏قادة‏ ‏اليسار‏ ‏مما‏ لا ‏أذكر، ‏فماذا‏ ‏عن‏ ‏جيل‏ ‏محمد‏ ‏إبنى، (‏وكان‏ ‏حاضرا‏)، ‏وجيل‏ ‏عمر‏ ‏إبنه‏؟ ‏لم‏ ‏يرد‏ ‏الاستاذ، ‏وقال‏ “‏قدرى” ‏إن‏ ‏الانتماء‏ ‏الآن‏ ‏ليس‏ ‏لفرد، ‏ولاحتى ‏لوطن‏ ‏وإنما‏ ‏لمنظومة‏ ‏من‏ ‏المعلومات، ‏وقال‏ ‏حافظ‏ (‏على ‏ما‏ ‏أذكر‏) ‏وشاركه آخر لا أذكره أيضا، ‏إن‏ ‏هذه‏ ‏ليست‏ ‏قضية‏ ‏محلية‏ ‏وإنما‏ ‏هى ‏قضية‏ ‏عالمية، ‏فلا‏ ‏أحد‏ ‏ينتمى ‏لبيل‏ ‏كلينتون‏ ‏مثلما‏‏ ‏ ‏كان‏ ‏الحال‏ ‏مع‏ ‏لينكولن‏ ‏أو‏ ‏حتى ‏أيزرنهاور،‏ ‏إن‏ ‏مراحل‏ ‏التاريخ‏ ‏التى ‏كانت‏ ‏تسمح‏ ‏بتجسيد‏ ‏روح‏ ‏الأمة‏ ‏فى ‏فرد‏ ‏قد‏ ‏انتهت، ‏وتذكرت‏ ‏آخر‏ ‏من‏ ‏يمثل‏ ‏هذه‏ ‏الفكرة‏ ‏وقد‏ ‏عاصرته‏ ‏سنة‏ 1969 ‏فى ‏باريس‏ ‏وهو‏ ‏شارل‏ ‏ديجول‏ ‏حين‏ ‏كان‏ ‏يظهر‏ ‏فى ‏التليفزيون‏ ‏يدعو‏ ‏أنصاره‏ ‏ليتجمعوا‏ ‏ويتظاهروا‏ ‏فى ‏ميدان‏ ‏”الإتوال”‏ ‏عند‏ ‏قوس‏ ‏النصر‏ ‏على قمة‏ ‏شارع‏ ‏الشانزلزييه، ‏ردا‏ ‏على ‏تجمع‏ ‏خصومه‏ ‏من‏ ‏الاشتراكيين‏ ‏فى ‏الحى ‏اللاتينى، ‏ ‏وتكون‏ ‏مشاهد‏ ‏هذه التجمعات التى يصورها التليفزيون، وتذاع على الهواء مباشرة،‏ ‏بمثابة‏ ‏استفتاء‏ ‏على ‏تأييد ديجول‏ ‏أو‏ ‏رفضه، ‏وأذكر‏ ‏كيف‏ ‏استقال‏ ‏ديجول‏ ‏لمجرد‏ ‏أن‏ ‏استفاء‏ ‏أجراه‏ ‏لم‏ ‏يصل‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏كان‏ ‏يتوقعه برغم فوزه بالأغلبية، ‏فعلا انتهى ‏عصر‏ ‏البطل الأوحد، ‏والزعيم المتفرد، ‏والقائد‏ ‏الشعبى الأسطورة، ‏والملِهم المعصوم،‏ ‏كما‏ ‏انتهت‏ ‏الرواية‏ ‏التى ‏تدور‏ ‏حول‏ ‏البطل‏ ‏الفارس‏ ‏أو‏ ‏البطل‏ ‏المنقذ‏ ‏أو‏ ‏البطل‏ ‏فقط، ‏ورغم‏ ‏اعترافى ‏بهذه‏ ‏الملاحظات‏ ‏الدالة، ‏ورغم‏ ‏تعميم‏ ‏القضية‏ ‏حتى ‏بدت‏ ‏وكأنها‏ ‏سمة‏ ‏العصر، ‏أو سننها‏ ‏قضية‏ ‏عالمية‏ ‏الحضور‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏الأستاذ‏ ‏لم‏ ‏يعقب‏ ‏تحديدا، ‏فانبريت‏ ‏أبدى رأيى وأننى أتصور ‏أن‏ ‏المبدع‏ – ‏مثل‏ ‏الاستاذ‏ – ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يقوم‏ ‏بهذا‏ ‏الدور، ‏وإن‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏دورا‏ ‏قياديا‏ ‏فهو‏ ‏دور‏ ‏محورى، ‏وذلك‏ ‏لأننى ‏لا‏ ‏أتصور‏ ‏إمكان‏ ‏أن‏ ‏ينمو‏ ‏الإنسان‏ ‏نموا‏ ‏طبيعيا‏ ‏دون‏ “أب”، ‏بمعنى دون‏ ‏حضور‏ ‏قوى ‏لشخص محورى ‏متكامل‏ ‏يتمحور‏ ‏حوله‏ ‏الإبن، وبلغة “التقمص”، ‏دون‏ ‏قميص‏ ‏متين جاهز‏ ‏يلبسه الأصغر، يحتمى به حتى يشتد عوده فلا يحتاجه فيخلعه باختياره، ‏والأديب‏ ‏المعاصر القوى الحضور فى وعى الناس، مثل الاستاذ، قد يقوم‏ ‏- ‏ ‏بهذا‏ ‏الدور‏ ‏بعد‏ ‏اختفاء‏ ‏الزعماء، ‏ثم إنى تماديت فى الحديث حتى بدا لى أننى أتراجع فقلت: إن لى تحفظا على ما قلت، وهو ‏أن‏ ‏الأديب‏ ‏لا يحضر‏ ‏فى ‏وعى ‏الناس‏ ‏بشخصه‏ ‏وإنما‏ ‏بإنتاجه، ‏والمطلوب‏ ‏حسب‏ الفرض الذى طرحته هو أن‏ ‏يوجد‏ ‏شخص حقيقى‏ ‏له‏ ‏سلوك‏ ‏وحضور‏ ‏وكلام‏ ‏وأخلاق‏ ‏وأخطاء وهيبة، يحضر فى وعى الآخر نتيجة لتعامله معه واقعا يسير على الأرض.

لم يعقب أحد ربما لأننى عقبت على نفسى، وأغلقت القضية دون أن تحل، ‏ولم‏ ‏أعرف‏ ‏كيف‏ ‏تحل‏ ‏أصلا، ‏وأظن‏ ‏أن‏ ‏النقاش‏ ‏انتهى ‏عند ‏ذلك‏.‏

ثم‏ ‏عاد‏ ‏الحديث‏ ‏إلى ‏كتاب‏ ‏العقاد‏ ‏عن‏ ‏سعد‏ ‏زغلول‏ ‏فأثنى ‏عليه‏ ‏الاستاذ‏ ‏ثناء‏ ‏حسنا، ‏وقال‏ ‏إنه‏ ‏من‏ ‏فرط‏ ‏إعجابه‏ ‏به‏ ‏أثناء‏ ‏صدوره‏ ‏كتب‏ (‏أظن‏ ‏فى ‏الاهرام‏) ‏يقترح‏ ‏أن‏ ‏يقرر‏ ‏هذا‏ ‏الكتاب‏ ‏على ‏الطلبة‏ ‏فى ‏المدارس، ‏فاستدعاه‏ ‏سلامة‏ ‏موسى ‏فى ‏مكتبه‏ ‏وقال‏ ‏له‏: ‏ما‏ ‏هذا‏ ‏الذى ‏تكتبه‏ ‏وتدعو‏ ‏له، ‏نحن‏ ‏ما‏ صدقنا (‏أو‏ ‏أنت‏ ‏ماصدقت‏) ‏أنك‏ ‏أصبحت‏ ‏موظفا‏ ‏لك‏ ‏مرتب، ‏هل‏ ‏تريد‏ ‏أن‏ ‏تجد‏ ‏نفسك‏ ‏فى ‏الشارع‏ ‏غدا؟‏ ‏وسألته‏ ‏من‏ ‏أى ‏موقع‏ ‏قال‏ ‏لك‏ ‏سلامة‏ ‏موسى ‏هذا‏ ‏الكلام؟‏ ‏فقال:‏ ‏أبدا‏ ‏من‏ ‏موقع‏ ‏النصيحة‏ ‏والخبرة‏ ‏الأعمق‏ ‏بطبيعة‏ ‏الجاري‏.‏

أثناء توصيلى‏ ‏الاستاذ‏ إلى باب السيارة خارج بيتى مالَ ‏علىّ ‏وهو‏ ‏متردد‏ ‏وقال‏: ‏إن‏ ‏الاثنين‏ القادم ‏سيكون‏ ‏شم‏ ‏النسيم‏ ‏فما‏ ‏هو‏ ‏نظامكم؟ قالها‏ ‏متوجسا‏ ‏أن‏ ‏نلغى ‏الخروج‏ ‏لارتباطاتنا‏ ‏الشخصية،

 ‏قلت‏ ‏له‏: ‏إطمئن‏ ‏كل‏ ‏شيء‏ ‏كما‏ ‏هو‏ ‏بالثانية،

 ‏فانفرجت‏ ‏أساريره وابتسم راضيا ‏.‏

المحتوى

صفحة العنوان
3 مقدمة
5 الاهداء
7 الحلقة الثامنة والعشرونالخرافة والأسطورة والغيب تعدد الذوات
13 الحلقة التاسعة والعشرونعلى عزت بيجوفيتش
21 الحلقة الثلاثونعن الأحلام والإبداع
43 الحلقة الواحد والثلاثونعن الحزن والشعر والشعراء
51 الحلقة الثانية والثلاثونعن الحرية والعدل
57 الحلقة الثالثة والثلاثونمزيد من الغوص فى الأدب والشعر
63 الحلقة الرابعة والثلاثونمرة أخرى.. مَنْ هم الحرافيش؟!
71 الحلقة الخامسة والثلاثون.. إنت معانا ولاّمع التانيين؟!
77 الحلقة السادسة والعشرونالطيبة القوية
81 الحلقة السابعة والثلاثونحلم باكر
89 الحلقة الثامنة والثلاثونتلمذة دائمة
99 الحلقة الثاسعة والثلاثونحركية الوعى وتشكيلات السعى نحو الإيمان
107 الحلقة الأربعونزعبلاوى & هموم شخصية
117 الحلقة الواحد والأربعون”العيد”: خفيفٌ جميلٌ رشيقٌ
127 الحلقة الثانية والأربعونشعر الثورة  والشعر والثورة
137 الحلقة الثالثة والأربعونالإبداع: نفس الفكرة وتنوع التشكيل
141 الحلقة الرابعة والأربعونحلم سريع أثناء القيلولة
151 الحلقة الخامسة والأربعونفى الجو غيم حجب القمر
157 الحلقة السادسة والأربعونهامش غريب وسط الخواطر
161 الحلقة السابعة والأربعونعن مناقب السفر
167 الحلقة الثامنة والأربعونالإسلام فى بؤرة وعيه غير الإسلام هو الحل
177 الحلقة التاسعة والأربعونالسفير الفرنسى والوسام
187 الحلقة الخسمون”ليلة القدر”: الطاهر بن جلون
191 الحلقة الواحد والخمسوندويتو جديد، وثروة جديدة
201 الحلقة الثانية والخمسونصديق قديم فى زيارة خاطفة

 

[1]  –  shell shock

[2]–  الحلقة الثانية والعشرون: (ألا أيها النوّام ويحكموا هبُّوا) الكتاب الأول ص 159.

[3] – يحيى الرخاوى: مقال” أصداء‏ ‏شخصية‏: ‏نجيب‏ ‏محفوظ أو‏ [‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ : ‏السهل‏ ‏الممتنع‏]‏ الأهرام 30/1/2002

[4] – أصبح الآن ميريديان الهرم

[5] – يحيى الرخاوى “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” مجلة‏ ‏فصول‏- المجلد‏ ‏الخامس‏ – ‏العدد‏ ‏الثانى –  ‏يناير‏ – ‏فبراير‏ – ‏مارس‏ – 1985‏

[6] – وكانت‏ ‏المجلة‏ ‏قد‏ ‏قدمت‏ ‏إشارة‏ ‏عنه فى عددها الأول بقلم أ.د. مجدى عرفة

[7] –  ليس لذلك علاقة بما حدث مؤخرا -2010- وهو نفس الأمر

[8] –  مرة أخرى، للتذكرة: لم يكن قد بدأ فى كتابة أحلام فترة النقاهة

[9] –  2018 يبدو أن هذه الملاحظة ظلت كامنة فى وعيى حتى اكتملت نظريتى عن الطبنفسى الإيقاعحيوى ورحت اسمى الموقف الشيزيدى: الطور الانفرادى والموقف البارانوى: الطور القتالى الكر-فرى والموقف الاكتئابى: الطور العلاقات البشرى.

[10] –  بعد بضعة سنوات حضرتنى هذه الصورة الشعرية بالعامية المصرية قدمت بها ديوانى “أغوار النفس”:

كل‏ ‏القلم‏ ‏ما‏ ‏اتقصف‏ ‏يطلعْ‏ لُـه‏ ‏سن‏ ‏جديدْ‏،‏

‏”‏وايش‏ ‏تعمل‏ ‏الكـلْمـَةْ‏ ‏يَابَـا‏، ‏والقدَرْ‏ ‏مواعيد‏”‏؟

خلق‏ ‏القلم‏ ‏مِالعَدَمْ‏ ‏أو راقْ‏، ‏وِ‏.. ‏مَــلاَهَا‏،‏

وانْ‏ ‏كان‏ ‏عاجبْنٍى ‏وَجَبْ‏،…..   ‏ولاّ‏ ‏أتنّـى ‏بعيدْ‏.‏

[11] – مثلا قصيدة “الذرة الحمقاء” التى كتبت منى فى الطائرة وهى تعبر الأطلنطى من باريس إلى بوسطون : ديوان “شظايا المرايا” (تحت الطبع)

[12] – انظر الحلقة الثانية: (“جرعة مناسبة من الناس الطيبين”روشتة” اسمها الناس) الكتاب الأول:  ص 23

[13] – ولد فى 1931، ماجستير من جامعة سان فرانسيسكو فى الأدب الأنجليزي، وله عدة تراجم منها “مختارات من الآدب الاسيوى الهند ، الصين ، كوريا – مختارات من الادب اليابانى : الشعر ، الدراما ، الحكاية ، القصة القصيرة”. 

[14] –  Imprinted

[15] – يحيى الرخاوى: “ذكريات رمضانية” جريدة الأخبار بتاريخ 4-2-1989

[16] –  نشرة نادى السينما، نوفمبر 1976

[17] – الحلقة السادسة عشر:  (صنّ شوية “يا حسن بيه‏) الكتاب الأول: ص 115

[18] – intellectualization

[19] – Dîner débat

[20] – وقد تغير الحال بعد ذلك بالنسبة لمحمد المخزنجى – على الأقل-  والحمد لله، وعاد إلى إبداعه 2010 وحتى الآن 2018

[21] – وبعد ذلك انتبهت إلى خاتمة رحلة ابن فطومة بعنوان “البداية” ثم كل أو معظم خواتم أحلام فترة النقاهة! دورية محفوظ: الأسطورة الذاتية: بين سعى كويلهو، وكدْح محفوظ  العدد الثانى: ديسمبر 2009 المجلس الأعلى للثقافة.  وكتابى “عن طبيعة الحلم والإبداع دراسة نقدية  فى “أحلام فترة النقاهة” نجيب محفوظ –  دار الشروق 2011.

[22] – مراد هوفمان، الإسلام كبديل ، الناشر: تعريب عادل المعلم، دار الشروق،  1418هـ – 1997م

[23] – ظهر الجزء الثالث بعد ذلك باسم “ملحمة الرحيل والعوْد” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى 2017  (الطبعة الثانية) وقد كتبته إثر مناقشة مع توفيق صالح حول مقال ظهر لى بالأهرام عن ما اسميته الحج الإلكترونى  تشبها للمشاركة العالمية بمشاهدة مباريات كأس العالم لكرة القدم عبر العالم فى نفس اللحظة.

[24] – يسمى أحيانا : “(الشعر التحريضى)”

[25] – نعيم صبرى من محبى الأستاذ ومريديه منذ ما قبل الحادث وهو شاعر متسوط وقاص مجتهد (فقط)

[26]– يحيى الرخاوى : الأهرام 11/1/1979 “الفرق بين “فن المواجهة” و”فن الرشوة”

[27] – خاصة الترحال الأول: “الناس والطريق” سنة 2000، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى

[28] –  H Guntrip, Melanie, Klien, Fairbairn”Object-Relations” Theory of the Personality. (1952) New York: Basic Books

[29] –   نشرة نادى السينما 1976

[30] –   يختلف هذا الموقف  تمام الاختلاف عن موقفى من أحلام فترة النقاهة التى كتبتها فيما بعد، ، وحتى فى نقدى لمجموعة الأحلام التى جاءت فى رأيت فيما يرى النائم، وكذلك هو لا يتفق مع موقفى من تفسير الأحلام عموما وتحفظى عليها ، إلا أن هذا الحلم فيه ما قد يشير إلى تنوع مستويات حركية الأحلام عند الأستاذ، وأن أحلام الإبداع غير أحلام “بقايا النهار” Day residue

[31] – مقال جريدة الوفد: 22-9-2010 “الحضارة‏ ‏الشفاهية‏، ‏والمواثيق‏ ‏المضروبة، والمفاوضات السرية”

[32] –  أنظر هامش (22)

[33] –  أنظر إن شئت الفقرة الأولى “‏دعاء”، يحيى الرخاوى، “أصداء الأصداء تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية، (نجيب محفوظ)” المجلس الأعلى للثقافة، 2006

[34] – ‏وأعلم‏ ‏لأول‏ ‏مرة‏ ‏أن‏ ‏مجلة‏ ‏الكاتب‏ ‏أصدرت‏ ‏عددا‏ ‏خاصا‏ ‏بهذه‏ ‏المناسبة، ‏فأنا‏ ‏لم‏ ‏أعرف‏ ‏إلا‏ ‏عدد‏ ‏الهلال‏ ‏الخاص‏ ‏بمناسبة‏ ‏بلوغه‏ ‏الستين‏.

[35] – عرفت فيما بعد أن هذا هو أقرب لما يسمى “التناص” وكتبت عنه فى  دورية نجيب محفوظ 2015 ، العدد الثامن، بعنوان: حركية الوعى بين الحلم والإبداع (الشعر) والجنون دروس من “أحلام فترة النقاهة”، المجلس الأعلى للثقافة.

[36] – الطاهر بن جلون ، وليلة القدر، عن دار لوسوي، سنة 1987

[37] –  ‏أصبح ميريديان الهرم الآن 2010

[38] – الحلقة الثانية عشر: “أم الأعمى أدرى برقاد الاعمى” ‏ الكتاب الأول: ص 81.

[39] – وهى المجموعة التى واصلت اجتماعات الجمعة حتى الآن سنة- 2010- دون سائر ثلل وجماعات الأيام الأخرى، حتى الحرافيش، أعنى ملحق الحرافيش لم يواصلوا الاجتماع! وهل هناك حرافيش بدونه؟

Mafouz2

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *