الكتاب الثالث
فى شرف صحبة
نجيب محفوظ
من الأثنين 24/4/1995
حتى الجمعة: 18/8/1995
د. يحيى الرخاوى
الطبعة الأولى
2018
مقدمة:
مثل مقدمة الكتاب الأول فالثانى (تقريبا):
هذا هو الكتاب الذى أود من خلاله أن أقدم إنسانا مصريا يكاد يمثل أجمل وأعظم ما كرم الله به بنى آدم.
وهو ليس من واقع تسجيل صوتى أو أى تسجيل تقنى وإنما هو رصد حركية مشاركة “وعى بينشخصى” بين مريد (أنا) وشيخ طيب مبدع جميل،
وهو عمل يرصد فترة محدودة يمكن قراءتها مستقلة (من الأثنين 24/4/1995 حتى الجمعة: 18/8/1995)، كما يمكن وصلها بالكتاب الأول (من الأربعاء: 19/11/1994 حتى الجمعة: 3/2/1995) وأيضا بالكتاب الثانى (من الأحد: 5/2/1995 حتى الجمعة: 21/4/1995)
وتبلغ كل المدة التى رصدت فيها حوارات الوعى هذه عدة شهور فقط (من 11 ديسمبر 1994 حتى 17 أغسطس 1995)
مع أننى عاشرته بنفس الإيقاع تقريبا إثنى عشر عاما (من 1996 حتى 2006).
والحمد لله أننى توقفت عند هذا الحد، وإلا ما كان يمكن لهذا العمل أن يرى النور إلا بعد سنوات ومن آلاف الصفحات،
كل ما أرجوه هو أن تكون هذه الكتب “عينات” ممثله تتجاوز حوار السؤال والجواب، كما تتجاوز أيضا مستوى مجرد تسجيل المواقف والآراء.
لكنها هى..
*****
الحلقة الثالثة والخمسون
شم النسيم
الاثنين: 27/4/1995
اليوم شم النسيم، صوفيتيل المطار، كان الفندق قد نسى المسئولون به أن يعدوا الحجرة الخاصة بلقائنا مع الاستاذ (أو لعلهم ضربوا لخمة بسبب شم النسيم) علما بأن هذه الحجرة سوف تسمى باسمه حسب طلب رئيس مجلس الإدارة الذى جاء واستأذنه اليوم فى ذلك، ربما لم يكن إهمالا أو سهوا لكنهم ظنوا أن الاستاذ لن يحضر يوم شم النسيم، لكن الذى حدث هو أن الاستاذ حضر وحضرنا نشم معه النسيم البشرى الحقيقى، فارتبك الجميع وجهزوا الحجرة بسرعة، وصلتُ متأخرا قليلا وكان عدد الحضور لا بأس به: عادل زكى ود. فتحى هاشم (لم أره من زمن) ومريد إسمه محمد عبد الحميد أو عبد الوهاب (يحضر لأول مرة)، وآخر إسمه الهامى (غالبا حضر قبل ذلك) وحافظ عزيز، ود. حسين حمودة، وزكى سالم، ثم حضر بعد ذلك اسماعيل النقيب وجلس مدة قصيرة، كذلك لحق بنا ريمون الأمريكى، أقول: حضرتُ متأخرا بعض الشىء، وكان الحديث يدور عاما بشكل لم يشجعنى أن أسأل أو أشترك فى البداية .
ذكر د. حسين حمودة أنه قد ظهرت مؤخرا ثلاث روايات تتفق فى لون واحد: “مراعى القتل لفتحى امبابي” (ورواية (؟)……، ورواية (؟) ……، لا أذكر الأسماء) وأن هذه الروايات الثلاث هى مراثى من أكثر المراثى إيلاما، وقد علقتُ على “مراعى القتل” من قبل، وأشرت فى هذه الخواطر إلى ما قيل حولها المرة تلو المرة، سألت د. حسين حمودة: هل هو يذكر أية رواية مصرية أخرى يمكن أن تكون عكس ما هو مراثى، أعنى هل يذكر رواية مصرية تمثل تجليات “الفرحة” بما ينبغى كما ينبغى، وأطرق وفكر وتردد وقبل أن يرد (بالنفى على ما يبدو) وجهت السؤال للباقين، ثم عممت السؤال حتى يشمل الأدب المصرى، ثم امتد السؤال إلى الأدب غير المصرى، وجاءت معظم الإجابات بالنفى، مع تحفظات هنا وهناك، اعتذرتُ عن السؤال وأنا أراجع نفسى قائلا: إنه سؤال سخيف أصلا لاينبغى أن يـُطرح هكذا، ذلك أنه لا ينبغى أن يوصف عمل من الأعمال بالفرحة وآخر بالمرثية، فإذا كان ولا بد مع التقريب والتجاوز فقد يصح أن يوصف عمل بالمرثية، لكن وصفه بالفرحة أصعب، ألمحت للأستاذ كيف أن وصف “الفرحة” اصعب من وصف “الفَرَحْ” وأنى أميـّز بينهما،، وأن المريض الهوسى –مثلا- الذى يملأ الدنيا بهجة راقصة وصياحا هائصا لا يعيش الفرحة التى أعنيها، وذكرت له خبرة فرحة حاولت أن أصفها فلم تخرج إلا شعرا، لست متأكدا إن كنت قلت للأستاذ كله وهذا بعضه،:
………
“واهتز كيانى بالفرحة، ليست فرحة،
بل شىء آخر لا يوصف،
شىء مثل الهمسة،
أو مثل النسمة فى يومٍ قائظ،
أو مثل الموج الهادئ حين يداعب سمكة،
أو مثل سحابة صيف تلثم برَدَ القمّة،
أو مثل سوائل بطن الأم تحتضن جنينا لم يتشكل،
أى مثل الحب، بل قبل الحب وبعد الحب،
شىء يتكور فى جوفى لا فى عقلى أو فى قلبى،
وكأن الحبل السرى يعود يوصلنى لحقيقة ذاتى،
هو نبض الكون، هو الروح القدسى أو الله”.
أضفتُ أننى أعتقد أن الفرحة يمكن أن تتشكــَّـلُ شعرا، أما أن تصاغ فكرة جوهرية لرواية، فهذا نادر على ما أظن، ربما الذى ذكرنى بهذه القضية أمران: أمر وقتى حيث طرح محمد يحيى رأيا يعلن من خلاله حاجتنا – كشعب – إلى ممارسة البهجة، وكنت قد ألمحت إلى أن الشعب المصرى يحتفل جميعه بشم النسيم معا بفرحة جماعية أكثر من أى عيد آخر، كما ذكرت كيف أننى لاحظت وأنا فى الطريق إلى العين السخنة ذهابا وإيابا فى أيام شم النسيم بالذات فى أعوام سابقة، لاحظت هذا العدد الهائل من العربات والناس من كل نوع ولون وعلى كل مستوى، كل ذلك يعلن أن الفرحة لم تنته من مصر حتى في أحلك الظروف رغم كل شىء، ومع هذا أصررت بينى وبين نفسى أن سؤالى سخيف، وأنه لا ينبغى أن يـُطرح أصلا، وأعلنت بعض ذلك من أنه لو حاول كاتب رواية مثلا أن يجعل عمله ”مـُفـْرِحـًا” فسوف يجد نفسه عرضة لأن يمسخ عمله بنهاية مفتعله مثل نهاية الافلام المصرية السعيدة (أو نهايات “الجريمة لاتفيد”) – وأثرت فى هذا السياق وقفتى أمام بعض نهايات روايات الأستاذ وخاصة ملحمة الحرافيش([1]) (وقد راجعت موقفى بعد ذلك)، وقد سبق أن قلت للاستاذ رأيى هذا اعتراضا على “التوت والنبوت، بل إننى كتبت مثل ذلك أيضا فى نقدى لروايته ليالى ألف ليلة، وهنا قال الاستاذ: بالنسبة للموضوع الأول أوافق على أن الرواية لا يصح أن توصف بالفرحة، وإن كان يمكن أن تكون مرثية أو شيئا من هذا القبيل، ذلك أن تعرية الألم الانسانى هو أقرب تواترا من إثارة البهجة، ولكن الألم لا يحضر فى القص الروائى لذاته، وقد تكون الرواية مليئة بالألم لكنها تساق فى سياق فرح إبداعى، فإظهار الألم لايكون رائعا إلا بنبض إبداعى فائق، لكل هذا يبطل (أو يسخف) تصنيف الروايات هكذا، ثم أضاف أما عن النهايات، فالحكى الروائى لا ينبغى أن يفهم على أنه عمل غير منته تماما، فأغلب الروايات تنتهى إلى وقفة وليست إلى نهاية، والوقفة تترك القارئ ليبدع النهاية، أى أنها تدعوه أن يكملها إذا أراد فتكون من إبداعه، وسعدت بالتفرقة بين الوقفة “والنهاية”، وإن كان هذا لاينفى تحفظى على بعض نهايات روايات الأستاذ، وقلت إن القاص قد يترك نفسه طول الوقت حتى إذا قارب النهاية (أو حتى ما أسماه الأستاذ الوقفة) قد تغلب عليه (ولو لاشعوريا) موقفا وصيا، أو أيديولوجيا أو حتى شخصيا، فيجد نفسه قد لمَّ التدفق فى اتجاه هذا الموقف بالذات (ربما دون أن يدرى) فيفتر الدفق الإبداعى، وقد يتعسف النهاية حتى لو سميت” وقفة”.
أثناء ذهاب الاستاذ لتحريك النشاط الثقافي! (تسديد الرأى)!!، ذكر بعض الجلوس تفضيلهم لبعض أعمال الأستاذ عن أخرى له، فأعلنت أنا انبهارى “بحضرة المحترم”[2] بعد الحرافيش طبعا، وأنه غير كل ما كتب، ولاحظت أن قليلا من الحضور هو الذى شاركنى الرأى، وتحفظت على اللص والكلاب رغم أن أغلب الحضور وضعها فى المقدمة، واتفقت مع الأغلبية على “ثرثرة فوق النيل، والحرافيش طبعا ثم الثلاثية، وتحفظ عادل عزت على ”الطريق”، وغير ذلك كثير، وقد شملنى هذا الاختلاف بفرحة موضوعية لأننى شعرت أن هذا المجتمع الصغير صحى، ومختلفٌ مزاج أفراده مما يثرى حركية الحوار فعلا.
وحين عاد الاستاذ أخبرته ببعض ذلك وسـُـرَّ هو أيضا للاختلاف، وأننا لا نأخذ كل أعماله سواسية، وحين رجعت إلى “حضرة المحترم” ذكرت الجانب الصوفى فيها، والذى ظهر فى أسلوب ومحتوى عبادة الوظيفة والترقى لدرجة التأليه، فقد استعمل الاستاذ فيها نفس طقوس وألفاظ العبادات حتى فى ممارسات الجنس والشرب.
وعلى ذكر التصوف أشار محمد يحيى إلى قيمة الزهد فيه، وأشار غيره إلى أنه يشمل العزلة، وأشار ثالث إلى لغة المتصوف الخاصة، وأصررت أن كل هذا وارد أثناء رحلة التصوف لكنه ليس هو التصوف، ذلك أن المتصوف الحقيقى – بما فى ذلك التصوف البوذى والهندى – لا يتم إلا بالرجوع إلى ممارسة الحياة العادية، باللغة العادية وسط الناس، مع الاحتفاظ الكامل بخبرة الرحلة وآثارها وحضورها المعرفى والفعلى فى السلوك اليومى دون أية لغة خاصة أو أوراد سرية.
وذكـّرت الاستاذ باللقاء الوحيد الذى تم معه فى الأهرام سنة 1972 والذى سألته فيه عن خبرة عمر الحمزاوى في الشحاذ، وهل مر بها شخصيا، لأنه لا يصفها هكذا إلا من عايشها (هذا على حد رأيى) وقلت له إننى صدمت فى هذا اللقاء حين أصر على نفى أن يكون التصوف هو الحل، وقال لى آنذاك: إن ما لا يصلح لكل الناس ليس حلا”، وخرجت وأنا أفكر فى هذا الذى قاله الاستاذ حتى كدت أقتنع به، لكننى بعد مضى حوالى ربع قرن وما دامت الفرصة قد أتيحت لى – لنا – هكذا، شعرت أن من حقى أن أعلن تراجعى عن هذا التسليم لرأى الاستاذ، لأن حل كل فرد (خاصة في التصوف) فى نهاية النهاية، هو فردى، وهو مختلف عن حل أى فرد آخر، بالرغم من أننا نعيش فى جماعات طول الوقت، وأن ما يصلح لواحد لا يصلح للآخر، لكننى لم أقصد الحل الجماعى، بقدر ما كنت أتساءل عن رحلة الوجود لكل كائن بشرى فى مساره الشخصى وهو يتحقق نحو مصيره، يبدو أن نفى الأستاذ لتساؤلى الباكر جاء لأننى لم أوضح سؤالى، وهو لم يتضح حتى لى إلا مؤخرا،، قال الأستاذ: أنه حين نـَفـَى أن يكون التصوف حلاَّ إنما أراد أن يوضح أن الحل الجماعى لابد أن يكون متاحا لكل الناس على السواء، ثم كل واحد وشطارته، فمن يقف بعد خطوة له ذلك، ومن يكمل حتى النهاية أو قرب النهاية له ذلك، قلت له: هكذا اتفقنا، فإذا اعترفنا أن التصوف هو جهاد ذاتى متصل، وأنه عمل فردى مؤتنس بعمل فردى آخر لتصب مجموع هذه الأعمال الفردية فى توجـِّه كلىّ نحو هدف واحد مهما كان غامضا، يصبح التصوف حلا بمعنى أنه “نوعيه حياة” تحترم الحضور الداخلى لكل فرد بقدر ما تؤكد الاختلاف الظاهر التعاملى له، ولم نختلف أو نتفق أكثر من ذلك.
ويرجع إلينا إسماعيل النقيب([3]) بجلبابه وعباءته وشعره الأبيض ولهجته الشرقاوية المصر عليها، ويقول كلاما كثيرا ظريفا وفقط، ويذكرنى بخطاب أرسلته له أقول فيه السيد فلان صاحب الأسلوب الرشيق الجميل (أو ما شابه)، ويضيف ساخرا أنه لم ينقص هذه الأوصاف في رسالتى إلا أن أضيف أن أسلوبه “مدر للبول” يُقرأ ولا يُشرب، ولم أعرف إن كان هذا مدحا لما قلته أم ذما.
وأشير للأستاذ عن بعض ما قاله النقيب فى برنامج ”حوار صريح جدا” فى رمضان الماضى، وعن تفسيره لتمسكه باللهجة الشرقية، ويسأله أحد الحضور عن توقفه عن الكتابة فى مجلة كاريكاتير، فيقول إنها مجلة “لبَط”، وأن إدارتها غير منضبطة لا من ناحية التحرير ولا من ناحية التعاملات ولا من ناحية تقدير القلم بما هو، ويحكى أنه لا يحتفظ لما يكتب بالأصل والصورة، وأنه لا يطلب أجرا بذاته، ولا يفاصل فيما يـُـعـْطى له رغم شدة حاجته للقرش وكلام من هذا، وعلى ذكر التليفزيون يقول الأستاذ إنه كان من الصعب عليه دائما أن يرفض طلبا لأهل الإعلام خصوصا أولئك الذين زاملهم ردحا من الزمن، وما أن تحضر المذيعة حتى يفاجأ بالموضوع، أنه كلام لا لزوم له، ولا جدوى منه، فيضطر أن يكمل حيث لم تعد ثمة فرصة للاعتذار.
لأمر ما، وجدنا أنفسنا نناقش تنوع علاقات الاستاذ، واختلاف نوعية حضور جلساته على مدار الأسبوع هذه الأيام وقلت للاستاذ إنه من أروع ما تعلمته منه هو تحمل الاختلاف واحترام الحقوق الفردية، ويتدخل عادل عزت فى ثورة يضبطها بالكاد ويقول: إن ذلك مقبول لكن الأمر يتعدى ذلك، قلت له يتعدى ماذا؟ قال أن يحب الاستاذ أو يطيق أن يجالس أعداء مصر، وهنا ذهب بى الظن إلى أنه يعنى مقابلاته العابرة لبعض الإسرائيليين حتى لو كانوا من الذين يسمونهم اليساريين الإسرائيليين أو محبى السلام الاسرائيليين إلا أن عادل يمضى ليؤكد أن هذا الموقف من الأستاذ غريب (أو مرفوض) فدعوته لتغيير مكانه وتوضيح الأمر للأستاذ لأننى عجزت عن توصيل ما يعنى تماما.
انتقل عادل عزت وجلس بجوار الأستاذ وذكر من يعنى بأعداء مصر مثل جمال الغيطانى ويوسف العقيد، وأن جمال الغيطانى - مثلا - يقبض من السفارة العراقية، وكتب كتابا يدافع فيه عن صدام حسين، ويتقاضى مبالغ ثابته من السعودية، ويسافر على حساب لست أدرى من، قال ذلك والاستاذ يستمع لذكر اصدقائه بهذه الأوصاف، وأنا أخاف عليه من جرعة الهجوم، ثم إنى كنت قبل أن أعرف الأستاذ وأصدقاءه عن قرب ، تساورنى بعض الظنون فى بعض طبيعة هذه الصداقة لبعض المحيطين به، وتذكرت كيف أننى عدلت عن رأيى بعد أن أتاحت لى صحبة الاستاذ أن أرى الجانب الآخر منهم، ونبهت عادل عزت إلى حب الأستاذ للغيطانى بالذات، ولم أقل إنه يناديه كثيراً بيا “جيمى” ولم أقل له كم ولا كيف فرح بنجاح روايتة الزينى بركات حين ظهرت مسلسلا فى رمضان الماضى، ولكن عادل عزت مضى يؤكد معلوماته المتهمة للغيطانى والقعيد بكذا وكيت، ثم راح عادل يعترض بالذات على الثللية التى استولت على أخبار الأدب، وعلى الشعراء الذين يأخذون أكثر من حقهم، وكيف أن شاعرا إسمه أحمد الشهاوى نفخوا فيه دون وجه حق حتى نصبوه أميرا للشعر، فراح هذا الأمير يمجد فى الغيطانى ويذكر أنه أفضل من فلان وعلان، بل ومن نجيب محفوظ شخصيا، – مازلت محتارا لا أعرف كيف أوقف تدفق هذا السيل العارم من الهجوم، والعجيب أننى كدت ألمح أن بعض الحضور مالوا إلى تصديق كل أو أغلب ما قال عادل عزت، لست متأكدا، وقابل الاستاذ هذا الهجوم برد متواضع يقول: يا عادل، خليك متسامح، التسامح لايمنعك أن تكوّن رأيا، لكن رأيك هذا لا يمنعك، أولا ينبغى أن يمنعك، من أن ترى بقية الشخص لعل عنده شيئا آخر، لكن عادل يظل ثائرا ويكمل والاستاذ صابرٌ عليه يهدئ من ثورته، أنا أرى الاستاذ مع جمال الغيطانى ومع يوسف العقيد، وأراه مع الحرافيش (توفيق صالح واحمد مظهر، وجميل شفيق وبهجت عثمان والعبد لله) وأراه مع ثلة الإثنين هذه، وهى هى ثلة الأربعاء مع بعض التعديل (يضاف إليها أحيانا د.محمد حسن عبد الله ود.صلاح فضل)، وأراه يوم الجمعة مع ثلة منزلى: سبق الكلام عليها مرارا، وكذلك تنويعة الأحد، إذن توجد ست مجاميع مختلفة الهويات والأمزجة، وأتعجب وأفرح به، وأحاول أن أتعلم منه بلا طائل، أحاول أن أصنف هذه الجماعات فتتلخص عندى فى ثلاثة: الحرافيش العصيـَّـة عن التصنيف (الخميس) ثم – اليسار الإعلامى والأدبى جنبا إلى جنب مع رجال الأعمال ( جماعة فرح بوت الثلاثاء) – ثم المريدون والهواة والمحبون والأصدقاء (بقية الأيام): الأحد – الأثنين – والأربعاء، أما الجمعة فى بيتى فهو سوق عكاظ المحفوظى، ولا أشعر أن الاستاذ يفضل ثلة على ثلة، ولا هو يفضل يمينا على يسار، ولا هو يفضل محبا عن معاند، صحيح أنه قد يأخذ بعضنا على قدر عقله أحيانا أو كثيرا، لكنه لا يفعل ذلك من موقع حـُـكـْـمى فوقى، وإنما من موقع وتقبل واحترام واحتمال الاختلاف.
مازال الأستاذ يطلب من عادل عزت أن يكون متسامحا، وهو يعمل بالطباعة والنشر، وينصحه ألا يجعل عواطفه أو آراءه تتدخل كثيرا فى الانتقاء والمعاملات على أرض الواقع، ويلومه لخصومته أو قطيعته – مثلا – مع خيرى شلبى، يقول الأستاذ: يا أخى إنت مالك؟ أنت ناشر، جاءك هذا ينشر كتابه وهو ضمن ما تتصدى لنشره، وله قيمته فى ذاته، أنت مالك بشخص المؤلف أو بمواقفه الذاتية أو ميوله الأيديولوجية، ثم إنك مع تكرار وتعميق المعاملة سوف تكتشف فى كل واحد من هؤلاء الجانب الذى لا تعرفه عنه، ولعلك تكتشف خيرا كثيرا وطيبة حقيقية، وغير ذلك مما لا تسمح لك انفعالاتك العاطفية أن تراه من بعيد، يا عادل: حاول أن تتحلى بالسماح والتأنى فى الحكم، وأعترض (فى نفسى) على حكاية السماح هذه، السماح لا يأتى إلا من فوق والقضية ليست هكذا تماما، المسألة ليست مسألة سماح، المسألة هى أن الناس هم ناس، لا أكثر ولا أقل، وأن الثروة الحقيقية هى فى التعامل مع كل البشر، ليس بالتفويت والمساواة، وإنما بالمثابرة والبحث عن البـُعد الآخر، البـُـعْـد يتخطى الظاهر، هكذا تعلمت من مهنتى ثم من الاستاذ، ومع ذلك شعرت أن جرعة الهجوم على هؤلاء المقربين جدا من الأستاذ كانت أقسى من اللازم وخفت أن يكون شعوره قد أوذى بشكل أو بآخر.
ونحن فى طريقنا للانصراف، مال علىّ د. فتحى هاشم وقال لى بطيبة: لا تثق كثيرا فى هؤلاء الناس الذين تكلم عنهم عادل عزت، هم فعلا أناس ليسوا كما تظن، إنهم يلمزون الأستاذ شخصيا، وأمامى فى غيابه،
وقلت فى نفسى: يا خبر!! إلى هذه الدرجة، ولم يتغيـّـر موقفى الداخلى كثيرا.
الحمد لله لعلى أتعلم من الأستاذ أشياء غالية:
فلا أحكم على الناس بما أسمع عنهم، أو أظن فيهم.
وأن أقبل وأعامل الناس بماهم، كما هم، وأنا الكسبان.
الحلقة الرابعة والخمسون
عودة إلى العقاد وطه حسين
الثلاثاء: 25/4/1995
…مرور عابر على فرح بوت، العدد قليل، والاستاذ قد صيّف، لا يرتدى المعطف، وزكى سالم يتنازل لى عن مقعده بجوار الأستاذ، فأنتهز فرصة وجودى القصير معه، وأعتذر له عن حديث الأمس الذى لمز بعض أصدقائه راجيا ألا يكون قد استاء منه، فيبتسم بلا أية مجاملة نافيا أى شعور سلبى، فأفرح وأزداد تعلما، ويضيف: أنا متعود على ذلك – وأعجب، ولا أكف عن العجب من نفس النقطة – من قدرة الاستاذ على معاشرة وحوار وتحمل وحب كل هؤلاء الناس المختلفين من حوله.
أقول للاستاذ إننى أريد تصحيح معلومة ذكرتـُـها له أمس، ذلك أننى قلت له أننى أنهيت كتاب أنيس منصور عن العقاد وأننى أستطيع أن أستنتج أن ما به من حقائق لا يزيد عن 15%، لقد قدرت أثناء عودتى أنها أكثر من ذلك، فيضحك زكى سالم ويقول إن التصحيح هو أنها 16%، فأستجيب للمزحة وأقول بل 28%، يضحك الاستاذ بدوره فيصلنى أنه يبارك ما وراء الحوار، لكننى أواصل محاولة إبلاغ الرسالة التصحيحية فأقول:
أولا: إن الكتاب ليس حقائق تسجيلية حتى نحاسب كاتبه عن كم منها قد حدث فعلا وكم قد أضافه أو تخيله، فالكاتب لم يدّع أنه مؤرخ أو كاتب سيرة للعقاد، لكنه فى عنوان الكتاب يشير أكثر إلى أنه تاريخ عن حضور صالون عند العقاد وليس العقاد “كانت لنا أيام”، فقط كان على المؤلف أن يبرز ولو فى المقدمة حكاية “لنا” هذه
ثانيا: إن الكتاب هو سيرة ذاتية للكاتب حالة كونة فى حضور العقاد، وهذا واضح من البداية إلى النهاية.(ربما مثلما يغلب على كتاباتى هذه اليوميات الآن ).
ثالثا: إن الكتاب قد اشتمل على كم من الزخارف المعلوماتية مما يوجد فى موسوعات خاصة بذلك، مثل موسوعة حدث فى هذا اليوم، أو غرائب عادات المبدعين، أو شذوذ الأدباء… الخ، مما يمكن أن يسمى ديكورات الحكى، لكن الذى يؤخذ على الكاتب أنه كثيرا ما أورد هذه المعلومات الديكور على أنها جرت على لسان العقاد، أو على لسان المؤلف: أنيس منصور شخصيا، وكل ذلك قد يشعر القاريء بالموسوعية والإحاطة ولكن بشكل ليس له مصداقية كافية.
ولو أن الكاتب قد أضاف سطرا أو نصف سطر فى المقدمة يؤكد فيه أن هذا لم يحدث، ولكن “وكأنه حدث”، لأنه هو ما تلقاه أو ما انتقاه أو ما بقى له، لكانت المسألة أكثر قبولا وأصدق تمثيلا
وأخيرا: فإن كل هذه التحفظات لا تقلل من شأن الكتاب وقيمته حتى قيل إنه أحسن ما كتب أنيس منصور
هز الاستاذ رأسه وقال زكى – دون أن يقلل من قيمة الكتاب – إن كثيرا من النقاد ذكروا أنه سيرة ذاتية لأنيس منصور وليس للعقاد، وقال عماد عبودى كلاما قاسيا عن أنيس منصور، وغير ذلك ممن هم مثله، (فى رأيه) فرحت أنتقل إلى نقطة محددة معترضا عليها، وهى تتعلق ولو بطريق غير مباشر لخلفية الحادث الذى حدث للأستاذ، أعنى استسهال التكفير بالشائعات، قلت إن أنيس منصور قد سمح لنفسه أن يصف طه حسين بالإلحاد مباشرة فقد رد على سائل يسأله عن طه حسين: هل هو مؤمن أم ملحد، فردّ فى سطر مستقل دون أى شرح أو تحفظ قائلا: – ملحد، تعجب عماد عبودى لهذا، واستبعد الأستاذ أن تكون العبارة وردت بهذه المباشرة لكننى أكدت أننى قرأتها وأعدت قراءتها، كذلك أضفت أن السائل تعجب للرد، فقال كيف يكون ذلك رغم أنه (طه حسين) كتب على هامش السيرة، فكان رد أنيس منصور أن بعض المؤرخين والمؤلفين من المسيحيين واليهود قد كتبوا عن النبى وعن الإسلام مديحا كثيرا دون حاجة لأن يكونوا مسلمين، ويظل الاستاذ مندهشا، أضفت أنه ربما فعل ذلك من فرط غيظه من هجوم طه حسين على العقاد بعد موته بالذات، وقلت للاستاذ إنك كنت حاضرا لهذه الندوة التليفزيونية التى عقدت فى بيت طه حسين، فأجاب بالإيجاب، وذكر كيف أن زوجة طه حسين انتحت به جانبا هو ويوسف السباعى ونبهتهم ألا يلوثوا الكراسى والآرائك والسجاد، وأنه كان هو ويوسف السباعى شاعرين بالخوف والذنب طول الوقت على ما أصاب المنزل، وما قد يصيبه، وكررت للاستاذ مسألة اتفاق طه حسين على الأجر 200 جم (مئتا جنيها مصريا) لو كان الحضور خمسة، وضعف ذلك لو زاد العدد، وأنه لما أحس أن العدد أكثر أخذ يلمح لأنيس منصور بوعده بضعف المكافأة، ويخفف الاستاذ من مغزى إعادة الحكاية هكذا فى الكتاب، ويقول إن هذه فى الأغلب تعليمات زوجة المضيف، أو لعلها دعابة، وأسألة عن موقف طه حسين فى هذا اللقاء وكيف أنه زعم عدم فهم عبقرية عمر، وأن حفيده لم يفهمها أيضا وهى مقررة عليه، يقول الأستاذ: لقد فوجئنا جميعا ودهشت شخصيا لهذا الهجوم، لم نكن نتوقعه فعلا، فنحن نعرف أن طه حسين أثنى على العقاد، صحيح كان هناك اختلاف مثلا حول تفضيل الثقافة اللاتينية على الثقافة الأنجلوسكونية، الأولى يرجحها طه حسين والثانية يرجحها العقاد، لكن هذا اختلاف فى وجهات النظر، وهو اختلاف وارد ومقبول ومفيد، ولم يمنع طه حسين من أن ينصّب العقاد إمارة الشعر حتى لقد أطلق عليه سنة 1930 أنه أمير الشعراء (راجعت الاستاذ لتحديد السنة إن أمكن فقال إنها فى الثلاثينيات والسلام) قلت للأستاذ إن شاعرية العقاد فيها آراء، حتى أنيس منصور، كان له موقف منها وهو يشير إلى أن العقاد كان يصر على تأكيد شاعريته وهو المفكر الموسوعى أساسا، ويتعجب أنيس منصور (فى موقع آخر لا أذكره) من أن العقاد ليس بالضرورة شاعرا، ولكن هذا لم يمنع – كما يقول الاستاذ – من أن ينصبه طه حسين أميرا للشعراء، ويضيف الاستاذ أنه يذكر أيضا كيف أثنى طه حسين على ديوان للعقاد لا يذكر اسمه تحديدا لكنه يرجح أنه كان فيه كلمة: بالكروان (ليست طبعا دعاء الكروان) ويضيف الأستاذ أن طه حسين فد سبق أن ذكر بالخير عبقريات العقاد ودراساته الإسلامية، ولعل هذا ما جعل حضور تلك الندوة يدهشون للهجوم اللاحق على العقاد، وخاصة بعد وفاته، وقلت للاستاذ إن موقف أنيس منصور من طه حسين حتى ذكر احتمال إلحاده دون تحفظ جاء بعد وفاته (فهذا الكتاب نشر بعد وفاة طه حسين) ولا أحد أحسن من أحد،.
وقبل أن استأذن للانصراف يعاتبنى يوسف القعيد على أن النسخة التى أرسلتها له عن آصداء السيرة الذاتية للاستاذ هى نسخة الأهرام، وليست النسخة الأصلية التى أعطانيها الأستاذ، فأقول له إن الخطأ أن البنت التى تعمل على الكمبيوتر عندى قد طبعت النسخة غير المصححة وأن هذا الخطأ يمكن استدراكه فى دقائق فيقول الأستاذ مقهقها: إحمد ربنا أن هذا هو الخطأ، وأنه لم يعطك بدلا منها السيره الذاتية للعقاد.
وأنصرف وأنا أدعو له.
الخميس 27/4/1995
أجـِـهـْـضـَـتْ جلسة الحرافيش الليلة، بالنسبة لى، مشكلة فى العربة جعلتنى أعتذر عن إكمال الليلة، بعد أن أوصلت الاستاذ إلى “فورت جراند” رحت أشاهد المكان الجديد البديل عن الماريوت، وهو نوفوتيل أبو الهول، تأخرت، وعدت للاستاذ، قال الاستاذ لتوفيق مازحا تفسيرا لتأخرى ” لا بد أنه كان يتفاوض لشراء الفندق الأصلح للقائنا فى الجزء الأول من ليلة الحرافيش”، ويضحك الأستاذ.
راح نصف الوقت فى ترتيبات شكلية، ضاعت – أو اختفت- أثناءها مفاتيحى، فاعتذرت عن إكمال الليلة لأتمكن من البحث عنها، وأيضا لظرف خاص، وسمحوا لى بالانصراف، وفعلت وأنا أنعى حظى فعلا، يبدو أن ساعتى البيولوجية قد تبرمجت حتى أصبحت ليلة الحرافيش داخل خلايا مخى، ومع ذلك دهشت من سهولة اعتذارى عن إكمال الليلة، وأنا الذى لم اكن أتخيل احتمال ذلك أبدا قبل أسابيع !! هل يا ترى معنى هذا أنها أصبحت لا تمثل لى نفس القيمة؟ هل لم يعد فيها جديد؟ هل هذا هو سبب انصراف الحرافيش القدامى الأصل عنها؟
ما هى الحكاية؟
ورفضت الإجابة، واستبعدت أن تكون بالإيجاب.
الجمعة 28/4/1995
مررت على الاستاذ صباحا فى بيته أطمئن عليه وأعتذر لمدة ساعة عن أن أكون فى بيتى فى استقباله الليلة كالعادة، وقد نبهنى حين استأذنت أمس أن يلقانى فى اليوم التالى فى بيتى، بعد أن كان قد سمح لى بالسفر، وفرحت أنه حريص مثلى على جرعة ساعات الأسبوع من بعضنا البعض، قال لى وأنا فى بيته أعتذر مقدما عن موعدى أمس خبرا أزعجنى قليلا، قال لى: إنه قام بمغامرة عدم أخذ أية حبوب الليلة الفائتة، ولم ينم غير نصف ساعة فى أول الليل !! ياخبر!!! المسألة تحتاج وقفة ومراجعة، ربنا يسهل.
استطعت أن ألحق بالاستاذ فى بيتى الساعة السابعة والنصف، وكان الحديث يدور حول القنبلة الذرية، وما نشر على لسان الاستاذ فى حديثه مع سلماوى فى ركن الخميس بالأهرام، وكان لى تحفظ أشرت إليه سابقا على نوعية ما ينقل أو يسجل سلماوى عن الأستاذ، فقد وصلنى من هذا الحديث أن الأستاذ يجمع بين باكستان وإيران واسرائيل معا، وهذا ما استبعدته بشكل أو بآخر، وإن كنت لم أفتح الموضوع لأتكد، لعلمى من حساسية الأستاذ بالنسبة لنقد مصداقية سلماوى، وجرى حديث حول التطوير الأحدث للقنبلة الذرية وأنهم الآن يستطيعون أن يوجهونها إلى هدف محدد عند جار من الجيران -مثلا- دون أن ينتشر خطر الإشعاع كما قيل سابقا، ولم أقبل هذا الزعم وإن كان محتملا، كذلك جرى نقاش حول تخفيض المخزون النووى وما إلى ذلك، قلت فى هذا: إننى أعتقد أن القنبلة الذرية تـُوظـَّـف مؤخرا للإرعاب لا للاستعمال، وبالتالى فالحديث بهذه التفاصيل خاصة لمن لا يملكها، إنما يؤكد أننا نـُـستدرح إلى ما يريدون، إننا نتحدث عن أشياء فى عقولنا ليست لها علاقة مباشرة أو آنية بأبعاد المشكلة البشرية المعاصرة، المتفاقمة المهددة بالانقراض بالقنبلة الذرية وبغيرها أكثر، فمنذ سنة 1944 لم تلق قنبلة ذرية واحدة بعد نجازاكى وهير وشيما، وأن حكاية ”خزِّن وانا أخزّن” هى لعبة غبية من الكبار للتباهى فيما بينهم، مع الاتفاق السرى على استعمال العبيد ممن لا يملكونها، وحين يصل الأمر إلى هذا الحد من اللعب، تصبح المسألة انتحار نوع من الأحياء اسمه “الإنسان” ، وليس انتصار عدو على عدو، وتاريخ انتحار الكائنات موجود عبر التاريخ الحيوى، وهنا لابد أن القوانين الحيوية للبقاء، وهى قوانين أعمق وأرسخ من ألعاب العقل البشرى هى التى هيـّرت الاتحاد السوفيتى، وهى التى تقف وراء الجانب الإيجابى فى محاولة التخلص من المخزون النووى الآن، لو أنهم أخذوا المسألة مأخذ الجد، بل إن الحروب الكبيرة الآن كلها أصبحت بمثابة استحالة واقعية حتى بدون قنبلة ذرية، وقد استبدلت تلك الحروب بين الكبار بهذه البثور المنتشرة على وجه العالم المتخلف فى شكل الحروب الإقليمية الصغيرة المحلية، والعنصرية، والدينية، وكل هذه الحروب تدار من أعلى لصالح الحفاظ على التخلف، وتصبح مسألة الاستعمال الفعلى للقنبلة الذرية غير مطروح أصلا، وعلى هذا فإن شيئا لم يستعمله أحد إلا كعينة، ولا يبدو أن أحدا يجرؤ أن يستعمله تناسبا مع المخزون إلا فى عملية انتحارية جماعية لن تستثنى من يستعمله، هذا الشىء ينبغى ألا يحتل من فكرنا ومخاوفنا أكثر من حجمه، إن تهديد الجنس البشرى بالانقراض له إنذارات أخرى تتسحب باضطراد، وهى تكاد تكون أخطر من هذا النذير المعلن البشع، لأنها أكثر خفاء وأخطر استشراء”.
توقفت فجأة وأحسست كأنى أخطب، وربما أكرر، وأن ما أقوله هو بعيد عن المستمعين بشكل أو بآخر، اللهم إلا الأستاذ الذى اصبحت متأكدا أنه من القلائل جدا الذين يتحملون شطحى، ولكن من أدرانى، فهو يتحمل كل الناس.!!!
ثم انتقلت بالحديث إلى انتباه العالم المتقدم – حرصا على تقدمه – لمسألة الحفاظ على العبيد (نحن: من لا نملك القنبلة الذرية)، من ناحية لاستمرار أدائنا لخدمته، ومن ناحية أخرى لاستمرار الجدل (الهيجلى) بين العبد والسيد، وأنه علينا أن ننتهز الفرصة، فرصة قرارهم الفوقى بالإبقاء علينا دون الموت جوعا، وأن نقبل ما يقدمون، ثم نضيف إليه شيئا ولو بسيطا مما يحدد اختلافنا عنهم، وقد يحتاجون إليه، وهنا ذكـّرت الاستاذ بمقولته عن ما يمكن أن يضيفه الاسلام وطلبت منه مرة أخرى، أن يوضح لنا ذلك، فأجابنى ببساطته العميقة الرائعة (مضطرا على ما يبدو): إن الإسلام، ونحن نرجو أن نمثله لا يرفض أى إنجاز علمى أو تكنولوجى أو حضارى حققه الغرب، وبالتالى فهو قادر على استيعاب أى تقدم مادام ليس فى منظومته الأساسية مايحول دون ذلك، فانتبهت وقلت: “لا”، أنا لا أعنى ذلك، وإنما أنا أتساءل عن جوهر ما يمكن أن يضيفه الاسلام للوجود البشرى، لا ما يستعمله الإسلام من الإنجاز البشرى، أعنى الإسلام بما هو موقف وجودى مختلف، فالغرب حين أراد أن يتخلص من السلطة الدينية تخلص من الدين نفسه وكأنه ألقى السلة بالطفل الذى فيها، وأصبح الدين ممارسة نهاية الاسبوع أو ديكور تسكينى بعض الوقت، لكننى أتصور أن جوهر وجود المسلم (والمؤمن عامة) يختلف من حيث أنه يهتم بالفرد أساسا وابتداء (فى علاقتة بالناس والكون)، وأنه يبنى الداخل بعبادات معينه (ليصب الداخل فى الخارج ويتكامل معه) وأنه يمتد إلى المابعد وهو الغيب (مما سبق الكلام عليه) وهنا تتدخلت د. مها وصفى لتفسر الغيب بأنه الحياة الآخرة، وأنه الجنة والنار، فاعترضتُ، لأن مسألة الجنة والنار والحساب هى أمور لا تشغلنى فى المقام الأول، والنصوص الإسلامية التى طالبت الإنسان بالإيمان عدَّدَت مجالات متعددة لذلك، مثلا: الإيمان باليوم الآخر، ثم الإيمان بالقدر خيره وشره، ثم الإيمان بالغيب، وهى أبعاد تكمل بعضها بعضا وليست مترادفة، ويؤكد زكى سالم عل مسألة الفرد هذه وتنميته الخاصة فى علاقته بربه، فيقول الأستاذ: أو ليس هذا ما تدعو إليه معظم الأديان؟ وأوافقه ولا أعترض أن تكون كل الأديان إسلاما، وأذكر ما سبق أن حاورت به محمد إبنى أثناء تسليم الوسام من أن السفير الفرنسى بدا لى – وله – مسلما، ويطلب منى بعض الحضور للمرة الكذا أن أوضح ماذا يعنى عندى الاسلام، فأتردد وأخاف من التكرار، لكن ما باليد حيلة : إنه الحرية، والمباشرة، والتذكرة اليومية والسنوية بعلاقتنا بالطبيعة وإيقاعاتها الحيوية، وفرصة اللقاء بالمشاركين فى ذلك مع حفز مناسب إلى التكامل الاجتماعى، وتنشيط الوعى الجماعى وكل ذلك فى إطار تعميق ما خلق الله فينا من قوانين طبيعية وهذا ما يعينيه لفظ: الفطرة فى الإسلام، ولمزيد من الشرح أضيف أن الحرية تقع فى بؤرة: “لا إله إلا الله” والمباشرة تتمثل فى أنه لا كهنوت ولا رجال دين فى الإسلام، أما التذكرة اليومية فهى العبادات المنتظمة، مع دورات الليل والنهار خاصة (كل بضع ساعات قرصة فى الأذن أن ثمَّ وجودا آخر غير ما أنت فيه يا هذا!!!!). والتذكرة السنوية (بالصوم وقطع النمط السائد) والتذكرة الكونية مرة فى العمر (الحج) والتكامل الاجتماعى بكل أنواع التراحم وليس فقط الزكاة، وكل هذا يبدأ من الفرد، من كل فرد دون أستثناء لكنه يحتاج بداهة إلى تنظيم جماعى يسمح للأفراد أن يطلقوا وجودهم السليم في رحابه
وحين انتقل التساؤل إلى مسألة الفطرة شعرت أنها تحتاج إلى شرح أصعب، وأن ردودى وشرحى وجهة نظرى قد يصبح أكثر إملالا، فتهربت من الإجابة مؤقتا، وكأنه كان عندى إجابة، طبعا ما زلت أجتهد حتى الآن ودائما (2011)([4])، وقد خجلت من نفسى وعرفت أننى أتكلم على موجة لا تصل إلى أحد، وأننى أعجز من أن أوصـّل ما أريد.
ويثور جدال حول اختزال الإسلام إلى ما هو السلطة الدينية الرسمية (الأزهر) أو السلطة الدينية المحتملة (الجماعات الدينية والحكومة الاسلامية) وأنهم سينسون كل ذلك ولا يبقى مدخل للحياة إلا الحلال والحرام من واقع نصوص يفهمهونها ويفصلونها تفصيلا على قدر مقاس مصالحهم، فأنسحب من لسانى مرة أخرى، وأنبه إلى أننى لا أدافع ولا آمل ولا أوافق على أى نوع من السلطه الدينية، وإنما المسألة أعمق من كل هذا لأن الإسلام جنبا إلى جنب مع اللغة هما ما ميـَّزانى مسلما عربيا، وإنى أرى تركيز التخريب ينصب على تسطيح الأول وتشويه الثانى، اللغة العربية الآن أصبحت مهجورة، مهانة، مكروهة، يـُـستهزأ بها، والإسلام أصبح مـُـختزلا أو مـُـحتكرا فى سجن الانغلاق والوصاية، محاطا بأسلاك الفتاوى الشائكة الجاهزة الملاحقة،، يقول يوسف عزب أنه أدرك الآن ما أقصد بالإسلام، ويسألنى توضيحا: هل ثمَّ نظام اجتماعى وسياسى واقتصادى محدد يحقق ذلك،؟ فأنفى تماما أننى أدعى ذلك، وأن أى شىء أقوله فى هذا الصدد يمكن أن يكون سببا فى أن ينفونى بعيدا عن دينى، سواء كان من سيصدر أمر النفى هو سلطة مثل الأزهر، أم جماعة مثل إحدى الجماعات، أو حتى تنظيما يشاع عنه الاعتدال مثل الإخوان، أما الحكومة السنية، فقد تسعد حين تتخلص من أمثالى بأى من هؤلاء، وأعترف بعجزى عن التمادى فى أى تصور يسمح بتطبيقٍ عملىٍّ لما أقول، ومع هذا العجز، والحذر، أعلن أن حسابى على الله، وأنه سيحاسبنى على مدى الجدية والمثابرة التى عاملت بها فطرتى والتى حاورته بها، والتى حافظت بها على ما وصلت إليه، والتى طورت بها ما انتهيت إليه أولا بأول، وأن هذا هو الذى يدعونى أن أسأل: أليس هذا الاختلاف النوعى لنوعية وجود المسلم خليق أن يدفعنا للبحث والتساؤل عن ماذا يمكن أن نقدمه للغرب المغرور من إضافة حقيقة، فيبتسم الأستاذ وأنا أتعجب أنه كان متابعا كل هذا، فأعيد عليه التساؤل بشكل آخر قائلا: ماذا فعلا يمكن أن نقدمه من موقعنا كمسلمين، فيجيب مازحا وقد نبهته ساعته البيولوجية لموعد الانصراف: “نقدم الساعة”.
ويضحك، وأعجز عن مجاراته، وننظر فى ساعاتنا،
ويقدمها بعضنا مبكرا، فقد كان اليوم هو الجمعة 28/4/95، موعد تقديم الساعة للعمل بالتوقيت الصيفي!!
وباستثنائى ،
ضحك الجميع للقفشه
وشعرت بوحدة قاسية برغم ثقتى ببعض ما نجحت فى توصيله، على الأقل للأستاذ.
الحلقة الخامسة والخمسون
نصف ليلة: دسمة بالتاريخ، والنقد، والسياسة والإبداع
الأحد: 30/4/1995
نوفوتيل سفينكس، فندق جديد والاستاذ فرحان
استقبال طيب، النزلاء قلة، الصالة فسيحة، الدنيا بخير، حضر الأستاذ وكنت فى استقباله، كما حضر محمد يحيى، فى نفس الوقت، د. سعاد، د. منال فى الانتظار، بدأت أرى فى د. منال شيئا مصريا طيبا، سمراء، لم يطغ أى من عقلها أو علمها على أنوثتها أو مصريتها، حضر مصطفى أبو النصر وزكى سالم، وكان نعيم صبرى هو الذى صحب الأستاذ حتى الفندق.
فجأة وجدنا أنفسنا فى حديث عن الإبداع وحتم وجود جرعة من الحرية تسمح بالجديد والصريح، ويُبدى مصطفى أبو النصر عدة ملاحظات أهمها أن روسيا لم تنتج أدبا ذا بال منذ قيام الثورة 1917 حتى انهيار الاتحاد السوفيتى، ولم يكن هناك غير شولوخوف الذى لم يفعل شيئا إلا تقليد تولستوى، وحكى أبو النصرقصة قصيرة لتولستوى، وقال إن المغزى هو كذا، وكيت، ثم حكى قصة أخرى وقال إنها بلا مغزى ولا تفيد شيئا، والأستاذ يهز رأسه، وهنا سألت الأستاذ هل يحق للناقد أن يتساءل عن مغزى عمل إبداعىّ بهذا التحديد؟ إننى أحسب أن العمل ذا المغزى، أو على الأقل ذا المغزى الواضح، ليس عملا جيدا، وافقنى الأستاذ وكان قد سبق أن قال لى فى إحدى جلسات الحرافيش ونحن نتكلم عن الاقتباس وما إلى ذلك أن المسألة ليست فى الفكرة، وإنما فى تناول الفكرة، وأن كل الأفكار التى يمكن أن تدور حولها الأعمال الروائية مثلا هى بضعة أفكار محدودة، ثم يدورها ويشكلها الإبداع بأدواته وتنويعاة بما يجعله إبداعا، ثم إن النقاد يسيئون للعمل وللكاتب حين يركزون على المغزى، إن المسألة كلها فى كيفية التناول، كيف يقول الكاتب ما يقول وهو يتناول نفس الفكرة، فمثلا خذ عندك شكسبير: فى “عطيل”، ماذا يريد أن يقول، أو ماذا يمكن أن يقول، إنه يقول إن “الغيرة مهلكة”، وهل هذا يحتاج إلى كل هذا الشعر وهذه المسرحة حتى يقولها، إن أى بائع بطاطا او منادى سيارات إذا سئل عن الغيرة أو حتى دون أن يسأل يمكن أن يقولها ببساطة هكذا: إن الغيرة مهلكة، أما كيف قالها شكسبير، وكيف يقولها غيره: هذا هو الإبداع.
قلت للأستاذ إن الناقد أحيانا ما يبالغ فى البحث عن المغزى ليس فقط بالنسبة للعمل الواحد، قصة قصيرة مثلا أو رواية بذاتها، وإنما بالنسبة لأعمال الكاتب كلها، فزعم غالى شكرى مثلا أن مغزى أعمال نجيب محفوظ هو الانتماء لفكر بذاته، أو اتجاه سياسى أو أيديولوجى بذاته، هو الذى دفعه أن يكتب هذا الكتاب الذى أسماه “المنتمى”، ولقد تحفظت على هذا الكتاب بنفس القدر الذى تحفظت به على كتاب الرد عليه الذى كتبه د. محمد حسن عبد الله، أظن تحت إسم: الروحانية والإيمانية (أو الإسلامية)، لا أذكر، قال الأستاذ: عندك حق ولكن غالى شكرى كان يدافع عن كاتب ظن أن موقفه غير واضح وأنه من الأصلح له أن يتضح، فراح يثبت لنفسه، وللناس وللسلطة، أن هذا الشخص اشتراكى، وكأنه يسدى له جميلا، ثم أضاف الأستاذ: وهل هذه ميزة أن يكون الشخص اشتراكيا؟ إن الاشتراكى اشتراكى سواء كتب أو لم يكتب، إن شخصا اشتراكيا أمضى فى السجن يوما واحد لهو أعظم وأهم (بمقياس اشتراكى) من كاتب كتبَ عشرة روايات اشتراكية وهو جالس يشرب الويسكى ويدخن سيجاره من التبغ الفاخر، إن مقياس الإبداع لابد أن يكون بما هو، وليس بمغزاه، قلت له: ولكنك بطبعك المجامل جعلت الناس يتصورون أنك موافق على هذا التصنيف الاشتراكى، ولما ظهر كتاب د. محمد حسن عبد الله كتب فى مقدمته أنك موافق أيضا على كل ما جاء فيه (لاحظ “كل” هذه)، وأنا أعرف أنك موافق على حسن النية وصدق الاجتهاد، أما أن تأتى موافقتك هكذا على الشيء ونقيضه فهذا ما يحتاج إلى شرح خاص للقاريء المتابع، ولمحبيك خاصة.
قال: إننى لا أوافق على تفاصيل المحتوى، ولكننى أوافق على تعدد وجهات النظر، فالأول كان نقدا متحيزا من وجهة نظر صاحبه، وهو لايـُـلزم الكاتب، ولا يعلن القول الفصل فى أعماله، أما الثانى فهو يكاد يكون كتابا هادياً أو عقائديا، يقدم فيه وجهة نظر محددة أيضا فى شخص الكاتب، ويدعمها بإنتاجه، قلت فى نفسي: “ولو”
ثم عرج الحديث إلى أولاد حارتنا من جديد، وقلت للأستاذ رأيى للمرة الكذا، وأننى بعد أن قرأت ثلثها.. مثلا، رحت أنتظر الأحداث هى هى كما أعرفها، اللهم إلا فى الجزء الأخير من الرواية، وهو الجزء الخاص بموقف “عرفة” حتى هذا الجزء لم يكن جديدا تماما بالنسبة إلى.
قال الاستاذ: ربما، فهذه الرواية قد تعتبر من نوع الأليجورى الــ Allegory ([5]) وليست رمزا، ولو أنه تم نقاش موضوعى حولها، أو حتى لو أن مجمع البحوث الإسلامية أو دار الافتاء، أو أى جهة رسمية دينية ناقشتنى فيها، لكنت أوضحت الأمر من ناحية، واستفدت شخصيا من ناحية أخرى، لكنهم ضربوا لى موعدا، ولم يحضروا، قلت له: لقد سبق أن قلت أنك كنت منتظرا، قال: منتظرا ماذا، أنا كنت أعمل فى وزارة الأوقاف فى نفس المبنى، ولم يحضر أحد، قلت له: إنه قد تجاوز هذا اللأليجورى فى الحرافيش التى هى درة أعماله، ثم إنى لم أجد ترجمة جيدة لهذه. الكلمة Allegory قال عندك حق، إنهم يترجمونها إلى أمثولة، قلت له هذه اللفظة ثقيلة علىّ، وهى لاتبلغنى ما تلوّح به، ولا ترضينى، قال: ولا أنا.
وانتقل الحديث إلى بعض الأفلام وبعض الممثلين وأسامة الباز ونبيلة عبيد، وفيلم قامت بتمثيله، وفجأة اتجه الأستاذ إلىّ وقال: عارف حكاية “المغزى” التى تعتبرها نقصا فى النقد إذا ركـّز عليه وأنه يمكن أن يعطل حكمك على العمل، لقد عملت أنا ومصطفى (أبو النصر) فى مصلحة كانت وظيفتنا فيها أن نبحث عن مغزى العمل، فإن لم نجد له مغزى، أو وجدنا له مغزى ليس هو، رفضناه، هذه كانت مهمتنا فى الرقابة، كنا ملزمين ببنود محددة لابد من استيفائها، وقد حوكم مصطفى وحكم عليه بالخصم خمسة عشر يوما لأنه أجاز عملا أو شارك فى إجازة عمل رغم عدم وفائه ببعض أو كل هذه الشروط، وحكى مصطفى أبو النصر حكاية المحاكمة، وقال الأستاذ إن هذه البنود هى كلمات وتوجيهات عامة… وأن الذى يحدد تطبيقها هو الجو العام وموقف الرقيب، خذ مثلا: “الحفاظ على القيم العامة”، أو “عدم مهاجمة الأديان”، أو ”عدم مهاجمة فئة مهنية بذاتها”،… إلخ كل ذلك يقاس بالسائد العام.
قلت له: إننى حين كنت فى لجنة التربية وعلم النفس فى المجلس الأعلى للثقافة قال لى أستاذ جامعى فى كلية التربية تعقيبا على حادثة الأستاذ، إن نجيب محفوظ تجاوز الحدود حتى فى الثلاثية، ولم أسأله عن تعريفه لما هى “الحدود” واكتفيت بأن استوضحت منزعجا: وماذا فى الثلاثية؟ حتى الثلاثية!!؟ قال لا يصح لكاتب مسلم أن يهز صورة الوالد (السيد احمد عبد الجواد) ضحك الأستاذ دهشة وربما ألما (لست متأكدا)، وقال كنت أحسبه أنه سيعترض على “جليلة” العالمة أو “زنوبة”.
وانتقل الحديث إلى أن الكتابة اليوم لاتتناول ما كانت تتناوله سابقا، ولم يعد أحد يمكن أن يظهر ضابط الشرطة مثلما ظهر فى رواية “بداية ونهاية” مثلا،
قلت للأستاذ: تعقيبا على أن الجو العام، والموظف الممثل له، هو الذى يتحكم فى ماذا ينشر وماذا يحـجب، وأن أخشى ما أخشاه – كما تناقشنا سابقا – أن الحكم المسمى بالإسلامى سوف يقطع الماء والنور عن المبدعين، أليس هذا هو جو “الحلال والحرام” بالمقاييس الجامدة التى يلتزم بها من يريدون أن يـَـلـُـوا أمرنا؟
قال الأستاذ: انها لا تعدو أن تكون إحدى موجات تهب على الإبداع بين الحين والحين، ولابد أنها ستنحسر، لا شيء يبقى على حال، والحركة مستمرة ما دامت الحياة، خذ عندك عمر بن الخطاب كان محكـِّما (ناقدا) للشعر فى سوق عكاظ، فلما ولى الأمر فى الإسلام عاقب شاعرا لأنه قال كلاما لا يليق، وقال له ما معناه هذا كان زمان يا عم أنت، لكن الحركة لم تتوقف على مر السنين
مازال الأستاذ يتقدمنا شجاعة وإصرارا وثقة بكسب الجولة الأخيرة للحرية والإبداع، أو على الأقل الجولة التالية فالتالية بلا نهاية.
الثلاثاء: 2/5/1995
مررت على الأستاذ أولا بالمنزل، كان عنده زائرون، أ.د. فاطمة موسى (غالبا)، ومعها رئيس نادى القلم الألمانى، ومترجمة ( إبنة عبد العظيم أنيس على ما أذكر)، إلخ، قابلت محمد إبنى على الباب، كان الأستاذ مطمئنا أنهم سينصرفون فى تمام الساعة السادسة، حرصه على ميعاد الخروج المنتظم أكثر من حرصه على مقابلة كائنا من كائن، تأخروا كثيرا فى فتح الباب، هذا بيت كريم، وأسرة مصرية منضبطة طيبة، محافظة نسبيا، وأى تأخير له ما يبرره.
ثم هيا: إلى فرح بوت، بدأ الحديث حول الغيطانى ومقاله فى أخبار الأدب، وعن زياراته المتكررة إلى مراكش أو مدينة السبع رجال([6])، وأشهرهم عندنا هو سيدى محمد بن سليمان الجزولى، صاحب النص الصوفى “دلائل الخيرات”، وأن سى جعفر الكنسوسى (خريج السوربون)، وحبيب سمرقندى (بجامعة تولوز)، ومحمد اليمانى أستاذ الكيمياء فى فرنسا، وعدد من شباب الحومة، بدأوا تنظيم نشاط ثقافى منتظم، (المناسبة: إحياء ذكرى العارف بالله أبو العباس السبتى عاش بين القرنين الخامس والساذس الهجرى)،
وقلت له إن الغيطانى قد أثار فى مقاله نقطة قد سبق أن تناقشنا فيها من قبل، وهى مدى إسهام التصوف فى حل الإشكال المعاصر من جهة، وفى تمييز هويتنا من جهة أخرى؟، ولم يزد الأستاذ عما ذكره قبلا، وأضاف مزيدا من التحفظ على الحلول الفردية، لكننى كررت أن التصوف ليس حلا فرديا بالضرورة، قد يكون جهادا فرديا، وقد يبدأ من تنمية الوعى الفردى، لكن هذا وذاك لا بد أن يصب فى المجموع دون أى احتمال عزلة أو لغة خاصة، وصلنى وكأنه قال: “يا ليت!!”، هكذا سمعتها غصبا لأرضى نفسى، ولأكمل موجها كلامى إلى حسن ناصر: إننى أتصور أن التقاليد اليابانية المحكمة هى التى جعلت اليابان تجرؤ أن تأخذ كل إنجازات الغرب دون أن تتنازل عن هويتها، وهذه التقاليد هى منظومة من السلوك الأخلاقى، والموقف الداخلى الفردى فالعام، وهذين البعدين هما ما يميز ما أسميه بالتصوف الذى ليس بالضرورة أن يقترن بالدين كما ألفنا فى صياغته وتقديمه، ووافقنى حسن ناصر لا أدرى مجاملة أم حقيقة، وهنا قفز محمد يحيى مُشّهـِدَا الأستاذ والحضور كيف أستعمل أنا الألفاظ استعمالا خاصا، بل ومتغيرا ومتعددا، من أول لفظ الإسلام حتى التصوف مارا بالحرية، بما يجعل السامع فى حيرة لا يملك أن يمسك بلفظ بذاته له مضمون محدد ثابت يحاسبنى على أساسه ومن خلاله.
وأعود إلى مقال الغيطانى وكيف أنهم كانوا يتحدثون عنه (عن الغيطانى) بلقب: “مؤلف التجليات” وأن الشيخ محمد سلطين (محور الجلسة وركنها المضىء)..قد جاء فى اليوم الأخير محفوفا بمريديه وكان أحد بواعث خروجه رؤية صاحب “كتاب التجليات”،.. إلى أن قال: وقد وقع لدى من مهابته ونورانيته ما ملأنى أنسا ومسرة، وقد أمضيت ساعات جاثيا، ماثلا أمامه مصغيا إلى فيضه، وللأسف كان ما يقوله يذهب فى الهواء، لو سجلته، أو لزمته، لطفت حوله، كما فعل حفيد ذى النون الذى كان يدون ما يقوله جده، ومثل هذا هو ما أوصل إلينا كتاب المواقف والمخاطبات.
قلت للأستاذ إن تجليات الغيطانى عمل متميز، وقد بدأت دراسة نقدية عنها، وخاصة فى صور حضور “الأب” فيها من أولها لآخرها ذلك لأننى شعرت بأن جرعة “الأب” عند الغيطانى جرعة حاضرة طول الوقت، بل وجاثمة أحيانا، وهو يتنقل بين التقديس والاتباع والانبهار والانجذاب بشكل يحتاج إلى تقصى، ولكن جرعة ” الحاجة إلى الأب ” كما وصلتنى شطحت حتى فسدت قرب نهاية العمل، فقد كنت أحترم والد الغيطانى الحقيقى كما صوّره فى التجليات حتى كدت أسمع صوت قبقابه على بلاط الشارع وهو ذاهب لصلاة الفجر، ثم تحملت أبوة عبد الناصر على مضض، فمهما اختلفنا حوله، فقد قام بدور الأب بالقدر الذى سمحت به طفولتنا واعتماديتنا، بل إننى أعتقد أنه قام بدور الأب أكثر من السادات، فرغم أن السادات كان يردد مسألة ” أخلاق القرية”، ورب العائلة وما إلى ذلك، فإن رحرحته وطفولته كانتا بادية لدرجة أن الناس كانوا يضحكون معه، وقد يثقون فيه أكثر من اعتمادهم عليه وتقديسه، فى حين أن أبوة عبد الناصر كانت وصية ومانحة من فوق، ولا أنسى ما أثارته فىّ خطبة لعبد الناصر ألقاها فى بورسعيد على ما أذكر فى أوائل الستينات حين أخذ يمن علينا أنه: عايزين منى إيه، أنا عايز أوظفكم وأجوزكم وأسكنكم، مش كفاية؟، أما السادات فقد كان فلاحا يعرف حدود أبوته ومقدرته، وقد عذرت الغيطانى وهو يمجد الأب عبد الناصر، أما أن يصل الأمر إلى تمجيد قاتل السادات الإسلامبولى حتى يتراءى له بطلا مثل عبد الناصر، أو متداخلا مع عبد الناصر أو متبادلا مع حضوره فى التجليات، فهذا ما لم أستطع عليه صبرا، ومع ذلك فالتجليات عمل – فى نظرى – شديد التكثيف بالغ الإتقان، قال الأستاذ: إنه أعجبه جدا، وهنا نكشتُ زكى سالم وأنا أتابع تعبيرات وجهه المعترضة على مديح التجليات، وقلت للأستاذ إن زكى عنده ما يقال له، ويبدو أنه غير موافق، قال زكى: أنا لم أجد فيها هذا التكثيف الذى تقولون عنه، بالعكس: أظن أن درجة الإطناب والسرد المتواصل المفصل ينفى حكاية التكثيف هذه، قلت له إن التكثيف الذى أعنيه لا يشير إلى الإيجاز، وإنما يصلنى التكثيف حين أعايش فى النص تيارات من الوعى متواكبة معا، أنا لا أعنى مسألة تيار الوعى الشائع فى النقد الأدبى حين يصفون عمل جيمس جويس مثلا، لا..، وإنما أعنى بتيارات الوعى الحضور المتعدد لمسارات متوازية أو متداخلة للحدث أو للحكى أو للشخص، قد يكون العمل شديد الإيجاز بالغ التكثيف في نفس الوقت، وقد يصل إلى آلاف الصفحات وكلها تحكى على نفس المستوى،
ويعقب الأستاذ على هذا النقاش قائلا لزكي: أنا أذكر أننا اختلفنا حول التجليات يازكى أيام ظهورها، أليس كذلك؟ فيقرّ زكى ذلك، فأساله: فيم كان الاختلاف، فيقول إن الأستاذ كان معجبا بها، فى حين أن رأيى كان وما زال كما ذكرتُ الآن ومثله.
من المهم أن أشعر وأعرف، مرارا وتكرارا، (علنى أتعلم) كيف يختلف الأستاذ – بسماحة هكذا- مع تلاميذه ومريديه
وأسأل الأستاذ هل ذو النون المصرى كتب أو أملى: مواقف ومخاطبات أم أن المواقف والمخاطبات خاصة بمولانا النفرى، فيؤكد الأستاذ أنها على حد علمه خاصة بالنفرى، فأقول هذا ما أعرفه، إلا أنها فى مقال الغيطانى وصلنى أن ذاكرته وعت مقابلته بشيخ تلك الطريقة حتى يسجل ما سمع مثلما كان يسجل حفيد ذى النون المواقف والمخاطبات، ثم أردفت: لعلها خطأ مطبعى أو سهوة ذاكرة، أو لعله جهلى أنا.
ويتحول الحديث إلى ضرورة الأب، وصورة الأب التى قدمها فرويد من خلال عقدة أوديب، فى مقابل الصور الأخرى التى سبق أن أشرت إليها فى هذه الخواطر وغيرها، وأهمها الصورة التى يمثلها كونفوشيوس من ناحية، والتى تشير إليها قصة إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام – من وجهة نظرى – من ناحية أخرى، قلت للأستاذ إن الإنسان ( الطفل والشاب) لا يتم نموه بالانتصار على الأب بعد التنافس معه كما تشير عقدة أوديب، وإنما يتم النمو من خلال التصالح مع الأب وتـَـمـَـثــَّـلـِـهِ حتى يذوب أغلبه فى الكيان النامى الجديد، وقلت إن التأكيد على فكرة التصالح مع الأب – والتى أكدها ”إريك بيرن” تحديدا- لا تعنى نفى أو رفض الخلاف والاختلاف معه، ولا تحبذ فكرة حتمية الصراع، لكنها تؤكد علاقة متعددة المحاور تنتهى باضطراد إلى درجة من التفاهم والتمثل، وإن كنت قد أعليت من قيمة خضوع إسماعل لإبراهيم ليحقق حلمه فيرضى بذبحه، فإننى أتراجع الآن قليلا كى أؤكد أن هذا التسليم فى ما أسميته سابقا “جدل إسماعيل إبراهيم” هو مبكر جدا، ومطلق أيضا، وأن مسألة التصالح والتمثل والاستعياب ينبغى أن تأخذ وقتا كافيا، أما هذا التسليم الباكر هكذا، والذى يحله الفداء بكبش من السماء فإنه يقفز فوق فرص الحوار والاختلاف، وقد يكون للإبقاء على إسماعيل وفديه بذبح عظيم ما يشير إلى ضرورة التفاعل مع الآخر لاستمرار الجدل الهيجلى على الأقل (جدل العبد والسيد)، وبالتالى يكون تسليم إسماعيل ليس تسليما وإنما هو صيحة تهديد للأب أنه بتنفيذه حلمه والتخلص منه سوف يحرم نفسه من فرصة الجدل مع آخر، والبديل لذلك كما يقول رمز الفداء هو أن يتخلصا معا مما هو حيوانى عدوانى فج منفصل، وهو ليس تخلصا بمعنى المحو، وإنما بمعنى الذبح فالاحتواء فهضم هذا الجزء ليصبح نسيجا من الوجود الإنسانى المتكامل، فـلا يعود كيانا مهدِّدا منفصلا عن الكل الإنسانى للأب والإبن معا.
ويحضر يوسف القعيد بأخباره وصوته وضحكاته وغلّه وقفشاته وطفولته، ويبدأ بالحديث عن مؤتمر الأدباء فى الإسكندرية، وكيف قام بتكريم كل من هب ودب، حتى كاد يكرم رجال الأمن المركزى وسعاة نوادى الأدب، جاء هذا الحديث بمناسبة فتح موضوع زيارة رئيس نادى القلم الألمانى للأستاذ قبل ساعة، ثم يحكى بعضهم حكايات مماثلة عن مسألة تدنى بعض الكتاب (أو الكتبة) سعيا إلى رضا هذا النادى أو هذا الرئيس أو هذه المنظمة، بغض النظر عن قيمة الراضى ودلالات التكريم، وراح يضيف أن هذا يسرى على مؤسسات مثل نادى القلم كما يسرى على منظمات ودول مثل الدعوة التى وصلته من دول الكومنولث الذى حل محل الاتحاد السوفيتى، أو مثل الدعوة التى وصلته من أحمد قذاف الدم ذات يوم وذكر تفاصيل عن هوية الحاضرين والحاضرات مما لا داعى لذكره هنا.
ويَحْكى القعيد حكاية عن معركة بين عبد الفتاح رزق وأحمد الشيخ دارت فى حفل الإسكندرية حتى كادت تصل إلى التشابك بالأيدى أو إلى الجهات الإدارية أو ما شابه
ثم ينتقل – القعيد- فجأة إلى الحديث عن كتاب ابن خلدون الذى ظهر مؤخرا والذى كان حافلا بما هو سيرة ذاتية كتبها بشجاعة نادرة، وقال إننا نعرف ابن خلدون كاتبا ومؤرخا وعالما من علماء الاجتماع والتاريخ وغير ذلك، إلا أن ما كتبه فى سيرته الذاتية بخط يده يحتاج إلى وقفة، ومن ذلك علاقته بتيمورلنك، وكيف قبل أن يتصل به سرا، وكيف كتب له – حسب طلبه – وصفا دقيق فى ستين صفحة لبلاد المغرب، قال القعيد أن هذا يكاد يكون إذاعة أسرار تمهد للعدو غزو المغرب، ومضى القعيد يحكى كثيرا فى هذا الاتجاه، وينبهه الأستاذ إلى أن الأمر لا ينبغى أن يقاس بلغة اليوم، ذلك أن تيمورلنك حاكم مسلم، والمسألة ليست خيانه كما نتصورها الآن ونحن نقرأ قصص الجاسوسية بيننا وبين إسرائيل، ولكنها وجهات نظر فى حدود تبادل السلطات بالطرق التى كانت سائدة فى ذلك العصر، ويمضى القعيد فى الحكى، وهو غير مقتنع، ذاكرا كيف ذكر تيمورلنك لابن خلدون أنه سمع أن عنده بغلة متميزة، وأنه طلب شراءها، فأبى إبن خلدون إلا أن يهديها له دون مقابل، وأرسلها إليه فعلا، فأرسل رسولا يحمل صـُرَّة إليه، فرفض أن يستلمها إلا أمام تيمورلنك، وإذا بالرسول يعترف بأنه اختصر ربعها فى الطريق ويستعطفه ألا يفضحه أمام تيمورلنك، وقصة أخرى عن كيف استغاث إبن خلدون بحاكم المغرب أن يرسل له أسرته، وكيف أن المركب التى كانت كبيرة مثل قارة وصلت ميناء الإسكندرية، ثم وهى على بعد عشرات الكيلومترات تغرق دون أن يتمكن من إنقاذها أحد، وتغرق معها الأسرة بكامل أفرادها: الزوجة والإبن والبنات، ويقول إبن خلدون أنه بعد هذا الحادث “فقد الطموح” وزهد فى كل ما كان يعمل، ويتألم الأستاذ متعجبا، لكننى أقول له إن فقد الزوجة، وأحيانا الأسرة ليس دائما بهذاه الصورة الفاجعة، فمثلا، أنا أعرف أن كارل جوستاف يونج حين فقد زوجته وهو فى نهاية الخمسينيات من عمره شعر – وأعلن- أنه منذ ذلك الحين شعر أنه وجد نفسه وقد استقلّ من جديد فى هذه السن.
يالها من نصف ليلة دسمة بالتاريخ والنقد والاختلاف وشيخنا يدلى بدلوه فى كل هذا!! نصف ليلة لأننى اضطررت للذهاب للعيادة حين وصلنى أن الأستاذ يقرص أذنى، وكأنى طفل عليه أن يذهب للمدرسة فى صباح يوم بارد.
حاضر.
الحلقة السادسة والخمسون
يوسف ادريس & يوسف شاهين
الخميس: 4/5/1995
الخميس يعنى الحرافيش، لم يسافر توفيق صالح إلى تونس، كانت دعوة خاصة للمشاركة فى مهرجان باسم: صيد التونة، مررت على توفيق وكان أحمد مظهر ينتظرنا فى الشارع، فرحت لرؤيته، كان يرتدى قميصا خفيفا مفتوحة أزراره العليا مثل شاب فى العشرينيات، وكان مرحا طيبا.
مررنا على الأستاذ، وأصر على شراء السودانى واللب مع أن توفيق كان قد عدل عن اقتراح تجاوز هذا الطقس إلا مصادفة، ربما لم اذكر قبلا اقتراح توفيق أن نكف عن هذه العادة ما دام أحد منا لا يقرب لا السودانى، ولا اللب طوال السهرة، الأستاذ لم يعترض على اقتراح توفيق، إلا أنه لا يكف عن أن يذكرنا بإصرار جميل، وفى نفس الوقت فى حياء طفل يطلب قطعة من الشيكولاتة، يقولها بالحرف الواحد وهو يكاد يرجونا: “سوف أكون مرتاحا أكثر لو مررنا على “بتاع السودانى: ”عادة يا توفيق الله يخليك، عادة ما تنقطعشى..”
دار الحديث فى فورت جراند حول سفر توفيق إلى تونس، وكيف تأجل حيث وجد توفيق نفسه مضطرا لكتابة مذكرة لشركائه فى شركة إنتاج سينمائى جديدة يجرى تأسيسها، وكان الأستاذ قد عقب على هذا أنه حين علم بسفر توفيق قبل إتمام إجراءات شهر هذه الشركة كان على وشك أن يقول له أن يلغى سفره وينتبه إلى مصلحته وعمله أولا، لكنه تردد أن يفعل وتركه على راحته، وحين تأجل السفر، سُـَّر لتفضيل توفيق مصلحته، لم أتحدث كثيرا من قبل عن أبوة نجيب محفوظ مثلا وهو ينادى جمال الغيطانى بـ “جيمي”، أو ينادى محمد إبنى بـ يا ” حمادة”. لأنه فى نفس الوقت يسمى كل واحد منهم ” صاحبى أو صاحبنا”، هذا النوع الهادئ من الأبوة يمتد حتى توفيق صالح وهو ينصحه – دون أن يصرح- أن يلغى رحلته ويلتفت لعمله !!!.
قلت لأحمد مظهر إننى شاهدت لك ظهر أمس فيلما (آظن أنه الأيدى الناعمة) كنتُ فيه شديد الفتوة والحيوية، وقد صدّقت من خلال قوة حضورك البدنى أنك ملاكم بحق وحقيقى كما ذكرتَ لى من أسابيع، قال طبعا، إن الناس تتصور أن الملاكم لا بد أن يكون ضخم الجثة منتفخ العضلات، ناسين مزايا الأوزان الخفيفة وأن الحركات الرشيقة لأمثالى هى سر البطولة، وانتقل الحديث إلى إسلام تايسون، وفوز الملاكم العجوز، وهو حول الأربعين ببطولة العالم للملاكمة فى وزن الثقيل، وأسأل مظهر دون نية انتظار إجابة، لماذا يسلم الملاكمون – بغض النظر عن لونهم،، يقول أحمد مظهر ضاحكا لقد سألونى هل تتحدى تايسون، فقلت طبعا أتحداه، فقالوا: هل تلاعبه؟ قلت طبعا لا ألاعبه، أنا أتحداه فقط! كان الأستاذ يتابعنا، وتصورت أن سمعه كان أحسن جداً، لأنه ضحك ضحكته الواسعة الممتدة جدا.
أظن أن حديثنا عن تغيير الوعى قسرا بتعاطى “المواد” قد جرّنا إلى الحديث عن يوسف إدريس، وراح أحمد يشكك أو يقلل من إبداعيته، ويربط بين الالتزام الخلقى (فى حدود) وبين الإبداع، إلا أن أحدا منا نحن الثلاثة لم يتفق مع رأيه هذا، فيذكر الشاعر الإنجليزى كولردج([7]) ويذكر بيرون، ويذكر بودلير، وأذكر سيد درويش، وأسمهان، وأنبه أن المسألة ليست أخلاقية، ولا هى عامة، وأن الاختلاف يأتى ليس فقط من نوع تغيير الوعى، وإنما من توظيف ناتج تغييره، وهل هو متصل بتدرج وتوجه تحريك الوعى نحو الإبداع أم لا، فيعود أحمد يعلن أن قصص يوسف إدريس لم تعجبه من أصله، وأختلف معه أنا وتوفيق، وقد سبق للأستاذ أن قال فى يوسف إدريس رأيا طيبا، ويختار توفيق ليدلل على إبداعية يوسف إدريس قصة “أرخص ليالى، وأن الفلاح الفقير الذى لا يجد ما يفعله ليلا يذهب يفرغ فراغه ووحدته فى أحشاء زوجته، وهات ياخـَلَف، ويعقب أحمد أن هذه القصة تنبه إلى مسألة اجتماعية خطيرة، وأن زيادة السكان هو ناتج لفقد فرص المتع الأخرى والفراغ، ويختار قصة ثانية تشير إلى طريق سد على الناس مسارهم بعد أن بنت الحكومة أو صاحب الأرض سورا حول جزء منه، ومهدت طريقا آخر بديلا، لكن الناس عاودت المشى فى الطريق الأول واخترقت السور…إلخ، وأنبه توفيق إلى أن تقييمه للأعمال وانتقائه أفضلها سواء وهو يقرأ، أو وهو يخرج، له بعد اجتماعى واضح، أخشى لو استمر أن تتسطح معه أعماله، مع أن هذا الجانب يعتبر مديحا فى معظم الأحوال، إلا أننى أرى فى قدراته كمخرج عمقا آخر يجعله أعمق من ذلك وأشمل، وأضيف أننى لا أنفى أن البعد الاجتماعى له قيمته الهائلة فى كل الإبداع، لكن ينبغى ألا يظهر هكذا: لا مباشرة، ولا فى المقام الأول، ويرد توفيق أنه يدرك ذلك ويعترف به، وأنه فى فترة من الفترات كان موقفه الملتزم بفكر معين يحدد اختياراته وتوجهاته، ويقرنى نسبيا فى تجنب المباشرة لكنه لا يوافقنى فى ترتيب الأولويات، ويتابع الأستاذ الحوار مهتما، فأكمل: إننى أتصور أن البعد الاجتماعى هو نسيج طبيعى لأى عمل فنى، وهو الأرضية التى تصاغ فيها الأحداث، والأرضية لا تقل أهمية عن الشكل البارز منها، بل إن الرسالة لا يكتمل إدراكها إلا بتبادل الشكل مع الأرضية، والعمل الفنى الجيد هو الذى يوصل طبيعة هذا النسيج دون أن يفصله عن الشكل الكلى من ناحية، ودون أن يعلن أبعاد ومواصفات طبيعة هذا النسيج (الأرضية) وإنما يدعها تصل بكليتها إلى وعى القارئ فتمثل بدورها أرضية تلقيه، ويتابعنا الأستاذ وأقرأ فى وجهه الرضا.
يقول توفيق إن فى بعض الأعمال تكون هناك جملة، أو موقف، تعتبر مفتاح العمل ودلالته، وأن البعد الاجتماعى عادة قد يوجز فى هذه الجملة أو الموقف، ولا أوافقه على ذلك، وأذكّره دون ربط بكلامه، وأنا أخاطب الأستاذ أننى كثيرا ما أمتلئ غيظا وأنا أشاهد مسرحية ما، وأرصد وقت التصفيق، فأجد أن الجمهور يصفق بعد كل صرخة تافهة، تشير إلى هذا البعد الاجتماعى أو الغريزة الوطنية مثل: يا عينى عالواطان (عالوطن)، أو “هو الظلم ده مالوش آخر!!!” فتضج القاعة بالتصفيق، هنا أشعر بإهانة لى، وأرفض فرحة الممثل بمثل هذا التصفيق (إنْ فـَـرِح)، وأضيف أننى أخاف أن نقع فيما يغرينا به مثل هذا الجمهور، فينبهنى توفيق أنه لا يقصد ذلك طبعاً، فأوافق وأعتذر لسوء الربط وأسارع بأن أقر وأعترف أن ما شاهدته لتوفيق من أفلام ليس فيها هذا المأخذ هكذا (وخاصة فيلم المخدوعون على ما فيه من بعد اجتماعى ووطنية)، ويقول الأستاذ إن المؤلف يؤلف، ولا يضع لنفسه حدودا جامدة، فإذا أتى البعد الاجتماعى فى السياق لم يمنعه، وإن ابتعد قليلا أو كثيرا لم يتعسف فى جذبه إلى السطح وهكذا، وأوافق الأستاذ تماما مشيرا إلى أن هذا البعد وصلنى من رواياته كلها دون أى جهد منى، وحين كانت المسألة تأخذ شكلا مباشرا، مثلما أشرت إلى تحفظى على نهاية الحرافيش وبعض ليالى ألف ليلة، فإننى كنت أصبح أقل ارتياحا
يلتقط توفيق الخيط ويشير إلى ثلاث روايات تحديدا للأستاذ، وهى بداية وناية، وزقاق المدق والقاهرة الجديدة، وكيف أنها جميعا روايات حفلت بهذا البعد بما لا مثيل له فى الرواية العربية، ويقول: الأستاذ إن المرحلة التاريخية للرواية تحدد أيضا أبعاد هذا البعد بشكل أو بآخر، فيلتقط توفيق الخيط ويقول إن هدف العمل (الظاهر والخفى) كثيرا ما يحتاج إلى تناول الأسباب التى تؤدى إليه، خذ عندك حميدة مثلا فى زقاق المدق، حتى نفهم انحرافها وسقوطها كراقصة فى ملاهى الإنجليز الليلية كان لزاما أن نعيش معها فقرها، وموقف زوجة أبيها، وأحلامها بالثراء والانفصال والزواج، ويضيف – مازحا – أنه لو أن نجيب محفوظ كتب نفس القصة الآن لما وصف القهوة كما وصفها، ولما وصف دكان الحلاقة كما فعل، ربما وصف الكراسى الفوتيهات، والحد الأدنى للطلبات، ([8]) ويضحك الأستاذ، وأمضى فى الاعتراض أو التحفظ، وأقول لتوفيق مسمـِّـعا الأستاذ إننى لا أتصور أن الأستاذ قد وصف هذه المقدمات ليحقق فى النهاية هذا الذى صارت إليه حميدة، صحيح أنه فى بعض أعماله تلوح النهاية أو الخط المحورى للعمل منذ البداية، لكن هذا ليس ملزما للمؤلف، ولا هو يحدد تفاصيل المقدمات، والمؤلف حر إذا سار على نفس الدرب الذى يوصله إلى ما لاح له ابتداء، أو إذا ترك نفسه يميل مع تيار الإبداع إلى حيث يسوقه، كل هذا يعتمد على الشكل وعلى تيارات الوعى، وعلى ظروف الكتابة، وللمتلقى دور آخر.
فأنا مثلا لم أستقبل مقدمات حميدة فى زقاق المدق باعتبارها هى التى أوصلتها إلى ما آلت إليه، لأن فى هذا من الربط السببى ما يضعف العمل، وهذا النوع من الربط غير موجود فى أعمال نجيب محفوظ إلا قليلا، وأن مفاجآت النقلات فى الحرافيش، وليالى ألف ليلة، ورأيت فيما يرى النائم لهى أكبر دليل على أن النهايات لا تبررها ولا تفسرها المقدمات، وعندى أن حميدة كان لها حضورها وهى فى الحارة، وكان لها حضورها وهى فى الملهى، والربط موجود، لكنه ليس ربطا سببيا مباشرا.
يقول توفيق إنه شعر أحيانا أثناء إخراجه أن وضوح النهاية منذ البداية قد أعاق حرية حركته أثناء العمل، حتى أنه كان يضطر أن يلوى الأحداث ليا حتى يضم خيوطها لتحقق النهاية، وأنه يرى الآن أن هذا الالتزام حرمه من حرية إبداع أكبر، لكنه يحذر تماما من ترك الحبل على الغارب طول الوقت، يوافق الأستاذ ومظهر وأنا على هذا التحذير ونحن فى طريقنا من الفندق إلى بيت توفيق، ويعتذر مظهر أن يكمل الليلة معنا عند توفيق، ويصر على الاعتذار، وتمضى ليلة هادئة نتكلم فيها عن سفر الأستاذ للإسكندرية، وأن كريمتيه منذ هربتا من ماء البحر يوما، خشية العدوى بمياه الإسكندرية الملوثة، رفضتا والأم الذهاب إلى الإسكندرية منذ سنوات، وظل الأستاذ يذهب وحده ويقوم بجميع الأعمال المنزلية، ولا يترك المنزل للسير أو للقهوة إلا وهو منظم كأحسن ما تفعل أية سيدة بيت ماهرة، ونتكلم نحن الثلاثة عن حبنا للإسكندرية، توفيق نشأ فيها (كلية فكتوريا) والأستاذ عشقها منذ كان تلميذا، وأنا بما تيسر وهو ليس قليلا حتى أصبحت لى شقة على الكورنيش مباشرة منذ 1967، ويحكى الأستاذ كيف كان يأخذ من والده فى الصيف عشرة جنيهات “بحالها”، ويذهب إلى الإسكندرية وحده وهو طالب يقضى فيها شهرا بأكمله، وتكفيه العشرة جنيهات من أول أجرة الحنطور الذى يقله من المنزل إلى باب الحديد حتى عودته إلى القاهرة بعد شهر، وكان أصدقاء والده يلومون والده أنه يتركه وحده فى الإسكندرية بكل هذا المبلغ، لكن والده كان يدافع عن رأيه أنه بما أنه يذاكر وينجح فليس هناك ما يبرر منعه من التصييف، ويحكى الأستاذ كيف كان يذهب أيام أن كان موظفا شهرا كاملا (إجازته) إلى الإسكندرية، ثم بعد المعاش كان يقضى ثلاثة أشهر كامله، ثم حدث ما صرف البنات عنها، ثم أمهن، وهو الآن لا يستطيع أن يسافر وحده، وتتدخل الفاضلة زوجة الأستاذ توفيق وتذكّر الأستاذ كم نهته عن السفر وحده، فيقرها على ذلك ويضيف أنه فى هذه السن لا أحد يضمن ماذا يحدث له فى أية لحظة، والأعمار بيد الله، وأنقبض قليلا، فهذه أول مرة يذكر سنه وعلاقة هذا بذاك.
ويجرى حديث مقارن عن وضع الإسكندرية قديما وحديثا، وأنها قبل الثورة كانت بمثابة منارة للحرية، وأنها كانت أقرب للقيم الغربية التى غلبت فيها لفترة ربما بفضل الجالية اليونانية الكبيرة التى عاشت فيها، وطبيعة أهلها السمحة، وكيف كانت الجامعة مجتمعا مختلطا بحق، وكيف كان ذلك مختلفا عن القاهرة، فمثلا، يذكر الأستاذ منصور فهمى وهو يصر على أن يجعل للطالبات صفوفا بذاتها، ويحكى توفيق صالح حكايات كثيرة عن حرية الحركة والرقص والاختلاط فى الإسكندرية فى الأربعيانات والخمسينات، أيام كان فى كلية فيكتوريا وبعدها.
الحلقة السابعة والخمسون
المخدوعون
الجمعة: 5/5/1995
التوفيق بين الندوة الثقافية الشهرية وبين تشريف الأستاذ بيتى أصبح مشكلة أساسية- حتى من أجل خاطر ما يمثله-، فلا أنا أستطيع أن أعتذر عن الندوة لأصاحبه، ولا أنا أستطيع أن أنسى أنه فى بيتى على بعد خطوات من مكان الندوة، وهو شخصيا قد نهرنى بشدة أن أعتذر عن الندوة، وحين علم يوما باحتمال تأجيلها لشهر واحد كاد يصل نهره إلى أمرٍ حاسم بالالتزام المطلق بعد أن علم أنها منتظمة شهريا منذ يناير1974، المهم قررت أن أذهب لاصطحابه شخصيا بين الندوة العلمية والندوة الثقافية، (توجد ساعة راحة بين الندوتين)، كنت قد قلت له ليلة أمس أننى سوف أحضر ربع ساعة مبكرا (أى ستة إلا ربع)، فتح هو شخصيا الباب فورا، وكأنه كان ينتظر، وقال إننى جاهز من الساعة الخامسة، يا ربى أى التزام!! وسألنى محتجا كيف تركت الندوة، ولماذا؟ قلت له إننى حضرت فى الاستراحة، فاطمأن!!!!، قابلت زكى سالم على الباب، وصاحَبَنا، فحمدت ربى كثيرا أننى لن أتركه إلا مع من يستطيع أن يدير الحديث المناسب بالجرعة المناسبة، لا أذكر إن كان هو أو زكى الذى قال لى فور وصولنا لمنزلى أن أذهب إلى الندوة حالا، ولم يكن هذا الحث وهذا الحرص على اللحاق بالندوة خاصـًّـا بأن ندوة الليلة تدور حول فيلم “المخدوعون” الذى أخرجه وكتب السيناريو الخاص به توفيق صالح.
أثناء اصطحابه فى السيارة، قلت له كيف أننى جئت لأصطحبه فى الفترة ما بين الندوة العلمية والندوة الثقافية، سألنى عن الفرق، وأظن أن زكى سألنى عن موضوع الندوة العلمية، فأجبته أنهما موضوعان قد يهمان الأستاذ فعلا: الأول عن علاقة الأنثروبولوجيا بالطب النفسى، والثانى عن علاقة تناول وعلاج الإدمان من خلال “رحلة – برنامج الداخل والخارج-“، ويسأل الأستاذ عن ماذا أعنى بهذه الرحلة، فأشرح له فكرة وينيكوت ومدرسة العلاقة بالموضوع، وأن الإنسان فى رحلة نموه منذ أن يخرج من الرحم يواصل الدخول والخروج إلى أرحام متنوعة، وبعد كل رحلة من هذه الرحلات يجد نفسه وقد تقدم خطوة أمامية بشكل أو بآخر، وأبسط تطبيق لهذه الفكرة (التى أصر على أنها ليست مجازية) هو النوم واليقظة، فالنوم هو الرحم الفسيولوجى الرائع، وأحيانا ما أفسر بعض أنواع الأرق بخوف الإنسان من الدخول إلى رحم النوم ولا يخرج منه، فيعزف عن النوم، ويضحك الأستاذ وهو يربط بين هذا الفرض وبين اضطراب نومه مؤخرا – كل ذلك فى السيارة وأنا أقودها، وزكى سالم بجواره يوصل له ما أقول!!
كان الفيلم مرة أخرى – هو المخدوعون – وقد حضر توفيق صالح متأخرا قليلا (لخطأ فى الميعاد من جانبى) وبعد أن اعتذرت له شارحا كيف أن من تقاليد الندوة ألا يبادر بالرد على التساؤلات أو التعقيب على الملاحظات إلا فى الرد على الاستفسارات والملاحظات بعد عرض إسهامات الجميع. بدأت المناقشة بأن قلت إن الفيلم قد غّيرنى ليس فقط بالنسبة لموقفى من القضية الفلسطينية والفلسطينيين، وإنما من قضية الفقر والحاجة والغربة والأرض، وأن الفن (الإبداع) الحقيقى إنما يحقق رسالته بقدر ما ينجح فى تحريك مستويات الوعى المختلفة، كم كررت هذا، وكم كررت أن المرض النفسى هو مضاعفات اضطرابات الحركة والسكون، اضطرابات الإيقاع الحيوى ولا أحد من الأطباء الأفاضل يريد أن يسمع، ثم قلت تعقيبا قصيرا عن روعة الدقة فى اللمسات الصغيرة فى الفيلم، وضربت مثلا لزوجة قيس (الرجل الكبير السن بين الثلاثة) وهو يعرض أمر سفره على زوجته، فتقول آيوه ثلاث مرات متتالية دون أن تنبس بكلمة واحدة زيادة، وكل آيوه مع تعبير وجهها توصل رسالة كاملة ومختلفة، ثم قول مروان “حاضر” وتعبير ظهره (إن جاز أن الظهر يعبر) وهو يصعد سلم السيارة فى المرة الثانية بعد أن ذاق نار جهنم داخل الصندوق، وأن قصة كل شخصية ثانوية هى قصة كاملة قائمة بذاتها، وتحفظتُ على إسم الفيلم، وأننى لم أستسغ حتى إسم القصة الأصلى لغسان كنفانى “رجال تحت الشمس”، واعترض بعض الحاضرين على اعتراضى معجبين باسم “المخدوعون” أكثر، وأن المخدوعين هنا ليسوا هم الثلاثة المسافرون بل كل من ظهر فى الفيلم، بل كل الشعب العربى الذى وثق فى زعمائه، وأن هذه القصة والفيلم ليستا قاصرتين على المشكلة الفلسطينية بل لعلها تمثل حال المصريين المهاجرين لأكل العيش إلى العراق -مثلا: حسب خبرة خاصة، أو حتى إلى ليبيا بالإشارة إلى قصة مراعى القتل، وقد حاول د.نبيل القط أن يربط بين استشهاد غسان كنفانى وبين روعة الرواية، ولم أقبل هذا التعليق كما لم يقبلوا منى قصر ربط القصة بالقضية الفلسطينية، وبالإضافة إلى تعليق محمد يحيى على ما استطاع الفيلم – أبيض وأسود- أن ينقله إلينا من معنى كلمة الحر والصحراء فى هذه المنطقة، وعلاقة ذلك بأكل العيش “هكذا”، حتى أننى أعلنت كيف شعرت أن الصهد يكاد أن يخرج من الشاشة، حتى كدت أسمع طشة حبة العرق وهى تقع داخل الصندوق.
واستأذنت فاتحا باب النقاش مع توفيق صالح شخصيا – وأجاب عن تساؤلاتنا بتواضع وثقة معا.
ذهبت إلى الأستاذ في بيتى على عجل، وحكيت له موجـَـزًا لبعض ما دار، وأضفت أن الفيلم استطاع أن يسبر غور الجميع حتى من بدوا خونة أو انتهازيين أو تجارا، فكل من تخلى عن موقفه أظهر الفيلم كيف أنه من عمق آخر ضحية هو ذاته: ضحية للسفالة والغدر والإغارة والقتل من جانب الصهاينة تحديدا، فأبو مروان الذى تزوج العرجاء ليجد مأوى ويؤجر حجرة، كان يريد أن يعيش تحت سقـٍف ما، وزوجته العرجاء فقدت ساقها بسببهم، وأن الفيلم لم يدع لنا مجالا لـِنـَكْرَه الأهل الذين بدوا لأول وهلة وكأنهم تنكروا لبعضهم البعض، (وتذكرت الآية الآن: ”يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ(34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ(35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ(36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ(37)”
ويقول الأستاذ أليس حراما أن مخرجا كهذا لا يجد فرصة الآن ليقول ويضيف، ونأمل أن يتم الاتفاق على شركة الإنتاج الجديدة
ويسألنى زكى سالم أن أفصّل للأستاذ بعض ما دار فى الندوة العلمية، وخاصة فى موضوع علاقة الأنثروبولوجيا بالطب النفسى، فأقول إن الشاب الطبيب الذى قدمها كان من المنصورة (إسمه مصطفى عمرو أو عمرو مصطفى) وأنه أحاط إحاطة نظرية بالمسألة حتى أنه أشار إلى أنه عثر على (131) تعريفا لكلمة ثقافة، وأنه أكد على أن العامل المشترك الأعظم بين كل هذه التعريفات هو ” الشبكية، والتمازج، والكل المشترك” بين مجوعة من البشر، وقلت للأستاذ إن محمد يحيى قد نبه إلى أن علم الأنثروبولوجيا الحديث يمر بأزمة حقيقية، وأنه علم نشأ بارتباطه بالاستعمار والعنصرية، وأن المراجعة جارية على قدم وساق لمعطياته، فأنبه أنا بدورى إلى أن المسألة لا تقتصر فى علم الأنثروبولوجيا على المعطيات والنتائج، بل إننى أرى الخطر كل الخطر فى المنهج والتناول، لأنه حتى الأدوات التى يصممونها لدراسة غيرهم من الأجناس والثقافات هى مصممة بطريقتهم من خلال منظومات أفكارهم، ويقول الأستاذ تكفى فضيحة ”سيريل بيرت”([9])، فأقول له إن هذه الفضيحة أهون مما أشير إليه، ذلك أن سيريل بيرت زور فى النتائج، وهذا أمر قد يكون فرديا وقد يسهل اكتشافه إلا أن ما أشير إليه هو تصدير مناهج تفكير ومناهج بحث متحيزة ابتداء لتظهرهم كجنس متفوق، وتظهر الآخرين أدنى وأغبى،
وألتفت إلى د. رمضان بسطاويسى مازحا معه سائلا إن كان قد أخذ الموافقة النهائية من الأستاذ للسفر للخليج لتكميل قروش الشقة، فيضحك الأستاذ ويقول إننا ناقشنا إيجابية السفر وعرجنا على ما أفاده أ.د. شكرى عياد كمثال آخر، بعد أن ناقشنا قبل ذلك ما أفاده زكى نجيب محمود.
ويلخص لى د. رمضان بسطاويسى مادار فى غيابى وعن فرض، أو رأى مصطفى نصيف فى دور النقد فى حل أزمتنا المعاصرة، وأسأله ماذا يعنى بالنقد هنا، وهل يقصره على النقد الأدبى أم يمتد به إلى التفكير النقدى عامة، فيفرح الأستاذ بتساؤلى، وكأنى كنت معهم ويؤكد أنهم وسّعوا من مضمون مفهوم النقد ليؤكد أنه موقف عام غير مقتصر على النظر المنهجى فى عمل بذاته.
وأشير إلى قصة زكى سالم ” إبن السلطان” التى نشرت فى عدد هذا الشهر من الهلال، وأقول له إننى متحفظ عليها، ويبدو أنه كان قد سمع تحفظات مشابهة، وأنها تقليد لعمل الأستاذ وبالذات فى أولاد حارتنا أو حتى فى الحرافبش، فألفاظ الحارة، ووجود السلطان الحاضر الغائب، والنداء من وراء سور القصر وما يقابله من النداء بجوار سور التكية، فضلا عن استعمال كلمة الحارة، كل ذلك لا جدال فى تماثله بشكل أو بآخر مع خطوط الأستاذ المكررة فى كثير من أعماله، ويصر زكى أنها ليست تقليدا أو محاكاة، وأن بها ما يميزها، فأذكر الأستاذ برأيه، و أنه لا بأس من تناول نفس الموضوع بصيغ مختلفة مادام الشكل يتغير، لكن المسألة هنا فى هذه القصة هى أن الشكل هو الذى لم يتغير، حتى الألفاظ والنداء كادا يتطابقان، ولكن زكى يصر على نفى احتمال التقليد، فأقول له إن هذا قد يكون أصعب وأخطر، فهو إن لم يكن تقليدا فهو تقمص غائر بالأستاذ، من فرط حبه له، وهذا وارد، وحين يخرج التقمص تلقائيا هكذا لا بد أن يكون بعيدا عن وعى من تقمص، وبالتالى يأتى دفاعه ونفيه للتقليد دفاعا صادقا وحقيقيا، وكنت قد قلت فى نفسى ربما يكون الحل هو أن يتمادى فى التقليد حتى يشبع، أو أن يكف نهائيا عن الكتابة لفترة يتخطى بها مرحلة الحب الغامر الذى يربطه بالأستاذ الآن، ولم أقل ذلك، ونويت أن أقوله حين ألقاه لاحقا.
لا أعرف كيف جاء ذكر الفتاوى التى تصدر من بعض رجال الدين بالمقاس الذى يرضى سلطة بذاتها فى وقت بذاته، وأقول للأستاذ إن الفتاوى التى تصدر فى السعودية الآن تبرر الصلح والتطبيع والتجارة والاستيراد والتصدير ولم يبق إلا أن تصدر بتحليل عمل عملية استئصال البروستاتا فى تل أبيب، وأضيف مازحا إن الفتوى ممكن أن تصدر بأن كل هذه التصرفات حلال زلال شريطة ألا يكون أحد اعتدى على إبنة أخت ممثل العرب فى الأمم المتحدة التى إسمها فردوس، فيعلق الأستاذ مازحا وقد التقط المغزى، ويقول ضاحكا: “وذنبها إيه فردوس”؟
ويحضر توفيق صالح ويقول له الأستاذ أهلا بالعريس
وتجرى تكملة لما دار فى مناقشة الفيلم
وينصرف توفيق مبكرا معتذرا
وينصرف الأستاذ متأخرا عن ميعاده قليلا
إذن فهو لم يضجر من غيابنا،
الأمور تسير طبيعية والحمد لله، وكأنه يبارك الندوتين مرة أخرى حين تأخر عن موعد انصرافه.
الحمد لله
الحلقة الثامنة والخمسون
جمال حمدان
الأحد: 7/5/1995
سوفيتل أبو الهول، سفيينكس، قابلت محمد يحيى على الباب، تحادثنا قليلا، الأستاذ لم يصل بعد، مصطفى أبو النصر أحضره إبنه، هو لا يقود بسبب عينيه، أتساءل عن علاقة إبن أبو النصر وإبن توفيق صالح، ثم علاقة محمد إبنى بالأستاذ، ما هو المسار الطبيعى؟ صادقت محمد إبنى، من خلال علاقتنا معا بالأستاذ أكثر من أى وقت مضى، سألت مصطفى أبو النصر عن سنة مولده قال: 1931 ثم قال: لماذا؟ قلت: كنت أردت أن أحسب عمرك أثناء عملك مع الأستاذ فى الرقابة، قال: كانت فترة محدودة جدا، د.سعاد موسى، د. منال تنتظران فى ردهة الفندق، وصل الأستاذ مع نعيم، كنت قد اعتدت (أعنى قررت أن أعتاد) أن أمضى ساعة مع نفسى فى فندق آخر قريب قبل حضور الأستاذ أتناول فيه شيئا خفيفا فى الفاصل ما بين درسى فى قصر العينى وبين ميعاد الأستاذ، وفى الأسبوع الماضى عجبت بعد أن أكلت مما يشبه “مصغر” البوفيه المفتوح: (كفتة، وأجنحة، وبابا غنوج، وخضروات سلطة، وخبز وأصابع مملحة) وجاء الحساب، فوجئت لضآلة الفاتورة، قلت للنادل إن ثمة خطأ فى الحساب فقد تناولت غداء كاملا من هذا ”المفتوح”، فقال لى: يا باشا إنه “فـْرِى”، ولم أفهم لأول وهلة، وقبل أن أسترجعه اكتشفت أنه يعنى أنه ولا مؤاخذة ، “مجانا”. ولم أفهم أكثر!، لماذا كل هذا على حساب صاحب ”المخل”؟ ويبدو أننى لم أصدق فأعدت السؤال هذه المرة وأنا فى غاية الحرج حتى أننى نقدت الرجل “بقشيشا” كبيرا من فرط خجلى حتى لا يزغر لى ويعرف ما بداخلى، ثم فهمت أن وجودى تصادف أن يكون فى “ساعة سماح” free hour يقدمها الفندق لمرتاديه ليتناولوا ما يشاؤون دون مقابل، فتعجبت وتصورت أن هذا من باب الدعاية وملء ساعات تقل فيها الحركة، ومع ذلك فضلت أن استقبل هذه الهبة كرما شخصيا لى، وتلفت حولى فوجدته كرما جماعيا، وفرحت أكثر.
ثم أنى اعتدت هذه الساعة دون قصد واضح، ورحت فيها أتأمل أشياء كثيرة وحدى تعيننى على أشياء مختلفة منها دور ومغزى ما أسجله الآن: ماذا أفعل؟ ولماذا؟ وإلى متى؟ نويت أن أسأل الأستاذ عن ذلك، ثم عدلت، أنا لا أسجل شيئا ولا أتعمد التذكر ماذا أسمى هذه الخواطر التى أكتبها الآن؟ ثم ذهبت إليهم.
اتجه الأستاذ إلى مكاننا فى نشاط طيب، وكالعادة لاحظت أنه بدأ يألفه أسرع منا، ونسى تماما مأزق فندق الماريوت وصالاته وفخامته المنفرة، بدأت الأستاذ بقولى إننى عادة لا أكتب بطاقات معايدة، وحين أرسلت فى العيد الماضى بالصدفة بعض البطاقات وجدت أنها أوصلت إلى بعض من أحب معنى دالاًّ، فقلت أكتب هذا العيد بطاقات غير نمطية، فأكتب لكل واحد ما أريد أن أهنئه به، أو أذكرنا به، وبدأت أكتب ما بنفسى على الكروت دون ذكر أسماء، ثم قلت أختار بعد ذلك ماذا يصلح لمن، فإذا بى أكتب ما يقارب من المائتى بطاقة (صفيتهم بعد ذلك إلى 173 بعد حذف المكرر وشبه المكرر)، ثم حين هممت أن أضع كل بطاقة لمن أتصور أنه صاحبها من الزملاء والأصدقاء والمعارف والطلبة خفت فجأة من سوء التأويل، أو الاتهام بالشطح، فعدلت، وقلت أجمعها جميعا فى ورقة واحدة وأرسلها إلى بعض من أرجح أنه يعرفنى ويحسن بى الظن، وليختر كل منهم العبارة التى تناسبه أو يعتقد أنه يحتاجها.
إلتقط الأستاذ الفكرة، وقال إنها فكرة غريبة لكنها طريفة، وأضاف أن البعض لا يكلف خاطره حتى بكتابة التهنئة بخط يده بل يرسلها مطبوعة، ـ فأضفت فى سرى، بل إنه يكلف السكرتارية بذلك فى كثير من الأحيان، فتنقلب التهانى إلى روتين يمسخ العلاقات، قال نعيم معقبا: كان حقك ترسل البطاقات خالية تماما وتكتب عليها أن على كل من يتلقاها أن يكتب ما يشاء، وضحكنا، وتذكرت أن اللون الأبيض هو جماع كل الألوان ممتزجة.
ذكرت للأستاذ أننى كنت أجرى حوارا هذا الصباح فى قناة النيل باللغة الإنجليزية، بمناسبة ذكرى رحيل جمال حمدان، وقد أخبرتهم أننى لم أقرأ أغلب أعماله، ولست متخصصا فى علمه، ولا أحب كطبيب نفسى أن أعلق على عزلته وآلامه من خلال معلومات لم أستقها إلا من الصحف، وقلت للمسئولين فى القناة إننى إذا تكلمت فسوف أتكلم عنه بصفتى مواطنا مصريا، وليس بصفتى طبيبا نفسيا، وقد وافقوا على ذلك، ثم أتت مسألة اللغة وقلت لهم إننى لا أحب اللغة الإنجليزية، وأدعى عدم إجادتها فقالوا تتكلم بالعربية ونحن نترجم، فخفت من أن يُنقل عنى ما لم أعنه، فتكلمت بالإنجليزية مرغما، وإذا بى اكتشف – كما اعتدت – أننى أتكلم بطلاقة حتى نسيت بأية لغة أتكلم، سألنى الأستاذ عما قلت فأوجزت له ما كان كالتالى:
(1) فرّقت بين الرمز، والمثل الأعلى، وقلت إنه إذا كان جمال حمدان يصلح رمزا فإنه لا يصلح مثلا أعلى للشباب خاصة، ذلك أن احتجاجه ثم انسحابه، ثم مثابرته ثم وحدته كلها خاصة به تماما بحيث يصعب تصور تكرارها مع غيره، بل إن الشاب الذى يجرؤ أن يتخذه مثلا قد يدخل إلى عزلة خطرة ثم هو قد يخرج منها وهو لم ينتج شيئا، فليس هناك ضمان، أما أنه رمز فهو كذلك من حيث أنه استوعب مصر فأصبح يمثلها كيانا حيا يمكن أن نراها من خلاله.
(2) ثم إننى قلت إننى أتصور أنه عاش الزمان بالعرض، فقلب التاريخ جغرافيا، وبالتالى هو حافظ على الحوار بين المكان وشاغله بشكل يصعب معه الفصْل بينهما وهذا -فى رأيى- استعارة جيدة من المنهج الفينوميولوجي.
(3) ثم إنه قد أخذ عليه بعض الأكاديميين أن كتابه شخصية مصر هو كتاب فى السياسة وليس فى العلم، وأنا أتصور أنهم قاسوه بمنهجهم الذى لم يلتزم به هو، وله كل الحق، وأحسب أنه بما فعل أضاف إضافة أصيلة لمنهج جديد جدير بالصقل فالانتشار.
(4) أما عن عزلته فلم أتصور أنها عزلة حقيقية ذلك أنه جسَّد مصر وأخذها معه فى صومعته فأغنته عنا، وأخلص لها إخلاصا ينفى عنه عزلته بشكل أو بآخر
قال مصطفى أبو النصر إن جمال حمدان كتب كتابا صغيرا مختصرا عن فكرة الكتاب الأكبر (الثلاثى) وأنه كان كتابا عبقريا حقا، أما كتابه الكبير فهو متخصص وفضفاض وربما لا يمكن الحكم عليه بحقه، قلت إننى – كما أخبرت المعدّ فى التليفزيون – لم أقرأ لا هذا ولا ذاك، لقد تصفحت مقدمة العمل الكبير لا أكثر، قال نعيم إن المقدمة هى أفضل ما فى الكتاب، ذكرت مقدمة إبن خلدون، ومحاضرات تمهيدية فى التحليل النفسى لفرويد، وحتى كتابى “مقدمة فى العلاج الجمعى” التى كتبتها شخصيا، كل تلك المقدمات صارت كتبا مستقلة لم يلحقها ما قـَدَّمـَتْ له!!
قال الأستاذ إنه حاول قراءة الكتاب، وأن المقدمة جذبته، ثم وجد فيه أفكارا رائقة ورائعة، كما وجد فيه آراء خطيرة لو صدقناها لكنا أمام إنذارات محددة بكوارث هائلة، ومن النوع الأخير ما قاله عن السد العالى حيث لو صدقنا ما قاله لأيقنا بفناء مصر بعد بضع مئات من السنين، قلت له: إننى أتصور أن المضاعفات التى نتجت عن السد هى مضاعفات حقيقية ومنذرة لكن عندى أمل فى تطور العلم والتكنولوجيا بما يسمح من معادلتها بل من تجاوزها لتصبح ميزات بشكل ما، (وهذا بعض شطحات تفاؤلى الذى يأبى الاستسلام حتى للحقائق)، قال الأستاذ إننى حين كتبت عن السد العالى فى “وجهة نظر”، وتساءلت هل هو “فلسفة أم ميتافيزيقا” أرسل لى عبد القادر حاتم بعد اتصال يسألنى فيه إن كان يهمنى أن أطلع على ملف السد، وأجبته أنه طبعا يهمنى، وحين اطلعت على الملفات وجدت أن معظم ما نتحدث عنه من مخاوف كان معروفا مسبقا، وأن مشروع السد هو مشروع من أربع مراحل، وأن ما تم هو المرحلة الأولى، وأن التوقف عندها زاد من المضاعفات والمخاطر، ذلك أنه يبدو أنه بعد تنفيذ المرحلة الأولى تغيرت أولويات الاهتمامات وقدرات الإنفاق وانزلقنا إلى حرب اليمن، وما أشبه، وانتهى الأمر عند مرحلة الخطر هذه، وقال مصطفى أبو النصر إنه كان هناك بديل أمريكى متكامل يبدأ بالتعلية الثالثة لخزان أسوان ثم تحويل المجرى ثم تفاصيل لا أذكرها (لست متأكدا من موضوعيتها)، وقلت للأستاذ إن الجميع يتكلمون عن مضاعفات التربة، والطمى، والتسميد وما إلى ذلك، لكننى أشير إلى ما لحق ببعض إخواننا النوبيين من آلام عايشتها كطبيب حتى تصورت أنها مثل آلام طرد وتهجير شعب فلسطين، صحيح أنهم مصريون وهم لا ينكرون ذلك، بل يعتزون به جدا على قدر علمى، لكن الصحيح أيضا أنهم بشر لهم أرض وتاريخ، ثم إنهم هُجِّروا من أجمل وأعرق مكان حيث الخضرة والماء والزرع والأمل والصيد والغناء والرقص، هَجـِّروا إلى ما يسمى – للأسف- بالنوبة الجديدة، وهى مكان قفر بين جبلين قرب نجع حمادى من أقسى وأغبى الجبال على حد ما سمعت وصفا للجو والحال العام، وقلت إننى من خلال مرضاى النوبيين قد أدركت يقينا أنهم أبناء حضارة عريقة هى امتداد طبيعى لحضارة المصريين، وقال أحد الحاضرين – لا أذكره- إنهم امتداد قدماء المصريين، فقلت له إننى لا أظن ذلك، فتقاطيعهم مختلفة، وروحهم مختلفة، ثم إننى أحبهم حبا خاصا لا أجد مثله عندى تجاه قدماء المصريين، قدماء المصريين هؤلاء – حتى لوكانوا أجدادي– يمثلون عندى قوة السلطة، وقهر الكهنوت، وصقل التكنولوجيا، وعناد الزمن، وحضارة السادة، أما النوبيون فهم جزء من الحياة الدائرة الدوارة، أتصور أن حضارتهم راقصة وبديعة، كما أنى أرى فيهم جمالا خاصا أجمل من الجمال المفروض علينا من الشمال، كان المرضى منهم يأتون إلىّ مليئون بالحيوة الدورية سواء كانوا حزانى أم يغمرهم فرط المرح أو فرط التوجس، ثم قلَّت أعدادهم ولم يعودوا يترددون علىّ، ربما لضيق ذات اليد، وكذلك لاحظت كيف تغير شكل المرض، أصبحت أراهم مهزومين من الداخل بشكل أو بآخر، ويبدو أن آلامهم كانت – ومازالت– فوق الطاقة ودون البوح، فأحيانا ما أسأل واحدا منهم عن تجربة التهجير هذه فينظر لى فى أسى ناطق ولا يجيب.
قلت للأستاذ أنه على ذكر قدماء المصريين أضيف أننى لا أرى ملامح قدماء المصريين فى أهل النوبة بل فى بعض أقباط الصعيد، أو من هم من أصل صعيدى، وقد كان لى زميل فى الثانوى فى مدرسة مصر الجديدة، أذكر أنه كان يتيم الأب والأم، مازلت أذكر اسمه مع أننى لم أره من أيامها، اسمه نبيل جورجى، كنت إذا نظرت إلى جانب وجهه (بروفيل) وكان يجلس بجوارى فى الفصل فى سنة ثالثة ثانوى: يخيل إلى أننى أنظر إلى وجه ورقبة نفرتيتى تماما
ويعقب الأستاذ أن لويس عوض كان يعاير الأستاذ وثلة الحرافيش بأنه شخصيا (وقبط مصر الحاليين) يمثلون أثرياء الأقباط الذين استطاعوا ورضوا أن يدفعوا الجزية فى سبيل احتفاظهم بدينهم، أما فقراء الأقباط فقد آثروا الإسلام حتى يعفوا من دفع الجزية، ولكن الأستاذ رد عليه قائلا: بل إن الأغنياء هم الذين يمالئون الغازى فى كل زمان، فيسترضونه، ويتبعون قوانينه، ويعتنقون دينه حتى يحتفظوا بممتلكاتهم وأرضهم، فنحن المسلمين أحفاد أغنياء الأقباط وعِلْيَتهم لا أنتم الأقباط، ويضحك الاستاذ ثم يردف أنه قال: وليس معنى ذلك أننا لسنا أيضا أحفاد المنافقين الممالئين فى نفس الوقت، ونضحك جميعا للذكريات وطيب الحوار.
بعد أن استأذنت، وقبل أن أغادر الجلسة تماما سمعت الأستاذ يسأل محمد يحيى عن قصيدة كان كتبها أو أشار إليها، وودت لو انتظرت لأعرف عن إبنى جانبا آخر من خلال الأستاذ، ولكننى خجلت أن أرجع، وأيضا تصورت أننى ربما أكون قد سمعت خطأ (لماذا هذا التصور؟ لا أعلم، فأنا لا أعرف أن ابنى يكتب الشعر أصلا)
الإثنين: 8/5/1995 (نوفوتيل المطار)
الأستاذ وحده مع محمد إبنى، والأمين المنوط بالحراسة جالس معهما على غير العادة، صامت لا يتدخل فى حديث أو يقوم بوظيفة آنية واضحة، لم يحضر أحد بعد، فقلت أنتهزها فرصة وأكمل حديث أمس، وسألت آلأستاذ إن كان يريد أن يسمع بعض شطحات تهانى يوم العيد التى كتبتها إلى مجهولين وبلغت 173 تهنئة، فرحب بطيبته المعهودة، وبدأت، وكلما قرأت عشرة أو عشرين “تهنئة” سألته إن كنت أتوقف أو أكمل فيقول: أكمل، ثم قاطعنى قائلا: هذا برنامج حزب سياسى وليس تهانى، وقد دهشت دهشة هائلة من هذا التعقيب الذكى الذى لم يخطر على بالى، والذى تأكدتْ من خلاله أزمتى التى يبدو أنها بغير نهاية، وهى خلط الخاص بالعام، وسألته مرة أخرى: هل أكمل حقيقةً؟ فقال: “نعم طبعا”،وكانت كل فقرة تبدأ بـ “كل عام وأنت، كل عام وأنتم”، فلما جاء النادل يسأل عن الطلبات، وكان طلب الأستاذ قهوة سادة كالمعتاد، قال مازحا: ”كل عام وهى هى القهوة” وفهمت القفشة الرقيقة وتوقفت عند حوالى النصف، وكان نعيم قد حضر، وإذا به يتصور من تعقيب الأستاذ الأول أنه برنامج حزب فعلا، وحين توقفت سأل أى حزب شاعرى هذا، فضحكنا وشرح له الأستاذ الحكاية (ملحوظة: بحثت عن هذه التهانى – برنامج الحزب السياسى– بين أوراقى الآن فلم أجدها 2010).
حكيت للأستاذ عن حكاية زوج عمتى الذى كان حشاشا ظريفا بلا عمل تقريبا، وكان والدى يغار منه خفية، ويهاجمه علانية، لكن شباب العائلة – وأنا منهم- كانوا يلتفون حوله لخفة ظله، ولما يمثله من ثورة لذيذة بديلة عن قهر بقية كبار العائلة، وكان من عادته فى العيد أن يقول: كل سنة وانت كده، فإذا احتج السامع شرح له الدعوة، بأنه، “اللى تعرفه أحسن من اللى ما تعرفوش”.
ويضحك الأستاذ ثانية
أحكى للأستاذ عن خبرين سمعتهما فى الإذاعة البريطانية عن شيخ الأزهر: الأول قضية رفعها المسئول عن الهيئة المصرية للدفاع عن حقوق الإنسان، يتهم فيها شيخ الأهر بإلحاق ضرر مادى به من خلال فتواه الخاصة بختان الإناث، وأنه قال إن الختان مثل الأذان، وأن وأن….، ويحتج المدعى أن كل هذا مستند إلى أحاديث ضعيفة، ويحتج بآراء الشيخ محمود شلتوت، والشيخ سيد سابق، والمفتى الشيخ طنطاوى، وأن النبى لم يختن بناته…إلخ، ويضيف الأستاذ كيف لم ينشر هذا فى صحفنا؟ فلا أعرف جوابا.
الخبر الثانى – من إذاعة لندن أيضا- هو أن شيخ الأزهر أيضا أصدر فتوى أن القدس مكان مدنس بالعدو، وبالتالى فإن من يزوره يكون آثما دينيا، هذا بالرغم من – أو ردا على – فتوى مفتى الديار الشيخ طنطاوى الذى أبدى استعداده أن يزور القدس أو إسرائيل لأنه صاحب حق، وصاحب كلمة حق، وعليه أن يقولها فى كل مكان يتاح له أن يقولها فيه حتى فى عقر دار العدو
ويدور حديث عن هذا الخلاف بين المفتى وشيخ الأزهر، وعن موقف السلطة منهما، ولا ينتهى النقاش إلى شىء محدد.
أما آخر ما نقلته للأستاذ عن إذاعة لندن- والتى يرجع فضل سماعها إلى إصرارى على عدم استخدام سائق، حيث أننى لا أستمع للراديو إلا فى السيارة، فهو تعليق خبير إنجليزى فى شئون الشرق الأوسط عن عدم تعيين نائب للرئيس حسنى مبارك، ولا أدخل فى التفاصيل إلا فيما يتعلق بقول هذا الخبير إنه لا يوجد الآن فى مصر، لا حاكما ولا محكوما، لا مؤيدا ولا معارضا من يوصف بأنه رجل سياسية فعلا، فمعظم من يتولى أمورنا هم من المكتبيين الإدرايين أو الفنيين المختصين، وأتعجب لهذه الإحاطة بأحوالنا أكثر منا بشكل أو بآخر.
وننصرف وأنا فى عجب متجدد من تنوع الأحاديث، وسرعة تنقلها، وصبر الأستاذ.
وأدعو له، ولمصر.
الحلقة التاسعة والخمسون
عن الغضب، والقهر، والتبيعة وحدود النشر والفن
الخميس ثانى أيام العيد
11/5/1995
كان موعد الحرافيش (بالإضافة إلى أشياء أخرى) سببا فى عودتى من الإسكندرية قاطعا إجازة العيد، أحمد مظهر مضرب عن النزول من السرير، (وليس فقط من البيت)، اعتذر فى آخر لحظة، كلّمته فى الهاتف فأصر على الاعتذار، قلت له أمرّ عليك بالمنزل فقال إنه يستطيع قيادة السيارة ولا توجد مشكلة فى ذلك، وإنما المشكلة فى النزول من السرير، هؤلاء الفنانون بحق!!، هؤلا ء الفنانون.!!!!!
ممتلئ أنا غيظا هذا اليوم من أخبار المعاهدة النووية التى وافقوا عليها بالإجماع دون تصويت، ومن الاستيلاء على أراضى القدس، أفهم أكثر فأكثر ما الذى يدفع بالشباب إلى القتل، لو عندى مدفع صاروخى أو قنبلة ذرية الآن لقتلتهم جميعا، من هؤلاء الـ “-هم”؟، هم كل من يبصق فى وجى استهانة واحتقارا: رابين وكلينتون ويلتسون (رغم تصريحاته العاجزة من موقع المتسول الذى يهدد بالصياح وسب الدين) وبيريز وناتانياهو وحسين، عبرت عن غيظى هذا للأستاذ وشاركنى بطريقته الهادئة، وذكّرت توفيق ونحن فى فورت جراند بتعبير العجوز فى فيلمه المخدوعون وهو يكرر “الموت أهون” “الموت أهون” وهم يجرون عليه عملية خصاء فى الأغلب لإنقاذ حياته بعد شظية أصابت أعضاء رجولته، نعم الموت أهون، واقترحت على الأستاذ أن نستسلم حتى يتضاعف الألم بشجاعة، فقال: “أكثر من هذا؟!!” ”نستسلم أكثر من هذا؟” قلت: نعم، إما أن نـَـقـْـتـُـل أو نستسلم، لم أعد أستطيع أن أمسح من على وجهى بصاقهم صباح مساء، مع كل إذاعة أخبار، ومع كل صدور صحف، “الاستسلام موت، والموت أهون”، قال الأستاذ: ألا ترى معى إننا لا نستأهل إلا ما هو نحن؟ لم يكن يلومنى أو يلومنا، كان ينبه إلى ضرورة تحمل مسئوليتنا، مهما كانت الضغوظ والمؤامرات والقهر والأكاذيب، قلت نعم، و سوف أذود عن كرامتى، كرامتنا، ولو بقيتُ وحدى تماما، لابد أن يفعلها كل واحد وحده طول الوقت، ومع ذلك فللغيظ مبرر، وله لغته وحيثياته، بل إننى ( مازلت أخاطب الأستاذ وتوفيق) حين شعرت بالإهانة فالعجز، تذكرت ما يغضب توفيق، قلت موجها كلامى له إننى أخشى أن يثبت أن كل هذه السلسلة من المصائب يمكن أن ترجع أصلا إلى هذا النظام العسكرى الذى بدأ بتحقيق أسطورة القومية من على الكراسى ومنابر الخطابة وليس من أرض الواقع والاقتصاد والتكافل، ثم استمر يسمى كل هزيمة نصرا من أول 1956 حتى هزيمة 1967 ، ثم راح يهدر فرصة إعلان الهزيمة مما كان يمكن أن يدفعنا إلى الألم، فالصبر، فالبدء فى بناء حقيقى نستحقه، وغالبا نقدر عليه، إن هزيمة شعب حى هى نفير صحيانه بشكل أو بآخر، نحن ندفع الثمن على أقساط سرية، أنا لا أستطيع – مع ذلك – أن أقول، أو أدعى أنه “وأنا مالي”، واقعنا الأمرّ يقول إن هذا النظام هو هو، وأن أسوأ ما افرزه هو أن بديله ألعن منه، ويوافقنى توفيق على الخطوط العريضة للجزء ألأخير من ناتج غضبى، لكنه ينبهنى إلى أنه حتى بدون هذه الانحرافة العسكرية التى قد تـُـعّزَى إليها ما صرنا إليه، فإن هؤلاء الذين توالوْا على رأس هذا النظام العسكرى الممتد من عبد الناصر إلى مبارك مرورا بالسادات ليسوا إلا تمثيلا حقيقيا لما نستأهله ونرضى به فى هذه المرحلة، ويضيف توفيق إن كل شيء جاهز ومعد لتنظيم المنطقة بأسرها وفق مصالح إسرائيل، يتابعنا الأستاذ دون تعليق، لكننى أطمئن إلى هزة رأسه ونحن (توفيق وأنا) نتناوب الجلوس بجوار أذنه اليسرى، أراقب هزات رأسه المختلفة الزاوية، فأوجه له الحديث مباشرة قائلا: إن ما يشغلنى الآن ليس الاستعمار العسكرى أو حتى الاستطيانى ولا حتى الإغارة الاقتصادية، بل إن ما يشغلنى هو ”السجن فى المنهج”، ذلك لأنهم يصدِّرون لنا بكل إلحاح منهجا قاصرا لا يسمح لنا بالتفكير المستقل، مجرد التفكير، نحن سجناء طريقة معينة فى فهم الأمور لا نستطيع أن نتحرك إلا باستعمال أبجديتها، فتكون النتيجة أن تضمر قدرتنا على المعرفة الأصيلة منتظرين السماح بالتحرك فى السنتيمتر من المنهج المتاح، فنمارس حتى نقدس الحروف والطريقة ونتجمد عندها طويلا حتى بعد أن يكونوا هم قد تخلوا عنها بعد أن ثبت فسادها، أو بعد انتهاء عمرها الافتراضى بمرور الزمن، وأضيف، وكأنى أخطب ناسيا نفسى: إننى على يقين أن الجريمة الحقيقية ليست فى استيلائهم على كذا مائة هكتار، وإنما على استيلائهم على كذا ”مساحة وعى”وكذا حق معرفة، وطالما نحن نعتبر أن العلم هو ما يقبلون نشره، وأن الزهو العلمى هو فى إثبات حضورنا تلك المؤتمرات السياحية التى يخدعوننا بها ويكذبون علينا ببريقها، ويعيّنون أكثرنا لمعانا على صدرها كنوع من المجاملة أو الديكور،،فالمصيبة أكثر من كل تصور، وتصلنى شفقة الاستاذ على مدى انفعالى، وربما هى التى حالت دون أن يعلق، مع أننى لمحت مثل ذلك داخله، من واقع ما سبق أن ناقشته فيه عن العلم والحضارة والمدنية والتاريخ، فلا أنكشه أكثر، ولا أسأله، ولا هو يتبرع بالتعليق. ويستغرب توفيق أن ما يعانى منه فى مؤتمرات السينما من حيث أغراضها وجوائزها وطبيعتها يسرى أيضا على المؤتمرات العلمية، فأؤكد له أن المصيبة فى المؤتمرات العلمية الطبية أخطر وأعمق، لأن المريض هو الضحية نتيجة لغسيل مخ الأطباء لخدمة النقود لا الصحة، وهنا يعقب الأستاذ أخيرا فيحكى كيف أن الدكتور حسين فوزى أراد أن يحجب جائزة عن كاتب جيد هو محمود البدوى، وأن الأستاذ نبهه أنه “لماذا يا حسين بك، إنه يستأهلها جدا فعلا، “فيرد الدكتور حسين فوزى قائلا”: قل لى كم مؤتمرا حضر؟ فرددت عليه قائلا (يكمل الأستاذ): ”هل حضور المؤتمرات سيزيد من قيمة عمله المحدد هذا الذى ارتقى إلى ما يستأهل التقييم بغض النظر حتى عن من هو صاحبه وأين ذهب؟ ومن قابل؟”
ويعود الحديث إلى الحوارات التى ينشرها سلماوى على لسان الأستاذ، وأسأله مرة أخرى: ألم يفكر فى أن يطلعه عليها قبل نشرها، فيقول – للمرة الكذا – لا أريد أن أعقد المسائل، فأشير إلى أن انتقاءات سلماوى تحتاج إلى مشاركة ولو من صديق أو مريد أو تلميذ آخر غير سلماوى وغيره هو إن كان مصرا أن يعزف عن ذلك، فيسألنى عن سبب فتح هذا الموضوع ثانية، فأقول إنه يتعلق بما نشر اليوم الخميس 11 مايو 1995، وكنت قد أحضرت الصحيفة معى، فيسأل: وماذا نشر، فأخرج الصحيفة وأنا أضيف أننى أخشى سطحية التلقى، وخطورة التعميم، وأننا فى هذه الظروف بالذات، ومع الاعتراف بما وصلنا إليه من كسل عقلى، وعجز عن النقد الموضوعى والانتقاء، اخشى أن يساء الفهم أكثر فأكثر، وأستأذنه أن اعيد عليه قراءة ما نشر اليوم، وأقرأ:
الأهرام 11 مايو 1995
حوارات نجيب محفوظ: المرأة فى حياتى
سألت نجيب محفوظ عن المرأة فى حياته وأدبه وما موقعها، فقال: فى الأدب هذا ملك الناس، أما فى حياتى، فالأمر يبدو على قدر من الخصوصية، لذلك لن أحدثك إلا فى العموميات، أما تقلبى فى القاهرة من قمتها إلى أسفلها، ومن أسفلها إلى قمتها، فقد جعلنى أعرف وأخابر النساء من جميع الأشكال والألوان: وأنا صغير عرفت العوالم، وكانت هناك صالات الملاهى مثل صالة بديعة وغيره حيث عرفنا الراقصات والمغنيات ومشينا فى شارع النساء من أوله إلى آخره بخيره وشره …….”
وتوقفت بعد إنهاء القراءة حيث كان الوقت قد حان للانتقال إلى منزل توفيق…..
حين وصلنا إلى بيت توفيق، استعاد اعتراضى، فذكرته له من جديد، فقال “لقد كنت أصغر إخوتى، وكانت أمى تصحبنى صبيا فى الأفراح دون حرج، فكنت أطلع على أحوال النساء والراقصات، وأجد أن ما يبدو من النساء أمام الرجال، أو فى المجتمع الأوسع غير ما يبدين إذا اختلين بأنفسهن فى عرس أو مع عالمة أو حتى فى جلسة أنس دون هذا أو ذاك، وقد خبرت أحوالهن من خلال هذه الفرص وأنا صغير”، قلت له إن الحديث فى الأهرام لم يظهر هذا أصلا، بل إن الإشارة إلى كازينو بديعة، وتعبيرات مثل ” من أسفل إلى أعلى”، و”كل النساء”، و”طريق النساء بخيره وشره”، كل ذلك لا يشير من قريب أو بعيد إلى هذه الشقاوة الصبيانية التى يحدثنا عنها الآن، وأنا ليس لى اعتراض على تاريخ أو خبرات، لكننى أنبه إلى ضرورة انتقاء ما ينشر على العامة وما لا ينشر، ليس هذا فقط، ولكننى أشير إلى التوقيت والطريقة: متى؟ وكيف؟ هذه هى القضية، هز رأسه وصمت بنفس الطيبة والسماح.
حضر جميل شفيق الليلة، وفرحنت به فهو مُقِلَّ وظريف معا، قال فور دخوله إنه تعمد الحضور قبل التهامنا كل الطعمية البيتى، وأيضا وهى بعدُ ساخنة، الصيف هل، وهذا هو أول اجتماع للحرافيش فى شرفة بيت توفيق التى تطل على النيل، بجوارنا منزل أنيس منصور، ومنزل بطرس غالى، والمنظر على كوبرى عباس من أجمل ما يمكن، والليلة ليلة 12 عربى، والقمر قارب الاكتمال، والجو برغم أنه مايو، عكس ما ألفنا، شديد الإنعاش.
تحدث جميل شفيق عن معرضه الأخير الذى يبدو أنه كان أحد أسباب غيابه عنا، وكيف أنه نقلة من الأبيض والأسود إلى الألوان، وكيف باع فى هذا المعرض لوحات بأثمان لم يكن يتصور أن الذوق المصرى سوف يتناسب مع هذه القدرة الشرائية لدرجة أن تباع اللوحات بهذه الأسعار، وقلت له إنه لو حتى كان من يقتنيها يفعل ذلك بنية التجارة، فإن هذا أيضا علامة جيدة على نهضة محتملة. حضر بهجت عثمان، عاد من بيروت مؤخرا ويبدو أنه لن يسافر ثانية قريبا، قلت الحمد لله حرفوشانزيادة، ولو نصف الليلة أحسن من ذى قبل، وتنوع الحديث عن شتورة، وتمثال باسل الأسد الذى سيقيمونه فيه، وخضوع حتى الرجل العادى لجرعة القهر السورى، ونصاحة السوريين (عملاء تيمور لنك من قديم!!وأن الصفقة مع إسرائيل تحاك فى الظلام إلى اخر هذا الكلام الذى تتبعه الأستاذ بشغف مستطلع وحذر مناسب.
ذكر بهجت عثمان تعليقا على كتاب أصدره رؤوف مسعد (أو سعد، لا أذكر) إسمه ”بيض النعام”، وتحدثوا عن علاقته بزوجة أحدهم، وكيف أن هذا الكتاب يحوى قصصا متفرقة أقرب إلى السيرة الذاتية كلها عن أجساد وعلاقات بلغ من تنوعها أنه عن علاقات بالمحرمات، وقلت للأستاذ إن هذه العلاقات أكثر تواترا بكثير فى الطبقة الدنيا عن ما يـُـنشر، أو يتصوره أبناء الطبقة المتوسطة أصلا، وعقب الأستاذ على مثل ذلك تعقيباً علميا مهما([10])
أثناء عودتنا إلى المنزل سألته إن كان بهجت عثمان فى سن توفيق؟ فأجاب ”تقريبا”، ثم أضاف: نعم حوالى اثنين وستين أو ثلاثة وستين، ثم أضاف أنه لا يعرف تحديداً لأن هؤلاء الفنانين ليسو موظفين يحالون إلى المعاش فيعرف سنهم، فأنبهه إلى أن توفيق سنه تسع وستين وأنه من مواليد 1926، فيتعجب ولا يصدق، فأؤكد له أنه هو الذى أخبرنى بذلك، فيتمتم ياخبر!! نظل أصدقاء طول هذا العمر، ولا أعرف حقيقة عمره، رأيت كيف؟
وأتساءل وما الحاجة إلى ذلك أصلا؟
الحلقة الستون
.. فأنتَ تريدنا أن نظل قرودا؟!
الجمعة: 12/5/1995
يسألنى الأستاذ هل سافروا بالسلامة؟ نحن فى بيتى، أسأله فى دهشة مـَن هؤلاء الذين سافروا؟ فيقول: ألم تقل لى أن ابنتك وأولادها سيسافرون اليوم، وكانت ابنتى التى تعمل مع زوجها مؤقتا فى السعودية تمضى العيد فى مصر، وكنت قد أخبرته أمس عـَـرَضا بأنها ستسافر اليوم، وفعلا أوصلتـُـها صباحا لكننى نسيت كل هذا وهو لم ينس، كان معه زكى سالم، و د. فتحى هاشم، وقلت لنفسى وللحضور وللأستاذ إن الاحتفاظ بالذاكرة – هكذا- رغم السن، ورغم تصلب الشرايين لا يرجع فقط إلى تماسك الفكرة المحورية ومرونة الدماغ الإبداعية كما ذكرت فى تقديمى لدراسة “أصداء السيرة الذاتية”، وإنما هأنذا أكتشف أنه يرجع إلى موقف له علاقة بحضور الناس فى وعيه بهذه الصورة الجميلة الحية، فلولا أن الأستاذ مهتم بى، وبما يشغلنى مثل ابنتى وسفرها، ما تذكر ما قلت له أمس، وهو أمر لا قد يبدو لأمثالنا أنه لا يهم، لكن حبه للناس وعنايته بالتفاصيل أمر آخر.
سألنى كيف تناولت الصحف مسألة الموافقة الإجماعية على المعاهدة النووية التى أشرنا إليها أمس فقلت له إننى لم أقرأ صحف هذا الصباح بعد، لكن زكى سالم أشار إلى أن الصحف كتبت تشيد بانتصار الدبلوماسية المصرية، وقال الأستاذ يا ساتر، ثم التفت إلىّ قائلا: لقد تخطوا تصورك أمس، وكان الأستاذ قد سألنى أمس كيف ستذيع علينا صحفنا نبأ هذا التراجع، فقلت له إن الإجماع جاء لأنهم لم يعرضوا التصويت أصلا، وبدلا من ذلك تركوا لكل دولة أن تبدى تحفظاتها الخاصة بطريقتها الخاصة (دون إلزام) ([11])، قلت أيضا للأستاذ إننا لم نتعلم، ومازلنا نحذق كيف نسمى الهزيمة انتصارا، قال متألما إن الواحد منا قارب أن يحب الكذب، ويقول محمد يحيى الذى لحق بنا فى الجلسة “إنها مسألة محسومة من البداية، وسواء وقّعنا أو لم نوقع، تحفّظنا أم لم نتحفظ، فإن الأمر لم يعد يَحتمل أى شىء إلا أن نواجه مصيرنا، ونحمل قدرنا ونمضى، المطلوب فقط هو أن نكف عن الكذب على أنفسنا، إن الملك حسين يفعلها عينى عينك، وهو يعلن فى الصباح أن هذا الإجراء “قد يعكر صفو العلاقات بينه وبين إسرائيل”، ولكنه فى المساء سرعان ما يوقع على ثلاثة اتفاقات: اقتصادية، وسياحية، وإعلامية، وهو لا يكذب فى هذا أو ذاك، أما هذا الرقص على السلم فهو أمر شديد الخطورة وخيم العواقب، ويجرنا هذا الألم المتحدى إلى الحديث عن المستقبل، وما يحضّرونه لنا من برامج كمبيوتر لتشكيل الوعى وتأكيد الاعتمادية (مما سبق الإشارة إليه) ويثور نقاش قديم حول استحالة مقاومة التقدم وفى نفس الوقت ضرورة الوعى بمخاطر الاستسلام للتقليد الغبى أو التنفيذ الأعمى، وأنه لا سبيل لنا إلا أن نتقن الأداة لنرى هل نحن نستحقها أم لا؟ ثم هل نحن قادرون على استيعاب معطياتها والإضافة إليها أو إبدالها أم لا؟ ثم هل نحن قادرون على توجيه وجهتها أم لا؟ وعلى قدر جهدنا فى حل هذه المعادلات الصعبة يكون حقنا فى الوجود بغض النظر عن حواديت القدس والمعاهدة النووية، ويتحمس المهندس قـَـدرْى (أدريان: حضر أيضا مؤخرا) لشرح مزايا التكنولوجيا، ومفكرة الجيب الرقمية، وبرامج السكرتارية المتنقلة وما إلى ذلك، وأقول للأستاذ إننى رغم حاجتى الشديدة لمثل ذلك رفضت حتى الآن أن أستعمل هذه الذاكرة المساعدة، لأننى فضلت أن أترك لطبقات وعيى أن تنتقى لذاكرتى الأهم فالمهم، ذلك أن عندى فكرة تقول إن ما أنساه – حتى الآن – هو فعلا الخليق بالنسيان، والخشية كل الخشية هو أن يجرنا غرورنا إلى استبدال القدرات البشرية بالوسائل الأسهل متصورين أن فى هذا توفير للوقت وشحذ للتسجيل، إلا أن ذلك قد يؤدى بنا إلى ”ضمور عدم الاستعمال”، مثلما ضمر ذيل القرد حين لم يعد يستعمله – فى نقلته إلى الإنسان- للتشعلق بالأشجار والانتقال بينها، فأصبح وجودا رمزيا أثريا فى نهاية عمودنا الفقرى، ويقول الأستاذ، “فأنت تريدنا أن نظل قرودا”، وتبدو لى القفشة فى منتهى الذكاء، لكننى أمضى مدافعا عن رأيى زاعما أننى أتصور إمكانية أن يساهم وعينا ورؤيتنا فى الحفاظ على ما هو إنسان فينا، والتنازل عن زوائد الوعى، وأوهام الذكاء الظاهر، وألعاب الشطارة، وعلينا أن نظل نمسك عجلة القيادة لندير بها كل ما يقدمه الكمبيوتر من موسوعات جاهزة توفر على الإنسان الوقت والجهد إذْ تزوّده بكل ما يحتاج من معلومات فى عـُـشر معشار الوقت الذى كان يقضيه فى البحث والتقصى، لكن الانبهار وصل بحماس ”قدرى” للتكنولوجيا المعلوماتية الحديثة أن قال “إن الواحد يستطيع أن يلم بكل أعمال نجيب محفوظ فى أسبوعين، ولم أفهم ماذا يعنى، ولم أستطع السكوت لدرجة أننى أذكر أننى قاطعته، فمن ناحية أكدت أن قراءة الأستاذ – أو ديستويفسكي- كما ينبغى مرة فمرات تحتاج إلى تفرغ سنوات على الأقل، ثم إننى لا أعرف ماذا يقصد بتعبير “يلم بـ..”، ,ان ما يصل الوعى بطبقاته لا يصح أن يقتصر على المعلومات المتجاورة، بل ينبغى أن يتجاوز ذلك إلى خلفية الشكل التى يمكن أن تصله عبر طبقات وعى على مسافات مختلفة كل مرة، وأننى جربت أن أعيد نقد ما سبق لى أن نقدته لبعض أعمال الأستاذ حين كنت منبهرا بتخصصى مثل السراب أو الشحاذ، فإذا بى أكتشف فيها أبعادا أخرى وأخرى، وأنقد نقدى وأعيد بعضه، وأضفت أن التلقى هو شىء آخر غير مجرد جمع المعلومات، فما بالك بالتلقى الناقد، وكل تلق لا بد أن يكون ناقدا بشكل أو بآخر، وأن كلية التلقى على مستويات متصاعدة وغائرة ومتداخلة يعجز عنها أى كيان ميكنى مصنوع بالمقارنة بقدرات الوعى البشرى المباشرة، كان الاستاذ يتابعنى وأنا متحمس، وتزداد زاوية ميل رأسه على صدره ونحوى، فأتشجع وأواصل، وأشير إلى الأطروحة التى قدمتها فى الجمعية المصرية للنقد الأدبى، التى كنت أحد أعضاء مجلس إدارتها يوما بفضل تزكية أ.د. عز الدين إسماعيل، وأن الأطروحة كانت بعنوان “القارئ العادى ناقدا”، وأن معظم الحاضرين من النقاد الثقات اعترضوا على الفكرة، وأننى تعجبت لذلك، فقد كنت أتصور أنهم سوف يرحبون بها، ولكن يبدو أنهم مثل الأطباء يفضلون أن يحتكروا التخصص، مثلما يفضل الأطباء أن يحتكروا العلاج، ويلتقط الأستاذ التشبيه، ويضحك عاليا.
ويقترح قدرى أن تخصص قناة ثقافية فى التليفزيون ردا على الردة التجهيلية والقهرية التى تسود المجتمع الآن، ويوافق الأستاذ على ذلك، ويتحمس له، ويذكر أن الوضع الحالى لا يغرى أحداً بالنهل من الموارد الثقافية المتاحة، ويضيف أنه لو تم ذلك، فإنه يأمل أن المادة التى تقدمها تلك القناة تكون متنوعة وجاذبة، وأقول للأستاذ إننى حين اخـْـتـُرت عضوا فى لجنة عليا إستشارية للإذاعة، وكان فهمى عمر يرأسها منذ سنوات طويلة، كان الاقتراح الذى قدمتـُه شديد البساطة، وهو أن يذاع البرنامج الثانى على موجة صوت العرب، دون تغيير حرف فيه، ذلك أن الذى يجمعنا، ومازال يمكن أن يجمع العرب من بُعدٍ أبْقى ليس السياسة ولا الحرب، بل الثقافة والإعلام، حتى المسلسلات التى نقول عنها عادة إنها تافهة (ما زلنا سنة 1995) هى تقوم بدور قومى ربما أهم من دور الجامعة العربية، ويتفق الأستاذ معى، ويقول إن موجة صوت العرب تصل إلى العالم العربى كله، والعرب حريصون كل الحرص أن يعرفوا ماذا يدور بعقل المصريين خاصة، وأن الانتشار خليق بأن يخلق جمهورا جديدا من خلال التعود والتشويق، فينبه قدرى إلى أن التسويق الآن، بما فى ذلك تسويق الثقافة، وأيضا تسويق غسيل المخ وتشكيل االوعى الزائف، وهو الوجه الآخر للاستعمال السلبى لنفس التقنية (وهو ما تخططه إسرائيل حاليا كما أتصور) لم يعد يكتفى بدراسة حاجات الناس ليستجيب لها بمنتجات مناسبة، وإنما هو يرسم الخطط لخلق حاجات مناسبة ليبرر تسويق المنتج، بل لخلق غرائز استهلاكية جديدة، وبرامج بيولجية تابعة، وأضيف أنا: إن من أوجب الواجب هو الانتباه ألا يتحول الإنسان بذلك إلى كائن له “غرائز زائفة”، وبالتالى يعيش بقدرات زائفة، قد تسرع به نحو الانقراض، هذه الغرائز الجديدة إذا لم تكن بقائية تطورية أعمق فإنها تصبح خطرا على نوعية الحياة بل هى خطر على الكيان البشرى ذاته لأنها لم تنبع تلقائيا من احتياجاته البقائية للتكيف مع أفراد نوعه، والأنواع الأخرى، فى رحاب التناغم مع الطبيعة وحركية الأكوان، إن الغرائز الجديدة تشكـَّـلُ تشكيلا لخدمة السوق ورأس المال، ثم ألتفتُّ إلى الأستاذ قائلا دون الشعور بالخجل من التكرار: إن المحنة التى تؤرقنى الآن هى احتمال تعرض الكائن الشرى المعاصر للانقراض أسرع من كل تصور، ذلك أن التدخل فى تشكيل وعى البشر بما ليس بيولوجيا تفرضه آليات وبرامج التطور عبر الزمن، أى التدخل فى تصنيع غرائز الإنسان بهدف التسويق والرفاهية مثلا، سوف يتخلق منه على المدى الطويل كائن شاذ لم يتشكل نتيجة قوانين البقاء الحقيقية، وإنما صنعت له أطراف وعى صناعية رغم وجود أطرافه الطبيعية، فيتصادم هذا مع ذاك، فينكفئ، فيتوقف نموه ولا يعود يصلح للبقاء، فهو الانقراض، ويقول الأستاذ هذا وارد ويضرب مثلا بإنسان ترندال، وإنسان (…..) لا أذكر الاسم لكنه ذكره، ربنا يخليه!!!
ويظل التساؤل ملحا: إذن ماذا نصنع؟
فأكرر اقتراحا كنت قد اقترحته أمس، وهو أن نبدأ بسحب نقودنا (كل العرب، والمسلمين إن أمكن) من بنوكهم، فيقول محمد يحيى لن يسمحوا لنا، وتذكرت فكرة مصادرة الأرصدة، وحكاية حكاها توفيق أمس حين طلبت السعودية ثمانية مليارات من أرصدتها فى بنوكهم وردوا بأنه لا توجد سيولة، كذلك تذكرت غرابة شكر السيدة بنازير بوتو للسيد كلينتون على أنه رد لها نقودا كانت باكستان قد دفعتها لصفقة أسلحة لم تتم، وكأنه كان من الممكن – تحت عنوان حفظ السلام، وربما خوفا على أخلاق السيدة بنازير!!!- أن يأخذ كلينتون الفلوس ولا يعطى أسلحة، يبدو أن الأمور فعلا تخرج من أيدى التابعين أمثالنا، بل إن ما يسمى النظام العالمى الجديد الذى بدا أمريكيا فى أول الأمر، يبدو أنه نظام سرى مجهول، وحادث التفجير فى أوكلاهوما([12]) كشف عن بعض أمريكيى الولايات الأمريكية الذين ينظرون إلى الحكومة الفيدرالية باعتبارها القاهر فوق عباده، والكلام الآن هو على سيطرة اليهود والزنوج على الشعب الأمريكى، وإذا سمحنا لأنفسنا بالتمادى فى التفسير التآمرى، فإن المسألة قد تصل إلى اكتشاف أن اليهود (أو قل الصهاينة عبر العالم) يكوّنون فعلا حكومة سرية تحكم العالم بما فى ذلك أمريكا، وأقول للأستاذ أن يسامحنى إذا أنا أعدت النظر فى مسألة هتلر ورفضت أن أتصوره مجرد عنصرى مجنون منذ البداية، إذ يبدو أنه لم يبدأ كذلك، وفى كتابه “كفاحى”، أو بتعبير أدق فيما تبقى بين أيدينا من كتابه “كفاحى” تظهر ميوله الإنسانية فى البداية، ثم إننى أتصور أنه اكتشف حقيقة من يدير النظام العالمى أيامها، واكتشف أنهم هؤلاء اليهود الماليون المنعزلون عن باقى الناس، إذ أنهم لا انتماء لهم إلا لأنفسهم وضلالات تاريخهم، فوجد أنه لا صلاح لهم، ولا أمل فيهم فبدأت فكرة التخلص منهم (الذى لم يحدث بشكل خاص بهم كما يصورونه مهما ادعوا، وثمة هامش([13]) سبق أن استشهدت به من كتاب علاج نفسى كتبه فرانكل وهو يهودى، يثبت ذلك)، ويؤكد هذا الفرض قدرى (ممثل البيزينس فى الحضور)، وأن تحويل مائة دولار من بنك إلى بنك آخر لا بد أن يمر على مكتب للمقاصة مركزه فى نيويورك ويسيطر عليه اليهود فعلا، ويعترض محمد يحيى على دفاعى عن هتلر، فأصمم أننى لا أدافع عنه، وإنما أنا أتقمص بداياته لأفهمه، ثم ألفظه مثلما ألفظ أى غبى قوى لم يستطع أن يحافظ على الاتجاه، أو أن يراجع خطواته، فانزَلـَـقَ ودفعت البشرية (لا اليهود وحدهم) الثمن.
ويعود الحديث عن اقتراحى بسحب الأموال، فأمزح مع الأستاذ قائلا: علينا أن نضحك عليهم ونسحبها جزءا جزءا، فيدعى أى حاكم أو ملك أنه معذور وأنه يجهز ابنته مثلا، وأنه يريد أن يسحب كذا، ثم كذا، وهكذا، حتى يكتشفوا الأمر وخاصة وأن ذلك سوف يصاحبه أن نكف عن الإيداع، فيضحك الأستاذ ويقول: إن على أثرياء العرب أن ينجبوا بناتا كثيرات حتى تتم سحب الأرصة، فيعترض محمد يحيى على الفكرة، وليس على النكتة، كالعادة، ثم يسألنى وماذا سنصنع بهذه الأموال المتراكمة، فأقول نبنى بها المصانع ونزرع الصحراء، ونشغل الأولاد ونصدر إليهم وإلى غيرهم، فيسألنى الأستاذ إذن سيأخذونها ثانية لأنهم هم الذين سيبنون لنا المصانع أو على الأقل سوف نشترى منهم الآلات، وأقول إن هذا أفضل من أن نشترى المنتجات، وأذكر أن هذا الفكر الطفلى هو هو أساس الاشتراكية والشيوعية فى صورتها النقية، وبرغم أنه فشل فى التطبيق فشلا ذريعا، ولكن ليس معنى فشله أنه فكر خاطئ، وإنما الفشل يعنى أن التطبيق كان محدودا وقاصرا وخائبا لأن الجرعة لم تضبط، والتوقيت لم يحسب، ثم إنه كان فكرا قزما لم يضع فى اعتباره الامتداد البشرى فى “المابعد”، الصورة المحورة التى أقترحها لا بد أن تستعمل جوهر الدين لصالحها، ومن حقى أن أشطح أو أحلم أن يصدر شيخ الأزهر، أو حتى الشيخ بن باز، فتوى تقول إن أى مسلم يضع قروشه فى بنوك النظام العالمى الجديد هو آثم، وأمواله حرام ولا يحق له صرف أى درهم منها، هذا بدلا من الفتاوى التى ترف علينا عن السلام الذى لا بد أن نجنح له، ما داموا هم قد “جنحوا للسلم”، ولا هم جنحوا ولا يحزنون.
ثم أرجع لأوضح موقفى، وأننى أعترف باستحالة مقاومة التقدم، أو التنافس الغبى مع معطيات التكنولوجيا، لكننى أضيف – لقدرى خاصة – أن ما توفره التكنولوجيا من وقت للفرد ينبغى أن يوضع فى مكانه، فقد تـُوفر الوقت تلو الوقت ليملؤوه هم بمعرفتهم أيضا، حتى نصل فى النهاية إلى أن يكون الوقت سلعة إستهلاكية أيضا تخدم التغييب وهى تدور حول نفسها لتحقق ذاتها دون أن يصب عائدها فى وعى البشر ليصبحوا أكثر إنسانية وأقرب إلى ما خلقهم الله عليه، ما لم يوجد مجال صحى محيط يوجه الوقت والمال إلى استخدامهما المناسب لصالح الفرد، فالجميع، فإن كل الوسائل الهادفة إلى زيادة أحدهما أو كليهما هى وسائل خادعة ومضللة بما فى ذلك التكنولوجيا،… فهل نستطيع بالاستعانة بإلهامات لغتنا وتراثنا وإيماننا أن نحافظ على فطرتنا التى خلقها الله، بل وأن ننميها بما خلقنا نحن أنفسنا؟ هذه قضية التحدى البشرى الحقيقى عبر التاريخ، وقد تركزتْ وتضخمتْ حاليا بشكل أكثر حدة وتحديا نتيجة للقفزات العملاقة للتكنولوجيا، فهل من سبيل إلى حل المعادلة الصعبة؟ فيقول محمد يحيى إنه يتصور أن فرنسا قد نجحت بشكل ما فى حل هذه المعادلة الصعبة ولو حلا جزئيا، فمن ناحية هى تمارس أعلى درجات الإنجاز بفضل الاستعمال العصرى للتكنولوجيا، ومن ناحية أخرى هى تحافظ على العلاقة بالطبيعة واستثمار الوقت إنسانيا (بالفن والخروج للطبيعة وفرص الدفء البشرى والحرية والحوار!!) بأعلى درجة ممكنة، وأوافقه نسبيا من حيث المبدأ فى حدود معايشتى لما هو فرنسا سنة 1968-1969، إلا أننى أنبه أن فرنسا الآن تعانى من الإغارة الأمريكية، أو السوبر أمريكية (النظام العالمى الأمريكى الجديد) مثما نعانى، وأن العمارة والذوق العام الفرنسى واللغة الفرنسية، يتخذون موقفا دفاعيا ضد كل هذا، ولا أعرف هل ينتصرون أم لا. فينتقل النقاش إلى النموذج اليابانى الذى يجعل العامل اليابانى، رغم ضخامة الإنجاز وسطوة الين وعملقة التكنولوجيا، يجعله ينتحر إذا قصر فى عمله، ويحكى محمد وآخرون كيف أن العامل اليابانى يعمل عشر ساعات ويسكر أربع ساعات وينام سبع ساعات وتتبقى له ثلاثة ساعات فقط كل يوم، ويبدو هذا جليا فى التفكك الأسرى فى اليابان من ناحية، والجفاف الوجدانى- رغم ارتفاع ثمن الرموز الجمالية([14]) ويبدو التحفظ على النموذج اليابانى الكمّى الميكنى. ولكننى أتذكر الروايتين اليابانيتين اللتين أشرت إليهما سالفا، وحدثت الأستاذ عنهما، “اعترافات قناع”، و”هموم شخصية”، وأقول للأستاذ إننا لسنا فى موقع الحكم على التقدم اليابنى، ولا على الروح اليابانى، ولا على الأدب اليابانى، ولكن دعنى أقول لك إن ما تبقى من انطباعى من هاتين الروايتين (وهو حكم غير قابل للتعميم طبعا) هو أننى شعرت أن مثل هذا المبدع اليابانى قادر على أن يعرى أجزاء متفرقة من الكيان (والجسد) البشرى بشكل شديد الغور شديد الروعة، لكنها تظل أجزاء متفرقة مهما حاول ربطها بخيط من صلب الإبداع لا ينفصم، فهل يا ترى هذا هو حال اليابان التى استطاعت أن تصل إلى أعلى إنجازات التكنولوجيا والإنتاج، لكن فى مواقع متفرقة لا يربطها محور حضارى ضامّ يصلح لإنقاذها وإنقاذ العصر بما يناسب كل هذا الإنجاز التقنى والكمي؟ وأعتذر للأستاذ لذكر هذه الانطباعات بشكل يوحى بتعميم مخل، فيقول: فعلا لا نستطيع أن نعمم حتى نعرف أكثر
ويذكر يوسف عزب متألما منظر جثث عدد من الناس بالقرب من مكتبه فى الألف مسكن، (منظر ربما له علاقة بهجمة أمنية ضد خلية إرهابية لست أذكر تحديدا) وكيف أنه سمع فى نفس الوقت عن مقتل عدد من الناس فى المنيا فى نفس اليوم، فيتألم الأستاذ ويقول: كلما تصورنا أن الحكاية خلاص نفاجأ بأخبار جديدة محزنة، ويثور يوسف قائلا إن الحكومة زودتها بهذا القتل العشوائى، فيرد محمد يحيى إنها الحرب، ولا سبيل فى الحرب إلا بمثل هذا، فيقول يوسف لتكن الحكومة شجاعة وتعلن أنها الحرب، لا بد من شجاعة الإعلان عن طبيعة ما يجرى ونسميها حربا بدلا من هذه الادعاءات وتصوير الأمر للناس أنه مجرد اختراق للقانون، فيعقب أحدهم (لا أذكره): إنه من الأفضل أن يظل التعامل مع هذه الأحداث على أنها جرائم فى أيدى القضاء، الذى من حقه أن يتعاطف معهم أحيانا لو وجد المبرر القانونى لذلك، ويثور د. فتحى هاشم ضد فكرة التعاطف مع القتلة، ويقول لزكى – الذى يبدو أنه أيد هذا الرأى بشكل أو بآخر، يقول د. فتحى: إنه لو أنه رأى هؤلاء الناس فى الشارع فهو لا يعرف ماذا سوف يكون شعوره أو تصرفه إزاءهم، وأتصور أن انفعال فتحى نابع، ولو جزئيا، مما رسب فى وعيه وهو جالس بجوار الأستاذ يوم الحادث والوغد القاتل يغرز السكين فى رقبته، وأشعر للمرة الكذا بالامتنان له، فهو – بفضل الله – الذى أتاح لنا هذا الوقت وهذه الفرصة وهذه السنين مع الأستاذ، ويعود الحديث عن الرأى الذى يفضل التعامل مع الظاهرة بلغة الحرب، وأن البديل لذلك هو التسليم التدريجى لهم، وبالتالى احتمال توليهم السلطة قسرا ثم يقومون بدورهم بقتل لا عشرات أو مئات بل ملايين تحت زعم تطبيق الشريعة وحد الحرابة وما إلى ذلك، ثم إن المصيبة هى أن النظام الذى يواجههم هكذا هو نظام عسكرى مثلهم، فقط هو أخف وأقل استنادا إلى أيديولوجية لاهوتية تنبع من تفسيرهم لنصوص دينية مقدسة، ونعود إلى الأستاذ، فأتأكد من قوة وثبات موقفه الذى لا يلين فيقول: إنه إذا كان لا بد من المغامرة فلنخضْها، وليكن ما يكون، وأقول إن الملك حسين خاضها ليس إلى درجة تولى الحكم، ولكنه لعبها بذكاء “هاشمي” على مستوى مجلس الشعب، فكشفهم فانفض الناس عنهم، ونسأل الأستاذ ما العمل: هل نقبل بحرب العصابات هذه بين دولة لم تعلن الحرب وجماعات تدعى حقا لن تعطيه لأحد حين تتولى؟ أم نرضى بأن نكون دولة لها قيمها المعلنة التى لا تتغير حتى لو عرضتها هذه القيم لمخاطر إنقلابية لا نعرف لها حدودا؟ فيقول الأستاذ دون تردد: أنا مع هذه الدولة طبعا وليكن ما يكون.
وأرى أن الأمور تدور حول نفس المنطقة القديمة مضافا إليها آلام قتل الأبرياء ومخاوف قهر قادم أقسى من قهر قائم، أشعر أن الجرعة أصبحت معادة وثقيلة، فأحاول أن أخفف عن الأستاذ بأن أعيد عليه ملاحظة كاريكاتيرية فكهة كنت أتبادلها مع زكى سالم، فقد قابلنا محمد عبد القدوس فى فندق فورت جراند أمس، وكان جميل الطلعة مشرق الوجه، وذكرناه جميعا بخير، وقلت لزكى، وهأنذا أعيد على الأستاذ: إن عيبه الوحيد هو محاولاته لكتابة قصص (إسلامية)، وقلت للأستاذ (ماقلته لزكى قبلا على ما أذكر) سأحكى لك بإيجاز قصتين من قصص محمد إحسان بشكل كاركاتيرى، فضحك ابتداء، ثم قطع الضحكة، وحسبت فيما بعد أنه تذكر إحسان، قلت:
القصة الأولى: “أن رجلا قابل سيدة طيبة فقال: لها صلى على النبى، فقالت عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام فأحبها وأحبته من بعيد لبعيد، ثم افترقا، وتألما واستغفرا وأكمل كل طريقه”، ويسكت الأستاذ لحظة انتظارا أن أكمل، فأقول له إن القصة انتهت، فيضحك فى طيبة، ثم يردف: يا شيخ حرام عليك، فأمضى قائلا: إذن فإليك قصة أكثر تعقيدا وحبكة: ”كان ثم رجلان، أحدهما سارع بإخراج الزكاة، أما الآخر فتلكأ وتردد، ثم غار من الأول فأخرج زكاته بدوره، وتزوج الأول امرأة سمراء تحبه، أما الثانى فتزوج امرأة بيضاء أحبته بعد الزواج أكثر من حبها له أيام الخطبة، ودخل الجميع الجنة بعد أن غفر الله لهم كل اللمم”، وأسرعتُ قائلا : انتهت القصة قبل أن يسألنى أن أكمل.
ويضحك الأستاذ من جديد ، لكن ضحته تلكزنى رفضا للسخرية “وأنه ليس هكذا”
وينصرف الأستاذ متأخرا قليلا، ويلتفت وهو خارج فأتصور أنه نسى شيئا، لكنه ينظر فى اتجاه قدرى، ولا أعرف كيف التقطه، ويوصيه بالتمسك بالتكنولوجيا، ثم يضيف: ”ولا يهمك”.
تصبح على خير يا شيخنا الطيب.
الحلقة الواحد والستون
خلافٌ قوى دافىء لاذع!
الثلاثاء: 16/5/1995
أوحشنى هذا الرجل، قلت أمر عليه قبل ذهابه إلى فرح بوت، وجدته جالسا بجوار التسجيل يستمع إلى المصحف المرتل، سألته هل يستطيع أن يتابع؟ لم يرد، وأنا أعرف قوة سمعه، وجهه ملئ بالبشر، أنا أتصور أن هذا الرجل يصله القرآن الكريم “هكذا” دون أن يلتقط نصّ الكلمات
بعد التعبير عن الوحشة المتبادلة، تابعت سؤاله عن الواجب المنزلى للتدريب على الكتابة، وطمأننى إلى أن كل الأمور تسير “تمام التمام”. كان قد حكى لى عن ألمه من ”التلييف” أثناء الاستحمام، ثم سألنى: هل أتحمل أكثر؟ أنا مستعد أن أزيد الجرعة لو كان ذلك مفيدا، ضحكت وقلت له هذا يتناسب مع كم القذارة المراد إزالتها، وضحك جدا، فتجرأت وحكيت له نكتة قديمة أيام أزمة الصابون حين قيل أنه كان مطلوبا لشراء صابونه أن يثبت طالب ذلك أنه “يستحق ذلك” بشهادة شاهدين شموا رائحته…الخ.
وعقب الأستاذ قائلا: لا بد وأنهم كانوا يستعبطون سعيا إلى زيادة رواتبهم نظير أن يشحذوا قدراتهم على الشَّـم حتى تستطيع تمييز كم القذارة التى تستأهل السماح بقطعة صابون دون حاجة لشهادة الشهود وإرباك حركة الجمعية،
وضحكنا.
سألنى عن غيابى فى الأيام الفائته، قلت له إن ما منعنى هو مقابلة متكرره مع واحدة خوجاية إسمها صوفى تعمل مع د. صبرى حافظ، كانت تناقشنى فى إنهاء الترجمة إلى الإنجليزية التى أقوم بها لنقدى لملحمة الحرافيش، بعد أن تحفظتُ على ترجمتها، واقترحت عليها وعلى أ.د. صبرى أن أقوم أنا بالترجمة على أن تقوم هى بإعادة التحرير، وأننى قابلتها واعترفت لها أننى لم أستطع أن أترجم النقد كما أحب، وكما وعدت د.صبرى، وأن كل ما استطعت أن أعمله هو أن أعدل بعض العبارات التى قامت هى بترجمتها، وأن أصحح البعض الآخر، ثم أنتهز فرصة طلب د. حافظ اختصارها فأحذف المختلف حوله، والذى لم يخدم الفكرة المحورية لنقد النص، ولم ننته إلى شىء يمكن أن يفيد إتمام الترجمة. ثم إننى أضفت شرح نتاج خبرتى هذه للأستاذ قائلا إننى استفدت فوائد شتى: فمن ناحية أدركت روعة وصعوبة الترجمة، ومن ناحية أخرى زاد يقينى بتفرد وقوة وعمق وإحاطة اللغة العربية، ومن ناحية ثالثة أعجبت بمقالتى (بحثى/أطروحتى) هذه (دون غرور والله!، أو ربما بغرور)، ذلك أننى نادرا ما أضطر لقراءة عمل سبق أن كتبته، وامتد الإعجاب أكثر وأعمق إلى العمل الأصلى غير المسبوق الذى أتاح فرصة هذا النقد، وسألت الأستاذ إن كان قد قرأ بعض أعماله بعد إتمامها فقال : “نادرا”، ثم صمت قليلا ثم أردف “أبدا”، قلت له إنك لو قرأت الحرافيش لروائى اسمه نجيب محفوظ، فسوف تسر منه سرورا شديدا، وسوف تدعو له بالتوفيق
فضحك
أضفت، سوف تقول: ” يارب خلّينى”،
فضحك أعلى
واستأذنت منصرفا
الخميس (الحرافيش): 18/5/1995
… أحمد مظهر معنا اليوم، هذا طيب، ولو نصف الوقت، مررت عليه أولا، مظهر يحافظ على طفولته بشكل واضح برغم المصاعب الصحية، مازال طفلا جميلا، تكلمنا فى السيارة عن الساعة التى تقيس ضغط الدم ونصحته ألا يستعلمها فهى تخلق وسواسا بشعا ألعن من الضغط نفسه، وتكلمنا عن استعمال الأدوية عموما، ومضادات الألم خصوصا، واستغربت أنه وافقنى جزئيا على فكرة فائدة الألم للجسد والنفس وقاية، ثم سألنى عن رأيى فى البرامج الطبية التى تذيعها وسائل الإعلام، وتحفظت عليها، وقلت إن كثيرا منها هو تحصيل حاصل، والبعض دعاية، والبعض ترويج لـ، أو خدعة بـ بعض الأدوية التى تسوّقها شركات الأدوية لملاعبة أوهام الناس، وقلت إن الطب القديم كان يقف بجوار المريض، وبجوار الطبيعة معا، وكانت وظيفته الأساسية هى أن يعطى فرصة للجسم أن يستعيد توازنه، ومقاومته، وأن الطب الحديث على روعة فوائده، ينبغى أن يضاف إلى ذلك لا أن يحل محله، فسألنى مظهر عن أدوية تنقيص الكوليسترول، فقلت إن هذه هى إحدى ألاعيب الشركات، فحتى تجنب أكل الكوليسترول لا يفيد كثيرا كما هو شائع لأن التمثيل الغذائى يضبط إيقاعه بطريقة تحتاج إلى ميكانزمات حيوية معقدة، وأننا نحتاج إلى فهم أحسن لطبيعة الإنسان، وأضفت أن الأستاذ منع نفسه عن ”الكرواسوون” إلا واحدة فى الشهر، وحين استشرنا أ.د. علاء الزيات ابن صديقه سمح له بواحدة مرة كل يوم، وهو الآن (كما ذكر لى لاحقا) يأخذ واحدة كل أسبوع برغم هذا السماح، وقال مظهر “لماذا؟ مع إن الكرواسون لذيذ وعملى”، قلت له: “لذيذ نعم”، ولكن ماذا تقصد بكلمة عملى؟ ”قال يعنى كرواسوناية وكوب قهوة باللبن وهُبْ هُبْ خلاص فِطرت”، وكدت أصدقه لأنه قالها وهو يحسم الأمر بحركات يديه وذراعيه وكأنه يلعب الشيش برشاقة تنهى الجوْلة بلمسة حاسمة، لكننى اكتشفت فجأة أنه لو أدى نفس الحركات وهو يصف أى شىء لوصلتنى صفة العملية بنفس الحسم، وقلت له: يا أخى خدعتنى، ماذا لو قلت نفس الجملة واستبدلت بكلمة “كرواسوناية” ”قرقوشاية”، أو ”بقسماطاية”، وكوب شاى باللبن – كامل الدسم، وهُبْ هُبْ خلاص، ألا تصل إلى نفس النتيجة”؟
وسمعنا الأستاذ، وضـَـحـِـكــْـنا، وهو يضحك معنا
يُصر مظهر – مثلنا – أن يدخل معى ومع توفيق حتى باب شقة الأستاذ لنصحبه، لكنه يعتذر عادة عن إكمال سهرة الحرافيش عند توفيق، وحين حاولت أن أناقشه فى ذلك كان يحتج بسلالم توفيق، وأقول له “إنها فى مدخل العمارة ولا تزيد عن خمسة ستة ثم نركب المصعد، وهى تحتاج جهدا أقل من دخوله إلى باب شقة الأستاذ، فلماذا يصر أن يدخل للأستاذ”، ولكنه يعتذر عادة – ثم دائما- عن إكمال الليلة معنا بحجة السلالم عند توفيق؟ وكنا قد تحادثنا فى هذا أيضا فى السيارة، وعلمت أن توفيق كان يسكن الدور الأرضى وراء السلم فى نفس العمارة أيام العزوبية، وذات مرة كنت أحاول أن أقنع مظهرا أن يكمل اللية معنا، قال مظهر: لا…، الليلة عندى حجة أقوى، إن العربة لم تدُرْ إلا بعد محاولات واستشارات لبعض المارين، وعمال الجراج، وهذا يجعلنى مضطرا لترككم بعد فورت جراند، وأخذ يشرح علاقته بعربته، وكيف أنها دارت مع غيره ولم تستجب له، وكيف أن العربات مثل البنات، ينبغى المحافظة على شعورهن، وتجنب تعويدهن عادات تفسدهن، فمتى عرفت العربة طريق الميكانيكى -مثلا- خذ عندك: عايزة أروح للميكانيكى، نفسى أشوف الميكانيكي، الميكانيكى وحشنى، وكل يوم والثانى تجد نفسك عند الميكانيكى، ولا تعرف متى ولا كيف تنتهى هذه العلاقة، مثلما تذهب البنت عند الكوافير، مرة ثم من ذا يستطيع أن يمنعها…!!؟
أخذ توفيق ومظهر يتذكران عادل كامل والقطيعة التى تمت بينه وبين أحد الحرافيش (لم أستطع أن ألتقط إسمه، أو هكذا أدعى الآن) وكيف أن ذلك كان لأسباب مادية، بسبب خلاف حول شقة ما..إلخ، كان الحديث بصوت عادى، وإذا بالأستاذ ينتبه ويعلق عليه، وكأنه كان يتابعه تماما، ترى يا رب هل تحسن سمعه إلى هذه الدرجة؟ يا رب يحصل. عاد الحديث إلى عربة مظهر وقدراته الميكانيكية، وكيف أنه أخذ أول مخالفة قيادة وهو فى سن التاسعة، وكيف أنه طلع الأول وأخذ امتيازا فى ميكانيكا السيارت فى الكلية الحربية وكانت المادة تدرس بالإنجليزية، ومع ذلك خانته العربة هذه الليلة، وأخجلته أمام من يسوى ومن لا يسوى.
وصلنا إلى الفندق، جالسٌ أنا بعيدا أستمع، وكان أحمد مظهر منطلقا فى الحكى وهو يستعمل تشبيهات غير مألوفة لى، قلت للأستاذ إن التشبيه أحيانا ما يكون المشبه به أبعد عن التصور من المشبه، وأننى حين كنت طبيب امتياز، عملت فى التخدير كأول قسم للتدريب، وكان النائب (الطبيب المقيم) يحاول أن يعلمنى الحرفة، وأن يحببنى فيها، وأن يشرحها لى، وفعلا كان عملا فنيا علميا جميلا أن تتحكم فى وعى إنسان وأنت تعمق درجة غطسانه، ثم تخففها، ثم ترخى عضلاته، كل ذلك بعد أن إدخال أنبوبة الهواء فى قصبته الهوائية، دون منظار أحيانا، مستعملا مهارة الأصابع ودقة الحركة بإحساس حرفى ماهر..إلخ، قال لى معلمى الشاب الطبيب المقيم إنك حين تخدر مريضا هكذا بهذه المهارة والتصعيد والتخفيف والتعميق كما ترى، فإنك تكون كما تقود طائرة، (أقود ماذا ؟ طائرة يا رجل؟، وأنا أيامها – سنة 1957- لم أكن أعرف الطائرات إلى من صور الصحف؟!!)
وانتقل الحديث إلى يوسف شاهين، وأنه يرى نفسه فى أفلامه، وحتى فيلم المهاجر الذى ثارت حوله ضجة أخيرة ومنع ثم أفرج عنه بحكم القانون، فإن الأرجح أن يوسف شاهين يرى نفسه سيدنا يوسف، وحكى توفيق كيف أن يوسف نشأ فى كامب شيزار، فى الإسكنرية، وأن زوجته صديقة زوجة وزير الثقافة الفرنسى السابق (…وهى يهودية من أصل مصرى) نشأت أيضا فى كامب شيزار، ثم إنها (زوجة الوزير) تقود حركة صهيونية من أقوى الحركات فى فرنسا، ثم ألمح – بعد ذلك، أو قبل ذلك- إلى ما ورد فى فيلم المهاجر من بعض الإشارات لعلاقة أخناتون بالإسرائيلى الذى علمه الحضارة، وربما التوحيد، (أو هذا ما وصلنى وأنا بعيد مستغرق صامت أفكر فى أمور أخرى غير واضحة المعالم) وكذا وكيت، ويعترض الأستاذ: إيش جاب أخناتون لفرعون يوسف، فيرد توفيق أن هذا هو التاريخ “الخصوصى” الذى يؤلفه يوسف شاهين باسم الإبداع، وهو تاريخ متحيز لتاريخ اليهود بشكل أو بآخر.
سألت توفيق، رغم علمى بصداقته ليوسف شاهين.. هل ثمَّ احتمال أن يكون قبول يوسف هكذا فى الغرب هو من هذا المدخل الإسرائيلي؟ ذلك أن عندنا أمثلة فى الطب، وفى المنح وفى التعاون الدولى والمؤتمرات مشروطة إن ظاهرا أو باطنا بهذا النوع من التعاون والتحيز والتطبيع والسماح، ابتسم توفيق وعزف عن أية إضافة وقال: أنا قلت ما عندى.
ثم تكلمنا كيف أن يوسف شاهين على وشك عمل فيلم عن إبن رشد، وهو لا يعرف إبن رشد، ولم يلم بتاريخه ولا بآرائه، وقد يكون الذى نبهه إلى إبن رشد هو أحد من اليهود الذين يعرفون أن كثيرا من أعمال بن رشد قد ترجم إلى العبرية، ويبدو أنه يريد أن يركز على موضوع محاكمته، أو مصادرة بعض كتبه، أو نفيه أو ماشابه، أما إبن رشد المؤرخ والفيلسوف فهو – يوسف شاهين- أبعد الناس عن الإلمام بمن هو حتى يعمل عنه فيلما، وأقول لتوفيق إن إبن رشد قد أخذ أكثر من حقه بسبب تحيز الغرب لانتقائه ممثلا للعرب دون غيره لما له من علاقة بأرسطو والثقافة الإغريقة، ذلك أننى، على قلة ما قرأت، أعتقد أن أثر إبن رشد السىء على الثقافة والحضارة الإسلامية والإنسانية مثل أثر أرسطو السيء على الحضارة الغربية فالإنسانية خلال عشرين قرنا، وأنه فى الوقت الذى بدأت الحضارة الغربية تفيق من منطق أرسطوا الخطّى، بدأنا نحن نتمسك ونحيى ذكرى إبن رشد ونقدس آراءه لندخل سجن التفكير الخطى أحادى البعد بأرجلنا، وأضفت إن منطق ”فون دوماروس”([15]) الذى لا يزيد عمره عن قرن واحد، هو شديد العلاقة بالطبيعة الكموية([16]) والرياضة الحديثة وحقيقة وطبيعة الإبداع، وهو الأوْلى بالاهتمام، لأنه مدخل إلى ما يمكن أن نضيف، أما موجة التنوير السائدة حاليا فهى ترفع شعارات أقرأها أنا على أنها دعوة ملحة شديدة الحماس أن نكون أقرب إلى أوربا فى أوائل هذا القرن، مع أن أوربا تتجاوز هذه المرحلة بنشاط بالغ.
فى طريقنا إلى منزل توفيق، أحاول – من جديد – إغراء مظهر بمواصلة الليلة معنا، وأننى لن أدعه يحتاج إلى عربته أصلا، وأننى سوف أقوم بتوصيله، لكن كان من الواضح أنه – كالعادة- مصر على التزويغ، وقد كان.
ها نحن فى الشرفة المطلة على النيل مرة أخرى، شرفة جميلة بحق، توفيق ليس متأكدا من أن جميل شفيق وبهجت عثمان سوف يحضران، لست أدرى ماذا بى الليلة، ليس عندى ما أقوله، تمنيت أن يحضرا رغم أننى رجحت غير ذلك، لاحظتْ السيدة الفاضلة زوجة توفيق بأمومة طيبة: أننى ساكت الليلة، وفعلا سألتنى عن ذلك، قلت لها: “لا يغرنك كلامى مع توفيق والأستاذ، فأنا فى الأغلب أكون كذلك لو أتيحت لى الفرصة، خفت أن أقصر فى حق الأستاذ، وجرى الحديث خفيفا عاديا.
بدأ توفيق الحديث مع الأستاذ عن المخرجة الفرنسية التى تعمل فيلما تسجيليا عنه، وأنه يصارحه بأن تدخلات زكى سالم (وغيره: يعنى الغيطانى والقعيد) فى هذا الأمر جعلته ينسحب من التعاون، وأنه بعد أن رفض التسجيل معها لتدخلات لم يرض عنها، لف ”عـَـلـِـى الشوباشى” وحاول معه عدة محاولات بلا فائدة، وهنا أسجل كيف أن الأستاذ أحس بالحرج، وأخذ يبرئ زكى سالم من تهمة أى تأثير عليه يجعله يرفض التسجيل بالمنزل، والغريب أنه تحمس لدرجة القَسَم، مع أنه نادرا ما يفعل، قال بالحرف (على ما أذكر): ..لا يا توفيق، وحياة أولادى، ودينى وأيمانى زكى ما قال حاجة”، وتعجبت كيف يشعر الأستاذ بكل هذا الاضطرار الطفلى الجميل إلى القسم، لكن توفيق مضى فى شكوكه، فأضاف الأستاذ مشيرا لى: ألا تجلس معنا أنت فى العوامة؟ هل تسمح الجلسة أن أسمع إلا من يجلس ملاصقا لي؟ فكيف يؤثر علىّ زكى سالم سرا، قل لتوفيق من فضلكَ، ثم -متجها إلى توقيق- “إنه كان هناك مترجم طول الوقت، فلعلها سمعت هى ما لم أسمعه وبلّغتـْكَ ما بلغك، ثم إنها تتكلم بالفرنسية أساسا فكيف سمعتْ زكى؟” قال توفيق” ربما تكلم زكى ساعتها بالإنجليزية التى تعرفها، (ولم ينتبه الأستاذ إلى هذه الملاحظة)، وراح الأستاذ يشرح الموقف أكثر قائلا: إن المسألة أنهم فى البيت لا يريدون، وأنا طول عمرى لا أحب حكاية البيت هذه، ثم إنهم يريدون تصوير البيت لأنهم يتصورون أن لى حجرة مكتب، يعنى، (ثم نظر إلىّ) أنتَ رأيت بيتى، هل فيه شىء يصلح للتصوير؟ إنهم حين يحضرون لن يجدوا مكتبا ولا يحزنون، كام كرسى ومكتب متواضع متوارى خلفهم، وأنا أخجل كثيرا من هذا الموقف، وأنه ليس عندى حجرة مكتب كما يتصورون، ويقسم ثانية وكأنه يبرئ نفسه من جديد أنه لم يكن ينوى أن يسجل أصلا، وأننى أنا (يحيى بك) الذى أقنعتـُه بذلك، فأقول لتوفيق أننى مسئول فعلا عن الحكاية، ذلك لأن على الشوباشى ذكر للأستاذ من حوالى أربعة أشهر أن مستقبل هذه المخرجة متوقف على هذا الفيلم، وأنهم سوف يفصلونها إذا لم تنجزه، وأننى قلت له ننتظر حتى يونيو، وهو الميعاد الذى أتوقع أن يتحسن فيه صوته، فإذا تحسن فليكن التسجيل زكاة التحسن، وحمدا لله، وإنقاذا للبنية، ويثور توفيق من جديد ويشكك فى القصة، وأن التأثير – بعد رفضه- جاء من الغيطانى ومن على الشوباشى الذى هو شريك إلخ.
وكان بهجت عثمان، وجميل شفيق قد حضرا فى هذه الأثناء، فخـَـفـَّـت اللهجة، وخفت الصياح، واستمر توفيق يطلب من الأستاذ: أولا أن يستجيب لطلب المخرجة بشروط، فيجلس معها نصف ساعة قبل التسجيل على أن يكون وحده، وألا يصور أحداً من جلساء العوامة معه، ويعلو صوت الأستاذ من جديد، ويقول ”إنه ليس عنده ما يضيفه لما اتفق معها عليه، وأنها إن لم تكن مقتنعة بما تم فلتذهب مع السلامة، وأنه من غير اللائق أن يطرد ناسا من بيتهم (العوامة) الذى يستضيفونه فيه تحت أى حجة أو من أجل خاطر أى أحد، وأرجع أؤكد لتوفيق أنها تستطيع أن تصور الأستاذ وحده حتى فى حضور كل الناس، وأن المونتاج يسمح لها أن تصور من تشاء ثم تحذف ما تريد.. أو تضيف ما ترى إلخ، وأحاول تخفيف الموقف فأقول للأستاذ مداعبا إنها فرصة تنفرد بك (تستفرد بك)، ولعلك تحظى بفائدة، فيلتقطها الأستاذ ويضحك عاليا.
وتهدأ العاصفة
أقول للأستاذ إننى لاحظت أن سمعه قد تحسن فى السيارة (كما ذكرت حالا) ويقول إنه لا يعتقد ذلك ولكن خيرا، وبعد قليل يسألنى هل توجد أصوات ناس يتحدثون فى الشارع فأقول له لا إنها السيارات والضجيج العام، فيضحك قائلا إننى حاولت أن أصدق ملاحظتك بشأن تحسن سمعى، وهات يا سمع، حتى وصلتنى الضوضاء أصواتا، وأفرح بتعليقه، وأقول له أنت تفسر لى بذلك ظاهرة علمية مهمة، وهى “السمع الانتقائى” ويلتقطها، ولا يسأل عنها،
وضحكنا
بعد فترة صمت، يشير توفيق إلى أضواء عمارة قريبة، ويقول الأستاذ إنه يراها، فيقول له توفيق إنها العمارة المشهورة التى يصل فيها ثمن الشقة إلى كذا مليونا، ويدور حديث معاد حول هذا الموضوع، فأميل على جميل شفيق، وأقول له إن المسألة ليست فى ثمنها وإنما فى حالة قاطنيها، فماذا لو وجد صاحبها نفسه وهو داخلها عنـّينا ولا مؤاخذة، ماذا ينفعه ثمنها وكيف سيغطى الفضيحة أمام زائرته، أو غيرها، وأعيد الكلام على الأستاذ حسب طلبه، فيقول: يانهار أسود، تبقى واقعة سودة
ويدور حديث حول عادل كامل من جديد، وآلام وحدته فى أمريكا، والحريق الذى جرى فى شقته، وأن أحدا من الحرافيش لم يرسل له يسأل عنه ويطمئنه ويطيب خاطره مع أنه انقطع عن المكالمات الهاتفية منذ هذا الحريق وكان دائم السؤال عن الأستاذ وعن الحرافيش قبل ذلك. ويكلف توفيق بهجت أن يرسل نيابة عن الحرافيش بطاقة يطمئن فيها عليه.
وأعرُج إلى الحديث عن أطروحتى فى نقد الحرافيش، وأسأل توفيق سؤالا مباشرا: ألم تفكر أن تخرج الحرافيش، ويقول إن هذا عمل مستحيل، قلت له هذا ما يبدو لأول وهله، لكننى حين عشتها بالسرعة البطيئة (وأنا أترجم، وأعيد الكتابة والتحرير للمقال بالإنجليزية) وجدت أن هذا العمل هو العمل الذى يلخص ويتوّج ما هو نجيب محفوظ أو ما هو ”مصر” أو ما هو الإنسان، وكان الأستاذ قد سمع السؤال أو الطلب الذى طلبته من توفيق كما سمع إجابته فقال: إن محسن زايد (غالبا) قد اشتراه منه وقرر لتنفيذه مهلة معينة، وأنه قال إنه سيخرجه فى مائة وعشرين حلقة، وأن هذا هو حلّ التعامل مع هذا العمل، وحين انتهت مدة العقد جاء وجددها دون أن يعمل شيئا، فقط خوفا من أن يأخذه غيره، كذلك ذكر الأستاذ أنه حين صدرت أول وربما ثانى حلقة من الحرافيش مسلسلة فى مجلة أكتوبر طلب منه يوسف شاهين وهو جالس بجواره فى قهوة ريش أن يشترى منه هذا العمل دون أن يعرف عنه إلا ما نشر من حلقة أو اثنين، وقد أجابه الأستاذ أن هذا لا يصح، وأن هذا العمل يستحيل أن يخرج فى فيلم سينمائى مهما كان الجهد أو حذق الحرفة، لكن يوسف شاهين أصر، وطبعا لم يعمل شيئا، وبالرغم من كل هذا فقد عدت أقول إننى تصورت أنه من الممكن تنفيذه، بأسلوب جديد تماما يناسب عبقرية العمل حتى يصبح فيلما فريدا إنما عاد توفيق يعترض وقال: لنفرض أن الفيلم سوف يستغرق ثلاث ساعات، أى مائة وثمانين دقيقة، خذ عندك عدد الشخصيات على امتداد عشرة أجيال، كم دقيقة ستكون من نصيب كل شخصية”؟، أحسست بغضب خاص مع اعترافى بجهلى وقلت: “إن هذا هو المنطق الأرسطى الذى كنت أحذركم منه منذ ساعة، وهو منطق إبن رشد (فى الأغلب)، وهو المنطق الذى تخطاه الفن الجديد تماما، ويتخطاه العلم الآن، وإننى أتصور أن هذا العمل هو تشكيل جديد بلغة سينمائية، فاللوحة الأصيلة لا تقاس بالدقائق ولا بالمساحة، وأن المبدع الحق يمكن أن يرسل إلينا سنتيمترا واحدا، أو طرف ظل رسالة فتحتل قرونا من وعينا الجمعى، والمطلوب فى إخراج عمل مثل الحرافيش ألا يختصر بمعنى حذف بعض الشخصيات وتلخيص الحوارات، ولكن أن يكثف، وأن تعاد صياغته بنفس ما تم به من أصل مصدر وحيه، ولكن مع اختلاف الأداة، وهذا ممكن بالإخراج والسيناريو اللذان يرتفعان إلى مستواه، لا أعرف كيف قلت كل ذلك وأنا ليس لى فى الطور ولا فى الطحين، قال توفيق إنه عمل يبدأ مع بدء الخليقة، خذ مثلا الفصل الأول كيف الخلاء وكيف الممر، قلت له ليكن، هذه نفسها بداية “ابنة ريان” والمظلة تسقط من أعلى الجبل إلى سفح البحر، قال إن ابنة ريان مليئة بالأحداث الآنية، ولم أعلق لأننى كنت أشير إلى وجه الشبه بين البدايات لا أكثر.
الذى التقط ما قلت – ربما أكثر منى – كان جميل شفيق، فوافقنى على رأيى، وعلى إمكانية إخراج هذا العمل كفيلم ولكن بغير ما يتصوره كل من يقدم عليه بأسلوب الحكواتى، إن المطلوب والممكن هو احترام التكثيف والكشف عنه من زوايا محدودة ومتنوعة تظهر أعماقه فى تكامل يليق بالأداة السينمائية.
ذكر الأستاذ أن كاتبة ألمانية قد زارته فى فرح بوت أمس الأول (أو الذى قبله) وأنها أصلا من ألمانيا الشرقية، وأنها هى التى ترجمت أغلب أعماله إلى الألمانية، وأنها صاحبت هذه الأعمال بدرجة تسمح باعتبارها متخصصة فيها، والعجيب أنها قالت إن أكثر أعماله رواجا فى ألمانيا هى حكايات حارتنا وليست أولاد حارتنا أو غيرها، ولم يدهش أحد منا، وعقبنا جميعا أن هذا صحيح، وأن معنى ذلك أن الترجمة مناسبة وأن الحس الألمانى قادر على الانتقاء والتمييز، وتذكرت أننى فى دراستى للسيرة الذاتية كنت قد قررت أن أرجع إلى عملين تحديدا وهما حكايات حارتنا والمرايا، وفرحت أننى لم أخطئ التصور وأن ثمة مشاركين لى فى بعض ما يعن لى، ويسكت الأستاذ، ويطول صمته، فأحاول أن أغير الحديث:
فأذكر له اننى ... فوجئت بمجلة المصور وقد نشرت صورة لى معه لا أعرف كيف حصلت عليها، وقد دهشت منها حتى كدت لا أتعرف علىّ، وقد عقــَّـبت زوجتى عليها بأنها لم ترنى ضاحكا هكذا طوال عشرتنا لعشرات السنين، وقارنتْ – ضاحكة فرِحة – بين منظر ضحكتى ورِقة ضحكته، ووصلتها – غالبا– دلالة علاقتنا، ودعتْ لنا معا بما تيسر، فيبتسم الأستاذ ويقول لى خلّ بالك، فكـّها حبتين فى البيت، ثم يعود إلى ما انقطع من حديثنا بعد فترة صمت ، فيكمل قائلا:
إن العجيب أن هذه الكاتبة (وهى أصلا من ألمانيا الشرقية) تشاركنا الرأى فى حكاية أن أيام زمان أفضل، وأن الأمور تسير إلى أسوأ، وأقول للأستاذ إن هذه المقولة رغم أننا نكررها كثيرا إلا أنها مقولة خطرة لأنها تعلن كهولتنا بشكل أو بآخر، ولو أننى خُيِّرت أن أرجع طفلا بكل ميزات أيام زمان لما رضيت طبعا، وأنه مهما كان واقع “الآن” مرا فإن المستقبل كامن فيه، وبالتالى يمكننا أن نجمع مرارته إلى ما يحتضن من إمكانات فيصبح هو الأفضل، فيوافقنى الأستاذ ولكنه يشير إلى أن اجترار هذه الذكريات هو من باب التخفيف من مرارة الواقع، وهو ليس مقارنة تفضيلية بمعنى الاختيار المحتمل، ويضيف أنه يصبح جميلا أن يتذكر الواحد عواطف ومشاعر وعلاقات وأحداث شديدة الإشراق حانية الدفء فى طفولته، لكن من الجنون أن يتصور أنه يفضل أن يعود فيعيش يوما واحدا من أيام الضرب والقهر وكتم الأنفاس كما كان الحال فى الكتّاب مثلا، فأقول له إننا إذن نحكى عن ما نختار ليتبقى من ذكريات أيام زمان، وليس عن أيام زمان، فيوافق.
وعلى ذكر ألمانيا الشرقية، يأتى ذكر الصين وتفجيرها النووى عقب تمديد معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية بأربعة أيام، وأقول لجميل شفيق إنه رغم انهيار الاتحاد السوفيتى فما زال نصف ربع العالم يحاول أن ينجح بطريقة أخرى فى الحياة والعلاقات، ويفرح بهجت عثمان، وأكتشف أن ما يسمى اليسار، أو الحس اليسارى (الذى ساد فى الخمسينيات والستينيات) هو فكر سائد عند أغلب الحرافيش بشكل أو بآخر (إلاّ الأستاذ).
أثناء عودتى معه بالسيارة أقول له إن المهم، رغم مرارة الواقع، أن نستطيع أن نحافظ على الحلم، على حقنا أن نحلم، ذلك أن خطورة انهيار الاتحاد السوفيتى ليست فى فشل نظام أو اكتشاف عجز فى التطبيق، وإنما فى حرمان الناس من تصور البديل أو البحث عنه حتى على مستوى الحلم، ويوافقنى لست أدرى حقيقة أم لأننا كنا قد وصلنا إلى المنزل،
وتصبح على خير
وانت من أهله.
الحلقة الثانية والستون
هل يجوز للمبدع أن ينقد إبداعه شخصيا؟
الجمعة: 19/5/1995
د. فتحى هاشم، زكى سالم، قدرى، يوسف عزب، خالد الرخاوى، محمد يحيى، الأستاذ عندى فى بيته/بيتى، بدأت الحديث هذه المرة لأكمل ما كان بين الأستاذ وبينى بشأن ندرة قراءة الروائى بالذات لعمله، وماذا لو قرأه، وماذا لو كان ناقدا مثل إدوارد الخراط وقلت نشرك زملاء الجلسة فى هذه القضية، ثم استدركت بعد فتح باب النقاش إلى أننى تعمدت أن أبدأ قضية أدبية حتى لا تتكرر نفس المواضيع التى غلبت على جلسات الجمعة فى بيتى، وهى المواضيع التى تدور عن السياسية وثورة التكنولوجيا والمعلومات والحكم الإسلامى المحتمل، وحين أعلنت رغبتى هذه استقبلها محمد، وإلى درجة أقل خالد ويوسف أنها ليست رغبة وإنما هى حظر على ما سواها، وقال محمد لماذا قضية أدبية بالذات، فتعللت وقلت لأننا نفتقد فى جلساتنا إلى جرعة مناسبة من الحديث عن دور النقد الأدبى فى حفز الإبداع هذه الأيام، ولم يقبلوا التفسير أو التبرير، وظل الاعتراض قائما.
رد الأستاذ على تساؤلى وكأنه يرجح رأيى فى فتح الموضوع: بأن مثل هذا الناقد الذى سيتصدى لنقد روايته شخصيا لن يكون موضوعيا تماما، وقد تغلب عليه عاطفة ما، فنبهت أننى لا أعنى أن يقوم بنقد بمعنى أن يقرر أن هذا حسن وهذا غير ذلك، بل إننى أقصد مناقشة تساؤل يقول: هل يمكن أن يكتشف الكاتب فى إبداعه، إذا ما قرأه ناقدا، هل يمكن مثلا أن يعيد اكتشاف نفسه أو أسلوبه أو بعض ما ظهر منه وكان غائبا عنه مثلما يفعل الناقد؟ وأجيب عن تساؤلى أنه قد يكتشف نقصا كان يرجو أن يكمله، وقد يعطله ما يكتشفه، وقد يدفعه إلى أن يكمله فى عمل لاحق، ولا يشاركنى أحد بما أتصور، فأشك فى توصيل رأيى خاصة للأستاذ، قلت للأستاذ إننى أتصور لو أننا أعطينا لكل كاتب عملا من أعماله المشهورة، أو حتى بالمصادفة، وطرحنا عليه أسئلة من هذا القبيل فإننا سنحصل على إجابات هامة ومفيدة فى فهم الإبداع والنقد وغير ذلك
سألنى الأستاذ هل أنوى أن أقوم بمثل هذا الاستجواب أو الاستفتاء فى بحث مثلا، فأجبت بالنفى طبعا، فلا أنا أهل لذلك، ولا هذه هى طريقتى فى البحث، ولكننى طرحت هذه القضية حين أتيحت لى الفرصة أن أرجع إلى بعض نقدى لملحمة الحرافيش فوجدت فى الرواية من الرؤى والإلهام والعمق والإبداع، ما حسبت أن الأستاذ لم يره مرة أخرى بعد أن كتبه، قال الأستاذ: إن هذا صحيح، ولست أدرى لماذا لا يرجع الكاتب لما كتب؟ وأضاف إن هناك عاملا هاما فى هذه القضية وهو أن الكاتب متى انتهى من كتابة عمله أحس براحة الخلاص من التوتر والانشغال والانهماك والاستغراق، فلا يكاد يريد أن يعود إليه أبدا، وإن كان قد يضطر إلى قراءته أثناء الطباعة، وهو يصحح البروفات مثلا، أما بعد ظهور العمل فهو قد يتعمد ألا يرجع إليه حتى لا يكتشف أخطاء قد تغمه حيث لا مجال لإصلاحها، ووافقته على الجزء الأخير، وقلت له إن من أكبر ما قابلت من أخطاء ليست منى وإنما من مصحح ساذج، هو ما ظهر على غلاف دراستى عن عمله “ليالى ألف ليلة” كان بعنوان “القتل بين مقامىْ العبادة والدم”، وقد ظهر هذا العنوان على الغلاف هكذا: القتل بين مقاهى العبارة والدم، مع أنه ظهر صحيحا فى داخل الكتاب، وقلت إننى أعتقد أن المصحح هو الذى أدخل هذا الخطأ لأنه لم يتصور أن القتل يكون بين ”عبادة ودم” أو أن فى المسألة ”مقامات”، وهو يعلم أن الأستاذ يحب المقاهى، وأن صقل ”العبارة” هى من أهم أدواته، فاستقرب وقلب مقامَىْ العبادة والدم” إلى “مقاهى العبارة والدم”
وضحك الأستاذ مرة أخرى (مع أننى ربما ذكرت له هذه الحكاية قبلا، لست متأكدا)
ثم أردف: إن هذه المسألة التى طرحتها – استبعاد احتمال أن يقرأ الكاتب نفسه – تسرى على الرواية أكثر، أو فقط، لأن الأعمال الأخرى مثل الموسيقى والغناء (والفن التشكيلى عموما) تذاع على الناس مرارا وتكرارا، ولابد أن يسمعها (أو يراها) صانعها ومبدعها حتى وإن لم يقصد، وبالتالى سوف يكون له رأى لاحق أو رأى ناقد، قلت للأستاذ إن عزوف المؤلف عن قراءة مؤلفه قد يمتد إلى العمل العلمى، فكثيرا ما يقتطف أحد طلبتى بعض كتبى العلمية أو أبحاثى، فأضطر إلى العودة إلى المرجع الذى أنا مؤلفه، فأكتشف أننى لم أقرأه بعد أن انتهيت منه ونـُـشـِـرَ، وأنه به ما به، وأضفت للحاضرين ما سبق أن ألمحت به للأستاذ من أن هذا الخاطر جاءنى وأنا أقرأ دراستى النقدية عن الحرافيش، وقلت إننى وقفت أمام عبارات لم أتصور أن الأستاذ كان يعنيها بكل يقظة وعيه حين وضعها بهذه الصورة، لكنها جاءت بصورتها المبدعة هذه من جماع وجوده، وأنه لو قرأها قد يستغرب ويعجب مثلنا، وضربت لذلك مثلا بما جاء فى أول سطر فى الحرافيش، وسير ”عفرة زيدان” فى الممر العابر بين الموت والحياة، وقلت إن مفتاح دراستى المبنى على الفرض القائل: إن الموت هو الأصل، وإن الحياة تبدأ وتتعمق مع الوعى بالموت قد بدأ هذا وذاك من تأمل هذه العبارة، فالقرافة هى موقع الموت الجسدى، والأوْلى أن يأتى التعبير عن الممر بين الحياة (المساكن والحارة) والموت القرافة، أما أن تنقلب العبارة فيكون الممر بين الموت والحياة، فهذا ما جعلنى أرجح أن محفوظا أراد – ربما دون أن يقصد تماما- ما وصلنى، وسألته مباشرة هل لا حظ هذا الفرق، وهل لا حظ أن الموت جاء قبل الحياة، وأن وصف الممر كان بين الموت والحياة وليس بين الحياة والموت، وقال باسما مندهشا راضيا: أبدا
فتحت موضوعا آخر – ربما لملاحقة رغبتى أن نبتعد عن السياسة والدين والتكنولوجيا هذه الليلة – وقلت للأستاذ: إكمالا لحديثنا وأنا أوصّله ليلة أمس: إنه ينبغى أن نحرص على الحفاظ على الحلم حتى ولو كان ذلك بعيد التحقيق أو بدت استحالته جلية كما يشير مُرّ واقعنا الآن، وكررت أن انهيار الاتحاد السوفيتى قد أسقط معه مشروعية الحلم، وأن الشباب هذه الأيام، بل والشيوخ أيضا قد توقفوا حتى عن الحلم، قال محمد يحيى إن الشباب هذه الأيام يحلم أحلاما سهلة وشاطحة، فهو إما أن يحلم بأن يعثر على حقيبة مليئة بالنقود، وإما أن يحلم بالسفر إلى الخليج، ليعثر على الحقيبة أيضا (بعد أن يتنازل عن الكرامة والحياء)، وينبه الأستاذ بإفاقة رائعة أننا نتكلم عن الحفاظ على الحلم العام وليس على الأحلام الفردية، ويضيف أنه يعرف شخصيا ناسا – اثنين أو أكثر- من الأصدقاء مازالوا يحلمون حتى الآن بتحقيق الشيوعية حتى بعد انهيار الاتحاد السوفيتى، قلت له: لا هم أكثر من اثنين بكثير، وهذا طيب، ومضى يشرح ما عجزت أنا عن إيضاحه وأنا أطرح المسألة على هذا الوجه، وأحسست أنه أكثر واحد فينا قادر على الاحتفاظ بالحلم.
لست أدرى ما الذى جعل زكى سالم يسألنى عن تقسيمات الشخصية، وكيف أوفقِّ -كما أكرر- بين فكرة أن الناس يمكن أن يصنفوا إلى انطوائيين وانبساطيين ووسواسيين، وغير ذلك، ثم فى نفس الوقت أنه فى النهاية يكون كل إنسان مختلفا ومتميزا تماما مثل بصمات الأصابع؟ وأنا لا أحب أن أجيب عن مثل هذه الأسئلة إجابات سريعة مختصرة، ولكن رفضى قد يساء فهمه، فقلت إن ”علم التصنيف” بدأ حين اضطر علماء النبات إلى تصنيف الزهور والثمار والنباتات عامة، فقسموها إلى فصائل لكلٍّ ميزاتها وصفاتها الجامعة المانعة، ثم امتد الأمر إلى تقسيم الأمراض، ثم إلى تقسيم الشخصيات، وهذه التقسيمات عادة لا هى دقيقة، ولا هى جامعة مانعة، وهى لا تفيد إلا فى الأرشفة والتكلم بلغة مشتركة أحيانا، وفرقٌ بين الاتفاق على تجميعات معينة، وبين التعرّف على ظاهرة بذاتها أو على شخص فرد بما هو تحديدا، والتقسيم الأمريكى الثالث والرابع للأمراض النفسية يسيء إلى الطب النفسى والبشر والمرضى والأطباء بقدر ما تسيء مركزية النظام العالمى الجديد، فهو يوحد اللغة بين الأطباء على حساب البعد عن المريض، وهذا ما يسمى أنه عالى ”الثبات”([17]) ضعيف “المصداقية”([18])، وكنت عازفا عن إكمال الحديث لولا أن الأستاذ كان منتبها أشد الانتباه حتى استزادنى واستوضحنى، فرجعت تحديدا إلى سؤال زكى سالم وقلت له إنه حتى تقسيم ”يونج” للبشر إلى انطوائى وانبساطى هو تقسيم ضعيف، وقد شاع بين الناس بصورة استقطابية لم يقصدها يونج، حيث أنه حدد مستويات مختلفة يمكن أن يوصف بها كل فرد وصفا مختلفا، إذ يمكن أن يكون الشخص انبساطيا على مستوى التفكير، وانطوائيا على مستوى العواطف أو السلوك، كما يمكن أن يكون الشخص انطوائيا على مستوى التفكير وانبساطيا على مستوى العواطف وهكذا، لكن الناس تختزل هذه المسائل وتقربها إلى ظاهر الأمر ويتم تجميع البشر فى فئات أو فى فئتين، بل إن هناك نظرية لها فضل على مسار فكرى فى مرحلة باكرة تعتبر كل الوجود البشرى متمحورا حول محاولة تجاوز أو حل الظاهرة الشيزيدية([19]) (المرادفة عادة عند العامة لكلمة انطوائية) وهى الظاهرة التى تعلن صعوبة عمل علاقة صحية كاملة مع الاخر، مع شدة الحاجة إلى ذلك. وتأتى الاختلافات الفردية نتيجة لتنوع محاولات ”حل هذا التحدى الملقى فى بؤرة الوعى البشرى”، وخلاصة القول: إن التقسيم هو للأرشفة، أما حقيقة الشخص فلا يكشف عنها إلا تفرد خاص، وتعامل عميق، وطويل، ومتنوع فى ظل درجات مختلفة من الضغوط والمتغيرات
خجلت من نفسى حين استُدرْجت إلى تفاصيل علمية خاصة، فأردت أن أقرب المسألة لمنطقة اهتمامات الأستاذ والحاضرين، فقلت إن خطر هذا الاختزال وهذه الأرشفة يأتى من مبالغة النفسيين فى تقييم معلوماتهم، حتى أننى إذا دعيت إلى لجان الإعلام أو اللجان الفنية وهم يتصورون ضرورة استشارة أخصائى نفسى فى نمط شخصيات معينة، أقول يا رب سترك، وضربت مثلا للتحول الجذرى الذى جرى لبعض (أو أغلب) شخصيات رواية الحرافيش أو ليالى ألف ليلة بما يجعل تحديد نمط ثابت للشخصية بتوصية المختص النفسى أمر مضحك، وما لم يكن هذا المختص النفسى فاهما لمسألة التفرد وإعادة الولادة عبر مسيرة نمو كل فرد، فإنه قد يصدر أحكاما وصية تفسد وتنمّط العمل الفني.
قبل أن أستأذن لألحق اجتماع دفعتنا (يناير 1957 / أربعين سنة إلا سنة ونصف) كان قدرى قد بدأ الحديث – كالمعتاد- عن ضرورة التكنولوجيا، وقال إنه التقى بأحد الإسرائيليين فى معرض فى ألمانيا، وأن هذا الإسرائيلى واجهه بصراحة بأن التحدى الملقى علينا هو إتقان التكنولوجيا، وأنه إذا لم نسارع فنحذق هذه الأداة الجديدة فليس لنا أى مستقبل على وجه الأرض، ملت على الأستاذ أستأذنه، وقلت له إننى أعتذر لارتباطى بموعد دفعتى، ولكنى أذكره برأيى السابق فى كلام قدرى، وأننى لا أتلقى مثل هذا النقد من إسرائيلى بصدر رحب، نعم إنه لا غنى للطفل عن تعلم المشى حتى يحقق أى نمو، لكن ما لم نسأل إلى أين ستقودنا أقدامنا هذه فقد نمشى إلى الخلف، وقد نمشى إلى الهاوية، صحيح أننا سنمشى وإلا سنصبح عجزة، أما أن نركز على المشى للمشى، فهذه هى الخطورة
ضحك الأستاذ، وبرغم خجلى من تكرار نفس “التيمة” إلا أننى فهمت أن عنادى وصله، وانصرفت.
الحلقة الثالثة والستون
.. لمّا الخدود تحمرّا
الأحد: 21/5/1995 (نوفوتيل الهرم)
اليوم هو اليوم الذى أدعو نفسى فيه على الغداء على حساب ” صاحب المخل”([20])، فرصة لقراءة ترجمة مقالى النقدى عن الحرافيش من جديد، وللتأمل، وللانتظار، وربما لإعادة الحسابات.
اليوم شديد الحرارة.
ذهبت فوجدتهم سبقونى بدقائق لا أكثر، د.منال- مشيرة – زكى سالم – مصطفى أبو النصر – نعيم – ، الكلام عن الجو، وأنا فى حال يسمح أن يمدح كل الأجواء (حسب درجة الحرارة دون الرطوبة والغبار)، مايو هذا العام ليس له سابقة، اليوم فقط هو الحر ويقولون غدا، أقول للأستاذ إن للحر حلاوته، وأننى حين كنت فى زيارة لرأس الخيمة فى الإمارات، وجدت بعض الصفوة – ومنهم الشيخ نفسه (ملك الإمارة!) - يجلسون أمام المنزل قرب المغرب والحرارة تتعدى الأربعين تاركين التكييف فى الداخل، لكن هذا جيل كان عمره تجاوز الأربعين على الأقل (كان ذلك سنة 1976 على ما أذكر) وهم كانوا يفضلون ذلك على الهواء البلاستيك البارد بالداخل، وهز الأستاذ رأسه مندهشا، أكملت: وفى بلدنا كنا نغنى للحر، ومازلت أذكر مديحة ذات الخدود البارزة قليلا، والعيون الناعسة قليلا، والنداء الهامس منكسرا، والدلال الواعد حثيثا، ونحن نجنى القطن، ما زلت أذكر كل ذلك يتجمع فى وجهها فيجعله “يزنهر” من الحر وهى تجنى القطن ونحن نغنى معها :
الحر طلع عليّا وانا اعمل ايه فى الحر،
لمّا الهدوم تنعصر لمّا الخدود تحمر.،
وأردد هذه الإغنية بنغمتها للأستاذ بعد أن حكيت الحكاية، فيطرب لها، ربما لاكتشافه من خلالها بعض ما هو الريف المصرى الذى لم تتح له معايشته مباشرة بما يكفى، يفرح الأستاذ بالأغنية فعلا.
بدأ الأستاذ حديثه مشيرا إلى زيارة المستشار الثقافى لجمهورية شيلى له، وقال من الذى قال عن شيلى إنها حلت مشكلات ديونها واعتماديتها بزراعة العنب؟ فقالوا له: إنه ”حافظ عزيز” غالبا، فأكمل: لقد زارنى اليوم مستشارها الثقافى، ـ ويبدو أنهم ما زالوا يعانون من مشاكل خطيرة مثلنا فعلا، كما يبدو أنهم يعانون كذلك من عدم الإقبال على القراءة، وأن التليفزيون ووسائل أخرى قد حلت محل القراءة، تماما مثلما كنا نتناقش فى هذا الموضوع”، انبرى مصطفى أبو النصر يرجح أنه لا يوجد بديل عن القراءة، وأنها تسمح بالتوقف والخيال والعودة والمراجعة، قلت له: ليكن، لكن المطلوب منا الآن أن نحترم التحول لا نوقفه أو نستبدله بما أفادنا نحن، فأنت – وأنا من جيلك- نمارس القراءة لأن مخك تبرمج على هذه الصورة، فإذا كانت أدوات المعرفة قد انتقلت إلى الكومبيوتر، وإلى التليفزيون وما أشبه، فلا بد أن نفترض أن أمخاخ هذا الجيل الذى نشأت فى ظل غلبة هذه الأدوات، سوف تتبرمج لتتكيف مع هذه الأدوات، والذى علينا هو أن نطور أداء هذه الأدوات ومحتواها وأخلاقياتها لتقوم بنفس الدور الإيجابى الذى نحكيه عن القراءة، أما أن نفرض على تطور الإنسان وأدواته مرحلة سابقة فهذا تعطيل من ناحية وهو مستحيل من ناحية أخرى، مضى أبو النصر مرة أخرى يضرب الأمثال بقراءة ديستويفسكى أو الحرافيش، وقارن بين الإخوة كارامازوف كما ظهرت فى السينما وكما كتبها ديستويفسكى، وبين بعض روايات الأستاذ وبين ظهورها فى مسلسل أو فيلم، وهنا نبه الأستاذ إلى خطأ المضى فى هذه المقارنات قائلا: يقول لك يحيى بيه إن المخ سيبرمج، وبالتالى هذه المقارنات نفسها ستتبع أسلوبا آخر بمقاييس أخري.مضى أبو النصر يتكلم عن تيار الوعى، وعن استحالة إخراج دفقات اللاشعور كما ظهرت فى عوليس مثلا بأية وسيلة أخرى، بمعنى استحالة الغوص إلى أعماق النفس كما يفعل الكاتب بالقلم والورقة، ثم كما يفعل القارئ بالنظر والقراءة، انتهزتها فرصة لأمضى إلى شرح وجهة نظرى أكثر: رجعت إلى فكرة (أمل/حلم) إخراج الحرافيش كفيلم، وقلت إن المسألة ينبغى أن تفهم على أنها إعادة صياغة وليست نقل نص، وحتى يتضح الأمر، لا بد أن نفرق بين نوعين من الإبداع، أو من الفن، الأول هو ما يمكن أن أسميه “سبْرُ غَوْر”، والثانى ما أطلق عليه (الآن): ”فَتْحُ آفاق”، ففى حالة سبر الغور، وهو ما يدافع عنه أبو النصر فهو ما يصلح له أسلوب الكتابة عادة: حيث يمضى المبدع إلى طبقة وراء طبقة، وإلى بئر وراء كهف، يكشف ويصف، ويكشف ويصف، بما لا تتيحه أداة أخرى، أما فى النوع الآخر “فَتْحُ آفاق” فالمبدع يزيح غطاء من هنا، ويضيء زاوية من هناك، ومهما كان صغر الزاوية أو حدود الغطاء فإن رسالة الإبداع تتناسب مع المساحة والمدى اللذان تتيحانها للمتلقى وليس مع كم المعلوات ومدى العمق، والذى كنت أتصوره لنقل الحرافيش إلى فيلم من ثلاث ساعات وليس مسلسل من مائة حلقة هو هذا النقل من نوع إلى نوع، أو ما يمكن أن أسميه الإبداع الموازي.
ويعود الحديث إلى يوسف شاهين، ويعود اللمز إلى سر قبوله عند إخواننا الغربيين، وأنه ممن يشيرون ولا يفصحون، ولكننى أخاف من يفهم رأيى على أنه مناصرة لهذا اللون من الإبداع اليوسفشاهينى الذى لم أحبه حتى فى فيلمه الباكر ” عودة الإبن الضال” الذى أشارت إليه د. منال باعجاب وتقدير باعتبار أنه النقلة الهامة عند يوسف شاهين، وأذكّر الأستاذ بالخبر الذى حكيته له سالفا عن الكاتب الأمريكى الذى أخذ أربعة ملايين دولار لفكرة فيلم كتبها فى صفحة ونصف صفحة، فالمسألة ليست بكم الصفحات، وإنما بأصالة الفكرة وتكثيفها، فيقول الأستاذ إن فكرة الفيلم قد تأتى من كلمة، وأنه يذكر أنه كان جالسا مع حلمى رفلة (الذى ذكر مرة أخرى تاريخ حياته من كوافير إلى ماكيير إلى منتج مع إضافة أنه ظل يسرّح الست أم كلمثوم حتى بعد أن أصبح منتجا له شأن ذو رنين)، يقول الأستاذ أنه كان جالسا معه، وكان أيامها السيرك الرومانى قد حضر إلى القاهرة فإذا بساقى القهوة يقول مازحا: إسماعيل يس فى السيرك، فيلتقطها حلمى رفلة، ويرسل فى اليوم الثانى مصورينه وهات هات هات، قبل أن يتفق مع إسماعيل يس أو غيره، ثم يخرج فى النهاية الفيلم
ثم ينتقل الحديث إلى رمسيس نجيب وكيف نشأ ريجيسير، وشارك ممدوح الليثى وكانا من أمهر وأحذق المنتجين فى رجال الأعمال، حتى وقع رمسيس نجيب فى حب لبنى عبد العزيز، وهات يا إعلانات ليس عن الفيلم وإنما عن الست (المدام)، مما أدى إلى انفصال ممدوح الليثى إنقاذا لما تبقى من أمواله
ويحكى أبوالنصر عن معرض سلفادور دالى المقام حاليا بقصر الفنون بالزمالك، وكيف أنه يحوى من اللوحات الرائعة والنادرة كذا وكيت، وتأخذه الحماسة حتى يقول إنه لا يوجد فى مصر ولا واحد فى الألف من هذا الفن، وأثور فى داخلى وقبل أن أنطق يذكره نعيم بالفنان التشكيلى الجزار (أظنه عبد الهادى الجزار) ثم أذكر أنا جميل شفيق، وأنبه إلى خطورة هذا الاندفاع إلى الانبهار بالشائع هكذا، فلوحة دالى إن صلحت لبنك يابانى أو ملياردير سويسرى فقد تكون دلالتها وجمالياتها غير ذلك عند ناس مثلنا. ثم أردت أن أستوضح - استطرادا- نقطة شغلتنى عن أثمان هذه اللوحات، وسألت من يفهم فى هذا الأمر أكثر منى عن القيمة الفنية لما هو النسخ بتصوير متقن تماما للوحات الفن الأصلى بحيث لا يمكن أن يميز الفرق إلا خبير متخصص، (وقد شغلنى قبل ذلك نفس السؤال عن الجواهر المقلدة) وأسمع الإجابات التى لا تشفى غليلى، وأتساءل أليست وظيفة هذه النسخ المصورة هى أن تنشر هذا الفن الراقى، وترتقى بذوق المتذوق الشخص العادى الذى قد لا تتاح (بل من المؤكد أنها لا تتاح) له أدنى فرصة لسماع شيء عن هذا الفن النادر والثمين ناهيك عن مشاهدته، ناهيك أكثر عن اقتنائه؟ وقد ذكرت للأستاذ اعتزازى بمجوعة كروت صغيرة اشتريتها من المونمارتر المرة تلو المرة، لكل من أُحـِـب من التشكيليين وخاصة فان جوخ، وأننى أتأملها وكأنى أشاهد اللوحة الأصلية، بل إننى مع استعمال هذا الجمال المقلد فى الحياة العادية ولو كقاعدة للقهوة والشاى الساخنين، لأن الإلحاح على الحواس بالجمال من أى مصدر وفى أى وقت خليق بأن يشكل الحواس كما ينبغى لما ينبغى، ويوافقنى الأستاذ بتواضعه، فى حين يتحفظ أهل القيمة (وليس بالضرورة أهل القمة)، ونذكر بالمناسبة فضل ما جمع ثروت عكاشة من مجموعات من المتاحف والتاريخ خليقة بأن تؤدى دورا هاما مهما كانت مستنسخات غير أصيلة.
وأسأل أهل التقصى عن حقيقة استعمال ثروت عكاشة لجهد غيره فى معظم ما أخرج، فيأتى الرد بالإيجاب، وأنه كان استعمالا مأجورا أجرا سخيا، وأقول إنه بالرغم من تحفظى من ناحية الأمانة واستغلال الحاجة إلا أنه من حقنا أن نتصور أنه لو لم يستعمل هؤلاء هكذا، إذن لكان من الممكن ألا يفعلوا شيئآ، وتُذكر أسماء لا أذكرها لكن واحدا من هذه الأسماء ذكر أن هذا الاستعمال السرى، ربما قد ساهم فى قرار أحد هؤلاء المـُـســْـتـَـعـْـمـَـلين الانتحار، وأرفض الربط السببى السطحى بين هذا الحدث وبين ماكان يحكى، ومع ذلك أرد على من يريد أن يربط ولوتعسفا: أن الإنسان حين يرى نفسه وجهده وقد تذيل إسم غيره مهما كان، فإن أى تعويض مادى لا يجزيه، ونظرا لاستمرار حاجته، فإنه يستمر فى بيع إسمه وقدراته حتى ينتهى إلى لا شىء، ولتحقيق اللاشيئية كان الانتحار، ربما، وأعود لأؤكد رفضى لهذا التسبيب الخـَـطـِّـى المسطح، وبالتالى أرفض هذه الرواية وأرجح أنها إشاعة.
واستأذنت وأنا فى حالة راضية من محتوى الحديث وحماس النقاش، وكنت قد أشرت إلى الدكتورة منال أننى اليوم - هكذا- أستأهل عزومتى لنفسى على الغداء المجانى (البلوشى) الذى تناولته فى الفندق المجاور قبل أن أحضر إليهم.
الحلقة الرابعة والستون
أولاد الساسة والثوار
الأربعاء: 24/5/1995
من زمن وأنا لم أذهب إلى سوفيتل المعادى يوم الأربعاء، لم أجد اليوم مع الأستاذ إلا نعيم وزكى، أين الآخرون؟ تصورت أن الذى يجمع هؤلاء الطيبين هو جذب الأستاذ وفضله، وليس شعورهم بالعرفان للإسهام فى تحقيق فكرة أن الناس هم الدواء الذى وصفته للأستاذ منذ أول لقائى به فى مستشفى الشرطة بعد الحادث مباشرة، حمدت الله أن وضعنى هكذا فى طريقه هذه الأيام حتى لا تتحق مخاوفه التى كتبها فى القصة القصيرة “اليوم الأخير” (والتى ظهرت فى الأهرام بعنوان: علّمنى الدهر، وسبق أن أشرت إليها ورفضت تغيير العنوان الذى قام به الأهرام دون استئذانه)، كان زكى يقرأ للأستاذ مقالا فى الأهالى التى بدا لى أنها تأممت هى الأخرى، وقلت للأستاذ تعليقا قرأته فى مجلة كاريكاتير على ما أذكر أنهم يقولون إن عبد الناصر أمم الصحف، أما النظام الحالى فقد أمم رؤساء تحرير الصحف، فهو إذ يتيح لهم فرصة الظهور فى برامج تليفزيونية مثلا هنا وهناك، أو صحبة الرئيس فى رحلات الخارج يفتر حماسهم رويدا رويدا، وتتحول لهجتهم حتى لا تكاد تفرق بين صحيفة معارضة وصحيفة قومية أحيانا لو أخفيت عنوان الصحيفة، ويأتى الحديث عن مقال عبد الستار الطويلة عن إبن الريس، ذلك المقال الذى نشر فى الأهالى ثم تراجع عنه فى العدد التالى تراجعا أقبح من أى دفاع بدئى، أو إنكار مطلق، ثم يذكر أحدهم كيف تصدى ثروت أباظة لهذا المقال ودافع عن الرئيس وإبنه بل عن أبناء كل المسئؤلين بلا استثناء، ونبهت أننى لا أميل إلى تصديق الشائعات هكذا ابتداء، لكن من حقنا أن نرصد عدة أمور بالنسبة لهذه الظاهرة، فأولا: معظم أولاد الساسة والثوار قد اختاروا مسار مستقبلهم كرجال أعمال، وأثْروا من ذلك بما شاؤوا كيف شاؤوا، أفلا يشير هذا إلى نوع القيم التى نشأوا فى رحابها شعوريا أو لاشعوريا رغم ثورية واشتراكية أغلب آبائهم؟ وثانيا: إن إبن المسئول ليس بالضرورة له حظ أوفر بتوصية أبيه مثلا، لكنه حتى لو لم يقصد فهو سوف يأخذ فرصا أكثر من غيره، فالعمل فى هذا المجال يعتمد إلى جانب كبير على الإيهام بالوصول والاتصال، ومن ذا الذى يمكن أن يستبعد التسهيلات والتشهيلات التى تتم بمجرد سماع إسم مسئول كبير مقرونا باسم والده؟! المهم، وأخيرا: حتى لو أراد المسئول أن يوقف إبنه عن المضى فى الكسب تلو الكسب، ماذا بيده قانونا أو حتى عمليا ليوقف هذه التجاوزات المحتملة، وماذا يقول لابنه إذا كان إبنه لا يتباهى ولا يستغل اسمه مباشرة وإنما “هم” الذين يقومون بالواجب؟ ويرد الأستاذ على هذا التساؤل الأخير بطيبة واثقة، “يقول له بعد أن يكسب أول صفقة، إن كانت كافية، يا إبنى أبوك فى السلطة، يكفى هذا”، ولا يبدو على الأستاذ أنه يمزح، وأذكر أن ذلك يجرى فى امتحانات كلية الطب أحيانا حتى لو لم يوص الأستاذ على ابنه، وأشير إلى خبرتى الشخصية ولى ولد وبنت مروا بذلك، أشرت إلى ذلك واعتذرت عن حكى التفاصيل، لكن الأستاذ يصر، فأحكى كيف أننى نبهت ابنتى فى امتحان البكالوريوس ألا تذكر اسمها كاملا، لكن الممتحن الخارجى فى مادة الطب الشرعى اكتشف اسمهما كاملا، وعرّفها أنه يعرفنى وأنه احترم اخفاءها لقبها، وأعطاها حقها (لست متأكدا حقها فقط أم حقها وزيادة، ولو برر هذه الزيادة أنها لصدقها فى تجنب ذكر اسمها بالكامل!!)، وأعترف أن هذه المسألة ومثلها كانت تؤرقنى، وأننى لم أجد لها حلا واقعيا حتى الآن، وأننى دخلت تجربة خائبة فى تربيتى لأولادى، أعتقد أنها فشلت، ويسأل زكى بلهفة عنها، ويصر بحب استطلاعه وطيبته معا، فأعتذر ثانية، لكن الأستاذ ينتبه فى رفق، وكأنه يدعونى للحديث بطريقته فلا أملك إلا أن أوجز محاولاتى “الفاشلة” فى هذا الصدد منذ أن حاولت أن أنقل لأولادى أن كل ما يصلهم منى هو من حق “نشر المعرفة” “ونفع الناس”، وأن أى قرش لا يصب فى هذين الرافدين هو حرام لو أنفق فى غيرهما، وبالتالى فهم ليس من حقهم بعد أن يرثونى شرعا أن يصرفوه إلا فيما خصص له، وأن أية متعة يتمتعون بها أكثر من غيرهم، هى دين عليهم لغيرهم، وحين احتدت الرسالة لدرجة النكد بدا لى أنهم صاروا يكرهون ما يصلهم حتى من مكسبهم الشخصى (فإبنى الطبيب المدرس المساعد يكسب من هوايته الديكوراتيه – تجميل المنازل من الداخل– أكثر مما أكسبه أنا فى الطب)، ثم إنهم لم يعودوا قادرين على التمتع الطليق بما تحت أيديهم نتيجة لهذا الذى نبهتهم إليه، حتى أن ابنى هذا قال لى يوما فى إحدى المناقشات، إنك لو أعطيتنى فى اليوم ألف جنيه الآن فإن هذا لا يمحو (أو لا يغفر لا اذكر) ما أصبتنى به باكرا، ولما سألته المرة تلو المرة عن هذا الذى أضررته به باكرا، لم يفصح كثيرا ورجحت استنتاجا أنه ربما يشير إلى أننى أشعرته بالذنب نحو كل متعة حتى حرمته من حق الاستمتاع غير المشروط، وفهمت كيف أن هذا كان قاسيا فعلا فى مثل سنه الباكر، وخجلتُ مما فعلت، ولكن حجتى أنه كان لزاما علىّ أن أكون أمينا معهم منذ البداية، وكان تبرير هذا الفرمان تلو الفرمان مرة مكتوبا، ومرات مسجلا على شريط، أن المال أمانة، وأن الميراث له ما يبرره فقط إذا قام بمهمة نقل مسئولية نقل الأمانة من المورِّث إلى الوارث، من حيث أنه هو الذى يحمل من الصفات والدين والالتزام ما يجعله أقدر من غيره على تسلم العهدة وحمل الأمانة، وأن شيوع المال، أو تولى الدولة وحدها حمل هذه الأمانة ليس بديلا جيدا أو مأمونا، لأنه ليس هناك ضمان أن الدولة هى أقدر على حمل الأمانة وكلام من هذا، ولم أنتبه كيف أن ذلك كله كان، وربما ما زال، عبئا على أولادى، فى الظروف الجارية، خصوصا وأننى نبهت إلى أكثر من ذلك مما يتخطى الميراث، فقلت لهم أنه حتى المال اللذى سيكسبوينه بعرق جبينهم هو أيضا أمانة، وأنهم ليس من حقهم أن يتصرفوا فيه كيفما اتفق، ويصر زكى سالم أن أشرح له ماذا أقصد “بنشر المعرفة” “ونفع الناس”، فأحدد له أننى أقصد نشر ما ينير العقول ويوسع الوعى، وأن ما ينفع الناس هو ما يساعدهم على الحياة والمعرفة والوعى والكرامة والإبداع، ويسألنى زكى فلماذا تقول أن هذا خطأ أو فشل، وأنك تراجعت، وما الذى جعلك تتراجع، فأقول له إننى لم أتراجع عن المبدأ أو عن صحة رأيى، وإنما تراجعت عن فرض تطبيقه ولو عاطفيا فى هذه السن المبكرة، حتى لا أضر أولادى فيشذوا أو يُجَنّوا أو يبلبلوا وسط هذا المجتمع الذى لا يعرف شيئآ عن هذه المسائل، ثم إننى وجدت أنه حل فردى، وأى حل فردى- كما علمنى الأستاذ- لا قيمة له، وهو على أحسن الفروض حل فنى، وأخيرا فإننى رغم تراجعى عن التنفيذ الشخصى وليس عن محتوى المبدأ فإننى أرى أن توجّهى هذا وصل لأغلب أولادى بقدر معقول، لكن ليس بالقدر الكافى، (أظن أن ذلك أصبح أقل فأقل فأقل فأقل مع مرور الأيام2010) ويقول الأستاذ ”هل رأيت؟! إن كل المطلوب من المسئول هو أن يوصل مثل هذه الرسائل لأولاده كما يوصل لهم الجاه والاسم وفرص الإثراء”، فأنبه الأستاذ بسرعة أن هذا غير مضمون، وأننى ذكرت من البداية أنها تجربة لم تنجح معى ومع أولادى إلا قليلا، وإن كنت آمل أن يتبقى منها ما يفيد، إلا أننى أقر وأعترف بفشلى، ثم إننى لا أفهم فى هذه المسائل وعندى من الحسابات ما يـُـضحك، فمثلا أنا لا أستطعم ولا أفهم أن أشترى أرض بناء بخمسة جنيهات ثم أبيعها بعد عدة سنوات بمخمسمائة أو خمسة آلاف دون أن أضع فيها حجرا أو أنفع بها أحدا، ماذا فعلت أنا لأستأهل هذا المال الجديد، وحين كنت فى الحج وعلمت أن الضحية لا بد أن تكون من مال طيب أخذت أسترجع أنواع ومصادر دخلى حتى وجدت أن أطيب مال هو المقابل لما أبذله مع مرضاى فى العلاج الجمعى بالذات، فاستحضرت المبلغ فى وعيى، وفـَـصـَـلـْتـُـهُ فى ذهنى عن بقية دخلى بما فى ذلك مرتبى، واشتريت الخروف وتوكلت على الله، سألنى زكى سالم: وهل مرتبك من الجامعة لا يسرى عليه تعريف ”المال الطيب”؟، فقلت إن هذا المرتب هو موضع شبهات بلا حصر، ليس فقط لأنى لا أؤدى به ما ينبغى، وإنما لأن ما أؤديه مما يبدو أنه مهمة أستاذ الجامعة هو مغترب، وكثير منه لا فائدة منه، بل إنه قد يضر حين يصل من خلاله تقديس لمنهج سلطوى تقليدى أنا أعتقد أنه يخنق المعرفة لا يفجرها، ويتعجب الأستاذ من هذا الاعتراف، فأؤكد له أن الجامعة لم تصبح قيمة فى ذاتها، وأن ولدىّ، وكل منهما مدرس مساعد فى الجامعة، يحاولان إقناعى يوميا بمشروعية استقالتهم، الأول ليتفرغ للزراعة، والثانى ليتفرغ للديكور والهندسة، ويعجب الأستاذ من كل ذلك، وبالذات لما وصله عن تدهور الجامعات بهذه الصورة ويقول: “ولو، فأنت حاولت مع أولادك أن توصل لهم قيمة الحلال والحرام مثلا، فهل تطلب من المسئولين أكثر من ذلك”؟ ويقول زكى سالم إن المسألة لا حل لها إلا فى تطبيق القانون بشكل جاد، وخاصة مع المسئول وأولاده، من أين لك هذا، والضرائب، وتهريب الثروة بكل دقة وصرامة مثلهم مثل غيرهم بالحرف الواحد، فأوافق جدا، لكننى أقول، وأنا أشك فى قدرة القوانين وحدها، أقول دون شرح: “ولو ألقى معاذيره، ولو ألقى معاذيره”.
ثم نعود إلى مقال ثروت أباظة وابن الريس، وأقول للأستاذ أنا أعلم كم تحب الأستاذ ثروت، وأنا لا أعترض على هجومه على عبد الناصر، وتصورى أنه هاجمه فى قصصه، ولكننى أتعجب أن الأستاذ ثروت يذهب فى الدفاع عن حسنى مبارك وعن النظام أبعد مما يمكن تصوره لكاتب حكومى أو حتى صحفى طيب، ويهاجم زكى المقال ساخرا، وأحاول التخفيف لعلمى بعاطفة الأستاذ نحوه، وأقول للأستاذ: “إننى تعلمت منك أن أحترم الاختلاف حتى ولو وصل الأمر أن يكتب صديق لك مثل هذا الرأى الذى يمكن أن يوصف بالنفاق الصريح، فمن حقك (وبالتالى من حقى) أن أبحث عن وجهة نظر تبرره”، وأذكّر الأستاذ بمقولته عن مدح ثروت أباظة بأنه من مزاياه أنه لم يتنكر لطبقته لأنه من الصفوة ولم يقل مثل غيره ” أنا لست إبن باشا ولا حاجة، دانا إبن ”قـ…..”، فيضحك زكى ويقول إن كاتب المقال لم يقلها وترك الناس هم الذين يقولونها، وأتمنى ألا يكون الأستاذ قد سمع تعليق زكي.
وينتقل الحديث إلى مسألة القدس، وتوقيف الحكومة الإسرائيلية قرارها بشأن الاستيلاء على الخمسين هكتارا بصفة مبدئية ثم تراجعها بناء على تهديد النواب العرب فى الكنيست بسحب الثقة، وأقول إن هذا التراجع هو شهادة للديمقراطية، ولكنه خطر أى خطر فى النهاية لأن معنى ذلك إثبات صريح أن العرب بكل عشرات الملايين من المحيط إلى الخليح لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئآ فى ظل الحكم الشمولى الذى يحكمون به، وأن عددا على أصابع اليدين من النواب العرب الإسرائليين استطاعوا أن يوقفوا القرار، أو على الأقل أن يؤجلوه قليلا، بفضل الحكم الديمقراطى الذى يظلهم، وأذكّر الأستاذ بتساؤله كيف يصدر مثل هذا القرار ولا تقوم المظاهرات فى شوارع العالم العربى، وأؤكد أن الناس قد انفصلوا عن حكامهم، وعن القرار، وعن التفاعل، وهم فى حال انتظار مر، وفـُـرْجـَـة فاترة فى طول العالم العربى وعرضه، ويقول زكى إن عدم قيام مظاهرات هو نتيجة لقهر النظم، فيرد الأستاذ عليه: “ومنذ متى كانت المظاهرات تأخذ رأى النظم قبل أن تقوم أو تستأذن الحكام”؟
ثم يجرى تعقيب عابر عمآ يفعله السيد وزير التعليم من رشوة للناس بإعلان سهولة الامتحانات ناسيا أبسط منطق عن معنى الامتحان واستحالة تسهيله بهذا الشكل إلا على حساب قيمة الامتحان كأداة متدرجة الصعوبة، وأن هذه الرشوة التسهيلية هى رشوة زائفة، لأن الأعداد هى الأعداد، والتنافس هو التنافس، وأن سهولة الامتحان لن تميز الطالب المتفوق، وإنما قد تعطى فرصة لظاهر الأداء، أو صقل الشكل أن يتميز دون اختبار، وأن الاتجاه السائد الآن إعلاميا وفعليا، أصبح سطحيا حتى أصبح مفخرة للمسئولين والوزراء أن يصرّحوا أن الامتحان ”من المقرر”، لا بمعنى تحديد الموضوعات المفروضة، ولكن بمعنى ألا تحتاج الاجابة إلى تفكير، ذلك أنه يبدو أن التفكير الآن أصبح خارج المقرر، وكأنه أصبح بمثابة خيانة قومية، أو دليلا على العصيان بشكلٍ ما، فلماذا التفكير ما دامت كل الأمور، نعم: أوضح وأبسط وأكثر مباشرة من أن نفكر فيها، كل الأمور بما ذلك أسئلة الثانوية العامة!!!!
الحلقة الخامسة والستون
بابا سمحْ .. أروح الفَرَحْ
الخميس (الحرافيش): 25/5/1995
إعتذر توفيق صالح، ومن ثمَّ لم أتوقع أيَّا من الحرافيش القدامى، هل معنى ذلك أن توفيق صالح هو الحرافيش، وماذا لو سافر أو اعتذر دائما([21]) ما علينا: الأستاذ مصمم أن الحرافيش هم الحرافيش، وأننى أحدهم برغم تكرار توضيح موقفى وتاريخية العلاقة التى ربط بين الأصليين، ويبدو أننى – من وجهة نظره على الأقل قد تثبتُّ- حرفوشا رغم أننى لم أقتنع تماما.
هذه ليلة ثنائية أخرى أصبحتُ أرحب بها أكثر مما أخاف منها كما كان الحال سابقا (يوم ما اتقابلنا احنا الاتنين)([22])
حين علمت أنأحمد مظهر لن يأتى وتوفيق صالح معتذر عن كلٍّ من الجزء الأول والثانى من السهرة، قررت أن أذهب للأستاذ بعربتى ذات المقعدين حتى نتخلص من الحارس الخاص الذى أنا على يقين من أنه لا جدوى أمنية من صحبته، وقد كان، بعد أن ركب الحارس الخاص عربة الحكومة، بدت الليلة مختلفة، وحين قلت للأستاذ ماذا عن السودانى، ردّ فى هدوء: سودانى ماذا بقى ونحن لن نذهب إلى بيت توفيق؟!!
غيرت الطريق وذهبت من أمام الجامعة، فلاحظ، و سألنى عن التغيير فأجبت بالإيجاب وفرحت لملاحظته
فى طريق الملك فيصل شممنا رائحة بـُن، وإذا به يقول: ألله!! رائحة بن!!، ثم يضيف بُن جميل!!!، وأفرح بعودة حدة الحواس كلها هكذا، وأتعجب مِن الذين يعيشون دون استعمال حاسة الشم، وكثيرٌ ما هم.
فى فورت جراند، يبدو أن الأستاذ انتهزها فرصة وقال أحدثك عن حكايتى مع النوم، ليلة تمضى هادئة مستورة، وأخرى أجد نفسى قفزت من السرير مصهللا ولا فائدة من أية محاولات أخرى، وحاولت أن أعيد ما سبق أن قلته عن التحدى الذى يبديه الجهاز العصبى أمام المؤثرات الكيميائية والنفسية، فتأتى أحيانا بعكس المنتظر منها)[23]) فيهز الأستاذ رأسه نصف مقتنع، ويقترح تغييرا فى الدواء فأوافق، ويقترح زيادة فى المنوم فأرفض، وأذكّره أننى لا اصف منومات أبدا فى ممارستى مهنتى، لا له ولا لغيره، وإنما هى تشكيلات تساعد على استعادة انتظام وفاعلية إيقاع النوم/اليقظة، ورحت أشرح له أن النوم هو الأصل، وأن اليقظة هى السلوك الأحدث، وأن نظريات تفسير النوم لم تصل إلى حسم نهائى حتى الآن، وأننى أميل إلى الاتجاه الذى يرى أن النوم هو حالة تتبادل مع اليقظة، وليست نفى اليقظة، فهو توقيف مؤقت لليقظة، كل ما علينا هو أن نتوقف عن اليقظة فننام، إستقبل الأستاذ الحديث بحذر، فمضيت أشرح له وجهة نظرى من الأحياء التى لا تتمتع بالوعى ذى الطبقات فهى لا تنام ولا تصحو، وأن الوعى حين أصبح دوريا تبادليا بين مستوياته أصبح التناوب بين طبقتين هو السبب فى تناوب النوم واليقظة فى دورات، وأن الطفل حديث الولادة يولد وهو نائم ثلاث وعشرين ساعة فى اليوم (أو أكثر) ثم يبدأ فى دورات النوم التى تزيد رويدا رويدا، وأن مسألة أن الناس تعيش فى حالة من التنويم الجماعى لها ما يبررها، وأن المبدع هو الذى يعيش فى لحظات إبداع بأكثر من مستوى من الوعى معا، وبالتالى فمسألة اللاشعور وما أشبه لم يعد لها مكان خاص متميز فى الفكر النفسى الأحدث، وخلاصة القول أن عليه (على الأستاذ) أن يتعلم كيف لا يعاند النوم ولا يطلبه لذاته، وهو سوف يأتى حتما، فيهز رأسه وهو يتمنى حلا أسهل.
تحدثنا عن ما نشر له اليوم فى وجهة نظر عن الأدب وموجة العبث، وعلاقة ذلك بما كتبه بعد 1967، قلت له إن ما وصلنى هو أنه ابتعد بذلك عن المشاركة بالرأى فى مجريات الأحداث الدائرة فى الفعل اليومى، وأنه لم يكن يريد أو يقصد مثل ذلك، ولكن يبدو أن الذى حدث هو أنه لم يعد يستطيع أن يتابع الأحداث منفردا فيستلهمها، وأضفتُ أننى كنت متحفظا على باب وجهة النظر جميعه، حتى أشرت إليه رافضا فى مقدمة الحرافيش، مع أنه كان ينشر بين الحين والحين آراء مضيئة مثل كلمته كيف أن الشعب المصرى أصبح شعبين لا طبقتين، وأن المطلوب هو توحيد الشعب المصرى، فقال إن هذه الكلمة أثارت أنور السادات حتى نادى على حمدى الجمال ونهره وقال له ما هذا الكلام الذى تنشرونه هكذا، ومضى يقول إن بعض من فى الأهرام فرحوا بهذا التغيير، وعلى عكس تحفظى على ما ينقله عنه سلماوى الآن، أبلغته بعض الآراء الإيجابية التى وصلتنى، وأن أغلب ما ينقله عنه سلماوى الآن هو ما لا يقوله إلا نجيب محفوظ، وهو غير ما كان يضطر إلى كتابته شخصيا فى وجهة نظر القديمة حين كان يكتبها بنفسه، وقد كانت تبدو لى فاترة أحيانا.
بدون مناسبة سألته عن إسم السيناريست الذى يملك مسرح عادل إمام فى الهرم فلم يتذكر، وتعجب للسؤال كما تعجبت أنا أيضا، خاصة أننى لم اسأله عن رأيه فى عادل أمام شخصيا مثلا.
ثم لست أدرى مالذى عرج بنا إلى الحديث عن اللغة العربية، فقلت له إننى أستلهم معلوماتى فى فرعى (الطب النفسى) من اللغة العربية، وإننى مثلا تعلمت من أنواع الحزن من اللغة العربية ما لم أتعلمه من الكتب النفسية، وإن كان قريبا مما تعلمته من مرضاى، وضربت له مثل تشكيلات مضمون لفظ الحزن، وأيضا عن طيف لفظ “الهم” الذى فيه البداية (همّت به وهمّ بها) وفيه “الإرادة والعزيمة” من ”الهِمَّة”، وفيه الحزن والغم من “الهموم”، فى حين أن الحزن فيه المرارة وحدة الوعى والشدة وأنشدته:
شيخٌ إذا ما لـَـبـِـسَ الدِّرْع َ حـَـرَنْ …. سهلٌ لمن سـَـاهـَـلَ حزْنٌ للحزِنْ
وقلت له إن استلهام اللغة لما هو ”نفسى” هو منهج مهجور مع أنه ثورة تميزنا، وقد استعنت بلغتى فى توضيح نظرياتى الجديدة عن “الإيقاع الحيوى” مثلا، وأننى عثرت على فكرة مُواكبة العرض حتى يزول فى شعر ذى الرمة الذى كان يستضيف الحزن ويكرمه ويصاحبه حتى ينصرف مثلما ينصرف التعب عن الإبل بالحداء، يقول ذو الرمة
وكنت إذا ما الهمُّ ضافَ قريْتُه …. مواكبةً ينضُو الرعان ذميلُها
وقلت له أيضا إن فكرة الحاجة إلى الشوفان وجدت لها أصلا فى اللغة، وأنها ربما تكون أهم وقبل الحاجة إلى الجنس أو العدوان لما هو إنسان ولما هو حيوى، وحكيت له الشعر القائل:
إن الكريم إذا يُشافُ رأيته …. مـُـبـْـرَنـْـشـِـقاً، وإذا يهان استزمرا
وفجأة أحسست أن الجرعة زادت، وأن علاقته باللغة أرق وأجمل من هذه الاستشهادات، فتوقفت، ولكن قبل أن أتوقف قلت له إن المطلوب ممن يحب اللغة العربية أن يفتح أبوابها على الآخر، والمطلوب زيادة أبجديتها وخاصة بنحت الألفاظ، والترحيب بالعامية وما يسمى بالكلمات الدخيلة، لأن هذه الكلمات هى مصدر ثروة للفصحى، مادامت تقبل النطق السليم، والتصريف العربى المناسب، وضربت له مثلا حين نحتُّ كلمة “شَـمـَـجـِـىّ” مقابل اختصار VIP بالإنجليزية، فكما أنVIP تعنى Very Important Person فإن كلمة ” شَـمـَـجـِـىّ ” تعنى “شخص مهم جدا”، وأن نحت الكلمات قد يتم بكفاءة من العامة اسهل من مجمع اللغة، وضربت له مثل استعمال كلمة ”بـَـنـْـشـَـر”، إطار السيارة “بنشر”، بمعنى ثقب، وهى كلمة دخلت إلى العربية فى الخليج من استعمال كلمة Puncture أى يثقب، هز الأستاذ رأسه دون حماس فقررت أن أغير الموضوع،.
سألته عن الباليه المسمى ” الغيبوبة ” والذى عمله أحدهم تصويرا لحادث اغتياله، قال لى أنه سمع عنه، وأن توفيق يثنى عليه، وهو باليه حديث، فقلت له إننى لم أشاهده، ولكن من خلال ما قرأت عنه من نقد فإننى تساءلت إن كان هذا يصور حادث الاغتيال أم أنه مجرد مقابلة بين السماحة والمرونة من جهة، وبين التعصب الأعمى والاندفاع من جهة أخرى، ثم ذكرت له أننى أحب الباليه، وأن ما يسمى الباليه الحديث شاهدته مرة واحدة فى باريس، وقد تعجبت من عنف النقلات وغرابة العلاقات وديكورات المسرح المائل، ودحرجة الراقصين والراقصات على أرضيته، وشعرت أن هذا الأسلوب يرهقنى حتى شككت فى فهمى، بل وفى كل مداركى، مثله مثل الكثير مما يسمى الحداثة، فقال إنهم هم أنفسهم لا يفهمونه فى الأغلب أيضا، ثم ساد صمت طيب، فشعرت احتمال أن يكون فى حماس تنقلاتى ما يرهق الأستاذ، وامتد الصمت فقلت فرصة يلتقط أنفاسه من هذه الملاحقة التى تصورت أنها مسئوليتى، وبررتها بأن علىّ أن أملأ الوقت وحدى، فضلا عن تصورى بما يليق أن يملأ الوقت بما هو حرافيشى، وإن كنت لا أستطيع أن أميز تحديدا ما هو الفرق بين ما هو حرافيشى وما هو غير ذلك، لكننى أعرف أن ثـَـمَّ فرقا.
عاد الحوار بفتح الحديث عن جـَلْد طبيب مصرى فى السعودية بتهمة الافتراء (الاتهام الكاذب) على ناظر مدرسة بأنه اعتدى على إبنه جنسيا، وقد ثبت هذا الاعتداء بفحص الطبيب الشرعى فى القاهرة، إلاأنه يبدو أنه لم يكن هناك شهود فى السعودية، وبدلا من عقاب الناظر مع وجود الدليل العينى، عوقب الوالد، ويقول الأستاذ فى ألم كيف يأتى الوالد أوالطفل بشهود، وهل سينادى الناظر المدرسين مثلا أو الفراش للفرجة، وأقول: وهل كان على الأب أن يسكت، وماذا يقول لابنه الذى أبلغه الحادثة، يقول له أنا ساكت لأنى جبان أم لأنى راض عمآ حدث، وأحـِـسّ أن الأستاذ يشاركنى – يشاركنا- كل محنة دون استثناء، ويسود صمت شائك هذه المرة.
الأستاذ هو الذى يقطع الصمت هذه المرة بتساؤل حول استيضاح خلافى مع إبنى كلما ذكر الإسلام، ويستوضح هذا الخلاف منتهزا فرصة انفرادنا على ما يبدو، فأقول له أظن أن الخلاف هو فى الاسم والمخاطر اللاحقة من التعرف على الحقيقة، ويستزيدنى الأستاذ فأقول له إن الاختلاف هو أن محمد يتهمنى أننى أطلق لفظ الإسلام على تصور خاص بى، حين أصر أن الإسلام هو موقف وجودى إيمانى شامل، وأنه هو الحرية والمباشرة والبساطة والامتداد فى “المابعد” (الغيب)، وأنه إطلاق القدرات بمعنى تنمية الفطرة، يقول هكذا فهمت موقفك، فلمذا يعترض محمد؟ وهل فيما تقوله ما يدعو للاعتراض؟ أقول إنه لا يعترض على المفهوم أو التعريف وإنما هو يخاف من التسمية فى هذا الوقت بالذات، ذلك أن هذا المفهوم بالشرح الذى ذكرته الآن لا يأتى فى المقدمة بالنسبة لمن يدعون إلى تطبيق الشريعة أو الحكم بالإسلام مثلا، والذى سيحدث غالبا هو أن يـُـختزل الإسلام إلى حكم ثيوقراطى يلتمس الحلال والحرام ويضعه فى أى نصٍّ قانونى جامد، ويشكل الحياة بسكون الألفاظ وليس بحركية الإيمان، وحين تكون معهم السلطة الدينية والسياسية والتشريعية والقضائية فإن هذه المفاهيم التى أعـلِن أنها الإسلام كما وصلنى وأحاول أن أمارسه، قد تعتبر دليلا مباشرا على الخروج على النص، ومن ثم على الإلحاد، فما فائدة الترويج لمفهوم جيد متجدد، تحت إسم دين بذاته سوف يستعمله أغلب من يعتقدون بظاهره عكس هذا المفهوم؟ وخاصة إذا ما تولوا السطة ؟ هذا هو رأى، أو مخاوف محمد إبنى. فيقول الأستاذ ولكن من أين لمحمد اليقين بأنهم سوف يستعملونه فى هذا الاتجاه العكسى، ألا يقول بعض دعاة الإخوان المسلمين مثلما تقول أنت الآن؟ قلت له لا أظن، وأضيف: إن دعاة الإخوان رغم من فيهم من منظرين جيدين يسمون المعتدلين هم ملتزمون بتفسيرات الأزهر والمعاجم، وأن خبرتى معهم منذ سنة 1946 خبرة لا تسر، فقد كانوا ينهوننا عن زيارة الأستاذ محمود محمد شاكر لأنه كان يدعونا للنهل من أمهات الكتب وقراءة السيرة من مصادرها الأولى وليس من الرسائل المختصرة التى يوزعونها علينا، ثم إنهم حاكمونى وفصلونى أنا وبعض زملائى الشباب من التنظيم بحجة أننا خرجنا عن الخط الأساسى، كان ذلك سنة 1951، وأنا لا أريد أن أعمم من تجربة شخصية، لكننى أتابع الآن ما يدعو إليه من يسمون أنفسهم بالمعتدلين، فأجد أن المسألة هى تمييع لما هو إسلام، وليست ثورة حضارية لتغيير نوعية الحياة، فهم يصفون أنفسهم بالاعتدال بمعنى أنهم نصف نصف، وأنهم ليسوا إرهابيين، إلى آخر مثل ذلك من تسويات، ثم هم يمدحون الإسلام ليس بما يتميز به ويضيف، وإنما بأن يستعيرونه من إنجازات الحضارة الغربية - مثلا- ويطلقون عليه إسم إسلامى، وكأنهم يجمعون جزئيات الحضارة الغربية المصنوعة هناك ثم يلصقون عليها لافتة إسلام ويقولون: أنظروا نحن معاصرون ومعتدلون، وهذا يصلنى مثلما نفعل فى مصانع سيارات النصر والحكومة تتصور – أو توهمنا – أنها مصانع سيارات وهى لا تفعل إلا أن ترفع لا فتة فيات وتضع بدلها كلمة “نصر”، فما فائدة كل هذا للناس، مجرد تعليق لافتة “إسلام” على طريقة تفكير وطريقة حياة كلها غربية ومستوردة ليس لها علاقة بالإسلام كما أتصوره مساهِما مُضِيفا، إذا لم يكن فى الإسلام ما يضاف جديدا فلا داعى لكل هذا الادعاء، ما فائدة أن نسمى الديمقراطية الغربية بالشورى، ونسمى حقوق الإنسان الحقوق الشرعية، ونسمى الاشتركية العدالة الجتماعية فى الإسلام، ثم نستورد تحت الإسم الإسلامى كل أجزاء حضارة لا تميزنا ولا تضيف إلينا ولا إليهم جديدا، إننى أتصور أن الامتداد فى المابعد (وهو الإسم الذى أطلقة مرادفا للغيب الحقيقى كما ذكرت سابقا) وتحديد العلاقة بين البشر وبعضهم البعض بمشاركة جذب محورى يمتد فيما بينهم فيجمعهم إلى الحضور الإلهى فى نوع مختلف من الوجود والعلاقات “تحابّا فى الله: اجتمعا عليه وافترقا عليه” هو ما يميز الإسلام”، انتبهت إلى التمادى فتوقفت من جديد، فعاد الأستاذ يسأل: فماذا يزعّل محمد فى هذا، قلت: إننا غير مختلفين فى المحتوى، وإنما فى التسمية، قال فماذا يريد محمد أن يسميها، ما دام يوافقك عليها، ولا يعترض إلا على الاسم والخوف من سوء استعماله، قلت له إننى لا أدرى، إسأله أنت، أعتقد أنه يرفض أن أسمى كل ذلك باسم الإسلام، لكننى أشعر إنه ليس من حقى أن أستلهم نوع وجودى من معتقد متكامل هكذا ثم أسميه إسما آخر، أنا مسلم وهذا هو إسلامى، فكيف بعد أن أوصلنى إسلامى لمثل هذا أتنكر له وأروح أصفه بصفة من خارجه: إنسانية، أو حضارية، أو حتى تنويرية، بل إننى أتصور أن الله سبحانه سوف يحاسبنا على أساس ما قلت، وقد يسمى فى الآخرة كل من اتبع هذه المبادئ وعاش هذا النوع من الوجود مسلما، دون أن يتدين بدين الإسلام، من أدرانى؟ إن هذا ليس فى سلطتنا ولا هو من اختصاصنا، ثم أضفت ما شككتُ بعد ذلك أننى سبق قوله، وهو أن والدى (الذى كان يقرأ وردا يستغرق عشر ساعات، وكان أزهريا درْعَمِيّا ( نسبة إلى دار العلوم)، نادى علىّ ذات يوم بعد سقوط طائرة داج هموشولد فى الكونغو على ما أذكر وقال لى: بالذمة داج همرشولد (سكرتير الأمم المتحدة فى الستينات) سوف يذهب إلى النار؟ ولم أستطع أن أجيبه، إلا بأننى لست ممسكا بمفاتيح النار، ومضيت أقول للأستاذ: أنظر كيف كان يفكر واحد مثل والدى ثم انظر ما يحدث الآن ولم أشر إلى حادث الاغتيال، رغم أنه ملأنى وأنا أقارن، وحكيت للأستاذ عن والدى وحبه للزراعة مثل محمد إبنى ومثلى، وعن قدرته أن يلتقط صوت ماكينة الرى الخاصة بنا من بين أصوات سائر الماكينات الأخرى وهو جالس فى شرفة الدور الثالث من بيتنا فى القرية، على بعد أكثر من كيلو مترين، ويقول لى إذهب وارسل أحدا يسأل لم توقفت الماكينة، ولا أصدقه، ولا أسأله: إيش عرفه أن ماكينتنا هى التى توقفت؟ لكننى أنفذ كلامه، ويذهب المرسال ويعود ويقول فعلا إن ماكينتنا دون غيرها، بها عطل كذا وكيت، ويدهش الأستاذ ويقول هل كان حدْسا، وأقول بل ربما حدة انتقائية فى السمع والتقاط ما يناسب اهتمامه فى لحظة بذاتها، وهذا ما جعلنى أصفه فى بعض شعرى العامى قائلا:
مزيكته كانت مكنة المية تغنى تحت جميزة كبيرة مضللة:
واسأل فى نفسى أنهو اللى أصلح للتاريخ وللبشر
الكلمة والحب اللذيذ.. فى أودة ضلمة منعكشة
أو لوزة حلوة مفتحة
وأمضى أحكى له عن تديّن والدى، وفى نفس الوقت عن كم الحرية الفكرية التى كان يسمح لنا بها حين يحكى عن رحلته إلى فلسطين سنة 1924 ويقارن يافا بتل أبيب ويتحسر على قذارة أحياء المسلمين، ويحسد اليهود على نظافتهم ثم يقول لنا صغارا، ”تأملوا يا أولى الألباب”، ويستزيدنى الأستاذ أن أوضح له معنى تنمية الفطرة التى أشرت إليه منذ قليل، فأقول له إن المعنى الذى وصلنى من إسلامى أن الفطرة هى أن نحقق للبيولوجى الإنسانى ما هو قادر على تحقيقه بما هو، وبما يمكن أن يكون، أى أنها الهارمونى والبسْط، بمعنى التعامل بما هو موجود، وإطلاق القدرات لتخليق ما يمكن أن يوجد مما هو موجود كما خلقه الله، وكل ما حقق ذلك فهو إسلام، ومن رأيى أن ما وصلنى من أصول ثم عبادات الإسلام وأساسياته هو ما يسهم فى تحقيق ذلك، بل ربما تكون كل عبادات الأديان الحقة تحقق مثل ذلك بأساليب مختلفة، وكل من حال دون ذلك حتى بما يسمونه الآن ”إسلام” ليس إسلاما، وقد بلغ بى اليقين بهذا التصور أن أزعم أن الخلية مؤمنة بطبيعتها لأنها على الفطرة، وبالتالى، فقد كتبت مشروع مقال يوما يقول: ”الإلحاد استحالة بيولوجية”، فيستفسر الأستاذ مستغربا، فأضيف قائلا: إننى أعنى أنه قد يستطيع لأى فكر أن ينكر وجود الله، بل قد تستطيع أية عاطفة أن تحرن وتتوقف عن التناسق مع ما هو الله، لكن لا تستطيع أية خلية أن تتنازل عن نبض الفطرة التى يحافظ على حياتها وإلا ماتت، وعلى ذلك فالملحد ينفصل عن خلاياه المؤمنة، وهو يظل فى جدل معها حتى تصله الرسالة منها فيؤمن، أو هو ينجح أن يقهر تواصلها مع فكره وتأثيرها فيه فيتشوه، وبهذا المقياس أفهم تساؤل أبى عن داج همرشولد، وأفهم اسلام نجيب محفوظ كما وصلنى من كل أعماله التى توجَّها بالحرافيش، وأفتح الباب على مصراعيه لكل من ينتمى إلى الإسلام بالمعنى الأشمل كما وصلنى وهذا هو ما سأحاسب عليه فردا، ولعله هو ما سيحاسبنا الله به !
ويرجع الأستاذ للتساؤل وأنا أود أن أسكت، وإذا به ينتقل من محمد إبنى إلى الإخوان فيسألنى : ألا يوجد فى الإخوان من يؤمن بهذا كله؟
وأقول إننى لا أستطيع أن أنفى ذلك على الإطلاق، ولكن من يشاع أنهم ينظـّرون، حتى ممن يسمون المعتدلون، لم أجد فيهم أيا من ذلك. قال لى مثل من؟ قلت له مثل أحمد كمال أبو المجد، والقرضاوى، وفهمى هويدى، ومحمد الغزالى، وكلهم ثقات أفاضل، وأضفت أنه حين اختبر محمد الغزالى مثلا فى قضية فرج فودة سقط فى الامتحان، لكننى أسمع عما يسمى الإسلام الحضارى هنا وهناك، وأتصور أن هناك منظِّرين فى هذا الاتجاه مثل فكـّـار([24])، وجارودى، وبعض مفكرى المغرب، وهنا يرفع الأستاذ حاجبية مندهشا: فكّار؟؟ هذه أول مرة أسمع عنه كلاما طيبا، وأرى فى وجهه أنه يعرف أكثر مما صرّح، ولا أريد أن أحرجه كما لا أريد أن أغير فكرتى عن فكـّـار مفكرا، ولعل له جانب آخر لا أعرفه، وأمضى فى شرح فكرتى عن الإخوان وإصرارهم على التحديث الغربى تحت إسم الإسلام وفى نفس الوقت التمييع التسوياتى تحت إسم “الأمة الوسط”، هذا التمييع هو ما أخذته على توفيق الحكيم حين وضع فلسفته التى أسماها التعادلية، ثم فى الطبعة التالية لصقها بالإسلام دون لزوم، وهى نظرية كطعم الحوار، وأنشد للأستاذ بيت الشعر القائل:
مسيخٌ مليخٌ كطعم الحوار …. فلا أنتَ حلوٌ ولا أنتَ مرّ
ولا أنسى أن أذكّر الأستاذ بوحدة المعرفة للدكتور محمد كامل حسين، ويقول نعم، أليست هى النظرية التى يقول فيها بتدرج القوانين وأن القانون الأعلى يحتوى ويوجّه القانون الأدنى، وأوافقه، وأفرح أنه قرأ ما أحببتـُـهُ، وأذكره بالمعركة التى قامت بين العقاد وبين الدكتور محمد كامل حسين وكيف وصفه العقاد فى يوميات الأخبار “بالمجبّراتى” (لأنه كان استاذ جراحة العظام).
ويضحك الأستاذ، ثم يقول ثم ماذا ؟
فأختم رؤيتى أننى أتصور أن ما يمكن أن نضيفه بعد ومع امتلاك أدوات العصر، هو التأكيد على امتداد الإنسان إلى ما بعد كل ذلك طولا فى التاريخ حتى الآخرة وما بعدها بكل معانيها، وعرْضاً فى الناس والكون (بكل ما يشمل ذلك من إشارات ومضامين)
يقول الأستاذ: إذن هذا هو الإسلام الذى تدافع عنه، فماذا يضير محمد فى ذلك، إنه يقول نفس الكلام
فأرد مازحا: لكنه لا يريد أن أسميه إسلاما
اعتدنا فى الحرافيش أن ننتقل بعد الجلسة الأولى إلى بيت توفيق وهو معتذر الليلة، نظرتُ فى الساعة فإذا بها الثامنة إلا خمس دقائق، ولم نخطر أسرته الكريمة أننا سنعود مبكرا، فخطر ببالى أن أُقـْـدِمَ على مفاجأة: قلت له إنى أعرف مطعما للسمك قريب من هنا، عشرات الأمتار، وهو يقدم وجبات خفيفة ورائعة، فماذ لو أكملنا طقوس الحرافيش بأن يقبل أن نتناول عشاء خفيفا فيه، وكنت على يقين من أنه سيرفض، إلا أنه أطرق قليلا ثم رفع رأسه مبتهجا وقال نجرّب، لم أصدق نفسى، وبسرعة أشرت إلى الحارس فالحـَرَس أن هـَـيـَّـا، وحددت له وجهتنا على بعد أمتار من هذا الفندق، إلى مطعم “أبو زيد” للأسماك، “بييس”.
قابَلَنا الشاب أبو زيد، وهو صديقى من زيارات خاصة سابقة وهو صاحب المطعم، قابلنا ترحاب وفرح اعتدته من كل الناس، وأجلسَنا فى مكان طيب، وحيا الأستاذ بما ينبغى وأكثر، وذهب يحضر الطلبات، قلت للأستاذ هل يصله كل هذا الحب من كل الناس، وكانت طفلة ذات خمسة أعوام قد جاءت - كالعادة - تسلم عليه فى الفندق وتقول له حمدا لله على سلامتك، وتمنيت أن يمد الله فى عمره حتى يصبح جدا، أجابنى: نعم يصلنى حب من حولى من الأصدقاء والمعارف، لكننى عدت أقول إننى أعنى كل الناس، وخاصة من غير الأصدقاء والمعارف، فهز رأسه نصف هزة حياء وتواضعا.
سألنى الأستاذ عن بعض أنواع السلطات، وفرح بالباذنجان المتبل، والباذنجان المقلى، وأكل ”الفـِـيلـِـيه” بشهية، وقطعة من سمك البربونى، وثنى ببا غنوج وهو يصف هذا ويثنى على ذاك، ويشترط علىّ أن أترك له تحديد النسبة التى سيدفعها فى الثمن، وقبلت مكرها قائلا إنه دفع فى الفندق، فقال محتجا أنْ لا، هذا أمر من طقوس الحرافيش وهو منتهٍ تماما، ووافقته على مضض، وحين دفعنا الحساب مشتركين قال هذا حسابنا وحساب عائلتنا الميرى (كان الحارس واثنان معه قد تناولوا العشاء فى نفس المطعم فى الدور الأسفل) وتعجبت من تعبير “عائلتنا الميرى”، فعلا أصبحوا عائلة حكومية مقيمة،
أثناء عودتنا وحدنا فى العربة الثنائية والتى خلصتنا للمرة الثانية من الحارس الخاص قلت له هل تعلم أن الحارس الخاص هذا تقليد عربى قديم وأن الجوارى الحسان كان يعين لهن حارس خاص من الخصيان يلازمهن طول الوقت ليراقبهن من ناحية، ويحميهن من المعاكسات والذى منه ناحية أخرى، فاستزادنى، فقلت له ما قرأته يوما دون أن أتذكر إسم الشاعر من أن جارية مليحة عينوا لها حارسا خـِـصـِـيـًّـا خاصا إسمه سِنانْ، وكان يمنع أى اتصال وأى تواصل وأى اقتراب منها، بما فى ذلك هذا الشاعر الذى يهيم بها بوجه خاص رغم ما اسشعره الشاعر من مودة حاضرة مرسلة عبر رسائل خفية، فقال الشاعر المحب فى ذلك شعرا قلته للأستاذ بنصّه، لكننى مضطر إلى تحويره وحذف بعضه لزوم النشر، وأقول للأستاذ البيت الأول، وأحجب البيت الثانى عن النشر
ظبيى سنانٌ شريكى …. فيه فبئس الشريك
ويضحك الأستاذ فأكمل له فى نفس المعنى من نفس الشاعر (بعد التحوير):
لله ضرّى لظبىٍ يحبنى وأحبه
إذا رآنا سنانٌ يُهينُه أو يذبّه
هبُه أجاب سنانا (يرومه) أين (دربه)
(وما بين قوسين ليست الكلمات الأصلية، لكننى أبدلتها دون كسر النظم )
ويضحك الأستاذ من جديد، فأقول له أنظر فائدة عدم وجود حارس معنا الآن، لو كان معنا فى السيارة الآن ما جرؤت أن أنشد هذا الشعر هكذا، فيقول: هذا فضلا عن أنه كان يمكن أن يبلغ الحكومة أننا نهين سِنانا الذى يمكن أن يكون عضوا فى الحزب الوطنى!
وكان شارع الملك فيصل خاليا فى البداية، ففرحنا بذلك وعقـَّـبـْـنا عليه، وانطلقنا، ثم تعقد المرور فقال حسدناه، ثم اكتشفت أن المرور تباطأ أكثر فأكثر لأن ثمَّ فرحا أمامنا حيث لاحت العربة المزدانة، فقال الأستاذ ما هذا؟ قلت له فرح، فراح يدندن:
”بابا سَمحْ أروح الفرحْ”
وقال إنها أغنية قديمة،ثم أردف أنظر كيف تدل الأغانى على قيم عصر بذاته، كان أيامها الذهاب إلى الفرح يحتاج إلى محايلة واستعطاف وإذن خاص، فذكَرته بأغنية مقابلة أحبُّها حتى أننى حفظت كلماتها، من كثرة ما أدندها وأنا أقود السيارة منفردا أحيانا، فسألنى عنها، فقلت له أولها، فتذكرها هو بدوره دون تفاصيل، وطلب منى أن أكملها فرددتها مدندنا، منتهزا فرصة عدم وجود الحارس معنا:
حرّج عليا بابا ماروحشى السينما
واقااابلك فيين؟
أنا من رأيى تكاتبنى
واجاوبك وتجاوبنى
وفْ أى يوم تطلبنى
تلاقينى فى غمضة عين
…………..
لو عندك رأى غير ده
قولهولى ونشوف دا من دا
مالوش لازمة البُعاد ده
والنبى دانا بين نارين
……..
وحين وصلت إلى آخر مقطع:
……..
يارب انت ياقادر
ياجابر كل خاطر
دوم إخلاصنا للآخر
وحياة جد الحسين
وجدت أن الأستاذ يكرره معى، ثم سألنى من أين لى حفظ ألفاظها؟ وقلت له : ومن أين له حفظ “بابا سمحْ، أروح الفرحْ”، ثم عقبت قبل أن أستأذنه لفتح المذياع لأسمع أخبار لندن، كيف أن الأغنية تحلف بحياة، سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، باعتبار أنه ما زال حيا بيننا “وحياة جد الحسين”، وفرح لملاحظتى، وتجسدت لى علاقته بسيدنا الحسين وجده.
إستأذنته أن أسمع موجز الأخبار من لندن، فكان ثمة خبر عن الانتخابات للفلسطينين، وقلت له إننى أتصور أحيانا أن العرب الإسرائيليين، وكذلك الدولة الفلسطينية إذا قامت، سوف تكون أول وأهم دولة ديمقراطية فى المنطقة، فيقرنى ويؤكد أن هذا ما يخيف نظما عربية كثيرة.
حين نزل أمام البيت، وصحبته فى اتجاه الشقة، كان الهواء منعشا فالتقط ذلك وقال
الله: ما أجمل هذا الطقس، مثل أكلة سمك الليلة،
فقفز إلىّ تعبير من ملحمة الحرافيش وسليمان الناجى يتحاور مع ابنه سماحة عن لعنة العمرمنهيا حوارهم بقول سليمان “.. ما أبغض قفا الحياة”
وتصلنى فرحته بجو الليلة المنعش وسمك اللية، وأغانى سيد درويش، وأنه:
“ما أجمل وجه الحياة” !!
شيخى يعلمنى العلاقة بالحياة: وجهاً وقفاً .
الحلقة السادسة والستون
بدايات شديدة الحسم، ونهايات بالغة التعميم
الجمعة: 26/5/1995
تأخرت عن اللحاق بالأستاذ فى بيتى متعمدا، كنت مشبعا من الليلة الحرافيشية الثنائية الناجحة أمس، وحين ذهبت وجدت الحديث هادئا، ولم يكن هناك سوى د. فتحى هاشم، ومحمد إبنى (ثم أتى بعد ذلك حافظ، ود. أشرف)
رجعت إلى حديث اللغة الذى بدأناه أمس وسألنى الأستاذ توضيحا لما ذكرته قبلا وأننى أنتمى إلى اللغة العربية وليس إلى العرب، وكنت قد قلت للأستاذ إن كلمته بعد نوبل والتى أعلن فيها انتماءه إلى حضارتين لهما الفضل عليه: الإسلامية والمصرية القديمة قد وصلتنى بمعنى الاعتراف بالفضل، وتحديد الجذور، فأنا بدورى أعترف بالفضل على وجودى وفكرى الإسلامى (كما أوضحته)، وأيضا أحيله إلى لغتى، دون ربطها مباشرة بقوميتى، قلت للأستاذ إننى أريد أن أكمل اقتراحا كنت ألمحت إليه أمس وهو: إن علينا نحن محبى اللغة العربية أن نضيف إليها، وأن نقود حملة لزيادة أبجديتها، وأظن أن زيادة الأبجدية قد تأتى من ثلاث مصادر: الكلمات التى دخلت واستقرت من واقع الاستعمال اليومى شريطة أن تتفق مع قواعد الصرف وحسن النطق كما ذكرت لك من قبل: مثل بنشر (أنظر قبلا Puncture) ومثل شيزيدى Schizoid، ثم تلك الكلمات التى يمكن أن ننحتها نحتا مثل كلمة شخص “شمجى” Vip، أو تخطيط المخ، رَمـَـكْ، (رسام المخ الكهربائى) EEG أو نوم حركة العين السريعة “نوم الريم كما نحتها أ.د.أحمد مستجير([25])، أما المصدرالثالث والأهم فهو اللغة العامية، فإن علينا أن نفتح الباب على مصراعيه لدخول الألفاظ العامية بسماح ومرونة وبلا تردد، فقط نتفق، ونتقن النطق ونحرص على التصريف المناسب، وفى هذا ما قد يحل بعض إشكال العامية والعربية، ثم إن هذا ما يحدث فعلا فى تطور اللغات، فلماذا نتوقف عند آخر صفحة فى المعجم؟ إن هذا السماح وتبادل الألفاظ الجديدة حتى تصبح مشروعة عربيا سوف يوسع مساحة الأبجدية كما سيكسب اللغة مرونة بلا حدود، ووافقنى الأستاذ، وقلت لنفسى هذه فرصة أكمل رؤيتى لما هو لغة: قلت للأستاذ إن أمرين يشغلانى فى هذا الصدد، الأول هو علاقة مضمون اللفظ (المعنى) برنينه (الصوت) فإننى ألاحظ وجود هذه العلاقة بشكل يجعل اللغة كائنا حيا نابضا يسلك أكثرمن مسار ليتمم التعبير والتواصل، ما وصلنى هو أن أغلب أهل علوم اللغة لا يتفقون على سلامة أو مصداقية هذه الملاحظة من واقع أبحاثهم وإحصاءاتهم، وأنا أعتقد أن المنهج الذى يتبعونه يحتاج إلى مراجعة، وهنا تدخل محمد يحيى (وهو من أهل هذا الاختصاص) ليقول إن اعتباطية العلاقة بين الصوت والمعنى لا تعنى نفى هذه الملاحظة كلية، ثم إن اللغة تتخلق لحظة استعمالها، وبالتالى فإن تقنين ووضع قواعد للغة بهذا الشكل المحكم وربما الملزم ليس مناسبا ولا مفيدا، فاللغة وظيفة تتخلق باستمرار مع الصوت الصادر بها، لذلك فطرح قضية الرنين والمعنى، أوالصوت والمضمون، ينبغى أن يؤخذ بحذر أو يرفض أصلا، وهنا تدخل الأستاذ وقال إنه من المؤكد أن الأصوات لها دلالتها اللغوية، وأن الارتباط بين رنين اللفظ ومعناه هو ظاهرة واردة، وهو أيضا ظاهرة لها تاريخها، ونفيها هكذا من خلال أبحاث يحتاج إلى وقفة فعلا، قلت فرحا بالاتفاق مع الأستاذ إن الحفاظ على هذا الفرض يعطى طعما خاصا للغة، ثم إننى أرى أن اللغة كيان بقدر ما هى وظيفة، وقد تغلب صفتها الوظيفية حين نشأتها، لكنها كيان ينشأ باستمرار، كيان غائر متجدد معا، هى كيان بيولوجى كامن مثل عتاد الكمبيوتر Hard Ware متعدد المستويات والقدرات (النظام بلغة الكومبيوتر)، وهو فى نفس الوقت قابل للتشغيل حسب البرنامج الناعم الذى يوضع فيه Soft Ware، ثم أكدت أننى لا أفهم فى الكمبيوتر، لكنه تصور قياسى عام، وفى اعتقادى كما هو الحال – غالبا فى الكمبيوتر – أن البرنامج الناعم هو اللغة المعينة فى حين أن العتاد فهو التركيب البشرى الغائر للكيان البشرى، وإن كنت أتصور أن الفصل ليس حادا ولا كاملا، وأعتقد أن العتاد عند كل ثقافة هو خاص بها، وهو يختلف عن ثقافة أخرى بحيث تصبح اللغة الخاصة بثقافة بذاتها كيانا فاعلا غائرا، وليس فقط مجرد برنامج مميز. سكتُّ فجأة وأنا أكتشف أننى أتكلم فى منطقتين ليس من حقى أن أفتى فيهما، علم الحاسوب وعلم نفس اللغة، لكننى عدت أقول إن من حقى أن أتصور ما اشاء وليخطئنى المختصون وأهل الرأى، أو يترجموا شطحى إلى لغتهم إن صلح بعضه.
وتصلنى موافقة الأستاذ الضمنية مع أنه لم يسأل ولم يطلب توضيحا إلا بشأن كيف أن اللغة برنامجا يورث، فأمضى أحكى له عن ذلك الشخص الفرنسى الذى لم يزر بلدا عربيا واحدا ولا خالط أحدا من العرب ثم إنه تكلم لغة عربية أثناء التخدير وثبت أن جدا له كان فى الجزائر، ومثل الأمريكية التى تكلمت لغة غريبة، ثم ثبت أنها لغة الهنود الحمر، وأن جدة لها كانت لها مربية من الهنود الحمر، ورغم أن هذين المثالين ليس لهما علاقة مباشرة باللغة كنظام (وليس كلغة بذاتها سواء كانت عربية أوإنجليزية أو هندية) فإننى أردت أن أثبت بهما أن اللغة – أى لغة- هى كيان كامن موجود، ولا تتخلق فحسب أثناء صدورها، بل إنها تتشكل وتتطور باستمرار استعمالها، ونبهت ضمنا إلى خطأ تقسيم الأمراض النفسية إلى وظيفية وعضوية بشكل تعسفى.
ويعلق الدكتور أحمد عبد الله على مسألة اللفظ ورنينه أن هذا قد يكون خاصا باللغة الخاصة فى الشعر والأدب، وليس فى لغة العامة، فيرد عليه الأستاذ أن العكس هو الذى يمكن أن يكون صحيحا، فإن العامة يتكلمون بتلقائية وتنغيم أكثر مما يفعل المثقفون والمكتبيون مثلا، وإن العادات والأمثال والأغانى الشعبية أكثر ارتباطا بهذا الفرض الذى قاله يحيى (بيه) من الكلام المكتوب أو المختار، وأفرح بهذا التعقيب تماما، وأفرح أنه كان يتابعنا وقد حسبت أنه لم يصله ما اختلفنا حوله أصلا.
ما إن أنهيت كلامى وهدأ النقاش حتى سألنى الأستاذ هذه هى المسألة الأوْلى فما المسألة الثانية، وكنت قد نسيت فى غمرة حماسى أننى قلت أن مسألتين تشغلانى، وحمدت الله مرة أخرى على ذاكرة الأستاذ، وقرأت فى سرى قل أعوذ برب الفلق، كما أطمأننت إلى رغبة الأستاذ الدائمة فى الاستزادة والنقاش، نبشت قليلا فى ذاكرتى حتى وجدت المسألة الثانية قلت: إنها تتعلق باللغة كمصدر للمعرفة فى ذاتها، ذلك أن اللغة العربية لها من التاريخ والتطور ما يسمح أن نعتبرها ثروة لا نحسن استغلالها، ثروة أكبر من كل الآثار والمخطوطات، وإن كل لفظ له تاريخه، منذ نشأته ثم إن له تاريخ لاحق لنشأته وقدرته على احتواء المضامين الجديدة، أو حتى إحلال مضمون آخر حسب اتساعه أو اختصاره، أو تفريغه أو إهماله، وأن هذه الدراسة لتاريخ اللفظ، ولتاريخ اللغة، ولحركة المعاجم، ولحركية الشعر لا بد أن تعرفنا عن النفس، وعن الوجود أكثر مما نحصل عليه من المناهج المستعرضة والتجريبية النفسية خاصة أو على الأقل تكمل هذه المعرفة.
وينبهنى الأستاذ إلى خطورة التعميم، ويحذرنى من المبالغة فى رفض المناهج العلمية السائدة، وينبهنا محمد يحيى إلى أن ما يسمى باللغة العلمية هو الذى يمكن أن يكون خاليا من أى علاقة بين الرنين والمضمون.
تذكرت مقالا للدكتورعزت قرنى فى عدد الجمعة الماضى (أهرام الجمعة: 19/5/1995) بعنوان وضعنا الفكرى وتأسيس الفكر الجديد، عن إشكالة التقليد، وإشكالة الردة إلى الماضى، وعرضت على الأستاذ قراءته فوافق، ذهبت وأحضرت المقالة وقرأته له، وقد انتهى المقال بعد رفض كل من التقليد والردة إلى ضرورة عدم الاعتماد على الصفوة، ولا على الحلول الفردية، وإنما لابد من تغيير النظم التربيوة والإعلامية بما يسمح بإطلاق الخيال وتحمل الاختلاف وإضافة الجديد، طلب منى الأستاذ أن أقرأ جزءا مما أعجينى، قرأت له:
“يظن البعض أن هدفنا الفكرى شأنه عند هؤلاء البعض شأن سائر جوانب حياتنا هو اللحاق بالفكر الغربى، هذه النظرة هى التى نشرها أحمد لطفى السيد، وكان أسسها مفكر أقوى منه وأعمق وهو قاسم أمين، واتخذتها لنفسها عصور متتالية، مع اقتراب شديد هنا، فى عصر دستور سنة 1923 وابتعاد نسبى هناك ما بين 1952، 1973، أو انغلاق فيها بغير حدود يحدث كما فى بعض الميادين منذ عشرين عاما..”
والغريب أننى حين بدأت قراءة المقال الذى كنت معجبا به جدا، تراجعت عن إعجابى جزئيا، وخفت على عدم اهتمام الآخرين بما يهمنى، فسكتّ، الأهم هو أنه يبدو أن الأستاذ – بشكل ما- التقط هذا الحرج، فقال فجأة، وكيف انتهى المقال؟ هل اقترح بديلا؟ ففهمت وارتحت لإعفائى من التكملة، وقلت له إنه انتهى بالتوصية بالتأسيس وبالتأصيل وبإبراز الأسس والكشف عن المبادئ وإثبات أهمية إبراز الأدلة بعد الانتباه إلى تعدد المسالك ونوع الإمكانات والتدريب على التفكير المدقق الدقيق والتشدد فى مراعاة طرائق الاستدلال والبرهنة..، وكلام من هذا، ضحك الأستاذ وقال كلاما من ماذا الله يفتح عليك؟ قلت للأستاذ إن المصيبة فى مثل هذه المقالات أن البدايات تكون شديدة الحسم، والنقد بالغ الدقة، أما النهايات والتوصيات فهى شديدة التعميم مشحونة بحسن النية، فيعقب الأستاذ قائلا : إنه لم يحدد ما يقصده بالفكر، إذ لا بد من فصل ما هو علم عن ما يقصده بالفكر، فلا خلاف على أن كرات الدم الحمراء كذا، وأن الوسيلة لعدها هى كيت، أما الخلاف فيمكن أن يظهر فى العلوم الإنسانية، أوالأدب، فلا يعيب أحدا أن يقلد عالما فى أبحاثه النووية مثلا، لكن يعيب شاعرا أومسرحيا أن يقلد شكسبير، أو ديكنز”، فرحت بتعليق الأستاذ لكننى انتبهت إلى عودته إلى تقديس العلم بنفس الدرجة التى اختلفنا حولها مرارا، فقلت له: إننا ينبغى أن نعود إلى قضية تعريف العلم، ذلك لأن ما يطلق عليه لفظ “علم” له هالة خادعة فى كثير من الأحيان، لانه يوحى بوثقانية أنه منظومة أرقى وأكثر إحكاما أو فائدة مما يقال إنه فن أو أدب أو دين، وهذا هو ما حاولت أن أبينه، فاستفسر الأستاذ عن ما أعنى من أن العلم حوله هالة خادعة، فقلت إن رأيى أن المسألة مسألة معرفة، وتوسيع للوعى وتعميقه، وأن كلا من العلم والأدب (والفنون) والدين الحقيقى يقومون بهذه الوظيفة، وهذا ما أسميه دائما مناهل المعرفة المتوازية، ثم تراجعت عن كلمة التوازى كما فعلت سابقا، لأن هناك علاقة مشتركة دائما من الحوار والإثراء بين كل المناهل فى حين أن الخطان المتوازيان لا يلتقيان، ولم يعد العلم محتكرا لما هو معرفة، والباقى اجتهادات عاطفية أو جمالية أو تحسينية، بقى أن ننتبه إلى هيراركية هذه المستويات للمعرفة بعد أن قبلنا بتعدد مصادر المعرفة، وأنا أعتقد أن العلم هو أهمها وأدناها فى نفس الوقت، ليس أدناها بمعنى أحطها، وإنما بمعنى أن العلم هو الذى يعطى المواد الأساسية للبناء، أعنى أنه هو الذى يعطى أبجدية البناء الذى لا يمكن إقامة بناء بدونه، وهو أيضا الذى يعطى الوقود اللازم لتشغيل الأداة الإنسانية والحضارية، لكن لا اللبنات، ولا الأبجدية ولا الوقود بقادرين على دفع عجلة الإنسان أوتحديد توجهه، وإنما القادر على ذلك هو الأدب والفن والدين، وبألفاظ أخرى إن الأدب والدين ليس ديكورا للوجود البشرى، وإنما هما الوجود البشرى ذاته، أما العلم فهو الوحدات الأساسية لبناء هذا الوجود، بهذا المفهوم لا نضع العلم فى موقع أعلى من مصادر المعرفة الأخرى، وفى نفس الوقت لا يمكن الاستغناء عنه، ولكن أيضا لا يمكن الارتكان إليه وحده، ويرجعنا محمد يحيى إلى بعض ما جاء فى المقال ويقول إنه سعيد بسماع سخف أو فساد أو استحالة التقليد فيما هو مميز لنا، وربما يصدق هذا فى حالتنا بوجه خاص، فنحن لسنا يابانيين، فالظاهر أن اليابان بالغوا فى التقليد لدرجة بدأت تظهر مضاعفاتها ولكن لا بد أن نحدد أنه ليس لنا خيار إلا أن نسارع فى تقليد المستوى الأول هذا حتى لو كان مجرد لبنات العلم، دون عبادة للعلم ودون تخوف من التقليد، فأعود أنبه أنا على أن هذا المستوى الأول برغم ضرورته إلا أننا ننخدع فيه ونتوقف عنده، ونتصور أن هذا هو غاية المراد رغم أنه ”فتح كلام” كما يقول أولاد البلد، ثم إن الخطورة تأتى فى الجامعات ومراكز الأبحاث ومن خلال مهرجانات المؤتمرات، إذ يعتقد الشباب أن المسموح لهم هو أن يكونوا علماء بمعنى مقلدين ومكررين بنفس اللغة ونفس المنهج، والسابقون يصفقون لنا كلما قلدناهم، وقد يطييبون خاطرنا “ببرافوا” هنا أو نشر هناك، ويضرب د. أحمد عبد الله مثل تقسيم الأمراض النفسية المصرى الذى برغم اعتماده تقسيما عربيا منذ 1987 فقد هجره الجميع ليحل محله التقسيم الأمريكى، فأقول للأستاذ إن أستاذا أمريكيا اعترض على زميلة لنا (أ.د. سهام راشد رئيسة قسم الطب النفسى فى جامعة الإسكندرية) حين كانت فى زيارة لأمريكا قائلا: مالك أنتِ بالتقسيم الأمريكى، إنك من بلد آخر له ظروف أخرى، وثقافة أخرى فلماذا؟ وهنا يقول الأستاذ إذن فالذنب ذنبنا نحن وليس ما يفرضونه، فأنبه أن هذا صحيح، لكن الأمر فيه مؤامرات أخطر لأنه متعلق جزئيا بسياسة تسويق الأدوية الباهظة الثمن، بما لا مجال لتفصيله، وإن كنت أذكر أننى فصلته فى بعض خواطرى السابقة.
وينتقل الحديث إلى كتاب السيكوباثولوجيا، كتابى الأم النابع من ثقافتنا، وكيف أنه لم يجد من يقرأه ويضعه فى موضعه، فالعلماء يعتبرونه شعرا، والشعراء والأدباء يعتبرونه علما.
ثم يأتى ذكر ندوة سوف تعقد فى كلية الآداب جامعة القاهرة قسم علم النفس للاتفاق على ما أسموه “الميثاق الأخلاقى للعمل الجامعى، أو البحث العلمى”، لا أذكر تحديدا، وقد قرروا عقده إثر فضيحة مخجلة فى نفس الكلية أثيرت حول أحد أعضاء هيئة التدريس، وأقول للأستاذ إن مجرد التفكير فى تحرير ميثاق أخلاقى هو إعلان أن الأخلاق السائدة لم تعد كافية، وأن الممارسة أصبحت مشبوهة، بل إن قسم أبوقراط نفسه الذى يقسمه الأطباء، إن لم يكن تأكيدا لمسار ممتد منذ الطفولة، فهو تحصيل حاصل، حتى يكاد يقترب أحيانا من مغزى المثل القائل: قالوا للحرامى إحلف، قال جالك الفرج. وأذكر للأستاذ كيف غيرت نقابة الأطباء قسم أبو قراط هذا إلى قسم إسلامى احتج عليه زملاؤنا الأقباط، ثم يسألنى الأستاذ إذا كنت معترضا على وضع ميثاق أخلاقى فما هو البديل لترسى القيم فى نفوس العاملين فى حقل ما، قلت له أنا لست معترضا، أنا أنبه إلى أن المواثيق المكتوبة ليست كافية، وينبغى ان تكون مجرد إعلان لممارسة واقعية تصل إلى الأصغر قبل الأكبر فيستلهمها أو يتقمصها تلقائيا بمعنى القدوة أو بمعنى السنة الطيبة أو بأى معنى نبيل، وأضفت أن لكل صنعة ميثاقها المهنى والأخلاقى يشربه الصبى من المعلم من أول لحظة، وأن التدرج فى التدريب على الصنعة يبدأ بأن أول سنة ضرب من غير علام، (ليتأكد المعلم أن الواد بيلية غاوى)، ثم تانى سنة ضرب بعلام، وتالت سنة علام من غير ضرب، حتى يصل إلى رابع سنة فـَـتـَـعلن “المَعْلَمَةْ”، وشرحت ما يقابل ذلك فى تدريبى لصغار الأطباء على العلاج النفسى.
وعلى ذكر أبوقراط قلت له إن بول غليونجى قد اقتطف أبوقراط فى مقدمة كتاب له عن الغدد الصماء فقال: الحياة قصيرة، والفن طويل، والفرصة هرّابة، والخبرة تحتمل الخطأ، والحكم على الأمور من أصعب الأشياء
لا أذكر من الذى فتح موضوع العلاج الروحى، واستغرب الأستاذ أننى لا أرفضه عكس معظم الأطباء النفسيين، وإن كنت أتحفظ على الاسم، وبدأت الحديث عن أن معظم العلاجات، حتى العلاج العضوى، يكون فيه حضور الطبيب بروحه وطبقات وعيه وإيمانه وشخصيته عامل فاعل بشكل لا جدال فيه، وأن ما يسمى العلاج الروحى، ربما يرتبط بهذه المناطق مجتمعه،
وفجأة يسأل الأستاذ عن الساعة فقلنا التاسعة والربع، فيفرح أن ساعته البيولوجية مازالت منضبطة، وأتوقف أنا عن الاسترسال، فيستأذننى أن يأخذ إصبعا من الموز بدلا من الليمونادة، فأرد عليه مازحا أننى غير موافق، فيتراجع على الفور عن طلبه وهو يحسب أننى أتكلم جِدا، فاضحك واعتذر، وأناوله الموز، فيكأله بهدوء،
وينصرف باسما.
الحلقة السابعة والستون
النوم: ولعبة القط والفأر
الأربعاء: 31/5/1995
مررت على الأستاذ بالمنزل لأراجع كم غذائه لأننى لاحظت كما لاحظ توفيق أن هزاله زاد، وأن لونه باهت نسبيا، تحدثت مع السيدة الفاضلة حرمه، وجدته عادة يبالغ فى الحمية ويصر ألا يتعشى إلا كوب لبن ونصف تفاحة، هذا الرجل شديد المراس والالتزام، إننى أتأكد كل يوم أن عظمة المبدع تكمن أيضا فى حل هذه المعادلة الصعبة: إطلاق كل القدرات فى إطار محكم من حبكة البنيان وصلابة الواقع.
اتفقنا – السيدة حرم الأستاذ والأستاذ وشخصى – أن يتناول بعض العشاء معنا فى الخارج ما أمكن ذلك، ربما لأضمن المتابعة والحث، ثم اتفقنا أيضا أن نزيد من كمية الأكل ظهرا ومساء، ما أمكن ذلك، كان الأستاذ “يزرجن” مثل أى طفل لا يريد أن يلتزم .
الخميس (الحرافيش) 1/6/1995
ظهر توفيق أخيرا، لماذا انشغل توفيق عن الأستاذ، هناك شيء يظهر ببطء فى علاقتهما، ”واحشنى يا توفيق، الله يكون فى عونك مشغول”، ”هو فيه حاجة تشغلنى عنك يا نجيب بك”، ”أبدا قلبنا معاك”
لم يحضر أحمد مظهر، وجميل شفيق فى الإسكندرية أو الشاطئ الشمالى لست متأكدا، وبهجت عنده ضيفة من لبنان، إبنة صديق هناك، قال الأستاذ: خليه يعملها مرة بقى، فاستفسرت يعمل ماذا؟ قال على طول معزوم معزوم، خليه يعزم بقى، وضحك ضحكة متوسطة
كان الأستاذ مشغولا أن يتمادى اللين الذى يحس به فيقلقه أو يفسد خروجه، طمأنته بحذر ورحت أراقب، مضى الأمر بسلام، رجع يشكو من النوم، أعنى من قلة النوم، وللمرة الكذا أخذ يصف كيف يذهب للنوم، وكيف أنه أخذ يتمشى فى الحجرة بجوارالسرير تجنبا للدخول فى الفراش، وبالتالى تجنبا لما أسميته له مسبقا “لعبة القط والفأر”، (بين البحث عن النوم وهرب الأخير ثم اختطاف بعضه ثم التهديد بغيابه…إلخ)، ثم يكمل الأستاذ: ”وفجأة أجد نفسى أستيقظ، متى ذهبت للسرير، ومتى نمت، وهأنذا أستيقظ، لا بد إننى إذن نمت!!”، لم أعقـّب، قال له توفيق إنك مشغول بشىء ما، ولن تنام مرتاحا إلا إذا توقف هذا الانشغال أو على الأقل خفـّت حدته، قال الأستاذ: “أبدا، ثم إن أخبار هذا العام كلها طيبة فماذا يشغلني؟ من بعد الحادث لم أسمع ما يشغل كثيرا أو قليلا، كل التقدير والمفاجآت الطيبة، الوسام الفرنساوى، والإندبندنت، والتكريم وكل شيء سارّ وطيب، فماذا يشغلنى حتى لا أنام”، واستزدت الأستاذ أن يصف مرة أخرى دخوله إلى النوم، ففعل ضاحكا، وعاد يشرح أنه بناء على حوارناـ تعلم كيف يعامل النوم كشخص قائم، وكيف يتحايل عليه، وينتظره، ويسهـّيه، ويرفضه، ويتحداه، ويتصنع الاستغناء عنه، وكذا..، و”كده يعنى”، وهو تعبير كرره للإجمال مشيرا بيده مثل تعبير آخر حين يكون هناك ما يدهش مع درجة من الابتسام حد الضحك، يميل الأستاذ إلى الوراء ويشكونى من جديد لتوفيق متسائلا : “ألا يوجد حل كيميائى ينهى هذه المسألة، وأقول له إنه يوجد مائة دواء ودواء لهذه المسألة، لكن الخوف كل الخوف هو أن يتعود الجهاز العصبى على أى منها، فنحتاج إلى جرعات أكثر فأكثر حتى نضر أجهزة جسمية أخرى، ثم الخوف الثانى يأتى من احتمال أن زيادة الجرعة قد تجعل الجهاز العصبى، وهو جهاز عنيد بطبـْعه، يتحدى فيأتى بعكس النتيجة، ويقرنى توفيق على تحفظى، قلت للأستاذ إن علينا أن نجمع ساعات النوم خلال أربع وعشرين ساعة، فإذا وصلت إلى خمس أو ست ساعات كان ذلك كافيا، ويقترح توفيق أن تقرأ له إحدى بناته قبل النوم شيئآ هادئآ حتى ينام، ويضحك الأستاذ فى حب وحنان وربما بعض الألم: قائلا إنه لا يعرّفهم شيئآ عن كل هذا الذى يجرى، وإنه يذهب للنوم بعد أن يكون البيت قد خلا من كل صوت أو حركة، وأتذكر كيف ضحك وأضحكنا، ونحن نخفى ألما طبيعيا، وهو يقول: إنه أحيانا يجلس أمام التليفزيون وحده لا يرى إلا زغللة، ولا يسمع إلا ضجيجا غيرمفسر، ولكنه يظل يبحلق فيه مبتسما وكأنه يتابعه بشكل أو بآخر، وأضع فرضا جديدا قديما يقول: إنه بعد أن يخلو البيت وتنتهى المواعيد، وتغلق الأبواب يواجه الأستاذ هذه الإعاقات التى تحول بينه وبين العالم، كما تحول بينه وبين أن ينشغل بعيدا عن وظائفه الحيوية مثل النوم، وهكذا تتضخم أهمية هذه الوظائف فى بؤرة انتباهه، فتزيد حدته، وأقول له ذلك وأنا أحاول أن أخفف من وقع استنتاجاتى، ويقرنى فى ألم صابر لا يظهر، وأسأله عن علاقته بالنوم قديما أى قبل الحادث، فيقول: طول عمرى لا أنام نوما سلسا.
يتقدم إلينا مصور بلجيكى، ويطلب أن يأخذ صورة مع الأستاذ قائلا إنه رآه فى التليفزيون عندهم، وأنه يشرفه أن يتعرف به وكذا وكيت، ويقبل الأستاذ (كالعادة) ولا يعترض توفيق على غير العادة
ثم ينتقل الحديث إلى مشروع توفيق الجديد، فيحدثنا توفيق عن أثمان آلات التصوير الحديثة، وتطور استخدامات الكمبيوتر فى السينما، وأشياء من هذا القبيل، ويتمنى له الأستاذ التوفيق، ويطرأ على فكر توفيق اقتراحا يقوله فورا: إنه يريد أن يذهب إلى الأستاذ يوم السبت، بعد انصراف سلماوى، ويتحدث معه فيما يشبه وصية للجيل القادم، أو للجيل الأصغر، ومن خلال هذا الحديث يتصور توفيق أنه سيحصل على مادة فيلم يمكن أن يكون غيرمسبوق، فيلم طويل عادى وليس فيلما تسجيليا، ويذكره بخبرتهما فى فيلم “درب المهابيل”، وأتذكر كيف قال لى الأستاذ أن فيلم “الاختيار” الذى أعجبنى جدا، وذكرت له ذلك، لم يكن قصة قصيرة مكتوبة كما تخيل البعض، وإنما كانت فكرة حكاها شفاهة ليوسف شاهين، ويرجع الأستاذ إلى اقتراح توفيق فيوافق من حيث المبدأ، ويحدد الميعاد السابعة والنصف من كل أسبوع،ثم يسهم لبعض الوقت، ويعود فجأة رافعا رأسه متجها لتوفيق وهو يقول: تانى؟!! سوف تجعلنى أشتغل تانى، وأفكر، ولا أنام، صعب يا توفيق، صعب، وأتعجب من هذا الاعتراض، ومع ذلك أضبط نفسى فرحا بموقفه الثانى أكثر من موافقته الأولى، لأنه بدا لى أقرب إلى الصدق والواقع، الأستاذ فى نظامه الجديد لا يرهق نفسه بما ينبغى وما هو مفروض، مع أنه يفكر أنشط منا، ولعله يُرهق أيضا أعمق منا، وأتذكرحين سألته عن معنى عيد الميلاد، ومعنى الزمن، وقال لى هذه مسائل فلسفية لا تجرجرنى إليها الآن لو سمحت، وفهمت، وعرفت الفرق بين تفكير سلسل طلق وسط قلوب محبة، وتفكير منظم ملتزم لأداء مهمة بذاتها، وفهمت لماذا فرحت أنه عاد فرفض عرض توفيق حالا.
فجأة يلتفت الأستاذ إلى ويرد على سؤال قديم سألته إياه منذ مدة فى إحدى لقاءاتنا الحرافيشية، ربما منذ أسابيع، ولا أعرف كيف ولا لماذا تذكره فجأة، يقول لى: إنه فاروق صبرى، مالك مسرح الهرم ويؤجره منه الزعيم عادل إمام العام بمليون جنيه..، وفاروق هنا يقال إنه أصبح متعدد الملايين! يا خبر يا عمنا، يا خبر، ربنا يحميك مازلت تذكر سؤالى القديم؟!!(أنا حتى الآن لست متأكدا من صحة الاسم)
ويعود الكلام – فى منزل توفيق- عن قانون الصحافة الجديد، وأتذكر تعليق الأستاذ أن الصحفى سيكتب : جاءتنا هذه الإشاعة الكاذبة التى تقول كذا وكيت، وأن الكاريكاتير سيكون أصلح للتعبير وقد يكتب الصحفى لحماية نفسه مايلى : إنه من وجهة نظر كاريكاتيرية: حدث كذا وكيت
ونضحك معا
ما زلنا فى شرفة توفيق، نطل نحن الثلاثة على النيل، توفيق يجلس بالقرب من الأستاذ، وأنا أجلس على الكرسى المقابل، موقع يسمح لى بالسرحان الإرادى، أسرح فى لا شىء، أى فى كل شىء، ينتقل السرحان من النيل المتمدد فى قوة، رغم قلة الطمى، إلى هذا الإنسان المصرى الهرم الحى الذى يجلس قبالتى فى الشرفة مليئا بالحيوية والخلود الحقيقيين، إن الأستاذ لا ينتج الآن، لا يكتب، لا يضيف، لكنه يبدع حياتنا، ذواتنا، ونحن حوله نعكس بعض إشعاعه الخاص ما أمكن ذلك، إشعاع يصلنا منه بيقين ودفء متجددين، هو حضور هادئ يتسحب فى ثقة وقوة واضطراد، أفيق من سرحانى الإرادى على الأستاذ وهو يقاوم الطعمياية الرابعة، لأول مرة يأكل الأستاذ ثلاث طعميات، هذا الرجل المطيع عظيم العناد رائع الاستجابة!!!
لماذا نسيت اليوم ما دار خلال ساعتين قضيناهما فى هذه الشرفة الرائعة، لم يبق منه إلا كلام عن العملية الجراحية التى أجراها إبن مصطفى خليل فى إسرائيل وزيارة عزرا وايزمان له، وتصوير التليفزيون لهذه الزيارة، وتصريحات مصطفى خليل بأن إبنه قد أجرى عملية كذا التى لا يوجد من يجريها فى العالم مثل هذا الجراح الإسرائيلى، ثم يضيف مصطفى خليل أنهم فى مصر لم يتمكنوا من إنقاذ ابنه، وأنهم لا يستطيعون كذا وكيت، ويحكى توفيق كيف ثارت زوجته الفلسطينية على هذه التصريحات التى تقدس كفاءة وتقدم هذا العدو البغيض، وأقول إنه بالرغم من احترامى لهذا االشخص – مصطفى خليل- إلا أن استغلال إصابة إبنه للدعاية هكذا هو أمر مرفوض بكل المقاييس، ثم أعلن مخاوفى من أن السلام مع الأردن قد ينقل مراكز السياحة الطبية إلى الأردن ولبنان وإسرائيل بما سيضر اقتصاد مصر ضررا بالغ.
وكنت قد ذكرت للأستاذ خبرا يقرر أن تل أبيب هى أكبر بلد فيها دعارة فى العالم بسبب المهاجرات الروسيات بلا عمل ولا مصدر رزق،
وننصرف وأنا أشعر أنها ليست ليلة حرفوشية كما اعتدت
وألوم نفسى، وجلوسى فى مواجهة الأستاذ، وليس بالقرب من أذنه، وأيضا لأن سرحانى وقتا طويلا بعيدا عنه كان غالبا هذه الليلة،
يا ترى : فى ماذا؟
لم أتبين، لكننى شعرت بتقصير ما أثناء عودتى.
الحلقة الثامنة والستون
لن نحارب تحت أى ظروف
الجمعة: 2/6/1995
… عدت من الندوة الشهرية بالمستشفى إلى بيتى بمجرد انتهاء المناقشة هاربا من القبلات والحوارات الجانبية، فاليوم هو الجمعة الأول من الشهر والأستاذ عندى: وجدت من بين مجموعة الحضور: د. مجدى عرفة، د. خالد الرخاوى (أستاذ الرمد/ابن أختى)، د. محمد عبد الوهاب، أ.يوسف عزب، د. أحمد عبد الله، كانت الندوة عن رواية ”هموم شخصية”، قدمها الدكتور إيهاب الخراط، ومحمد عبد الحميد، وبمجرد حضورى بعد الندوة طلب منى الأستاذ بشغف شديد أن ألخص له ما دار فى الندوة، أصبحت هذه هى القاعدة منذ ندوة صلاح عبد الصبور وحتى الندوة الأسبق: فيلم توفيق صالح “المخدوعون”، أحسست من خلال هذه القاعدة أن الأستاذ يحضر معنا الندوة، ويبدو أن داخلى كان قد أحس بذلك قبلى، فقد لاحظت أثناء وجودى فى الندوة، أننى أتعمد التركيز على بعض ما أتصور أنه يهم الأستاذ، لأنقله له فى تلخيصى، وهكذا خف شعورى بالحيرة بين صحبته وبين الندوة يوم الجمعة الأول من كل شهر، وبالتالى خف شعورى بالذنب لتركى له لحساب الندوة، حكيت له أننى سمعت أول ما سمعت عن هذا العمل الذى قدمناه فى الندوة لأوى كنزابورو من يوسف القعيد، باعتبار أن كنزا بورو له طفل متخلف عقليا (مغولى)، وأنه يحكى تجربته فى ذلك العمل، لكننى حين قرأت العمل وجدته غير ذلك تماما فهو رواية بكل معنى الكلمة، وهى خبرة شديدة العمق والتفصيل، وقلت للأستاذ أن ثمة اعتراضا من أحد مقدمى الندوة (محمد عبد الحميد على ما أذكر) أثير على أساس أن الرواية لا تحمل بصمات اليابان، وأن أى أمريكى أو أوربى غربى يمكن أن يكتبها، وأن العمل افتقر إلى تلميحات أو أرضية تؤكد هوية محلية الرواية، كذلك نقلت للأستاذ اعتراض د.إيهاب الخراط على الترجمة من الإنجليزية، وأنها غيردقيقة، قلت للأستاذ : أولا إنه بعد تجربتى الخاصة لمحاولات ترجمة مقالتى عن نقد ملحمة الحرافيش إلى الإنجليزية زدت شكا فى كل التراجم على الإطلاق، لكن ما وصلنى بالنسبة لهذه الرواية هو أن المترجم اجتهد اجتهادا شديدا لإعادة الصياغة واستلهام روح النص، وهذا مطلوب جدا، أما مسألة أن العمل لم يعبر عن اليابان، فمن ناحية لقد أصبحت القرية العالمية المعاصرة (وليس النظام العالمى الجديد) أضيق من أن تعمّق اختلافات جسيمة، ثم إن الكاتب عبر خير تعبير عن ”اليابانى”، حتى وإن لم يعبر عن اليابان، ثم إن الرواية عكس ما أشار القعيد ليست رواية معاناة أب مع إبن متخلف عقليا بقدر ما هى مواجهة حادة مع الحياة لذاتها، وأنه ليس من حقنا، ولا فى مقدورنا، أن نتخلص من الحياة إن لم تعجبنا، أثناء إيجازى للندوة تذكرت أننى ناقشت الأستاذ فيها ذات لقاء سابق فالقصة – المواجهة- بدأت قبل الولادة، والأب ينتظر فى الشوارع أجبن من أن يواجه مسئوليته الوالدية، أو مسئولية الإسهام فى استمرار الحياة، فيتركها للأم وأمها، ويكتفى بالاتصال للطمأنينة أو لإبراء الذمة أمام نفسه، وهو يكتفى باتصالات هاتفية مرتعشة، وهو حين يرزق بطفله ذى الفتق المخى، يتخلى عنه على الفور، ويفكر أن يتركه يموت ولا يعطيه فرصة التدخل الجراحى، ثم هو يدرك من خلال تنبيه زوجته أن الهرب مستحيل، وأنه لن يخدع نفسه بتصور أن سلبيته أرحم من إيجابية اتخاذ قرار التخلص من الوليد، فيقرر أن يسلمه لطبيب الإجهاض ليقضى عليه بالطرق الطبية، لكن الذى يوقظه حدث شديد التفاهة فى ظاهره، شديد الدلالة فى حقيقته، ذلك أنه بعد تسليم طفله إلى الطبيب ليقتله (بالسلامة!) يتجنب أن يدوس فأرا ميتا، فيعلم أن الحياة تحافظ على نفسها، وأنه تجنب ذلك الفأر لعل احتمال واحد فى المليون أن يكون مازال حيا فلا يجهز عليه، فكيف سمحت نفسه أن يقتل إبنه لمجرد أنه ضعيف العقل، فيعود على أدراجه بسرعة ليتسلم إبنه ويسلمه للجراح لعل وعسي
وأعترض على النهاية بإعلان كلمة الأمل التى سمعها من المنشق المجرى، مع إضافة كلمة الصبر إليها ذكرتنى بنهاية الأفلام المصرية القديمة
بقى أن أشير – هكذا أكملت للأستاذ- إلى خلفيات ثلاث:
الأولى: الحلم الإفريقى الذى كان يمثل لى طول الوقت عرضا خفيا أن الحل فى البدائية، وأرى أن إفشال هذا الحل فى النهاية، وذهاب صديقته الحرة حتى تكاد تكون مومسا مع صديقها إلى إفريقيا بدلا منه هو إشارة جيدة إلى رفض البدائية.
أما الخلفية الثانية: فقد كانت فى توظيف الجنس (وإلى درجة أقل السكر- الخمر) فى إبلاغ رسائل دالة عن النقلة من نوع الحياة المنفصلة العاجزة الجافة العقيم (الجنس الشرجى) إلى نوعية الحياة (/الجنس) الكلية المتكاملة المتواصلة الولود، ثم إنه من خلال الجنس قد أظهر الكاتب كيف أن الخوف من الإنجاب (من الحياة) قد يكون وراء العجز الجنسى فى بعض (أو كثير) من هذه الحالات.
أما الثالثة: (وإن كنت أحسب أنها ليست خلفية تحديدا)، فهى استخدام الكاتب الدقيق جدا لتشبيهات ومجازات نبض الحيوان والنبات، الأمرالذى أرجعنا مباشرة إلى مسألة الحياة للحياة، فى جذورها الحيوية العارية، بل والنباتية الرحيقية، وقلت للأستاذ إن كل ذلك يصبح له أهمية خاصة حين نتذكر أن قضية “الحياة والموت” هكذا يتناولها كاتب ياباني بهذا العمق، وهو عندى يمثل من انتقل قفزا من التخلف إلى الثراء، من عبادة الإمبراطور إلى صقل أدوات الرفاهية بأعلى وأتقن ما توصلت إليه التكنولوجيا، يعمل إثنى عشر ساعة ويسكر أربع ساعات،وينام ستا، ويكتب ويقرأ، ويتثقف، ويتواصل ويغنى وينجب وغير ذلك ساعتين اثتين كل نهار، النتيجة هى هذا الجفاف واللاحياة المتجسدة فى هذا المسخ ذى الفتق الدماغي
لم يعلق الأستاذ وإنما هز رأسه وحاجباه مرتفعان، خير!! لعلى نجحت أن أبلغه شيئا ما، اعترض زكى سالم على جرعة الجنس المفرطة فى الرواية، ولم أوافقه فقد وظفه الكاتب بأدق وأرق ما يكون، وأيضا بأكثر الصور جلبا للاشمئزاز والرفض لهذا النوع من الجنس.
قرأت للأستاذ بعد ذلك مقال السعدنى فى المصور، وهو مقال بعنوان : لكين الناس ظلمونى، وهو يعلن بوضوح رفض قانون الصحافة الجديد.
ذكرت للأستاذ مازحا تصريح الرئيس مبارك هذا الصباح للصحفيين أننا لن نحارب تحت أى ظروف، وقلت له – لهم- إن هذه المبالغة والتعميم لهما معان سيئة، ثم أكملت مازحا، ماذا لو أن شخصا إسرائيليا (بتكليف من الموساد)، اغتصب والعياذ بالله شخصا عزيزا على رئيسنا الجليل، إننا بلا أدنى شك سوف نحارب ردا على شرفه الذى هو شرفنا، وانتقاما من المغتصب الأثيم، إلخ، فلماذا هذه التصريحات التى تذكرنا بعناد القدر والسادات يصرح أن حرب 1973 هى آخر الحروب؟.
ويأتى الكباب، والله زمان!، ويدهش الأستاذ ولا يرفض، ويأكل الأستاذ -والجميع- بشهية كفتة وكبابا وخبزا وسلطة زبادى، وينبسط، وأنبسط
الإثنين 5/6/1995
سوفيتل المطار: عادل، محمد، حافظ، واحد لا أعرفه، زكى، نعيم، كان قد ظهر اليوم حديث أجراه فتحى العشرى بدأه مفتقدا نجيب محفوظ، شاجبا صمته واختفاء ضحكته وكان الحديث عن السينما، وقد جاء الوصف ضد ما اعتدته من الأستاذ هذه الأيام، فهو حاضر بقدر ما يكون جليسه حاضرا ومقدرا، وهو ليس مكتئبا كما وصفه العشرى، وهو وهو، وقد ألمحت بذلك إلى الأستاذ، وتعجب وقال إن بعض من يجرون الأحاديث معى يأتون وفى ذهنهم إجابات معينة يتوقعونها أو يتمنونها، ثم إذا جاءتهم الإجابات عكس ما توقعوا أو تمنوا انقلب حالهم وتململوا، وكذا وكيت، وقد جاء العشرى يسألنى عن رأيى فى الرقابة وفى الخصخصة، وهو ضد الرقابة وضد الخصخصة، لكننى مع الرقابة، وأرى أنه يستحيل أن تلغى، وأنها ليست لصالح المجتمع فحسب بل هى لصالح العمل ولصالح المنتج، إنها تحمى المنتجين من شطحات المخرجين مثلا، عندك واحد زى يوسف شاهين يروح شاطح الشطحة يطلع الفيلم يصادر، يعمل إيه المنتج؟ الرقابة تحميه، أما الخصخصة فهذا هو الاتجاه السائد فى كل شيء فلماذا نخص السينما بغير ما نخص به بقية النشاطات، شجعنى رأى الأستاذ فذكرت له وصف فتحى العشرى لحالته المهمومة والمنقبضة فى بداية المقال، فقال الأستاذ مازحا، ربما انقلبت حالتى كذلك “لما شفته”
حدثت الأستاذ عن ندوة (جمعية نهضة مصرالطبية!!) كنت قد حضرتها فى الصباح عن قهر الطفل، وقلت له إننى تكلمت عن قهر الكبار، فأطفالنا لا يعانون من قهر مثلما يعانى الكبار، وفاقد الشىء لا يعطيه، أما الأطفال فينبغى أن نهتم بمشاكل لها أولوية حقيقية مثل حرمان الأطفال، أو إجهاض إبداع الأطفال، ويذكر الأستاذ القهر الذى يتعرض له المدرس، ليس فقط من الناظر أو الوزارة مثل زمان، بل من أهل الحى وأولياء الأمور إذا هو منع الغش مثلا، وكنت قد حدثت الأستاذ عن ندوة يوم الخميس الماضى عن ميثاق الشرف للنفسيين والمربيين، وقلت له إنه إذا كان مبرر إعطاء الدروس الخصوصية هو مبرر واقعى من حيث غلاء المعيشة ومحدودية الدخل، فما هو مبرر تغشيش الأطفال بواسطة الكبار علانية وجماعة حتى فى الامتحانات العامة، وفى الصعيد خاصة؟
وانتقل الحديث إلى مشروعية ومعنى وفائدة ضرب الأطفال، وقبل أن أسرد بعض الآراء التى طرحت، ذكرت للأستاذ حديثا طريفا سمعته فى الصباح بين سيدتين كانتا تشاركانى المصعد إلى الندوة، كانت إحداهن تشكو من كثرة الندوات (بلا جدوى) حتى قالت الأخرى موافقة : حقهم يسمونها (القاهرة) مدينة الألف ندوة بدلا من الألف مئذنة.
ويقول نعيم متحمسا إن ضرب الأطفال جريمة ليس لها أى مبرر، ويوافقه عادل عزت بحماس شديد، وأقول إن المسألة أعمق من ذلك، فالمسألة ليست ضرب أو لاضرب، وإنما هى مسألة توظيف هذا الاقتراب الجسدى الذى يأخذ شكل الضرب، توظيفه فى ترسيخ العلاقة من ناحية، وفى تعليم الصواب والخطأ والالتزام والعبث من ناحية أخرى، يقول عادل عزت إن الطفل مثل الصفحة البيضاء نشكله كيف نشاء، فأقول إننى لا أرى الطفل كذلك، وإننى كتبت قصيدة فى هجاء البراءة، فينبهنى عادل عزت إلى أن مقولته لا تعنى البراءة بوجه خاص، ويتساءل الأستاذ عن هذه القصيدة فأعد بإحضارها، وأزعم أن الأستاذ وأنا، وما نمثله من أجيال استفدنا من الضرب بشكل أو بآخر، ويذكر الأستاذ ضرب المدرسين المتفنَّن فيه، كما يذكر كيف أن مدرس الحساب كان يتفنن فى إعطائهم مسائل الواجب يوم الخميس حتى يحرمهم – بشكل أو بآخر- من فسحة الخميس وراحة الجمعة، ويقول الأستاذ إن النهى عن ضرب التلاميذ قانونا صدر من قديم، ربما فى الثلاثينات، وأن الطلبة كانوا يرسمون بأيديهم (السبابة والوسطى) رقم 8، ورقم 8، إشارة إلى المادة 88 التى تمنع الضرب. ويسأله زكى سالم عن رأيه فى الفرض الذى طرحته : إن للضرب فى الطفولة جانب إيجابى، فيوافق على أن له جانب إيجابى لكنه لا يستطيع أن يحدده.
ويشارك محمد يحيى فى الحديث من موقع المضروب (وكان قد ثار هذا الموضوع من منطلق آخر أثناء إحدى خروجاتنا بعد جلسة الجمعة مع الأستاذ)، ويقول محمد إن ضرب المدرس غير ضرب الوالد، فالمدرس يضرب لتقصير معين فى وقت معين أما الوالد فقد يضرب عموما والسلام، والمدرس يضرب وهو غير مغيظ عادة، أما الوالد فهو يفرغ غيظه بشكل أو بآخر، والمدرس يضرب وهناك مساحة من الزمن والمكان فى علاقته بالتلميذ غير موقع الضرب وتوقيته، أما الوالد فهو محيط بطفله قبل وبعد الضرب، وحواليه، لذلك فضرب الوالد أصعب وأخطر، وأتذكر كيف ضربتـُـه وهو فى سنة أولى ابتدائى أو قبلها، ضربته بعـُـقـْـلـَـةِ إصبعى الوسطى على رأسه (وفهمت حينذاك ماذا يعنون حين يقولون على أم رأسه)، وأخجل لأننى ساعتها فعلا كنت فى حال، لكننى أذكر أيضا أنه كان رافضا المدرسة “من أصله”، وإن لم يعلن ذلك، لكننى استنتجته، وأنا لى تاريخ قديم فى رفض المدرسة حتى دخلت المدرسة الأولية فى سن السابعة ثم بعدها دخلت مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية فى طنطا فى الملحق، ولكن الأمور اختلفت ونحن فى القاهرة، وإبنى فى مدرسة الفرير، ثم إن المسألة ليست ضربا أو لاضرب، وإنما هى مسألة أن آباء هذه الأيام قد لا يضربون ليس لأنهم أكثر إيمانا بالحرية وما يسمى التربية الحديثة، وإنما لأنهم أكثر ميوعة وتخلٍّ عن المسئولية، ويرفض نعيم هذا الاحتمال، ويشير إلى أنه ربى ابنته الوحيدة بالزغر والتأنيب المتصاعد المُصِرّ طول الوقت، وأن زغرة مناسبة قد تفعل ما لا يستطيعه الضرب، ويتدخل ابن اختى: د. خالد الرخاوى ويرحب بفكرة الزغر الملاحِق، لكنه يضيف: إن أطفالنا يتصفون بالزّن أكثر مما نسمع عن أطفال الخواجات، وأن ناتج الزن هذا هو استسلام الآباء والأمهات لطلباتهم، أو الضيق بهم والانفجار فيهم، وأقول للأستاذ إننى فى ممارستى للعلاج الجمعى مررت بخبرة مفيدة تناسب هذا السياق وتوازى مسألة ضرب الأطفال، ذلك أن ثمة مرضى راقدون فى الخط تماما ولمدة سنوات، وهم يشاركون فى هذا العلاج الجمعى، وأننى كنت أحيانا أسمح بجذبهم أو الضغط فى نوبات العدْو الصباحى قبل طلوع الشمس عليهم جسديا حتى أنتزعهم من قوقعتهم وأفرض عليهم نوعا من المشاركة، وحين يشعرون بجدية الموقف وقوة معنى الحركة، يستطعمونها، ثم يقبلون عليها ويتواصل السعى فى طريق الشفاء.. إلخ، لكننى لا حظت أن هذا الضغط من جانب المعالج أو من مريض آخر قد ينقلب إلى إيذاء وقسوة، فتراجعت رويدا حتى منعته تماما، اللهم إلا بشروط شديدة الإلزام، مثلا: انتبهت إلى أن وجود مسافة بين الضارب والمضروب يخلق نوعا من الانفصال بحيث يصبح القهر الجسدى أكثر مفاجأة وأشد قسوة وأقل شرعية، وقد اشترطت لاستعمال الأيدى أو الجسد فى العلاج أولا: أن تكون هناك علاقة حقيقية وطويلة وواضحة بين المعالج والمريض، ثانيا أن تلغى المسافة قبل أى ضغط (لم يعد إسمه ضربا بل ضغطا أو دفعا) بمعنى أن يشبك الاثنان أيديهما ببعضهما البعض، ثم يبدأ فى الضغط أو الجذب أو الدفع وهكذا، ثالثا:أن تكون المعاملة بالمثل فما يفعله المعالج للمريض يحق للمريض أن يفعله للمعالج لكن هذا أيضا لم يمكن ضبطه حتى منعته نهائيا مؤخرا، حذرت من هذه الرقة المصطنعة التى يتكلفها الآباء والأمهات المعاصرين، فتبدو معالمهم مهتزة وليست متسامحة كما يتصورون (وتذكرت فيما بعد: إن هناك شرطين آخرين لتقييم مسألة الضرب هذه، أولا: أن يتألم الضارب مثل المضروب وأكثر، وأن يتحمل مسئولية فعل الضرب ويمضى فى إرساء العلاقة بعد حادث الضرب بما يبرره، وأخيرا ألا يعتذر عن الضرب حتى لو كان خطأ، فالاعتذار عادة يختلط بالشعور بالذنب، والطفل قد يستقبل الضرب بقبول معقول وفهم مناسب حين يجد له ما يبرره، أما إذا اعتذر الوالد فإنه يؤكد للطفل اهتزاز موقفه وبالتالى يزداد عند الطفل شعوره بالظلم والامتهان، وأخيرا نبهت إلى أن ما ندعو إليه هو احترام الطفل وليس فقط حبه كما يشاع، الأم (والأب) لا ينقصهما حب الطفل وفى عمقه قدر كبير من الامتلاك (وهم يسمونه حبا أيضا) لكن الذى ينقص الوالدين هو الانتباه إلى خطورة تذبذب أو ميوعة أو لامسئولية موقفهما.
ثم قرأت بعد أيام (الآن) رأى د. هـ. لورنس فى هذه المسألة فى كتابه فنتازيا اللاشعور Fantazia of the Unconscious يقول فى ص 72 من الترجمة العربية (كتاب الهلال نوفمبر 1992 ترجمة عبد المقصود عبد الكريم).
“إن العقاب الرقيق بالطريقة الروحية، عادة، أكثر بذاءة وخطورة من الضرب الخيّر، إن استنكار الأم المؤلم والمستسلم بالغ السوء عادة، إنه أسوأ من صيحات غضب الأب، إن إرسال الطفل إلى السرير وحرمانه من الحلوى لمدة أسبوع..إلخ أكثر وحشية ودلالة من الضرب على الرأس بعنف، ثم يقول:
إن دفعك طفلك لتوبيخه توبيخا حقيقيا، فعليك توبيخ الطفل توبيخا حقيقيا، وعليك أن تدرك طول الوقت ماذا تفعل، وأن تكون مسئولا عن غضبك دائما، لا تخجل منه أبدا، ولا تتخلى عنه أبدا……، وبعد أن ينتهى غضبك العميق لا تستمر أبدا على هذه الحالة، القاعدة الوحيدة: إفعل باندفاع ما تأمل أن تفعله حقا، بإخلاص دائما على مسئوليتك وتحمل شجاعة عاطفتك القوية، إنها تغنى روح الطفل”.
أعتقد أن الأستاذ قد التقط ما أعنيه، وإن كنت أرجح أنه لم يمل إلى التسليم به.
انتبهت أنه علىّ أن أمارس بعض الضغط على الأستاذ حتى يأكل، قال إنه أكل كفاية، لم أصدق، طلبت شيئآ به جبن، ذهب حافظ وأحضره، لم يتناوله الأستاذ معتذرا أن معدته أصبحت صغيرة الحجم، وقال إن الظاهر أن من يلزم نفسه برجيم طول هذه المدة لا بد أن تصبح معدته صغيرة جدا، أى شيء يملؤها فيشعر الإنسان بالشبع من لقيمات قليلة، ووافقته على ذلك شارحا بعض العلميات الجراحية التى تجُرى للمفرطين فى البدانة ومنها استئصال جزء من البطن، أو بعض التجارب لإنقاص حجم المعدة مثل إدخال بالون فيها حتى يتم صد النفس فالنحافة.
فى طريق العودة، عرجنا مع د. خالد الرخاوى (إبن أختى، أستاذ الرمد) إلى عيادته فى روكسى وكشف على عينى الأستاذ بهدوء وإتقان، وقرر أنه لا عملية، وأن الضمور للأسف قد لحق بؤرة العين، وأنه لا علاج له حاليا، وأنه ليس بسبب السكر، وأنه لا توجد أية علامات تدل على مضاعفات السكر، وأنه إذا أهمل السكر لمدة خمس وعشرين سنة من الآن، قد تترب عليه مضاعفات محدودة، وضح الأمر للأستاذ ونزل راضيا صابرا.
أثناء نزولى على السلم مع حسين حمودة قلت لحسين إن هذا الرجل نادر المثال، ثم أضفت: إن أهم ميزة فيه أنه هو هو: الظاهر والباطن، الكاتب والإنسان، الصديق والوالد، هو هو، وهذا رائع، وافقنى، قلت له أيضا: إن هذه الفرصة التى أتيحت لى وله ولنا بأن نكون بالقرب منه هكذا هى فرصة نادرة ورائعة، وافقنى، قلت له: إننى أتمنى أن آخذ منه بعض ما يمكن، إننى أخشى أن تضيع الفرصة قبل أن نستوعب قيمتها، قال لى حسين: إننا كلنا نأخذ منه فعلا كلّ بقدر تحمله، وربما بقدر رؤيته، وأن الدرجات تختلف والمناطق المنتقاة تختلف، ووافقته.
قلت له إننى أتعلم من الأستاذ أكثر حين أرى نقيضه فى فترات متلاحقة، فمثلا أنا كنت مع سعد الدين إبراهيم هذا الصباح، وتساءلت أهذا الإنسان هو من نفس العجينة أو الفصيلة التى ينتمى إليها الأستاذ؟ إننى أحيانا أضبط نفسى متلبسا بتصنيف الناس إلى ما هو “نجيب محفوظ”، وما هو “ضد نجيب محفوظ”، بدرجات متفاوتة، ولو علم الأستاذ ذلك لنهرنى، لأننى أتصور أن أفخر ما يفخر به شيخنا هو أنه شخص عادى، الآن فهمت كيف أن النبى بجلالة قدره، عليه الصلاة والسلام، كان يفخر بأنه رجل عادى يمشى فى الأسواق. ومع هذه المقارنة حضرتنى أسماء كثيرة مثل سعد الدين إبراهيم، ولم يحضرنى إسم واحد مثل الأستاذ،
هذا هو ما حدث!!
أعمل ماذا؟
الحلقة التاسعة والستون
خلاف حميم، وحديث مع المخرجة الفرنسية
الثلاثاء 6/6/1995
اليوم التصوير، الفيلم التليفزيونى الفرنسى عن الأستاذ، العوامة فرح بوت، فور وصولى أبلغنى الأستاذ أن توفيق قد قابل محمد إبنى فى معرض الكمبيوتر، وأنه معتذر عن تصوير الحرافيش فى منزله، المخرجة مازالت ترجو، وتلح فى الرجاء أن تـُـصـَـوِّر فى ”بيت” وليس فى ”محل عام”، مال علىّ جمال الغيطانى وقال ألا تستطيع أن تقنعه بالتصوير فى بيته، قلت له إن هذا الأمر قتل بحثا فى جلسة الحرافيش والرفض نهائى، خطر لى أن اقترح التصوير فى منزلى كبديل، لكن منزلى ليس له تاريخ فيه إلا مؤخرا، ولا هو المنزل الذى يلتقى فيه الحرافيش، أخذت على خاطرى من توفيق صالح ووعدت المخرجة أن أحاول مرة أخرى، وأن أخبرها بما نتفق عليه.
فى العيادة كلـَّـمت أحمد مظهر، وأخبرته باعتذار توفيق، وطلبت منه أن يتم تصوير الحرافيش فى منزله إذا عجزت عن إثناء توفيق عن موقفه، رحـَّـبَ مظهر وبدا سعيدا بهذه الضيافة الطيبة، كلمت بهجت عثمان، ولم أجد جميل شفيق، قال لى بهجت إن عنده ظرف مانع، وأن للأستاذ موقفا من مثل هذا، فقد سبق أن المرحوم محمد عفيفى قد رفض التصوير باعتبار أن جلسة الحرافيش هى جلسة خاصة بالضرورة ولا داعى لتصويرها أصلا، وأن الأستاذ بناء عن إلحاح حرافيش آخرين اضطر للمشاركة فى التصوير آنذاك، وهو لا يحب الكاميرات، إلا أنه تحايل حتى احتمل الإضاءة والطقوس، فظهر فى التسجيل مضطرا تقريبا، قلت له ليكن، لكن المسألة الآن دخلت التاريخ، واللقطة سوف تكون ضمن تسجيل عالمى، وأنا حرفوش حديث لا أصلح جزءا من هذا التاريح ولا بيتى يصلح، ورجوته أن يدعى أنه قادم ويعتذر فى آخر لحظة حتى أستطيع أن أقنع توفيق.
الأربعاء 7/6/1995
كلمت توفيق فى بيته، مازال مصرا، لو سمحت، أرجوك وعشان خاطرى، وتعجبت أثناء المكالمة أن أرجو توفيق أن يكون الأمر عشان خاطرى، وهل يوجد خاطر أكبر من خاطر نجيب محفوظ، وعند من؟! عند توفيق صالح، ولكننى قدرت ما بداخله، وقررت أن الخاطر هو من أجل الأستاذ فى البداية والنهاية، وما هى إلا تداعيات عناد الموقف، قلت له إن الأستاذ يريد أن يتم التصوير مع من تيسر من الحرافيش، وقد سألته أمس بعد التأكد من أن جلسة التصوير هى واحدة وليست اثنتين سألت الأستاذ: هل تريد التصوير مع الحرافيش، قال بطيبة رائعة: ياريت، احترمته وخجلت، نقلت هذه الرسالة كاملة حارة لتوفيق فى الهاتف، وإذا به يقول: لماذ لم يصور فى بيته هو؟، مادام لم يصور فى بيته فالأوْلى ألا يصور فى بيتى، قلت له إن بيتك يا توفيق هو مكان لقاء الحرافيش، أما بيت الأستاذ فقد عبر عدة مرات عن خجله أنه ليس له حجرة مكتب، والصالون الصغير قد عزل المكتب خلفه فتوارى مترددا وفوقه بضعة كتب تئن من الهجر ولا تستطيع أن تزيح التراب عن أغلفتها، وأخيرا وافق توفيق، بعد أن نقلت له تعبير الأستاذ “ياريت” حتى يستشعر رغبة الأستاذ العميقة فى تسجيل ما هو “حرافيش”، مضى توفيق يقول: إنك لا تعرف نجيب، إن نجيب محفوظ ليس له صاحب (مالوش صاحب)، نعم نعم!!!؟ قلت لنفسى، فوّت هذه، إن المسألة أكبر حتى من خيالى، لعلها حرارة الموقف وطفولة الفنانين المبدعين.
وتأكيدا لموافقة توفيق واحتراما لحقه فى “الزرجنة”، صحبت زوجتى وزرته صباحا للشكر والتأكد من الموافقة، وفى نفسى شك أنه قد يتراجع فى أية لحظة، ومازحته، وطيبت خاطره، واحترمت طفولته الصادقة.
خرجت من عنده إلى الأستاذ مباشرة وبشرته بالموافقة فتهلل بشكل متوسط، وقال آسف سوف نبهدل له بيته، ناقشت زوجته الفاضلة فى احتمال أن يذهب لاحقا إلى الإسكندرية، فوافقت واقترحت أن يكون ذلك أثناء سفر البنات إلى الخارج، لكنه هو الذى تردد وقال فى رجاء متوتر: ما بلاش التصييف ده، وبسرعة قلت: لك ما ترى، فــَـفـِـرِحَ وهدأ، ثم أشار إلى بعض اللين الذى تعانى منه أمعاؤه هذه الأيام، وعزاه لطريقة الحشر الجديدة التى تُمَارَس عليه فى وجبة العشاء خارج المنزل، وقال إنه أكل أمس فى فرح بوت: بصارة وكبدة وأشياء أخرى. وهو يعزو اللين إلى ذلك
كلمتُ بهجت عثمان فرد مرحا: أهلا بالكونت برنادوت، لم أفهم فقلت له تريد أن تطيّررقبتى، قال أنت حمامة السلام بين توفيق ونجيب، وعدنى أنه سيحضر، وكان جميل شفيق عنده، وكان حريصا على أن يحضر جلسة تصوير الحرافيش من البداية، وأنا كذلك رغم أننى أخفيت رغبتى هذه، وكنت قد عزمت ألا أشارك فى التصوير إن رَفَضَ توفيق التصوير معنا، وكان قد أعلن عفوا عن هذا الاحتمال رغم أنه قبل التصوير فى بيته، قلت أتحجج به وأعتذر عن التصويرمعهم لأننى غير متأكد إن كنت حرفوشا حقيقيا أم لا، أى هل أنا تثبت بصفتى الشخصية أم هى الظروف؟، هذه المسألة لم تحسم عندى بعد، ويبدو أنها لن تحسم أبدا.
كلمت أحمد مظهر مخبرا إياه بالتطورات، وأننا قد لا نحتاج بيته، فصاح “إخص”، لقد أعددت كل شيء ولمّعت الأكواب ومسحت المناضد، ما علينا، يا الله! وأردف: ولكن أين سيكون التصوير عند توفيق؟ قلت له فى الصالون والشرفة، قال ياه!! تلك الحجرة النصف متر!!!
الخميس 8/6/1995
ذهبت للأستاذ واصطحبته إلى بيت توفيق أولا، فى الطريق سألته عن لقاء أمس فى المعادى، قال لى لقد حضر رئيس وزراء اليمن السابق ( لعله ”على سالم البيض” أو لست أدرى من، سوف أسأل فيما بعد) وقال إنه قادم من سوريا، وهو وجيه وأنيق، وهو يستحق أن يكون رئيسا للجمهورية فعلا، كأنه ولد لهذا المنصب، وفرحت أن ضيفا مثله يحضر جلسة الأربعاء بالمعادى بعد أن خفت من تناقص الأصدقاء بها، حين وصلنا إلى منزل توفيق استقبلنا بحب وترحاب شديدين، وكأن شيئا لم يكن، تأكدت من ترجيح ظنى، وأن قبوله هو من أجل خاطر الأستاذ طبعا جدا، قبّل الأستاذ عدة قبلات على كل خد، ترى هل يعتذر له أم أنه تذكرأن هذا هو الطبيعى، فرحت لمنظرهما على كل حال، وبدأ التصوير
الأسئلة تقليدية، معادة، أظن أننى قرأت بعض الإجابات على مثلها من قديم، ربما فى عدد الهلال منذ أكثر ربع قرن بمناسبة بلوغه الخمسين على ما أذكر، ومع ذلك فضلت أن أفرغها من التسجيل – غالبا– فكانت على الوجه التالي:
س: بالنسبة لطفولتك والحى الذى قضيت فيه إثنى عشر عاما، ما تأثيره عليك، على تكوينك وعلى إبداعك ؟
جـ: فى الواقع إنهم كانوا تسع سنوات وليس إثنى عشر، لكننى ظللت أتردد عليه بعد ذلك حتى قبل الحادث، وقد تأثرت به بكل معنى، وعلى جميع المستويات، وهو مازال يمثل كيانى بشكل أو بآخر
س: ما هو أول إحساس جسدى تذكره فى طفولتك، الإحساس بالجسد، ذكرت فى حكايات حارتنا مثل هذه الأحاسيس، فما هى؟ وهل لها علاقة بهذا الحى وملامحه الخاصة
جـ: إحساس جسدى، ما ذا تعنين
= الإحساس بالجسد، بالجنس
- أظن أن أول إحساس من هذا النوع كان مع أطفال الجيران، الأولاد والبنات، على السطوح، أنت تعرفين لعبة عريس وعروسة التى يلعبها الصبية والفتيات فى هذه الأحياء
(حضرنى هنا ما تذكرته من حكايت حارتنا، المرأة التى حملته على ظهرها طفلا، حين أحس بدفء ما، وكذلك مقتطفات من أصداء السيرة الذاتية)
= وبالنسبة لرائحة الحى، المشاعر الحسية، هل كانت لها أثر باق عندك
- الروائح، ماذا تعنيين؟
= رائحة البيوت الأطعمة الأدخنة، أى شيء من هذا القبيل
- آه طبعا، أنا كنت بجوار حى العطارين، وهو حى كله روائح، ثم عندك الأطعمة الشعبية بروائحها المميزة، الكشرى، والكسكسى، وكل هذه الأشياء تميز هذا الحى والأحياء المماثلة بوجه خاص.
= ما هى أول علاقتك بالقراءة، ما هو أول كتاب قرأته؟
- أول قراءة: أظن كنت فى إبتدائى ووجدت مع أحد التلاميذ كتبا، رواية بوليسية، جونسون وابن جونسون، حاجة كده، قرأتها، سررت منها، ومن يومها، وكان أيامها فى الأهرام تنشر قصص مسلسلة مترجمة عن كتاب مثل شارلز جارفز.
= ما هى أول قراءاتك للكتاب الأجانب مترجمين إلى اللغة العربية؟
- أول تراجم أظن المنفلوطى، آلام فرتر، وكان محمد السباعى أيضا، ترجمة تشيكوف، ودى موباسان، لم تكن ترجمة بالمعنى الحالى كان زى نقل المعنى، كنت تلاقى فى الترجمة أحاديث نبوية، كنت أقول ياه هم الكتبة الخواجات يعرفون هذه الأحاديث النبوية.
= ما هى أول قراءة لكتاب أجانب؟
- أظن برنارد شو، وأناتول فرانس:هنا حصل خدعة مع أناتول فرانس، كنت فى ثانوى أظن، ولقيته سهل جدا، فكرت أن كل الكتابة بالفرنسية هكذا، كان إعجاز السهولة واضح بشكل خطير، انخدعت، إدانى فكرة غلط عن اللغة الفرنسية حسبت أنها سهلة، بعد كدا حين انتقلت إلى مدام بوفارى لـ فلوبير وجدت المسألة شديدة الصعوبة، قلت ألله، هل الأمر كذلك، وقرأت أيضا نانا: لإميل زولا، هو مش STYLIST مش أسلوبى
= ومتى قرأت شكسبير
- بدأت قراءة شكسبير – يمكن فى الجامعة- ماكبث، أوتللو، وأيضا أعجبت بشكسبير من خلال إعجاب الرواد به، كان الرواد زى العقاد ثقافتهم سكسونية، فكانوا يحبون شكسبير، ومن هنا اتعرفت عليه من خلالهم، وأحببته جدا.
= هل يمكن أن تكلمنا عن العلاقة بالوالدة خاصة؟
- أنا كنت الصغير، حتى إخواتى كانوا كبروا وكنت تقريبا وحدى فى البيت، طبعا حصل شيء مثل بعض الدلع، لكن الوالد كان حازما فتوازنت المسألة.
= ما هو تأثير الوالدة عليك من الناحية الثقافية؟
- أنا زرت معها كل الأماكن والأضرحة الإسلامية والقبطية، والآثار، هى كانت تأخذنى معاها باستمرار إلى كل الأماكن التى أشرت إليها، زرت معاها المتحف المصرى - مثلا- عشرات المرات، كل مرة ندخل حجرة الموميات وأتعجب، إزاى جسم يفضل كده وصاحبه مات من كذا ألف سنة، مرة اختارت موميا وقالت لى: دى شبهى، شوف شعرها أبيض إزاى، الأم كانت مرشد آثار، بالنسبة لى، كنا نزور الأهرام كل شوية، نركب ترام 14 ونروح
= هل الوالد، بحزمه وحضوره كان سى السيد، السيد أحمد عبد الجواد،
- لم يكن والدى هو السيد أحمد عبد الجواد طبعا، كان حازما وصارما لكن السيد أحمد عبد الجواد شخصية روائية، لو كانت شخصية حقيقية يبقى الكاتب مؤرخ مش روائى، الروائى بياخد طوبة من هذه الشخصية ومن تلك الشخصية، ويمكن من شخصية واحدة ست وهو بيبنى معمار راجل، وبعدين تطلع شخصية الرواية
= يقال إنك كنت لاعب كرة ماهر، ما هذه الحكاية
- لعب الكورة بدأ بالإعجاب بحسين حجازى، وبعد ذلك لعبت فى فناء المنزل، وفناء المدرسة، وبعدين كونا فرقة خاصة فى الحى، زى نادى، وأصبحنا نلاعب فرق أخرى، فى الجامعة بطلت كورة ودخلت فى القراءة وكدا.
= إحترت بين الأدب والفلسفة، فكيف حسمت الأمر؟
- أنا كنت أدرس فلسفة، وكت أمارس الأدب من تحت لتحت”،بعد التخرج سجلت ماجستير فلسفة، إستخسرت وقتى فى الماجستير، قررت أن عملى الخاص هو الأدب، أما الثقافة فعامة، وبقت الفلسفة من أسس ثقافتى العامة.
= يقال إن الكاتب يعيش معاناة شديدة وهو يكتب، وأن القارئ يشاركه ذلك أحيانا فهل تذكر شيئاً من هذا، مثلا هل تذكر كيف عشت معاناة فلوبير أثناء قراءة مدام بوفارى، عند وصفه لوفاتها؟
- أظن عشت التجربة بكل أعماقها
= متى بدأت تقرأ بانتظام هادف والتزام؟
- كانت قراءتى فى البداية قراءة هاو، لكن بعد ذلك قرأت بانتظام، مثلا outline of the world…
= ومتى بدأت تكتب
- أنا كنت باكتب ما أقرأ، كل الكتب التى قرأتها وأنا صغير كتبتها، كأنى أنا الذى ألّفتها، كان عندى كراسة مع كل كتاب، أكتبها من مخى أنا، شىء أشبه بالتقليد، بالتقمص، بعد ذلك بدأت المسألة تأخذ شكلا منتظما
= كيف ؟
- يمكن المسودة تاخد منى شهر، شهر ونصف، أقعد أبيض العمل فى سنة، ساعات أقعد أكتب (أبيّض) خمس ساعات ألاقى نفسى لم أنجز غير نصف صفحة، عمر الكتابة ما كانت يسيرة
= توقفت عن الكتابة بعد 52 لماذا؟
- يمكن على ما اتعرف على ماهية المجتمع الجديد الذى انتقلنا إليه، أظن أننى كنت أتساءل لمن سوف أكتب، الذى صفته ماذا؟ قالوا إن هذا التوقف كان نوعا من رد الفعل، أنا لا أظن، أنا أيامها حسيت أنى تركت الأدب إلى الأبد، سجلت نفسى سيناريست، أكتب سيناريو لغيرى،
= هل حاولت أن تكتب سيناريو لإحدى رواياتك ؟
- لا لم أحاول، ولم أحب ذلك، مثلى مثل الجراح الذى يرفض أن يعمل عملية لابنته
= هل حب كمال عبد الجواد لعايدة هو حبك الأول
- أيوه، وأنا حبيت أسجله بشكل أو بآخر، فظهر هكذا فى هذا العمل،
= ماذا عن موقفك من الحب، ومن الجنس؟
- الحب مهم جدا، والجنس كذلك، الجنس لا يقل أهمية عن الحب، فيه إشباع حسى من الطرفين، فيه شيء مقدس، أما عن موقع الحب من الجنس: فالحب يشمل الجنس وأكثر عنصر من عناصره الأساسية، الحب فيه التجاذب الروحى الخاص، شىء لا يمكن تصوره، أكبر شيء يصلنا لمعنى فى الحياة، جنس من غير حب سطحى جدا، ولا يمكن تصور حب من غير جنس
= نريد أن نسأل عن رأيك فى وضع المرأة، وفى مسألة الختان، وحقوق المرأة، والميراث، فى مصر ؟
- كلها مسائل لها علاقة بالدين، لكن بالاجتهاد العلماء المستنيرين أفتوا بما يجعل المرأة زى الرجل بالضبط فى كل شىء، المرأة فى مصر حصلت على مكاسبها، الخوف عليها من أن تضيع مكاسبها بسبب التطرف، لازم تحصل على كل شيء من غير ما تصطدم مع الدين، ليس من مصلحتها أن تصطدم مع الدين، أما عن ختان البنات فهى قضية تخلف وليست قضية دينية، لقد قال لى أحد علماء التاريخ والتراث، قال لى إن النبى لم يختن بناته، ماذا يريدون بعد ذلك، يريدون أن يكونوا أنبياء أكثر من النبى؟
= هناك أرامل مثلا، غير موظفات، عندهم أولاد، كيف يعشن وما موقف المجتمع منهن؟
دى مسألة ليست قاصرة على المرأة، هناك رجال لهم نفس الظروف أو ظروف مشابهة بل هناك شباب أيضا لا يجدون عملا أو قرشا، هذه مسألة تخلف وفقر، حالة اقتصادية، اجتماعية.
= ما ذا عن الحرية، وما هو موقفك منها ؟
- موقفى؟!! الحرية هى المفتاح الذى تهتدى به إلى الإنسانية الحقيقية
هى الأساس فى التفكير لمعرفة أى جديد أو أى حسن، لا يمكن يحصل أى تقدم فى العلم أو الفن أو العلاقات من غير حرية، مجرد وضع قيد عليك خلصت المسألة، هى جوهر الإنسان، الإنسان مخلوق ليحقق حريته
= هل هناك وضع خاص للكاتب بالنسبة للحرية؟
- بالنسبة للكاتب!!!؟ الحرية هى حياته
= إلى أى مدى يمكن أن يصل دفاعك عن الحرية
- مدى؟ (ضحك) إلى المدى الذى يجعل ما حدث يحدث (وأشار إلى رقبته)
= نريد أن نعرف شيئآ عن المدة التى قضيتها موظفا فى مكتبة قصرالغوري
- كانت من أسعد الصدف، كانوا قد نقلونى هناك مغضوبا عليه، كنت مركونا فيه، واحد سكرتير برلمانى للوزير، الوزارة تغيرت أرادوا أن يركنوه، ركنوه أحسن ركنة، هدية جاءت من السما، طول عمرى أحلم أكون موظف فى مكتبه، وقد جاءت الفرصة تحقق الحلم، وأين؟ فى الغورية، ماذا تريد أفضل من هذا؟ كانت فرصة (سنة 1950)، قرأت فيها “البحث عن الزمن المفقود”، “مارسيل بروست”([26]) أظن من غيرها لم يكن فى مقدورى أن أقرأ هذا العمل الضخم
= نريد أن تحدثنا عن الأصدقاء.
- الأصدقاء هم من أهم أسباب السعادة، بدأت صداقاتى مع ثلة الجيران، وبعدين الصداقة مع الحرافيش، وهذه هى الصداقة التى تجمعنا فيها وحدة الأدب والفن والثقافة، لكنها فى البداية والنهاية صداقة لا أكثر، أنا الآن فى شبه وحدة، وعجز، إنّ ما يجعلنى أستمر ويربطنى بالدنيا هم الأصدقاء من حولي
= كتبت ذات مرة أو صرحت أن شخصيات زقاق المدق كانوا ثقلا على صدرك، وحتى ترفعهم عن صدرك كتبت زقاق المدق،
- هذا صحيح، لكن هم ليسواتماما شخصيات زقاق المدق الحقيقيين، هم موجودون (بالمعنى الذى أشرت إليه من حيث أن الرواى ليس مؤرخا) أنا جئت بهم من هنا وهناك، ووضعتهم فى الزقاق، زقاق المدق هذا مكان خال تقريبا، عطفة صغيرة،فيها قهوة صغيرة وقديمة، أنا الذى جئت بهذا من هنا ومن هناك من حياتى ومن خيالى أيضا، وبعدين كتبت الرواية،وكتبتها باهتمام وحب شديدين
= هل ما زلت تزور هذه الأماكم والزقاق مثلا، وماذا عن قهوة الفيشاوى؟
- أيوه كنا نروح مع أصدقاء العباسية ونتلم من هنا ومن هنا، فى قهوة الفيشاوى، وأنا فى مكتبة قصر الغورى كنت أخطف رجلى وآخد واحد شيشة هناك
= ماذا عن ظروف كتابة الثلاثية؟
الجزء الأول أنا لم أعشه، كنت أدرسه دراسة تاريخية، لكن الجزئين الثانى والثالث أنا عشتهم، كان عمل واحد من ألف صفحة فولسكاب، لم يرض ناشر أن ينشره كم ستبلغ صفحاته، وكم سيكلف، وكم السعر المناسب الذى سيحدد له؟ بدأت أنشره مسلسل فى مجلة مسامرات الجيب، وبعدين الثورة قامت، جه يوسف السباعى وقال لى، لا تزعل، الثورة حا تعمل مجلة، وخَدُه عشان ينشره مسلسل، وبعدين شار على تبقى ثلاث أجزاء، وهذا ما كان.
****
إنتقل التصوير بعد ذلك إلى الحرافيش، سأل جميل الأستاذ: قل لنا آخر نكتة، سكت الأستاذ قليلا ثم ضحك، أحيانا يعملها حين يسمع نكتة فيضحك ضحكة قصيرة من باب المجاملة، ثم بعد فترة تصل إلى بضع ثوان نجده مال إلى الخلف مقهقها وحده، فنعرف أنه التقط فيها بُعدا خاصا، أو أضاف إليها ملمحا طريفا، اعتذر بطيبة وكأن ضحكته هذه على مراحل هى النكتة التى طلبت منه، فوصلتنا، فضحكنا بدورنا، لم يرفض توفيق التصوير، وانتشى على الشوباشى، وعرفت أنه عقربىّ (5 نوفمبر/برج العقرب) مثلى، علما بأنى لا أهتم بمغزى هذه الأبراج نهائيا.
انتهى التصوير، راحت الفرنسيات المساعدات يتحوطن الأستاذ والحرافيش، والمنضدة ليست مستديرة ولكن الدائرة استدارت حتى تذكرت أيام المرح فى باريس، وحكيت لهن بمناسبة استدارتنا جميعا حول مائدة الاستاذ، كيف كنا نغنى فى رحلات نهاية الأسبوع فى ضواحى باريس (1968) هذه الأغنية، أغنية: الفرسان حول المائدة المستديرة)[27])، يتذوقون النبيذ: هل هو جيد أم لا؟، يتذوقون ليروْا: نعم نعم نعم،، يتذوقون ليروْا : لا، لا، لا، يتذوقون ليروْا إذا كان الشراب جيدا،
التقطت الفرنسيات الأغنية من البداية، ورحن يرددنها معى وعلى رأسهن المخرجة: نعم نعم نعم: لا لا لا، نعم نعم نعم، لا لا لا، كما كنا نعملها فى فرنسا،
والأستاذ يشاركنا بالضحك والمباركة.
انتهى اللقاء على خير وطلبت من توفيق: أنه ياليته يحتفظ بالأشرطة كاملة ولو الصوت فقط، لأن كل هذه الساعات قد تنتهى إلى نصف ساعة وياترى ماذا سينتقون منها، وأنا لا أذكر الآن نص الحوار الذى سجلته فى هذه الحلقة لابد أنه من شريط استعرته منه، غالبا كان كذلك!
الحلقة السبعون
… وكُرِهَ السودانى فى الحرّ
الأحد: 11/6/1995
ذهبت لفترة قصيرة إلى نوفوتيل المعادى، لا يوجد إلا نعيم ومصطفى أبو النصر، وواحدة لا أعرفها، كان الحديث مازال يدور حول قانون الصحافة وعلاقته بابن الرئيس، قال أبو النصر بحزم: إن إبن الريس علاء له نسبة ما % من كل صفقة لست أدرى ماذا (شركة استثمارية، شركة تصدير واستيراد، مقاولات.. لا أذكر) سألته: من أين لك هذا اليقين؟ كل شىء محتمل لكن هذا اليقين والتحديد أمر آخر، قال: إن لى إبنا يعمل فى التصدير والكمبيوتر وهذه الأشياء، وأنه يعرف ما يجرى، قلت له هل دفع له شخصيا هذه النسبة التى تقول عنها، قال لا ولكن زملاء ثقات له أفادوه بذلك بأدلة دامغة، قلت له بالله عليك أخبرنا حين يدفع.
كنت على وشك الذهاب إلى ندوة تعقدها جمعية النقد الأدبى لمناقشة كتاب “خطاب الحياة اليومية فى المجتمع المصرى” للأستاذ الدكتور أحمد زايد أستاذ علم الاجتماع، وقلت للأستاذ إن فى الكتاب من المآخذ والهنات والتجاوزات ما فيه، وأنا ضيف على هؤلاء الناس وأنا فى حرج: هل أقول ما لاحظت فتصبح المسألة هجوما ودفاعا بلا فائدة، أم أعتذر، أم أجامل وألامس الموضوع من بعيد وأدع المناقشين الآخرين يقولون ما بدا لهم، وأضفت: بصراحة أن هذا الكتاب هو دون مستوى المناقشة أصلا، قال الأستاذ: كيف يكون أى كتاب دون مستوى المناقشة؟ قلت له لقد سمعت ذات مرة الطيب صالح فى إذاعة لندن يقول: إن العمل الجيد يستأهل النقد والحوار، وبيان ما فيه من قصور، ومناقشة ما حوله من خلاف، أما العمل السيء فلا يستحق أيًّا من هذا أصلا، قال آلأستاذ إن هذا يصح على الأعمال الأدبية، ثم إنه يصح للناقد الذى ينتقى ما يستأهل أن يبذل فيه جهده ووقته، لكنه لا يصح فى أمر كتاب علمى، دعيتَ لمناقته تحديدا فى ندوة عامة، وقبلتَ، قلت: ماذا أفعل إذن؟ قال ليس أمامك إلا أن تذهب، وتقول ما لاحظت، ثم نرى.
شكرته وانصرفت إلى الندوة
الثلاثاء 13/6/1995
لم أعد أذهب إلى اجتماع الثلاثاء – فرح بوت – إلا نادرا، وكان هذا اليوم هو من بين هذه الندرة بمحض الصدفة، كان الأستاذ حاضرا، فـَـرِحَ بقدومى ومثل كل مرّة أتصور أنه يخصنى بذلك، لكننى سرعان ما أتذكر أنه يفرح بقدوم أى أحد، بادرنى على الفور: ماذا عملت فى الندوة؟ يا خبر!! هذه ليست مسألة ذاكرة، لكنها – اهتمام موضوعى بما يجرى واحترام للناس، ”عملت إيه فى الندوة”!! حكيت له أن سخطى على الكتاب كان أقل من سخطى على الحضور الذين: أولا لم يقرأوا الكتاب، ومع ذلك ناقشوا عموميات لا علاقة لها به، ثم كانت المجاملات، وبالذات من زميلى فى التقديم الأستاذ سيد يس، والألعن من ذلك أن أحدا لم يستوعب أو يقبل المنهج الذى قدمت به رأيى، وهو أن ألعب معهم لعبة: “نعم…ولكن”، لأخفف جرعة النقد، سألنى الأستاذ ماذا تعنى بلعبة “نعم… ولكن” هذه؟ قلت له: سوف أحكى لك ولكن ليس بنص ما قلته فى الندوة، هى هكذا تقريبا: “نعم” هذا كتاب حسن النية ”لكنه” مهلهل المنهج، ”نعم” هذا العمل يقول “لماذا كذا” ولكن لم يقل لنا “إذن ماذا”؟ بل إنه حين قدم البديل المنهجى جعلنا نقر المنهج الذى رفضه ابتداء، تحت زعم أن إحصاءً وانضباطا واستمارات بلا مصداقية كاملة خير من التناثر والعشوائية والشخصنة (ولا أقول الذاتية)، ثم إن المصيبة أننى حين لاحظت ملاحظات تتصل بالأمانة العلمية، أو على الأقل بأمانة انتقاء الموضوعات أقرّنى الكاتب عليها، كيف ذلك بالله؟ – إستزادنى الأستاذ شرحا، فمضيت أقول: مثلا: قلت له كيف أن ربع المواقف التى أجرى فيها البحث كانت فى وسائل النقل العام، ومع ذلك كانت الاستمارة مليئة ببيانات لا تؤخذ إلا والباحث والمجيب فى الوضع جلوسا على مكتب عليه أقلام وأوراق واستمارات تسمح بملء كل تلك البيانات مثل: المهنة، مستوى التعليم، المستوى الاجتماعى… إلخ؟ ويهز المؤلف رأسه أن “نعم”!!! فأكمل: وكيف أن الموضوعات المطروحة فى كتاب عنوانه “خطاب الحياة اليومية فى المجتمع المصرى” لم تشمل موضوعات دينية مع أننا نعرف أن معظم ناسنا لم يعودوا يتكلمون إلا عن الحلال والحرام حتى قلت ساخرا إننى تصورت إمكان طرح سؤال يقول: هل نوم الأعزب مقرفصا حلال أم حرام؟ ثم بعد ذلك يصدر كتاب بهذا العنوان ولا يتعرض للدين؟، ويضحك الأستاذ متألما، فأضيف إننى قلت لهم إننى أعتقد أن ستين فى المائة من أحاديث ناسنا تدور حاليا حول الحلال والحرام أو حول أمور دينية والسلام، وأن الموضوع التالى الذى قد يشغل الناس حتى يملأ حيزا يتراوح بين عشرة وعشرين بالمائة هو الأحاديث البذيئة، والنكات عامة والنكات الجنسية خاصة، ثم حكيت كيف أن د. عز الدين إسماعيل - الذى أدار الندوة – أضاف إلى ذلك مسألة غلبة القسَم (والله العظيم، والمصحف الشريف، ودينى وأيمانى)، وهو يؤكد وجهة نظرى.
قال لى القعيد فجأة محوّلا الحديث، قال بلهجة الاتهام مرة أخرى وكأنه يمزح: إن الحبوب التى تعطيها للأستاذ تجعله ينام وهو جالس بيننا، فقلت له حيرتنى يا يوسف أنت والأستاذ، الأستاذ يطلب أن تزيد الحبوب أو أن يأخذ حبوبا أقوى، وأنا أقاوم ذلك من أول يوم وحتى الآن، ثم تأتى أنت الآن وتطلب أن تقل الحبوب وتصورها مسئولة عن النوم أثناء مثل هذه الجلسة، ونقلت الملاحظة للأستاذ وذكّرته كيف أن تعقيب يوسف، ربما يدعم رأيى أن عندى حق ألا أزيد الحبوب، ويقول الأستاذ ضاحكا، “أبدا، هذا لا يحدث، ربما لاحظ يوسف أننى لا أنتبه لقصائد مديحه لعبد الناصر، من كثرة ما سمعت منه هذا المديح”!!، وينبهنى، فأقول له إن أبو العلاء المعرى له شعر يقول: ما كل نطق له جوابٌ، جواب ما تكره السكوتُ’، وقياسا على ذلك أقول: “ما كل قول له انتباهٌ، جزاء ما يُفتـِــرُ النعاس”، وألتفت إلى يوسف قائلا عليك أن تراجع الموضوعات التى ينام فيها الأستاذ، وأن تتساءل لماذا لا ينام فى الجلسات الأخرى، قلتها وأنا أقصد أن أثير غيرته، وقد كان: فيقع فى الفخ ويصيح إن جلسة الثلاثاء هى أهم الجلسات وأخفها دما، فأقول له ليس من حقك أن تطلق هذا “الحكم المقارن” هكذا لأنك تحضر جلسة الثلاثاء دون غيرها غالبا، والمنهج العلمى يلزمك بالمقارنة الدقيقة بنفس المقاييس والتواتر، ويضحك الأستاذ ويسأل يوسف فى غيظ مَنْ ذا الذى يحضر كل الجلسات تقريبا؟ وأزوغ أنا من الإجابة طبعا، ولا أشير إلى زكى سالم الذى يكاد يحضر يوميا كل الجلسات، والجميع يعرف ذلك.
الخميس 15/6/1995
الحرافيش!! يوم مختلف فعلا، شعرت بالأسف لأننى لن أحضر إلا النصف الأول من اللقاء، إذْ سوف أسافر بعد جلسة الفندق مباشرة، حين وصلنا بيت الأستاذ وكنت قد مررت على توفيق لأصحبه، قابلنا الأستاذ مهللا، وكان الجو (منذ ثلاثة أيام) شديد الحرارة فعلا، واجه الأستاذ لفح الحر وقال ضاحكا: “الجو طقس” فشعرت وكأنى أسير بجوار إبن بلد ظريف، وكم تعجبت لهذا التعبير “الجو طقس” والذى كنت أحسب أنه لا يقال إلا عندما يكون الجو لطيفا، لكن الأستاذ استعمله هنا هكذا، وكان محمد إبنى قد حكى لى أنه حين دخل العوامة أمس مع الأستاذ ووجد الفرق بين قيظ الشارع وتكييف المكان قال الأستاذ: ياه إننا انتقلنا إلى خط عرض جديد تماما،
قلت للأستاذ فى بداية الجولة إنه جاء فى الأثر أنه ”كُـرِهَ الفول السودانى فى الحر”، وفى قول آخر: ”لا يجتمع قيظ وفول سودانى”، قلت ذلك لأتجنب المرور على المقلاة ونزول توفيق من تكييف السيارة لشراء المعلوم الذى لا يقربه أحد، ومع كل هذه الأسباب قبل الأستاذ التنازل متضررا، وقال طيب بلاش سودانى نكتفى باللب الأبيض، (وهو لا يذوقه) قلنا له إن المسألة ليست لبا أو غيره لكنه الحر، قال: لكنهم يحبون اللب الأبيض (علمت أنه يقصد أسرة توفيق)، قال توفيق إن عندهم ما يكفى من الأسابيع الفائتة، وقبل الأستاذ ألا نمر على المقلاة على مضض.
فى العربة قال الأستاذ: يقال إن هذه الموجة الحارة آتية من جنوب أفريقيا والسعودية، ثم أردف: غدا تصدر السعودية بيانا تكذب فيه ذلك وتقول هاتوا لنا شهودا([28])
سأل الأستاذ عن أحمد مظهر ولمَ لمْ يحضر، فأجاب توفيق أنه اعتذر محتجا بأن توفيق لم يذكّره، ناسيا أن مواعيد الحرافيش ثابتة منذ عشرات السنين، وحين اختلينا فى الفندق بعيدا عن الحارس الخاص شرح لنا توفيق أن صوت أحمد مظهر فى التليفون لم يكن “تماما”، وأنه لا يعرف كيف يساعده، قلت له: إن الطب عندنا يحذر من هذه الحكاية والمرء منفردا، أو بالنهار أثناء العمل أكثر مما يحذر من الكمــية، وقال توفيق معقبا يبدو أن ذلك صحيح حتى أن سمير سرحان فاتته الوزارة بسبب حكاية مثل هذه أثناء العمل، ولم ندخل فى التفاصيل.
كان الأستاذ متألما من الحكم الاستئنافى القابل للنفاذ فى قضية نصر أبو زيد، حيث صدر حكم من قاض يرتدى الزى الذى يقال له زى إسلامى (الجلباب الأبيض القصير كالقميص الطويل، والزنوبة والزبيبة إلخ) صدر الحكم بالتفرقة بين أبو زيد وزوجته، وعدم نسبة أولاده، له وأشياء قبيحة من هذا القبيل، وقلت للأستاذ إنه لم يعد أمامنا ملجأ، فقد أحاطت بنا السلطات من كل جانب، السلطات التى وظيفتها هى حمايتنا، أصبحت تتنافس على قهرنا ونفينا، فقانون الصحافة أعلن عداء السلطة التشريعة للناس والفكر فى آن، كنا نتصور أن الذى سينقذنا هو القضاء العادل، وحسن التطبيق، وها هو القضاء يساهم فى قهر الفكر وينتزع الزوجة من حضن زوجها لمجرد أنه فكَر، وهكذا لحقت السلطة القضائية بالسلطة التشريعية، أما السلطة التنفيذية فموقفها من الناس والفكر معروف وقد دعم بهذا القهر الجديد، وقال الأستاذ: ما العمل؟ ولم أعُدْ إلى إعلان رأيى القديم عن ضرورة إلغاء حد الردة لأنه غير موجود فى الإسلام أصلا إلا فى حالة الحرب – كما وردت ذلك فى آراء شرعية – وإنما قلت إن الشباب الآن يبحث عن وسيلة لإلغاء انتمائه لمثل هذا الفكر بل لمثل هذا الوطن الذى يجاز فيه مثل هذا الحكم، وإن الإسلام شخصيا هو الذى يدفع الثمن غاليا، وإن المحطات الأجنبية تترك كل إنجازاتنا وتركز على مسألة مثل الختان أو مثل هذا الحكم، وقال توفيق صالح إنه لم يحدث فى تاريخنا المعاصر مثل هذا الحكم أبدا، حتى قضية التفريق الشهيرة فى أوائل هذا القرن بين العروس من أسرة السادات (من علية القوم غير أسرة أنور السادات)، وبين زوجها من أسرة أقل اجتماعيا بحجة عدم التكافؤ، حتى هذه القضية ليست على نفس الدرجة من الخطورة، لأن القضية الحالية هى قضية فكر، ونقلتُ للأستاذ رأى زوجتى من أن الذى ينبغى أن يحاكم عن الردة هم هؤلاء الذين “ارتدوا” بالإسلام إلى دين لا يعرفه الإسلام، لدرجة أن يبدو من يدعى أن الإسلام إيمان وإبداع يشعر أنه إنما يكلم نفسه.
وتكلم توفيق عن العمل الجديد الذى يشارك فيه، وقال إنه اكتشف أن شركاءه من رجال الأعمال من ليبيا ومصر لن يدفعوا العشرين مليونا، وأن ثمَّ بنكا له الربع، وأن هذا البنك سوف يقوم بإقراض الباقى على الورق، وأنه حين نبههم إلى أن الفائدة ستكون ثمانية عشرة بالمائة، ضحكوا منه وقالوا إن هذا الرقم هو ما يخصه هو، أما هم فالفائدة سوف تكون ثلاثة فى المائة، ولم أفهم، وحين استوضحته قال إنه أيضا لم يفهم، لكنه شعر أنهم يجوز أن ينتجوا فيلما بأكمله دون أن يدفعوا مليما، وأن هذا هو البيزينس، وأن أحدا لا يدفع ضرائب وخاصة الأثرياء رغم أن شرائح الضرائب عندنا من أعلى الشرآئح فى العالم، وقلت له إن الحكومة لو أنقصت الضرائب لزادت الأمانة وزادت الحصيلة، وقال أبدا، من تعود على ذلك لا يرجع عنه أبدا.
لست أذكر كيف انتقل الحديث إلى مراد غالب سفيرنا الأسبق فى موسكو، ويحكى الأستاذ كيف أن ثروت عكاشة ناداه يوما، وعرفه بالسفير مراد غالب، وقال له إنه يريد أن يقول لك كلمتين عن مجموعتك (أو عن قصتك) “تحت المظلة”، وأنه (ثروت عكاشة) لم يشأ أن يقول له رأيه مباشرة، وقلت للأستاذ ماذا كان رأيه ورأى مراد غالب، فيقول إن السفير كان يريد أن يهدئ من روعى، وأن يدعونى أن أحتفظ بالأمل، وأن المسألة ليست بكل هذا السوء والظلمة، وقال توفيق إن هذا من رقة ثروت عكاشة، وتعجبت من هذا التعليق لما أسمعه عن عنفوانه وحسم سطوته، وأسأل الأستاذ عن علاقته بالدكتور ثروت، فيقول إنها كانت طيبة، وأنه عمل معه أطول مدة، وأنه كان إنسانا مخلصا دؤوبا، وألمّح متسائلا مرة ثانية إلى احتمال استيلائه على جهد الآخرين، فلا يعقب الأستاذ ويعود توفيق يؤكد لى أن هذه مسألة لم تثبت، وهو إن كان يستعين فهو يستعين فى جمع المادة، أو فى الترجمة أو التسويد، أما اللمسات النهائية والتحرير، فهو الذى يقوم بها بالتأكيد.
وأسكت وأنا أتمنى أن يكون هذا صحيحا، ويبدو أنه كذلك.
وأحكى للأستاذ مقتطفا من ندوة حضرتها هذا الصباح عن مستقبل التعليم الجامعى فى مصر بين الدولة والقطاع الخاص، وأن د. جابر عصفور قد اقتطف قولا من سعد زغلول، الذى كان أيامها رئيس اللجنة الأهلية التى أنشأت الجامعة، وأنه ذكر كيف كتب سعد زعلول فى مذكراته 1908: إن خطبة “أحمد زكى باشا” كانت أثقلها على السمع، وأبعدها عن الموضوع، وأفرغها من حسن الذوق، حيث تكلم فيها عن الإسلام وحده بما لا يحتاجه، وهذا لا يليق فى افتتاح جامعة لا دين لها إلا العلم ‘،
حكيت هذا وأنا أعلم مدى حب الأستاذ لسعد زغلول، ثم إنى وأنا أحكى له ذلك، تذكرت أن جابر عصفور وهو أستاذ نصر أبو زيد، وأبدى عجبى كيف لم يربط د. عصفور كلمة سعد زغلول بهذا الأستاذ الجامعى الذى حكم عليه بالردة هذا الصباح؟ ويتفاقم الألم بالأستاذ ونحن نعود لفتح هذا الموضوع المزعج فأقفل الموضوع، وأستأذن من الأستاذ بأنى سوف أقوم بحركة سخيفة، وهى أن أعتذر عن النصف الثانى من جلسة الحرافيش، وأرى حرصه على ألا أفعل، فأفرح، ولكننى لا أملك إلا الاعتذار وأنا أكثر اسفا، وأنصرف.
هامش يوم السبت: 17/6/1995
مررت عليه عائدا من الإسكندرية، كان نشطا منتبها، أخبرتنى السيدة حرمه أن دعوة ما ستصلنى للمشاركة فى احتفال تسليم الأستاذ الدكتوراة الفخرية من الجامعة الأمريكية (هو وثروت عكاشة)، سألته عن ذلك، قال إننى كنت دائما أرفض حكاية الدكتوراه الفخرية هذه، حتى اتبعوا تقليدا جديدا هو ألا يستأذنوا الممنوح قبل منحه، وقد بدأت الحكاية بجامعة فى بلجيكا، ثم جامعة القاهرة ثم خذ عندك، قلت له لكن الجامعة الأمريكية هذه الأيام شىء آخر، ….. حين تحصل على الدكتوراه منها يمكن أن تجد وظيفة فى بنك تقبض منه راتبا أكبر من كل ما حصلت عليه طول حياتك،
وضحك طويلا وعميقا.
الحلقة الواحد والسبعون
مدحت عاصم والشيخ محمود صبح
الإثنين: 19/6/1995
مررت عليه فى نوفوتيل المطار، لم أذهب هناك من مدة، قابلت عادل عزت، وزكى سالم ونعيم وخالد الرخاوى وحافظ طبعا ومحمد يحيى، والبنتين اللتين لا أعرفهما، كان الحديث أيضا عن حكم المحكمة، بالتفريق بين نصر أبو زيد وزوجته، وكان حافظ يعترض على البيان الذى أصدره نصر أبو زيد فى الصحف، وبعضه أخذ عنوان أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وكأنه كافر واستتيب فتاب، واعترضت على الاعتراض، فليست البطولة أن تقف فى وجه تخلف تغلغل حتى فى ضمير القاضى، وإنما الرد المناسب لهذا الحكم هو التكلم بلغتهم وتحديهم في أرضهم، فمثلا نحن نردد الشهادة مرتين على الأقل في كل صلاة وهذا الحوار هكذا إنما يفتح الباب حتى للردة، ثم التوبة، ولو حدث هذا مائة مرة فلْيتبْ صاحب الرأى مائة وواحد، ثم يقول رأيه ويتوب وهكذا، والتقط الأستاذ دون غيره ما فى موقفى من سخرية وواقعية فى آن، ثم كان الحديث أيضا عن رأى نصر أبو زيد فى ضرورة تسوية المرأة بالرجل فى الميراث مخالفا بذلك النص، فقلت إن تعريف الذكر سنة 1995 غير تعريف الذكر منذ أربعة عشر قرنا، فالذكر – نفسيا وسلوكيا الآن غير الذكر فى المجتمع قديما بما فى ذلك المجتمع الإسلامى التقليدى، وعندى الآن أن الذكر هو الإنسان الذى يتمتع بصفات المبادأة، والاقتحام والمسئولية واتخاذ القرار والإنفاق،، ويعمل ويعول، وبما أن المرأة تتمتع بكل هذه الصفات هذه الأيام فإنها تستحق أن تتمتع بحق الميراث كاملا مثلها مثل الذكر، ثم عليها – إذن – أن تساهم فى الإنفاق، فالدين الإسلامى يلزم الرجل – ولو كانت زوجته مليونيرة- أن ينفق الرجل على زوجته طول العمر، وبالتالى فالنصف الذى تأخذه هذا هو “مصروف يد” هدية من أبيها، وحكيت قصة أبى الذى نادانى قبيل وفاته وأخطرنى أن والدتى حين تزوجها كان عندها فدانين ونصف، وأن ريع هذه الأفدنة لو أجّرتْها طوال هذه السنين سوف تدر على الأقل كذا، وأنه باع هذه الافدنة سنة كذا، واشترى بدلا منها أرضا أكبر، فريعها كذا، وأنه علىّ أن أجمع كل هذا بعضه إلى بعض، ثم أعطيه لها، زيادة من ميراثها الشرعى منه الذى هو الثـُّمن، وقد فعلت ذلك فعلا، ووافقنى إخوتى عليه. فوصلها أكثر بكثير من أى ذكر فينا نحن الثلاثة، مع أننا اتفقنا على أن كل ما ترك والدى هو لها حتى تقضى، ثم انتبهت إلى نقطة أهم وهى أن الإسلام ليس به توريث أصلا لأنه لا يعترف بالملكية، فالمسألة كلها حمل أمانة، لأن ملكية المال أو الأرض أو أى شىء هى لله، ونحن مستخلفون في ما نحوزه بعض الوقت (مدة حياتنا) ثم ننقله لأبنائنا لا ليتملكوه، ولكن ليوصلوه إلى أهله، فهم “موصلاتية” لا أكثر، والميراث إذن هو مسئولية يحمل عبئها الذكر لأنه الأقوى، والأقدر حينذاك، وحين يجتهد فرد الآن ويقول إن المرأة ترث مثل الرجل فإنه لا يحرم الرجل حقه بقدر ما يخفف عنه مسئوليته، وهذا ما أوصيت به ولدىّ وبناتى صراحة وكتابة، ويسألنى نعيم ماذا تعنى بقولك “يوصله (المال/الميراث) لأصحابه، من هم أصحابه؟: فأكرر ما لم يسمعه نعيم منى وسبق ذكره أن اصحابه – عندى كما أوصيت أولادى بلا ضمان غالبا- هم الناس، عامة الناس، أو المصلحة العامة، ومن ذلك: وسائل تحريك وعى الناس، وتعميق الثقافة وتنمية الفطرة، ويقول محمد إبنى مازحا (مع أنه الوحيد الذى سمع منى مثل هذا الكلام ألف مرة)، أنا مستعد لتوصيل ما تشاء خلّ عنك!!، ويرفع الأستاذ حاجبيه باسما ولا يعلق، وأتصور أنه يوافقنى وأثناء انسحابى مستأذنا (لم أمكث إلا بضع دقائق) خطر ببالى تعبير أكثر حداثة للميراث فى الإسلام بهذا المعنى الذى قدمته، وهو أنه عملية “نقل عهدة،” وكنت قد قلت أثناء النقاش إن الإبن (والبنت) أوْلى بتولى مسئولية حمل الأمانة باعتبار أن الوالد (أو الوالدة) المسلم قد نجح أن ينقل لهم إسلاما صحيحا قبل أن ينقل لهم أمانة عيانية فى شكل ميراث أو ما شابه.
هامش حرافيش الخميس: 10/8/1995
أيام كثيرة مرت لم أكتب فيها عن صحبته، ذلك لأنى لم أعد أصاحبه كثيرا مثل الأول، وإن لم يغب عن وعيى لحظة، إجازة مولد النبى أول أمس. توفيق مسافر أمريكا بشأن يتعلق بالشركة الجديدة، حين أسمع حديث رجال الأعمال، أو عن رجال الأعمال، لا أعرف تحديدا ماذا يعنى هذا المصطلح، أمتلئ إعجابا بكل هذا الاغتراب والمثابرة إعجابا مختلطا بدهشة بالغة وأنا أشفق عليهم وعلى نفسى وعلى المنطق السليم، أكاد أتبين كيف أننى لا أعرف كثيرا فى الطبيعة البشرية كما أتصور ويتصورون.
أحمد مظهر حضر إلى منزل الأستاذ قبلى بقليل، لكننى لحقته قبل أن يدخل وسألته شاكرا عن سبب التبكير فقال إنه يريد أن يستأذن الأستاذ فى أن يلقى فيما يسمى الليلة المحمدية مقطعا صوّر فيه المؤلف موقف الأستاذ وهو يخاطب رسول الله شاكيا شارحا موقفه متعجبا من عدم فهم الشباب للإسلام الذى أدى إلى غرس النصل فى العنق، وفعلا يستأذنه ونحن فى السيارة، ويوافق الأستاذ كالعادة، أثناء ركوبنا السيارة أيضا يقرأ أحمد مظهر للأستاذ الفقرة التى تبدأ بـ: “أنا نجيب محفوظ أتيتك من أرض الكنانة”، ثم تشرح الكلمة – بصراحة فى سطحية خطابية مباشرة – أنه كان ضد الظلم وضد الطغيان..إلخ ويكرر بعد كل مقطع: ”كما رفض الإسلام”، ”كما رفض الإسلام”، وأحس بالغثيان من فرط السطحية والمباشرة، ولكن الأستاذ مازال موافقا – كما تعلمت أنها عادته- وحين أسأله لاحقا فى الفندق: عن رأيه فى كل هذه السطحية يرد: هذا عمل ليس مسرحيا وليس دراميا، إنه خطبة متعددة الأصوات بمناسبة دينية محددة، ولا ينبغى قياسها بغير ما هى له، فأتعلم وأحترم وأصمت، وأخبره عن أن المولد لم يعد مولدا، وأتساءل ما هو البديل لهذا الكرنفال الذى كنت أنتظره صغيرا من العام للعام ونحن فى زفتى، والذى كان يسير يوم المولد عبر داير البلد كلها، وأهل الحرف كل على عربة كارو يجرها حمار أو حصان يمارس حرفته، الحداد يدق، ومبيض النحاس يلف داخل الحلة العملاقة، وصانع الفخار، والسباكين، ثم مواكب الطرق الصوفية، يقول الأستاذ إنه لم يحضر المولد بهذه الصورة، وأنه حين نشأ فى العباسية طفلا كان المولد بالنسبة له مكان متسع خال، يمتلئ بالسرادقات فى مناسبة المولد (أشبه بمولد الحسين الآن أو مولد الرفاعى) وأن المصالح الحكومية كانت تتنافس فى نصب سرادقاتها مثلها مثل الطرق الصوفية سواء بسواء، وأن السرادقات كانت تمتلئ بالمنشدين والمداحين، ويذكر منهم الشيخ على محمود، ولا أعرف كيف سرحت فسألت على محمود من؟، فابتسم متسامحا وقال إنه الشيخ على محمود الصييت الأشهر، ويذكر كيف كانوا يتسللون إلى بيته فى العباسية شارع المخزنجى، هو وأولاد نويرة، فؤاد نويرة وعاصم نويرة (وكان عبد الحليم نويرة مازال طفلا صغيرا عنهم، يصحبهم أحيانا قليلة، وينادونه حليم)، وقد كان تلصصهم تحت الشرفة ليشاهدوا محمد عبد الوهاب وهو عند الشيخ عبد الحليم يسمعه بعض معزوفاته وأغانيه قبل أن يخرج بها إلى الجمهور، كان يذهب إليه سائرا على قدميه حاملا عوده، ونادرا فى حنطور، وذلك قبل اختراع التاكسى وهذه الأشياء، وكان عبد الوهاب يضع اعتبارا هائلا لتذوق ورأى الشيخ على محمود، وأسأل الأستاذ كيف كان الحوار النقدى فى إبداء الرأى آنذاك ، فيقول الأستاذ فى الأغلب كان عبد الوهاب يتلقى الرسالة من تعبير الوجه، أو هزة الرأس، !!! وكان الشيخ على محمود أعمى؟ وأضاف الأستاذ أن الشيخ على محمود كان إذا أنشد نفس النص يعتبر نصا صوفيا ومديحا إلهيا أو نبويا، وإذا غنته أم كلثوم كان يعتبر أغنية عاطفية، فمثلا، يقول الأستاذ، أغنية “أدر ذكر من أهوى ولو بملامِ فإن أحاديث المحب مدام” تنفع فى مدح النبى عليه الصلاة والسلام، كما تنفع فى مدح المعشوق، وهكذا
يقول أحمد مظهر للأستاذ: هل تذكر الشيخ محمود صبح، فيقول طبعا، كان ذلك أيام الإذاعات الأهلية، وكان التنافس بينهما طريفا ودالا، وكان مدحت عاصم يقدم بعض المقطوعات الأجنبية فى إذاعة ما، ويرد عليه الشيخ محمود صبح بتعميق النغم الشرقى والطرب البلدى، وكان أحيانا يوجه الأغنية قبل أن يبدأها لمدحت عاصم قائلا: إسمع دى يا مدحت يا أعمى، أو بعد ما يعقب فى الإذاعة: سامع يا مدحت يا عاصم يا أعمى !!، ويعقب الأستاذ ضاحكا: مع أن الشيخ صبح كان فاقد البصر فعلا، ولا يتردد فى أن يسب مدحت عاصم بالعمى، ويقول الأستاذ مخاطبا مظهر أنه كان للشيخ محمود صبح أسطوانات حقيقية أيام كانت الأسطوانات عبارة عن أسطوانة مجوفة فعلا لا قرصا يدور حول نفسه، بل أسطوانه تلف أمام إبرة خاصة، وهذا أصل التسمية، ويقول الأستاذ إن الشيخ صبح كان صاحب أعمق صوت ”باز” سمعته، ويعقب أحمد مظهر على قبح غنائه، ولو أنه لا ينكر أنه كان له شخصية مميزة، يقول الأستاذ إنه كان مغنيا ومقرئآ وملحنا ورافع أثقال (يشيل حديد) ومصارعا، ويقال إنه مات نتيجة لزيادة الجرعة، ثم سقوطه من شرفة منزله وهو لا يرى.
ويرجع الأستاذ إلى ذكر الشيخ على محمود فيقول إنه هوالذى كان يحيى ذكرى سعد زغلول فى سرادق يقرأ فيه القرآن بشكل خليق بالمناسبة، ويذكرالأستاذ أن الشيخ على كان حين ينتشى وهو يرتل قصار السور تبلغ النشوة بالسامعين مبلغا، ويصف الأستاذ النقراشى وهو يقفز من مقعده بعد أن يختم الشيخ على محمود وصلته بقراءة قصار السور، ويندفع نحوه يقبله ويحتضنه مبتهجا.
وبمناسبة الحديث عن المولد النبوى أذكر للأستاذ أن أول شعر كتبته كان فى مدح النبى فى هذه المناسبة، وأظن كان عمرى ثلاثة عشر، فيطلب الأستاذ سماعه إن لم أكن نسيته، فأتذكر وأعيد:
ولد السعيد فأسعدا هاك الظلام تبددا
فالنور قد ملأ الفضا فى يوم أن ولد الهدى
أبشر بنى الإنسان قد أهداك ربك مرشد
قد كنت ضالا فاهتديت وكنت عاقا مفسدا
وعبدت ما صنعت يداك فصار صنمك سيدا
والغار يشهد أنه أمضى الليالى ساجدا
يدعو القدير ويبتغى منه الهداية والرضا
فاختاره الله القدير لكى يكون المنجدا
ويضحك الأستاذ، ويقول كيف حفظت ذلك حتى الآن، فأقول لقد عثرت عليه مؤخرا فى أوراق قديمة، بل إننى عثرت على شعر غريب فى نفس السن (13/14)، أدعو فيه نفسى إلى الثورة والتبذير والمجون، فى وقت كان مصروفى الشهرى هو ثلاثون قرشا صاغا بالتمام، قلت آنذاك:
أنظر إلى مالـِكْ واعجب على حالكْ
وابكى على ما فاتْ من عمرك الحالكْ
فأنت من أمواتْ فاسلك مع السالكْ
فى عالم اللذاتْ فكلّكم هالك ْ
وأسأل الأستاذ كيف أن من كتب هذا كتب ذاك فى نفس السن، ثم ما هذا التناقض كله بين واقع المصروف (30 قرشا صاغ شهريا، أى قرشا واحدا يوميا) ثم أكتب شعرا يقول: انظر إلى مالك، واسلك مع السلاك فى عالم اللذات، وأنا لم أكن أعرف عن هذا العالم إلا صور سوزان هيوارد فى مجلة مسامرات الجيب، أو كتابات عبد الرحمن الخميسى ألف ليلة وليلة الجديدة، على ما أذكر، فى الصفحة الأخيرة فى المصرى، وأى عمر حالك هذا الذى فات، وكل الحكاية أربع عشرة عاما بالعافية؟؟ وأسأل الأستاذ ألم يكتب شعرا صغيرا؟ فيقول طبعا كتبت، وقطعته، وأسأله لماذا؟ يقول أنا مقطّعاتى، إذا كتبت شيئآ وعرفت أنه لا يصلح أقطعه فورا، فأسأله وكيف تعرف أنه لا يصلح، لعله يصلح، يقول أسمع تعليقا أو رأيا، فأقتنع أو أشك فأقطعه، فأحتج أن التعليق ربما جاء ممن لا يفهم أو لا يتذوق، فيقول هذا وارد، ولكنى كنت أعتمد على من أثق فيهم مثل سلامة موسى، فمثلا كتبت فى أول حياتى قصصا مزقـُـتها بعد أن عرضتها عليه وهز رأسه قائلا: أن هناك موهبة، لكن هذه المحاولات لا تصلح للنشر، كانت القصة الأولى باسم ” أحلام القرية، والأخرى كانت عن ”لعب الكرة” أو “لعيب كرة”، وقطعتهما بعد أن سمعت رأى سلامة موسى، وأقول له إنه ليس قرويا أصلا، ولا يعرف ما هى القرية حيث أنه قاهرى لحما ودما، فكيف بدأ بـ “أحلام القرية؟” فيضحك ويقول فعلا، ولكننى كتبتها من خيالى فإذا بها مدينة صغيرة بها مزارع وفلاحين أو شىء من هذا
وأستزيد من حديثه عن علاقته بسلامة موسى، فيقول إنه كان يعرض عليه كتاباته التى كانت مقالات أساسا حيث كان يخفى الجانب الآخر (مشروع القاص أو الروائى) عنه وعن الجميع، وأن سلامة موسى كان يسمع له ويشجعه، وكان لسلامة موسى رأى فى الرواية المصرية أو العربية، وأنها مستحيلة بالنموذج الغربى، فالنموذج الغربى يعيش مجتمعا فيه حرية وصراحة وجسد وحوار، أما المجتمع العربى الإسلامى فهو شىء آخر، وكان يتصور أن القادر على كتابة رواية عربية هو شيخ من الأزهر أو خريج أزهر أو شىء من هذا القبيل، وأقول له يبدو أن سلامة موسى كان علامة فى تكوينك، فيقول إنه أب لكل هذا الجيل الذى مهد لثورة يوليو، وأن موقفه الاجتماعى (لا الإبداعى) هو الذى أعطاه هذه المساحة الكبيرة من التأثير، أما عن العلاقة به فقد كان لسلامة موسى الفضل فى بداياته حيث رد على أحد خطاباته بدعوته ذاكرا له عنوان المجلة التى كان يصدرها وعنوان البيت، وقد عرضت عليه رواية ”عبث الأقدار”، وكان إسمها بطولة خوفو، وقد اعترض على الإسم وهو الذى اقترح اسم عبث الأقدار، مع أن إبنه إسمه خوفو، وأذكر كيف كان خوفو ابنه يلعب حولنا ونحن نتحادث، وقد وافقت على الإسم مع أن الشيخ مصطفى عبد الرازق حذرنى من أن الإسم قد يكون مثيرا دينيا، فنحن المسلمين لنا موقف مقدس من القدر والأقدار إذ أن الإيمان بالقدر هو جزء من أساسيات العقيدة، فكيف نصورها أو نتصورها وهى تعبث. ويمضى الأستاذ يحدثنى عن توجيهات سلامة موسى له، ويقول: أنت تعرف كم أنا إنطوائى (ولم أعرف تماما مدى ما يقصد من استعمال هذا اللفظ) ويضيف، فمثلا أنت تعرف كم أحب العقاد وطه حسين، ومع ذلك لم أجرؤ أن أذهب لهذا أو ذاك متطوعا، ولم يدعُـنى أي منهما مثلما فعل سلامة موسى، فلم أذهب خجلا، لكن سلامة موسى كان مرحبا منصتا وهو الذى دعاني.
وينتقل بنا أحمد مظهر إلى حديث الفن ويستعيد مع الأستاذ ذكر الشيخ سلامة حجازى، وأغنية “اليومُ باحتْ بالدموع محاجرى” فيتذكر الأستاذ رواية روميو وجولييت والشيخ سلامة يشدو: ”جولييت ما هذا السكوت”.
فرصة! توفيق غير موجود، فالعشاء سمك عند (مطعم أبو زيد)، ذهبنا ومعنا مظهر الذى رفض مشاركتنا ما طلبنا مكتفيا بمشهيات خفيفة بادئة، الأستاذ شهيته مفتوحة، أكلنا فى صمت نشط، وأخذ أحمد مظهر يعلق على سمك البوربونى، ويحكى لماذا هو نظيف شهى، ويشرح بأن ذلك لأنه يعيش وسط الحجر، ويأكل أعشابا حجرية متميزة، ولذلك يسميه أهل السواحل، بوربونى الحجر، وحين انتهينا من الطعام، قال أحمد مظهر واصفا منظرنا ونحن نتبارى فى التهام السمك ونعزم على بعضنا البعض الأستاذ وشخصى ويقول مظهر: “لقد كنت أشاهد مباراة فى كرة الماء”
هؤلاء الفنانون!!
هؤلاء الفنانون!
الحلقة الثانية والسبعون
وجهة نظر جديدة
الخميس: 17/8/1995
قرأت هذا الصباح وجهة نظر التى يكتبها محمد سلماوى، ووجدت أن الكلام الذى كتبه سلماوى اليوم على لسان الأستاذ كان الأستاذ قد قاله لى نصا تقريبا، وأظن أنه بعض ما صرح به للمذيعة التى سجلت الفيلم الفرنسى فتصالحت نسبيا مع ما يَكتب سلماوى فى هذا الركن فى معظم الأحيان، ثم إننى كنت أحتاج إلى تحديد إسم أو اثنين ممن ذكرهم لى الأستاذ عابرا
كتب سلماوى على لسان الأستاذ يقول “…لم تكن هناك كتب للأطفال فى ذلك الوقت، كان عمرى آنذاك إثنى عشر عاما، فكنت أقرأ كتبا (فارغة) مليئة بالقصص البوليسية وبالحرامية مثل كتب أرسين لوبين وجونسون وغيرهما، ثم أصبحت أقرأ القصص العاطفية لكنها لم تكن تزيد فى قيمتها عن القصص البوليسية”
ويستطرد الأستاذ: لقد كانت تلك كلها كتبا مترجمة، وكنا نتصور فى ذلك الوقت أنها تمثل شيئآ فى الأدب العالمى، إلى أن كبرنا واكتشفنا أن تلك الأسماء التى كنا نقرأ لها لم لكن لها قيمة أدبية مميزه فى بلادها
وأسأله: هل تذكر بعض هذه الأسماء؟
فيقول: أذكرمثلا شارلز جارفز، الذى لم أجد له ذكرا فى الأدب الإنجليزى بعد ذلك، ولقد كانت رواياته التى قرأتها تدور حول قصة حب إبن أحد اللوردات الذى يقع فى غرام إبنة فلاح وأشياء من هذا القبيل، كذلك كانت هناك قصص إبن جونسون فأسأل من هو إبن جونسون هذا؟ فيقول: كان جونسون لصا شهيرا ترجم سلسلة كتبه حافظ نجيب، وحين انتهت السلسة وحققت نجاحا كبير استخسر المترجم ذلك فأوجد له إبنا من عندياته وبدأ سلسلة جديدة من الروايات عن إبن جونسون، والغريب أنه كان يوقعها كمترجم رغم أنه كان مؤلفها، لأن الكتب المترجمة فى ذلك الوقت كانت تجد إقبالا من الجماهير، وكان الكثير ممن يؤلفون القصص يكتبون عليها مترجمة عن الفرنسية، وكان المرحوم السباعى ممن كانوا يقومون بالترجمة عن الفرنسية.
اليوم هو يوم حرافيشى أحمد مظهر اعتذر لارتباطه بإلقاء الكلمة التى أشرت إليها الخميس الماضى فى الليلة المحمدية، كلم توفيق صالح الذى كان قد عاد منذ ثلاثة أيام إلى القاهرة بعد رحلته البيزينسية إلى أمريكا، قال توفيق أن مظهر ترك لنا ثلاثة تذاكر لنحضر التسجيل، ضحكت ورفضت وعتبت على الأستاذ أن يقبل مثل هذا، فنبهنى توفيق إلى أنه ليس من حق الأستاذ أن يقبل أو يرفض رؤية الناس له، فحكيت له عما أزعجنى من تسطيح وخطابة الكلمة التى سيلقها مظهر وقد اعتبرتها إهانة للأستاذ، وتعجبت كيف قبل أن يلقيها مظهر هكذا بهذه السهولة، فقال هكذا أعمال يسرى الجندى فى الأغلب، وأضاف إن الذى كان يمكنه أن يرفض هو مظهر، لأنه من الحرافيش، ولأن قبوله يتضمن موافقة نجيب محفوظ، فى حين لو قال هذا الكلام ممثل آخر ليس له علاقة بنجيب محفوظ، فإن الأمر كان سيبتعد حتما عن مظنة موافقة نجيب على النص.
رحب الأستاذ بتوفيق ترحيبا حارا، ثم اكتشف أننى معه، وقال بفرحة: أنت هنا؟ فهو أنت؟ ثم أردف: قال ألم تستأذن فى السفر أيام الخميس فى الصيف فلم أتعبت نفسك، هذا الأب الطيب لا ينسى ما يهم أبناءه ومحبيه، كنت قد ألمحت إليه أننى فى الصيف قد لا أتمكن من الحرفشة بانتظام، ولم أكن قد أخبرته أننى غيرت نظام سفرى وعيادتى فجعلت أجازتى الاسبوعيه يوم السبت حتى أتواجد يوم الخميس معهم باستمرار، فرحت بفرحته ودعوت له بالصحة وطول العمر
قال بلهفة المشتاق إلى توفيق: أسمعنا يا توفيق ما ذا فعلت فى أمريكا، حب استطلاعه لا ينتهى، وأبوته غامرة بلا توقف، ثم أردف ونحن فى السيارة، لا أجّل الحكى إلى أن نصل إلى الفندق فالحديث شيق والإنصات مهم، ووعده توفيق وقال كمن يعد طفلا بقطعة شيكولاته، أو بحكاية حدوتة جديدة: عندى لك كلاما كثيرا سوف يهمك، ويقول الأستاذ طبعا، أبلغ توفيق الأستاذ دعوة مظهر لحضور الليلة المحمدية فاكتفى الأستاذ بهزة الرأس إياها
هذا الفندق أجمل وأرق من فورت جراند([29])، قلت للأستاذ آمل أن تعتاد عليه، فأنت عشرى يصعب تغيير جلستك متى تعودتها، لكن وجهه كان يقول إن هذا مكان جميل، وفعلا حين جاء وقت الخروج التفت وهو على الباب وقال، ما أروع هذه المساحات وأمهر المهندس الذى قسمها، فرحت بقوة نظره التى أتاحت له هذه الرؤية.
بدأ توفيق يحكى عن الكمبيوتر وإنجازاته فى السينما، لكن الأستاذ أمهله حتى نذهب إلى المنزل، ويأخذ راحته، فاكتفى توفيق بالحكى عن الرحلة وعدم النوم، والفندق المكسيكى الذى نزل به أولا، ومنظر الفتيات وكأنهن بائعات هوى، أو هن كذلك، واستوضحت الأستاذ ما عدلت به معلوماتى السابقة عن الشيخ صبح والشيخ على محمود، واقترح توفيق، لست أدرى لماذا، أن يكون حديث الاستاذ فى الأهرام معى بدلا من سلماوى، وقبل أن أعلن رفضى أو اعتذارى أو استحالة ذلك، نظرت إلى الأستاذ، وقرأت سكوته، وعرفت موقفه، وأعلنت اعتذارى، ورحت بصدق أدافع عن أمانة سلماوى وعن حديث اليوم بوجه خاص كمثال، وسألت توفيق عن وقع هرب صهرىْ صدام حسين إلى الأردن، وموقف الإعلام الأمريكى من ذلك، فقال إن أهم ما كان فى الخبر هو وصف كمية الذهب والدولارات التى أخذاها معهما، ثم أردف إن صدام كامل الأخ الأصغر الهارب هو الذى قام بتمثيل فيلم صدام حسين الذى أخرجه توفيق صالح عن حياة صدام فى العراق، وحكى لنا كيف التقطه من الشارع تقريبا لشدة الشبه بينه وبين صدام، وكيف أنه حين دخل بيته أول مرة كان يلبس حلة من حلل العمال وفى قدميه صندلا (زنوبة) قديما، ثم كيف بعد الفيلم أصبح حارسا خاصا، ثم تولى أخوه المنصب تلو الآخر حتى صار أمين السر وكاتم الأسرار، وقال إن صدام الصغير هذا بعد أن ركب المحمل لم يكف عن زيارته، وأنه كان كلما اقتنى سيارة جديدة جاء يريهم إياها، وأن هذا الهروب ليس له مغزى سياسيا بقدر ما هو صراع على السلطة بين عدى صدام وأزواج إخوته لا أكثر، وهو صراع على الأموال والتهريب والاحتكارات فى نفس الوقت. وطلبت من توفيق فيلمه عن صدام ووعدنى، (ولم يف بوعده أبدا، ولست متأكدا هل هو فخور به أم لا، فهو لم يدافع عنه أبدا، ولم يأسف عليه علنا امامنا أبدا أيضا).
الأستاذ أصبح لى أقرب إلى صديق قديم، فرحت أننى صرت بعد هذه الفترة أجلس معه وأنسى أنه نجيب محفوظ، وربما ينسى هو ذلك، وهو الذى له الفضل فى ذلك، فقد شجعنى أن أنسى أنا أيضا أنه هو هذا الشخص الذى أحببته كل هذا الحب، وما زلت أحبه مثل الفترة الأولى التى كنت أتعرف عليه كل يوم جديدا، بل وأكثر، كلما عرفته أكثر أحببته أكثر، وأيضا كلما عرفت عيوبه ونقائصه أكثر، أحببته أكثر فأكثر، هذا هو، وقد لمت نفسى أننى لم أتكلم عن ذلك الجانب فى خواطرى هذه، لكننى احترمت احترامى لتواضع تلقى الناس، صحيح أنا لست وصيا عليهم، لكننى لا أسجل تاريخا، وإنما موقفا شخصيا من شخص أحبه، فمن حقى أن أحبه بما هو بطريقتى، وهل أنا أملك غير ذلك؟ أهم ما همنى هو محاولة اكتشاف كيف يمكن أن يكون الإنسان بكل هذه العادية، وفى نفس الوقت يكون بكل هذا الجمال وهذه العبقرية.
المهم قال الأستاذ تعقيبا خفيفا على وصف توفيق (المبدئى) لبهر التكنولوجيا فى أمريكا، وكيف أنها سبقت الإنسان سبقا خطيرا: إننا لا ينبغى أن ننزعج كل هذا الإنزعاج، إذ لابد أن تنشأ قيم جديدة تناسب هذه القفزة المعلوماتية التقنية، وأن أحفادى وأحفادك سينتمون إلى هذه القيم الجديدة، قلت له أنا مؤمن بذلك، وذكرته بما سبق أن تداولناه فى هذا الصدد، وما اقترحته تحديدا، فذكر بعضه، وطلب منى الأستاذ أن أكمل، فعجزت، أو خجلت من التكرار، ووعدت أن أرجع إلى أوراقى القديمة وأن أجمع ما كتبته حول هذا الموضوع تمهيدا لنقاش نفتحه غدا، أو فى أى وقت لاحق.
ذهبنا إلى منزل توفيق، علاقة الأستاذ بتوفيق، وتوفيق بالأستاذ بدأت تتضح لى أكثر بعد كل هذه الشهور، حكى لنا توفيق عن أم صدام حسين، حين زارها وهو يعد فيلم صدام، وأنه دخل منزلا ريفيا ووجد عجوزا تفرز حبات الطماطم بجوار باب الدخول وقد افترشت الأرض، وإذا به يفاجأ فى الزيارة التالية أن هذه العجوز ليست إلا أم صدام، وكانت تلبس فى إصبعها خاتما فيه قطعة من الماس هى أكبر قطعة شاهدها طوال حياته، وهى لا تعلم قيمتها فى الأغلب. وحكى وحكى وحكى، حتى حكى يوم أن كان فى خرجة ترويحية إلى الخلاء (ما يقال عنه “البر”) وقد عرفت شخصيا طقوس مثل هذه الخروجات أثناء زيارة خاطفة إلى الرياض، حيث تخرج العائلة أو الأصدقاء إلى البر ويخيمون حتى لو بلغت درجة الحرارة ما بلغت، ويمضون مع الطبيعة بكل ظروفها يوما أو بضعة أيام، يكمل توفيق: وكان صدام يتريض هو وحرسه، ووجد توفيق أنه من اللائق أن يحييه أو يصافحه، وحال دونه الحرس لكن حسين كامل (شقيق صدام كامل الذى مثل الدور) أشار بيده فسمح له بالتقدم، كان هذا الهارب (الآن كما جاء في البداية) حسين هو المسئول عن أمن صدام وعن معلوماته..إلخ،
ثم يعقب توفيق: هذا هوالعالم الثالث: حكم العائلات والسلام، إبن الأسد، ثم إبنه الثانى، ثم عدى صدام، وقصى صدام، ثم أزواج بناته، إن ملكية الأردن أهون من جمهوريات الإشتراكيين هؤلاء،
رجع توفيق إلى الحكى عن التكنولوجيا من جديد، وكيف يستطيع الـ سكانر scanner أن يرسم ويغير حتى فى تعبير الوجه والعينين فى مشهد من المشاهد بدلا من أن يعيد تمثيله، وقلت لتوفيق إن هذا قد يكون حسنا لكنه يحتاج إلى نوع من الفن والمهارة لا يمكن توفرهما بسهولة، ثم إن هذا قد يفرض وصاية على التلقائية البشرية لأننا قد نتصور أن الـ سكانر أو غيره قادر على أن يسمح لنا برسم صورة الإنسان كما نتصورها وليس كما نطلقها من عقالها، وأضفت: إن الفن هو ”إطلاق” قبل أن يكون تخليقا أو تحديدا، وأن الإطلاق الجيد هو الذى يسمح بالتلقى التلقائى الذى هو إبداع تالٍ ويهز الأستاذ رأسه بالموافقة المستزيدة والمشروطة بقبول احتمالات بديلة أو معاكسة، فأتدارك وأنبه أن المسألة ستصبح بهذه التقنيات الأحدث أقرب إلى الفنون التشكيلية منها إلى الفنون التعبيرية (وأنا لا أعرف الفرق بين هذا وذاك تعريفا منهجيا) وأنه مع تواجد قدرات بشرية جديدة قادرة على التخاطب والتعبير والتواصل بهذه الأدوات قد ننتقل إلى إمكانيات أكبر مع التخلص من الحذر من تحديدات مسبقة جامدة مثل التى افترضها.
ويسأل الأستاذ ولكن هل تفيد هذه الآلات فى كتابة السيناريو، فيرد توفيق بالنفى، فأتدخل بدورى وأسأله (أسأل توفيق) عن الطريقة الأمريكية فى كتابة السيناريو والتى أرانا إياها ذلك اليوم، وأنه فى حدود تذكرى لما سبق أن قاله لنا عن وضع الهامش، أتصور أنه يمكن أن يخصص جانبا من الشاشة على الكمبيوتر لرسم المشهد بدلا من وصفه كتابة ثم تحريك المشهد (مثل إعداد الصور المتحركة)، ومع كل نقلة فى السيناريو وهكذا، وليكن الحوار فى عامود مواز يستلهم تخطيط المشهد وهكذا، وأحاول أن أستشهد بما أفعله مؤخرا مع برنامج الـباور بوينت Power Point ويعتذر توفيق لأنه ليست له خبرة بالكمبيوتر عموما، وبالتالى بهذا البرنامج الذى أتحدث عنه وإمكانياته، وينبهر الاستاذ بالحديث فاسأله هل لو كانت أتيحت الفرصة له أن يعايش هذه النقلة التعبيرية، فهل كان سسيصبر على تعلمها بما تتيحه من فرص إبداعية مختلفة عن مجرد الكتابة، فيجيب بتواضع “لا أعرف”، فأرد بأننى متأكد أنه كان سيحذقها حتى يبدع فيها برامج جديدة، فيضحك ضحكته الجميلة الرائقة، ويقول لتوفيق “شوف لنا هذه الحكاية يا توفيق” إنْ يبدو أن المستقبل هو لمن يحذق هذه الأدوات، ويضيف الأستاذ مزيدا من موافقته وإعجابه بالتقدم وأمله فى الغد وفينا، ولم لا؟
ويذكر توفيق للأستاذ قبل أن ننصرف خبرا ورد مؤخرا يقول: إن الصرب يقذفون دوبروفنيك، ولا أفهم لماذا هذا الخبر بالذات، وما مناسبته، لكن إجابة الأستاذ تشرح الموقف، فهذا هو البلد الوحيد الذى زاره فى الخارج، وهو يذكر جماله وآثاره، ويتألم للدمار والتحطيم الذى لحق به وكأنهم يدمرون بيته، وأسأل نفسى: ماذا لو أن الأستاذ سافر كثيرا، ورأى الطبيعة كما يحبها، ورأى الناس الآخرين، وقبل أن أتحسر على أنه لم تتح له هذه الفرصة أحمد الله لأن حساسية الأستاذ – فى رأيى – كانت ستزدحم بزخم من المعلومات (بالمعنى البيولوجى) والرؤى بما قد لا يعطينا الفرصة للتمتع بزخم هذا الفيض الداخلى كما حدث نتيجة لارتباط الأستاذ بمصدر واحد أساسىّ من مصادر البيئة القاهرية القديمة، التى أفاضت عليه، ثم علينا، كل ما هو “نجيب محفوظ”،
هكذا.
الحلقة الثالثة والسبعون
أتعامل مع الحزن: بأن أحزن
الجمعة: 18/8/1995
يوم آخر فى بيتى، يوم حافل جديد، حضرت بثينة كامل (المذيعة والتليفزيونية)([30])، ومعها إبراهيم عيسى، ود.محمد أحمد ابن أخى، وزوج أخت بثينة، ثم د. أحمد عبد الله، وكذلك د. هشام السلامونى، ثم حضرت د. أنجيل بطرس (أستاذ الادب الإنجليزى فى كلية الآداب جامعة القاهرة وأم تلميذتى د. أمانى الرشيدى (فى فرنسا)، ود. خالد الرخاوى، كان معنا قبل ذلك وأيضا: د. إيهاب الخراط، ود. رفيق حاتم (زوج د.أمانى الرشيدى) وياسمينه إبنته، كل هؤلاء جدد، أضف عليهم قدرى وزكى ويوسف وعلى المحامى زميل يوسف، والأستاذ هارفى صديق الأستاذ القديم، ثم ابنى محمد يحيى (فى الصالة) وهالة نمّر (زوجته) تحضر وتمضى بعض الوقت. ياه!! كيف يسع بيتى كل هؤلاء المحبين صحيح أن “حجر ديبً يساعى ميت حبيب”؟ (رفضت حرفيه لمثل حتى لا أكون ذئبا).
لماذا عددت كل الحضور تقريبا هذه المرة؟ هل لأن المكان كان ضيقا أم لأن اللقاء كان ثريا وحارا وجديدا ومتجددا ؟ أم لكل ذلك وغيره ([31])
الدكتورة أنجيل بدأت بتقديم ذكريات عن أعمالها حول نجيب محفوظ، وحكت حكاية تكليفها بترجمة السكرية من الدكتور أحمد الصاوى (على ما أذكر)، وكيف أن الإنجليز لا يفهمون ما نعنى تماما ببعض الألفاظ فمثلا كانوا يريدون ترجمة السكرية إلى “sugar” بالتالى يكون اسم الرواية sugar street، وهكذا، وحكت كيف كلفوها أن تختار ما تترجم من أعمال الأستاذ، فاختارت اللص والكلاب أولا، وهى تقول إنها أحسن ما كتب محفوظ، وإنها أحسن ما كُـتب من الرواية العربية قاطبة، ما علينا، تحكى د.أنجيل أنها ما أن بدأتْ فى الترجمة حتى اتصلوا بها ليخبروها باعتذار سخيف، لأن آخرا سوف يقوم بترجمة اللص والكلاب وأن عليها أن تختار عملا بديلا، واقترحوا الثلاثية، فقالت إنها تحتاج عمرا بأكمله حتى تترجمها، اكتفت بأن تختار السكرية باعتبارها أقصر الأعمال، ثم أعطتهم النص بعد أن أتمت ترجمته، فإذا بهم ينشرون الثلاثية وقد وضعوا إسم واحد أمريكى (لعله Hutchinson لست متأكدا) قبل إسمها، ويحكى الأستاذ حكاية الإسم الثالث وأنها سيدة إنجليزية (على ما أذكر) عاشت فى القاهرة، وتعلم ما هو “بين القصرين”، وقد عثرت على كتاب بهذا الإسم، ومن فرط حبها لما كان لها من ذكريات فى هذا المكان وهذا الوطن، أخذت هذه السيدة تترجم فقرات تلو فقرات لنفسها، وتقرأها على زوجها، وتمادى هذا العمل باضطراد، وحين نظر فيه زوجها مجتمعا اكتشف أنها ترجمت أغلبه، فاقترح عليها أن تتصل بالمؤلف وبالناشر المعنى وأن تطلب حق ترجمته، فاتصلت بالأستاذ، وكان قد تعاقد على ترجمة أعماله الكاملة مع الجامعة الأمريكية، فأحالها إلى المسئول عن ذلك فى الجامعة، وقامت بترجمة الجزء الأول (وربما الثانى لست أذكر) ثم نشرت الثلاثية كلها بأسماء الثلاثة وعلى رأسهم هذا الأمريكى المراجع، أو الأمريكى المحشور ليراجع.
هكذا أثيرت قضية الترجمة من جديد، وذكّرت الأستاذ بما انتهيت إليه حين قرأت ترجمة “العطر” لزوسكند بالعربية والإنجليزية، وأن النص المترجم لا بد أن يؤخذ بلغته الجديدة باعتباره نصا جديدا، وأن الترجمة هى أخطر، وأقسى من التأليف، فالمؤلف حر حين تضيق به الصياغة قد يهرب منها بتغيير جذرى أو ثانوى فى السياق والمتن نفسه، لكن المترجم ملتزم بالنص الأصلى من جهة، وبإعادة الصياغة من جهة أخرى، وأسأل الدكتورة أنجيل عن خبرتها من حيث المبدأ: وهل يجوز أن يتعدد المترجمون لنفس العمل، وهل يُــفقد مثل هذا الاحتمال العمل وحدته ونكهته، وترد ردا يتعلق بخبرتها بهذه الترجمة بوجه خاص، وأن الإنسان – كما يقول المثل الفرنسى- هو (هو) أسلوبه، وأنها مثلا تبدأ الجمل العربية بالفعل (وهذه خاصية للعربية بالذات) فى حين أن الجمل فى اللغة الإنجليزية هى إسمية فى العادة، وأنبه أننى أسأل عن المبدأ عامة وليس عن خبرتها تحديدا، فتقر أن عندى حق فى هذا التحفظ، ويقول أحد الحاضرين (لعله الدكتور السلامونى) إن الأمر تمادى فى دور النشر فى بيروت لدرجة أن العمل الواحد يقسم إلى فصول متعددة، ويكلف مترجمون متخصصين ترجمته، كل يأخذ فصلا مثلا، وهات يا لصق لأغراض تشهيلية وتسهيلية لتحقيق أهداف التجارة أساسا، وأعود للقضية الأصلية وهو أن المترجم إن أخلص، فهو مؤلف ثان، ويقترح أحدهم أن يكون لكل عمل محرر editor وتتحفظ د. أنجيل على كلمة ”محرر”، وأوافقها على تحفظها، ولا أجد كلمة بديلة سوى المؤلف الثانى (أو المؤلف فقط لكن استعماله مستقلا هكذا قد يستلزم أن يغير إسم المؤلف الأصلى إلى ”الخالق”، (وأنتبه ولا أنبِّه إلى أننا لو فعلنا ذلك فربما نقع تحت طائلة الشجب الدينى، فلا خالق إلا الله..إلخ) ويقول أحدهم فليوصف المترجم بالمؤلف، على أن تضاف صفة اللغة بعد ذلك فنقول: “المؤلف بالعربية”، المؤلف بالفرنسية أما المؤلف الأصلى وليكن روسيا مثلا، فيظل هو “المؤلف” فقط، ويبدو أن الحضور اخذوها نكتة، لكننى أتمسك برأيى الأول وتمسكى بفكرة أن المترجم مؤلف ثان”، ويوافقنى الأستاذ على ذلك، وإن كان ينبه إلى ترك الصفات كما هى حتى لا تحدث بلبلة، فالمؤلف مؤلف، والمترجم مترجم، ويقول الدكتور السلامونى، أن والده المرحوم الدكتور محمد محمود السلامونى أستاذ الآداب القديمة فى جامعة القاهرة، كان يؤكد دائما أن إعادة الصياغة هى ضرورة حتمية فى الترجمة، وهو يفضل لذلك ترجمة درينى خشبة للإلياذة، عن ترجمة طه حسين لـ “أنتيجونى” على ما أذكر، وأشير إلى ترجمة أحمد باكثير لشكسبير شعرا، وأعلم أن الدكتور محمد عنانى يقوم الآن بترجمة شكسبير شعرا، وأفرح وأخاف فى نفس الوقت،
ويضيف الدكتور السلامونى نقلا عن والده أنه قال: إن أى مترجم أمين يعيش سبعين سنة، لا يستطيع، ولا ينبغى أن يترجم إلا لمؤلف واحد أو اثنين على الأكثر، ذلك أنه يتقمص هذا المؤلف بشكل لا يكاد يسمح له بالعودة إلى نفسه إلا قليلا، فمن الصعب، ربما حتى الاستحالة، أن يخرج من هذا التقمص إلى ذاك بشكل متكرر، وأضيف أنا أن هذا صحيح بشكل ما، وأحذر أنه إذا كانت كل هذه التخوفات والشروط قائمة فى جيل قديم كان يقدس قيمتىْ الأمانة والإتقان، فكيف الحال فى جيل حالى لا يعرف شيئآ عن أيهما، أو هو يتعلم كيف يطرح هذا وذاك (الأمانة والاتقان) جانبا لأنها قيم تقلل الدخل حتما بقياسات السوق؟ ويوافقنى أغلب الحاضرين.
ويعود الحديث إلى دور المترجم للكتب العلمية، وأنه دور أسهل، وربما يتيح له حق إعادة الصياغة والترتيب بما يتفق مع اللغة التى يترجم إليها، وتسير الحوارات فى هذا الاتجاه.
ثم فجأة تغلب الحاسة الإذاعية والصحفية على كل من إبراهيم عيسى وبثينة كامل، ولكن د.رفيق حاتم يخبر الأستاذ أنه (وهو الذى يعمل فى فرنسا منذ أربع سنوات) حين يقول لأحد أنه مصرى يرد عليه: بلد نجيب محفوظ؟ مثلما كان الحال من قبل حين يقول أحد المصريين لأجنبى إنه مصرى فيقول: على الفور “بلد الأهرام؟” (فنجيب محفوظ هو الهرم المصرى الحى المعاصر)،
وتبدأ الأسلئلة الصحفية والإذاعية أذكر بعضها على سبيل المثال:
فـَتسأل بثينة الأستاذ: ماهو رأيه فى العمل الذى كتبه وظلم ولم يأخذ حقه؟ فيرد الأستاذ إنه “حديث الصباح والمساء”([32])
فتسأل: وما هو العمل الذى لم يترجم والذى يتمنى أن يترجم
فيرد الأستاذ: إنه ربما أيضا حديث الصباح والمساء، ثم يكمل ولكن ترجمة هذا العمل صعبة إن لم تكن مستحيلة، ذلك أن الأسماء كثيرة جدا ومرتبة ترتيبا أبجديا حسب الأبجدية العربية، وأن المترجم أو القارئ الغربى مثلا قد يصعب عليه، قد لا يصله هذا المنهج الذى لا يجد الأستاذ نفسه له تعليلا مباشرا، لكنه هكذا كان، وقد سألته ذات مرة عن كيفية كتابة هذا العمل “هكذا”، وربما أكون قد ذكرت ذلك سالفا، فأكتفى هنا أن أذكر تأكيده أنه كُتِبَ هكذا منذ البداية، ولم يكتبه بالمنهج العادى ثم أعاد ترتيب فصوله حسب الأبجدية.
وأسأله أنا: هل قرأت عملا مترجما لك من الغلاف للغلاف ؟ فيجيب الأستاذ: بالنفى، فأقول: الحمد لله، ولا أضيف، ولا أعرف تحديدا لماذا سألت، ولا لماذا حمدت الله!
ويُطرح سؤال قديم متكرر: كيف يوافق الأستاذ على تشويه رواياته وهى تنتقل إلى السينما، ويرد الرد المعاد الذى أوجزه فى: وأنا مالى، إن الفيلم يخاطب الملايين، ولابد أن ينجح وهو يخاطب الملايين، أما الرواية فإنها تخاطب المثقفين (أو الصفوة) ولا يصح أن نقيس هذا بمقياس ذاك
وسؤال آخر: عن فترة كتابته للسيناريو، وقد كنت قد سمعت رده على ذلك من قبل وجاءت إجابته هى هى، لكن ثمة إضافة، فقد شرح أنه حين كان يكتب السيناريو (وكان ذلك على الأرجح فى فترة إجازة من الإبداع القصصى ربما من 1952-1958) كان يكتب للملايين، وقد تعلم من المخرجين والمنتجين مَنْ يخاطب، وكيف يخاطبهم بهذه اللغة السينمائية الجديدة، وهذا غير الرواية التى تكتب لفئة أخرى، ويسأله أحدنا” “ألم يفكر أن يكتب سيناريو يخاطب به المثقفين؟” فيجيب أن المثقفين يحتاجون “قعدة” وليس سيناريو، ثم يضحك ويضيف، قعدة مثل هذه (وهو يشير إلينا حوله)، وهذه لا تحتاج إلى كاتب سيناريو من خارجها فالكل مشارك فى كتابته.
وسؤال عن وقت وحال وكيفية مزاجه حين يكتب: وقد كنت قد سمعت رده على مثل ذلك ولكنه أضاف هذه المرة: أنه أثناء زخم كتابة المسودة يكتب بسرعة واندفاع وبأية لغة: عربى عامى إنجليزى (زى ما تيجى) ثم يأخذ فى التبييض الذى قد يستغرق سنة أو أكثر”
وسؤال عن رواية خان الخليلى وكيف أنها بدأت بفكرة كتابة كوميدية وانتهت بما انتهت إليه: بكائية مأساوية من أقسى الروايات، ويؤكد الأستاذ ما سبق أن صرح به ويفصل الحكاية كالآتى:
”إن شخصيات الرواية كنا نعرفها جميعها تقريبا، وكانوا مرحين لا يحضرون إلا ويدخلون الضحك علينا، بالحديث والمداعبة والقفشات والفضول وأى شىء، فخطر ببالى أن أستلهم من هذا كله رواية، وأنها سوف تكون رواية هزلية طريفة، فلأجرب، وبدأت، وإذا بى أتعرف على الجانب الآخر من حيواتهم، وإذا بها جوانب مأساوية شديدة الإيلام والأسى، فسارت الرواية فى مسارها حتى ظهرت بالصورة التى ظهرت عليها”.
ويطرح سؤال عن المسودات التى بدأ بها، وأين هى، وكيف أن الدراسات النقدية تهتم بهذا المصدر اهتماما فائقا، فيكرر ما سبق أن قاله لى منذ أسابيع عن ما يكتب عنه أيضا: من أنه “مقطّعاتى”، ويعزو ذلك إلى سبب لم يقنعنى (ليس هو السبب الحقيقى غالبا، لكنه التواضع) من أنه لم يكن عنده مكان للاحتفاظ بمثل هذه الأوراق التى كان يرى أنها ليست لها أى معنى، ولا تلزم أحدا، ويدور حديث حول أهمية المسودات فى النقد، وأضيف بل إن المسودات تعتبر وثائق تاريخية هى والأعمال التى لم تنشر، ربما أكثر من الأعمال التى نشرت بالفعل فى حقبة معينة.
ويضيف الأستاذ أنه “إيش عرفه أنه سيصبح مُهِمًّا، لقد كان ذلك أيام كان يستجدى النشر، ويلف هنا وهناك على أى احتمال ناشر أو واعد بالنشر لعل وعسى، يلف بالعمل المنتهى، ولا فائدة، فلماذا يحتفظ إذن بمسودات مبيضاتها لا تجد الفرصة لتقع تحت نظر أى قارئ؟
وسؤال آخر حول هل أن الإبداع له أثره على المبدع، ويجيب الأستاذ بالإيجاب دون تفصيل، وينتهى بأن المبدع يخرُج من عمله برؤى جديدة وخبرات جديدة، وأضيف أنا تصورى أن العمل الإبداعى الفعلى هو العمل الذى يغيِّر المبدع نوعيا ولو بأى درجة من الدرجات، وأن العمل الذى يخرج منه المبدع كما دخله تماما قد يكون أقل درجة وإبداعا من ذلك الذى غيره وهو يعايشه.
وسؤال (أظن من إبراهيم عيسى) عن كيف يواجه الإنسان الحزن، ثم كيف يواجه الأستاذ حزنه شخصيا، أو يتعامل معه، أو ينتصر عليه، ويتعجب الأستاذ، وأشفق عليه من كثرة الأسئلة التى كادت تقلب الجلسة إلى تسجيل إذاعى أو حديث صحفى، ولكن الأستاذ لا يضجر، فيُطرق قليلا ثم يجيب بعد أن تصورت أنه سيعتذر قائلا: أتعامل مع الحزن “بأن أحزن“، ويسكت، فتصلنى الإجابة شديدة الدلالة بالنسبة لفكرى هذه الأيام، وأشير إلى شعر ذى الرمّة الذى يبين كيف أنه كان يرحب بالحزن ضيفا ويكرمه كما يقرى المضيف ضيفه حتى ينصرف، ويطلب الأستاذ أن أعيد عليه بيت شعر ذى الرمة وهو يتذكر أننى قلته له من قبل، فأكرره:
وكنت إذا ما الهم ضاف قريتُه مواكبةً ينضو الرعان ذميلها
ويسأل الدكتور السلامونى الأستاذ عمآ إذا كان يذكر مقابلته مع الطلبة قبل حرب73، ثم أعقبها البيان الذى أصدره الكتاب (ومنهم توفيق الحكيم وثروت أباظة)، ثم لقائهم بالسادات بعد ذلك، ولا يذكر الأستاذ هذا اللقاء، فيؤكد السلامونى أنه كان شخصيا بين هؤلاء الطلبة، ويحكى الأستاذ ما يتعلق بالسؤال بما تذكر، فيقول: إن هذا الرأى الذى قدمه هؤلاء الثلاثة (هو وثروت أباظة وتوفيق الحكيم) كان بمثابة سر بينهم وبين الرئيس السادات، إلا أنه تسرب إلى الصحف، وأظن إلى صحف بيروت، فاستشاط السادات غضبا لأن ذلك بدا بمثابة إفشاء سر أو خيانة أمانة، وقد شرحوا الأمر للسادات بشكل أو بآخر، ويعقب الأستاذ أنه بذلك لم يخالف رأيه ولم يخن موقفه، وأن هذا الموقف قديم، من أوائل الستينات وأنه نشره فى رواية “السمان والخريف” حيث قال إنه لا بد من العودة إلى الناس، فإذا أتت حكومة عن طريق الديمقراطية، ورأت أن تنهى هذا الصراع فلتفعل، كان ذلك سنة 1962، وكرره برأى مباشر فى 1972، وأنبه إلى تسلسل فكر الأستاذ فى التأكيد على أن هذا يحدث بعد انتخابات ديمقراطية تأتى بحكومة تعبر عن رأى الناس الذين من حقهم أن يقرروا مصيرهم
وينتقل د. السلامونى (بدا صحفيا أكثر من إبراهيم عيسى) إلى سؤال عن مقابلته مع عبد الناصر أثناء زيارته الأهرام مع هيكل، فيقول الأستاذ: إن عبد الناصر كان يمر على المكاتب ويحيى الناس ويداعبهم، وكان يصحبه هيكل وأحمد بهجت، وأنه حين سلم عليه قال له لماذا لم نقرأ لك من زمان، فأجاب هيكل – وكان ذلك يوم خميس- أنه سينشر قصة غدا (فى عدد الجمعة) وأضاف هيكل ”إنها قصة من التى تودى فى داهية”، فعلق عبد الناصر ضاحكا: توديك إنت.
ويطرح الدكتور السلامونى سؤالا موجها لى مباشرة عن بحثى بعنوان “جدلية الجنون والإبداع”، ويقول إنه عمل صعب وإنه لم يكمله، إلى غير ذلك من تعليقات سبق أن سمعتها وتألمت لها بقدر ما تعجبت منها، وأشعر أننى لا أريد أن أرد، ولكننى أحدس أن الأستاذ يريد أن يسمع فأنتقل إلى جواره بدلا من بثينة التى قامت بدور الموصّل الجيد (وإن أخذت لهجة إذاعية بشكل أو بآخر): قلت للأستاذ أننى سبق أن عرضت عليه أجزاء من هذه الأطروحة، وأننى أخشى التكرار، فيقول: أنه يحب أن يسمعها ثانيا ولو موجزة، وأن معنا آخرين لم يسمعوها من قبل، فأقول: إن موجزها أننى بدأت بفرض أن الإبداع هو صفة أساسية فى الوجود البشرى، وأن ما يُحكى – أو لا يحكى – على أنه حلم إنما يتشكل فى الثوانى أو جزء الثانية قبيل اليقظة، وأن الحلم – إذن- هو إبداع الشخص العادى، وهذا ما دبجته فى دراسة بعنوان “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع“، وقد سبق أن شرحت هذه الفروض بتفصيل أكبر فى أطروحة تالية بعنوان “جدلية الجنون والإبداع“ وهو ما يسأل عنه د. السلامونى، ثم اضفت وأنا أعتذر فى سرّى لرغبة تدعونى للتوقف: أن هذا الفرض التالى، الذى شغل عشرات الصفحات من مجلة فصول للنقد الأدبى فظهر بالصعوبة التى تحدث عنها د.السلامونى، لا يصلح أن أوجزه الآن شرحا لهذه المجموعة حول الأستاذ بكل تنوعها هكذا، ومع ذلك فالفكرة الأساسية كانت تقول: إنه بدلا من تقسيم الناس إلى مبدع وعادى ومجنون، وهو تقسيم خاطئ أصلا (من وجهة نظر هذا الفرض) وضعتُ هذا الفرض الذى يصور الوجود البشرى فى حالات متعاقبة متبادلة دورية متكاملة جدلية باستمرار، يمر بها كل إنسان بلا استثناء طول حياته، وهى حالات أسميتها “حالة العادية”، و”حالة الجنون” و”حالة الإبداع”، وعلينا أن نتقبل هذا التناوب ابتداء([33])، وبالتالى يكون ناتج حياتنا فى فترة بذاتها، أو بصفة عامة هو: كيفية تعاملنا مع هذه الحالات المتبادلة والمتجادلة، وبقدر ما يسمح المجتمع والتربية بهذه الحركة المرنة يكون النتاج إيجابيا (إبداعا) أو تسكينا تأجيليا (عادية) أو سلبيا (جنون)، على أن هذه النظرة الحركية لا تجعل أية حالة من هذه الحالات نهائية لأنه توجد دائما فرص لاحقة للتبادل والجدل، ويقول الأستاذ إن الفرق بين الجنون والإبداع هو أن الجنون لاإرادى، فى حين أن الإبداع إرادى، وأتحفظ على ذلك بحدّة، منبها الدكتور السلامونى أساسا – متجنبا مواجهة الأستاذ– إلى أن الجنون إرادى لكنها “إرادة لاحقة” إن صح التعبير، أو بشكل أدق إنها “إرادة تـُكتشف بعد الحدث”، وليست اختيارا واعيا قبل الحدث، وأن ناتج أية نبضة أو حركة بشرية يتقرر مصيره بصراعات الإرادات المختلفة والمتعددة داخلنا وخارجنا بين هذه البدائل، وأن هذه الصراعات يظهر بعضها فى الوعى ولا يظهر البعض الآخر، وأتوقف وأنظر فى وجوه الحضور، وأقرأ ما خشيته: “لم يصل ما أردت!!!” لكن تعليقا من د. خالد الرخاوى يقول: إذا كنت تستطيع أن تقول ما تريد بهذه البساطة والوضوح، فلماذا تكتبها بكل تلك الصعوبة التى يشكو منها د. السلامونى وغيره؟ فأقول إنه فرق بين أن تكتب لمجلة متخصصة فى النقد مثل ”فصول” وقد طلبت تحديدا أطروحة عن ”جدلية الجنون والإبداع”، وبين أن تجيب على سؤال فى نفس الموضوع للمجتمعين هنا،
ويطرح سؤال آخر على الأستاذ: وما أكثر أسئلة هذا اللقاء، “يسأل الدكتور رفيق حاتم الأستاذ” “هل يتمثل الكاتب متلقيه أثناء الكتابة، ويجيب الأستاذ أن ذلك ليس كذلك بالضرورة، وإن كان هو يحاول أن يعرف إلى من يوجه خطابه من حيث المبدأ”
وسؤال جديد عن ”مدى تأثر المبدع (الكاتب) بتقمص شخوص إبداعه”، فيجيب الأستاذ ”إن هذا وارد، وأن درجاته مختلفة، ويحكى عن جى دى موباسان وهو يصف انتحار مدام بوفارى وأنه كان يتقيأ وهو يعايش النص، كما يحكى أنه شخصيا بكى أحيانا مع أبطاله، ويذكره الأستاذ هارفى بحسن رمزى فيضحكان ولا ندرى فيم الضحك، ونسألهما فيقول الأستاذ إن حسن رمزى كان مخرجا خفيف الظل، وأنه كان يتدخل فى كتابة السيناريو أو الحوار، فيمثل الدور منفعلا وهو يقترح تعديلا معينا، ويصل انفعاله إلى درجة قصوى تجعل الأستاذ وهارفى وأى مشارك حاضر يغرقون فى الضحك
وسؤال جديد: عن تأثر الممثل بأدواره، وأذكر مرة أخرى تصوير هذا فى مسرحية سارتر “الممثل كين”، ويقول الأستاذ إن الأمر يختلف مع المبدع الروائى الذى يتقمص شخوصه مرة واحدة، ثم هو يستطيع أن يتحرك بهم ويحورهم أثناء إبداعهم فهو فى موقع الخالق بلا وصاية، أما الممثل فهو محكوم بغيره، ويكرر نفس التقمص على المسرح مثلا كل ليلة، ويحكى أحدهم عن حوار بين توفيق الدقن وأحمد زكى، إذ ينصح الأول الأخير ألا يتقمص أدواره هكذا جدا جدا، لأنه فى الآخر سوف يبحث عن نفسه فلا يجدها، وأنبه إلى حكاية البحث عن النفس هذه، وأنه لا يوجد شيء إسمه النفس، وإنما هى عملية متصلة من التقمص والمرونة والهضم والتمثل والاستبقاء، تتكون فيها الذات باستمرارا، فالذات هى لحظة جُمّاع بذاتها فى وقت بذاته، والزعم بأن ثمة نفس يمكن أن توصف بما هى كذلك هو زعم يحتاج لمراجعة، ولا أظن أننى استطعت أن أوصل ما أردت لأحد من الحضور توصيلا جيدا.
وسؤال للأستاذ مرة أخرى عن تقمصه لعدد كبير من الشخوص فى رواية بذاتها (أظنها خان الخليلى) فى قهوة بذاتها، فيرد الأستاذ فى اتجاه آخر، وأن المبدع يتحرر بإبداعه، وأن قمة التحرر هو الموت، وأطلب المزيد من الشرح، فيقول الأستاذ إن المبدع يعيش ممتلئا بقضايا وإشكالات بذاتها: مثل العدالة، والطغيان، والصراع وما شابه ذلك، وهو إذ يكتب، يصب بعض ما يملؤه فى هذا العمل أو ذاك، فيحل بعض ما استشكل عليه، وينقص من وزن بعض ما أثقله، فإذا حل كل هذه الإشكالات (نظريا) وتخلص من كل هذا الثقل، فإنه يموت لأنه لم يعد ثمة ما يبرر استمراره، ولا أعرف كيف ربط أحدهم هذا بالقصص التى ينشرها الأستاذ فى مجلة نصف الدنيا، فيقول الأستاذ إنه لم يكتبها قريبا ولا بعد الحادث، وإنما هو كتبها كمجموعة كاملة وأعطاها للمجلة، وهو يحرص على أن تنشر واحدة كل شهرين، ليشعر أنه ما زال يعطى شيئآ ما يربطه بالقارئ، وأنه لا يدرى إذا انتهت ماذا هو فاعل خاصة وهو يخشى، أو يشعر، لا أذكر، أن انتهاءها قد يعنى انتهاءه، فيا ترى كيف سيكون موقفه؟، وأفزع من هذا الفرض، وهذا الخاطر، وارتباطه بالموت، فأسارع بالقول أن الإبداع ليس هو الناتج الإبداعى، وإنما هو نوع الحياة، وأن أية إضافة نوعية حقيقية فى مساحة الوعى، أو عمق الرؤية أوتغيير الموقف هى إبداع للذات، وأن إبداع الذات لا يحتاج أن يصاغ بأداة خارجة عن الوجود الذاتى، وأن إفراز الإبداع فى ناتج إبداعى خارجى هو إعلان عجز مرحلى عن إبداع الذات، وبالتالى فإن جلسة الأستاذ معنا هكذا هى إبداع متجدد وهى مبرر، من وجهة النظر التى طرحها الأستاذ- لاستمرار الحياة-، وهذا حقنا، وسأبلغ ربنا عنه([34])، ويضحك الأستاذ راضيا
ويبدى إبراهيم عيسى إعجابه بهذا التخريج والاستدراك وتنفرج أسارير الأستاذ أكثر، ثم يضحك عاليا.
ولا أدرى كيف انتقل الحديث إلى معاناة الأستاذ أثناء الكتابة فأشار إلى احتمال أن يقع ذلك فى اختصاصى فأعدت التأكيد أن الأمر هو بالعكس، وأننى كنت أتساءل دائما عن من ذا الذى يمكن أن ألجأ له لو فلت منى العيار نفسيا، حتى صاحبت الأستاذ فقررت أن يكون هو طبيبى النفسى متى احتجت طبيبا.
وأعود إلى تعقيب الأستاذ من أن الإبداع يحرر المبدع، وأن تخفيف الثقل الذى يشغل المبدع فى إفراغه فى أعماله الإبداعية هو اكتساب للحرية، فأنبه أن هذا لا ينبغى أن يؤخذ بالمفهوم المسطح الذى فهمت به مقولة أرسطو عن التفريغ (أو التطهير) التى يقوم بها المسرح، لأن هذا المفهوم يؤخذ عند الكثيرين بشكل ميكانيكى (يسمى أحيانا ديناميكى) وكأن ثمة إناء ممتلئ ومطلوب تفريغه، ذلك أن الحرية (وهى الأطروحة الثالثة التى تناولتها فى ثلاثية التنظير للإبداع فى مجلة فصول، هى أطروحة “عن الحرية والجنون والإبداع“ ([35] )
وأضيف: أن الحرية يكتسبها الإنسان المبدع من خلال إبداعه، ليس بمعنى التفريغ، والتحرر من عبء ما، وإنما بمعنى اتساع الوعى، وتعميقه بما يضيفه الإبداع (إنشاءً أو تلقياً)، وبالتالى اتساع مجالات الاختيار وفرص الحركة بما يعطى لكلمة حرية معنى مناسبا.
الخاتمة
فى يوم ما بعد 17/8 سنة 1995 (آخر يوم كتبت فيه الخواطر)
فليكن اليوم: 20/4/2011
هل حقا نحن الآن؟ بعد سته عشر عاما من توقفى:
أهكذا؟!!!
هكذا فجأة!! – ليس فجأة تماما- لكنها فجأة، أكتشف أننى توقفت عن هذه الكتابة.
الحمد لله أننى كتبت ما كتبت
الحمد لله أننى توقفت.
لو كان النيل مدادا لكتابة ما عشته مع شيخى هذا لجفّ النيل، وأنا ما زلت أكتب وأكتب
الحمد لله أننى توقفت فعلا
أنا أحب هذا الرجل حبا جما.
أحبه الآن كما أحببته دائما
أحمد ربى أننى عشت فى عصرٍ أفرزه، وأننى اقتربت، ولو متأخرا، من حضور وعيه مباشرة، وأننى لامست دفء نبضه، وحظيت بسماح إنصاته، واستمعت إلى سديد رأيه.
أقر وأعترف أن شيخى هذا، ما زال – حتى الآن- أكثرنا دهشة إذا وصلته أية معلومة مخالفة (حتى لو لم تكن جديدة).
وما زال أكثرنا أملا فى الغد، مع أنه أكثرنا انجراحا بالظلم.
وهو أكثرنا تحملا للغموض، مع أنه أكثرنا وضوحا فى الفكر.
كما أنه أكثرنا صبرا على الاختلاف مع أنه أكثرنا تحديدا فى المواقف.
كيف نجح وينجح فى كل هذا إلا أن يكون قريبا جدا من نفسه.
متصالحا متكاملا مع طبقات وعيه.
ممتدا جدا إلى آفاق كونه
متوجها أبدا إلى وجه ربه.
****
يا ترى لماذا توقفت؟
مرة أخرى: ليست عندى إجابة،
وقد تكون الإجابة غير مطلوبة أصلا.
كتبت هذا العمل هكذا، ربما لأننى أحسست أن هذا بعض دين علىّ لشيخى هذا، أى لمصر، أى للناس،
شعرت أننى لو فوّتُ الفرصة، فقد أساءَل من ربى عما وصلنى، ولماذا لم أبلغه لأصحابه: أهل مصر أولا، ثم الناس فى كل مكان، ربما،
لكن السؤال يعود يلح مرة أخرى: لماذا توقفت؟!!
ومع ذلك فهذا ما كان.
لعلها مصادفة طيبة سمحت بهذه الفرصة لأقدم للناس بعض ما “وصلنى منه” فى تلك الفترة المحدودة، بضعة شهور، مجرد بضعة شهور، مع أننى عاشرته سنوات عددا.
وهل كان يمكن أن تكون أكثر؟
هذا ما سمحت به فرصة عابرة
حدد ربى بدايتها ونهايتها دون إرادة واضحة منى.
****
ما بعد الخاتمة
ثم رحل شيخى فجأة (٣٠ أغسطس ٢٠٠٦)، وكدت أحتج …..، واستغفرت الله العظيم، ثم رحت أحتج على شيخنا وأنا أكتب رثاءه الذى صدر منى رغما عنى شعرا، لكنه لم يكن احتجاجا طبعا بقدر ما كان عتابا، وألما ودعاءَ.
قصيدة: “الرثاء” نشرت فى مجلة “وجهات نظر” عدد أكتوبر 2006
لِمَ قُـلتَها شيخِى: “كَفى”!!
ماذا جرى؟
كيف جرى؟
قد كنتَ فينا رائحاً أو غادياً تخطو بنا نحو الذى قد صاغَنَا،
وجعلتَ إيقاع الحياة له صليلٌ مثل نبض الكون سعياً للجليلْ،
حتى حسبنا أنها لا تنتهى،
وظللتَ تخطرُ هامساً كالطيفِ، كالروحِ الشفيفِ، كظلِّ رب الكون فيما بيننا،
وجعلت تنحت جاهدا لتعيد تشكيل البشرْ:
حُـلماً فحلماً: واقعاً منّا، لنَاَ،
نسعى إلى عُمْق الوجودِ ليلتقى فينَا بِنَا،
“لتَعارَفُوا”
هذا “طريق الزعبلاوى”، نحو وجه الحق، نحو النور، نحو العدل، نحو الله فينا حولنا.
ومضيتَ تقهرُ كلَّ عجزٍ، كلَّ ضعف، كلَّ هَمٍّ،
حتى دعْونا ربَّنا أن تقهر الساعات تسحَـبُنا إلى المجهولِ إذْ تُخفى العدمْ,
حتى نسينا أننا بشرٌ لنا أعمارُنا
***
لِمَ قلتَها شيخى : “كفى”؟
الآنَ؟ كيف الآنَ؟ شيخى!؟ ربنا!؟ بالله ليس الآن،
إرجعْ عقارب ساعتكْ،
لا،
نحن لسنا قدْرُهَا،
ليستْ “كفى”
لا،
ليس هذا وقتُـها،
أفلستَ تعلم أننا فى “عِـز” حاجتنا إليك؟
أفلستَ تعرفُ ما جرى؟
أفلستَ تعرف كيف تنهشنا السباعُ الجائعة؟
أفلستَ تعرفُ أن ما يأتى بدونك لهْوَ أقسى ألف مرة ؟
لو كنتَ أقسمتَ عليِهِ،
من أجل خاِطِرنا،
لأبرّك اللهُ العزيزُ بقدر ما وعد الذين هـُمُـوا كمثلك.
لمَ قلتَها شيخى: “كفىً؟
كنا نريدك دائما تخطو جميلا بينناَ،
كنا نريدك خالدا فى قرة العين هنا،
كنا نريدك مثل أطفالٍ أبوْا أن يُفطموا من حلو ما نهلوا عطاءك، مثلنا،
كنا نريدك نحتمى فى دفء بُرْدِكَ من برودةِ عصرنا.
لكنَّ خاتمة الكتاب تقررت، فسمعتّهَا،
وكتمتَهَا حِرْصا علينا،
وانسحبتَ برقةٍ وعذوبةٍ،
وتركتَنَـا.
لِمَ هكذا؟
علـّمتنا شيخى بأنا قد خُـلقنا للحلاوةِ والمرارةِ نحملُ الوعى الثقيل نكونُـه سعيا إليه.
فاجـَـأْتَنَا،
ورحلتَ دون سَؤاِلنَا
وبكى الخميسُ لقاءَنا،
وتركتَ بيتىَ خاويا فى كل جُمعةْ.
***
ماذا جرى؟
كيف جرى؟
هل يا تُرى : قد كان همسا من وراء ظهورنا يدعوك سرًّا:
ورجوتَ أن تلقاه شيخى بعد ما طال العناءْ؟
فاستاذن الجسدُ العليل بشجّةٍ فى الرأس كانت عابرة؟
لا لم تكن أبدا مصادفة ً، ولم يشأِ القدرْ،
كانت نذيراً بالوداعْ،
قَطَعَتْ حِباَلَ وِصَـالنا
فتهتك العهدُ القديمُ وحرَّرَ الجسدَ العنيدْ،
والشيخ درويشُ “الزقاقِ” يقولها:
“لا شىء دون نهايةٍ”
وهِجاؤها:
“قد حان وقتٌ للرحيل”.
***
عَّلمتنا شيخى الجليل:
أن الخلودَ بهذه الدنيا عدمْ،
والموتُ لا يُنهى الحياةَ لكلِّ من أعطاها مثلَك نفسَهُ،
الموتُ ينقلها إلى صُـنّاعها من بعض فيضك،
قد كنتَ رائدَ حملها
يا للأمانة !!
يا ثقلها !!!
هل جاء من أنباكَ أنّا أهلُها؟
حتى الجبال أبيْنَ أن يحِمْلنَها.
كيف السبيلُ، وكلُّ هذا حولها ؟
***
لكنَّ ما قدّمتَ علَّمنا “الطريق” إليه عبْرَ شِعَابها:
لمّا عرفتَ سبيل دربك نحوه،
كدْحاً إليه :
ودخلتَ فى عمق العباد تعيد تشكيل الذى غمرتْه أمواجُ الضلالْ، حتى تشوّه بالعمى والجوع والجشع الجبانْ،
***
شيخى الجليل:
ما دمتَ أنتَ فَعَلتْهاَ
فانعَمْ بِهَا
واشفعْ لنا
أن نُحمل العهدَ الذى أوْدَعْتنَاَ
شيخى الجليل:
نمْ مطمئنا،
وارجع إليه مُبْدعاً،
عبر البشر،
وادخل إليها راضيا،
أهلا ً لهاَ.
[1] – أنظر (فى نهايات روايات الأستاذ) فى الكتاب الثانى: الحلقة الأربعون “زعبلاوى، و: هموم شخصية” ص 107
[2] – كتبت لاحقا نقدا مقارنا بين لا نهائية حضرة المحترم وخلود جلال صاحب الجلاله في ملحمة الحرافيش: دورية نجيب محفوظ، العدد السادس – ديسمبر 2013، مركز نجيب محفوظ، والمجلس الأعلى للثقافة، تشكيلات الخلود بين “ملحمة الحرافيش”، و”حـضرة المحترم”
[3] – إسماعيل النقيب صحفى ساخر، يفخر بانتسابه إلى محافظة الشرقية، يكتب أساسا فى أخبار اليوم، ومن أهم أعماله “الحب في الزمن الخطأ، إلى مجهولة العنوان- مجموعة من رسائل الحب-، أغنية حب موصولة إلى قريتى.
[4] – عدت لاحقا إلى مواجهة هذه الحيرة فى نشرة الإنسان والتطور اليومية فى موقعى:
(نشرة 6-11-2007 “عن الفطرة والجسد وتَصْنيم الألفاظ”)، ( نشرة 4-11-2007 ” الفطرة، والقشرة والانشقاق”)www.rakhawy.net
[5] – استعارة قصة رمزية؛ حكاية؛ حِكَايَةٌ تَعْتَمِد عَلَى الرَّمْز
[6] – “مدينه السبع رجال” سماها الناس مدينة سبعة رجال، تحمل أسماءهم أحياء مراكش، كلهم فقهاء،علماء، أنقياء، أولياء، رجال صالحون.
[7] – صامويل تايلر كولريدج : Samuel Taylor Coleridge ولد في21 أكتوبر 1772 وتوفى فى 25 يوليو شاعر إنجليزي وناقد ومشتغل بالفلسفة
[8] ـMinimum Charge
[9] – سيريل بيرت، أخصائى نفسى تربوى، ولد فى ٣ مارس ١٨٨٣، وستمنستر، المملكة المتحدة، الوفاة، ١٠ أكتوبر ١٩٧١، لندن، المملكة المتحدة، جامعة أوكسفورد ، وقد اختلق وزور عشرات من التجارب المزورة ليثبت أن الذكاء خاصية موروثة.، وأن الجنس الأوربي يتميز عن الجنس الأفريقى فى ذلك.
[10] – أفادنى هذا التعليق لاحقا بدعم لفروض عن ما يسمى “القواعد النحوية للأسرة Grammer of the Family نقدا لتجاوزات فروض فرويد المتعلقة بما يسمى عقده أوديب.
[11] – من خلال هذه المعاهدة :..لا تريد الدول النووية أن تفتح الباب لآخرين ، فهم يتفقون مع بعضهم ويأتون ويقولون هذا هو الاتفاق..، وهناك مخاوف متبادلة بين الدول النووية وغير النووية في مجال نزع السلاح وعدم الانتشار،…كما أن حركة عدم الانحياز تتحدث أيضا عن مسألة عالمية المعاهدة….. إلخ
[12] – أوكلاهوما ( :(Oklahoma وقع التفجير في مدينة أوكلاهوما في 19 أبريل 1995 ، عندما قام الأمريكي المتعاطف مع حركة ميليشيا تيموثي ماكفي بتفجير شاحنة مليئة بالمتفجرات كانت متوقفة امام مبنى ألفريد مورا الفدرالي في ولاية أوكلاهوما في وسط المدينة، قدر ضحايا التفجيرب 168 شخصاً
[13] -Viktor Frankl, Man’s Search for Meaning. An Introduction to Logotherapy, Beacon Press, Boston, MA, 2006.
[14] – من اشترى لوحة فان جوخ مؤخرا؟ واحد يابانى!!
[15] – Von Domarus
[16] – Quantum physics
[17] – Reliability
[18] – Validity
[19]-Harry Guntrip, Schizoid phenomena, object-relations, and the self , Published 1969 by International Universities Press in New York.
[20] – انظر الحلقة الثامنة والخمسون: (“جمال حمدان “ الأحد: 7/5/1995) ص 43
[21] – كما حدث فى آخر ثلاث سنوات أو اربعة كما سمعت؟
[22] – أنظر الحلقة الثانية عشر: “أم الأعمى أدرى برقاد الاعمى” الكتاب الأول: ص 81
[23] – Paradoxical Effect
[24] – رشدي فكار مفكر إسلامي مواليد مصر 1928م ،دكتوراه من باريس،استاذ بجامعة محمد الخامس المغرب، يمثل مدرسة فكرية إسلامية تحسن التعامل مع الغرب، عالم لغوي وشرعي، تُوُفِّي في 5 أغسطس 2000 بالمغرب إثر أزمة قلبية مفاجئة.
[25] – أهم مترجم علمى مع د. مصطفى فهمى وكلاهما تعرفت عليه حين كنا معا أعضاء فى لجنة الثقافة العلمية بالمجلس الأعلى للثقافة، وأهمية نحت هذه الكلمة “نوم الريم” هو أن المرحوم مستجير نحتها من حروفها الانجليزية REM Sleep وليس من الترجمة العربية” نوم حركة العين السريعة”، وفرحت بهذا الاقحام.
[26] – مارسيل بروست Marcel Proust ، روائي فرنسي عاش في أواخر القرن 19 وأوائل القرن 20 في باريس، من أبرز أعماله سلسلة روايات البحث عن الزمن المفقود والتي تتألف من سبعة أجزاء نشرت بين عامي 1913 و1927، وهي اليوم تعتبر من أشهر الأعمال الأدبية الفرنسية.
[27] – Chevaliers de la Table Ronde
[28]– غالبا كان يشير إلى موقف السعودية من جلد الطبيب المصرى لأنه اشتكى أن ناظرالمدرسة الابتدائية فى السعودية قد اعتدى جنسيا على إبنه ثم لم يستطع أن يأتى بشهادة الشهود على ذلك سوى إبنه، فعاقبوه وطردوه من السعودية بتهمة الافتراء، ولم يعاقبوا المدرس – سبق الكلام على هذا الحادث فى الحلقة الخامسة والستون “بابا سمحْ .. أروح الفَرَحْ” الخميس (الحرافيش): 25/5/1995، ص 93
[29] – الذى أصبح فندق ميريديان الهرم بعد ذلك.
[30] – ثم زوجة الصديق أ.د. عماد أبو غازى أمين المجلس الأعلى للثقافة، ثم وزير الثقافة الآن، والمرشحة!! لرئاسة الجمهورية، حسب ما ظهر فى صحف اليوم 8-4-2011، ثم لا أدرى الآن 2018
[31] – غيره: مثل أن هذا هو آخر يوم سوف أكتب فيه هذه الذكريات، مع أننى لم اكن أعلم ذلك إلا الآن 2018.
[32] – (ولم أكن قد قرأته ونقدته إلا لاحقا) وقد وجدت ذلك فى نقدين متتالين فى دورية محفوظ:النقد الأول: (مصر فى “وعى محفوظ” عبر قرنين، تتجلى فى:”حديث الصباح والمساء”) العدد الرابع: ديسمبر 2011- و”حديث الصباح والمساء” يكشف: جدل الإنسان المصرى مع ثوراته عبر قرنين) العدد الخامس: ديسمبر 2012- المجلس الأعلى للثقافة.
[33] – تطور هذا الفرض مؤخرا فى كتاب “الأساس فى الطب النفسى” الذى نشرت أجزاءً منه تباعاً فى نشرات الإنسان والتطور اليومية وتطورت حالة “الجنون العادى إلى ما اسمته الجنون اللاجنون … إلخ مثلا:
(نشرة 12-3-2016 “علاقة الإيقاعحيوى بحالات الوجود الخمس) و(نشرة 14-3- 2016 “تنويعات الإيقاعحيوى وحالات الوجود المتناوبة (1) و(نشرة 15-3-2016 “علاقة الإيقاعحيوى بفرض “الحالات المتناوبة” (2) www.rakhawy.net
[34] – أنظر الاهرام: 11/12/1999 “فى عيد ميلاده نجيب محفوظ: جوائز وجوائز”www.rakhawy.net
[35] – يحيى الرخاوى “عن الحرية والجنون والإبداع” المجلد السادس – العدد الرابع 1986 ص (30 – 58) مجلة فصول. وفى نشرة 25-1-2011 وذكرت فيها أن: “الجنون هو فعل الحرية لتستحيل وأن: “الجنون مقصلة حريته”، وعدت إلى ذلك فى نشرة 26-1-2011 “التنازل عن الحرية لإحيائها: (الحزن النابض: ضد الجنون!)”.