الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الكتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (83) : التجميد والحركة الزائفة ضد التغيير (2)

الكتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (83) : التجميد والحركة الزائفة ضد التغيير (2)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأثنين: 25-11-2013

السنة السابعة:

العدد:  2278

الكتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (83)

التجميد والحركة الزائفة ضد التغيير (2)

السير فى المحل، والدائرة المغلقة

مقدمة:

حين قرأت نشرة أمس وقارنتها بالفصلين الذين نشرا سابقا فى كتاب “فقه العلاقات البشرية” عن نفس الحالة احترمت الرأى الذى نبهنى إلى أن فصل المتن الشعرى سهَّل التلقى، وأوضح الأمر أكثر، وبرغم أننى أحب شعرى أكثر، وأن التعبير به عن خبراتى هذه هو الذى فتح لى باب هذا التنظير الأعمق، إلا أننى اقتنعت بهذا الرأى الآخر الذى وصلنى من أصدقاء أمناء مجتهدين، وعلى ذلك فقد يكون وضع المتن الشعرى فى الهامش هو أفضل الحلول لمن شاء أن يطل عليه.

وبعد

هذه الجاهزية للانسحاب الإجهاضى للتغيير، كلٌّ إلى ركنه الخاص، هى استعداد داخلى قوى، ونزوع واثق من القدرة على إلغاء التواصل بالآخر فى أية لحظة، وخطورتها هى أنها توهم بالحركة دون تقدم، وتعد بالتغيير دون تغيير، وتواصل إلغاء ما يتم أولا بأول.

قد يتم هذا الإلغاء بأن تنسحب العواطف من السطح، أو تشل فاعليتها تماما، وهو ما يمكن أن نسميه “غطاء اللامبالاة”، وهو فى هذه الحالة لا يكون تبلداً مريحاً، بل عقلنة مفرطة عادة، وكأنها البصيرة وهى ليست إلا الغطاء الذى هو بمثابة جدار عازل، جاهز لتغليف النفس الحقيقية، يقوم بدور الواقى ضد أى اقتراب أو اختراق من آخر، إنها آلية سحب المشاعر للداخل وإبدالها بعقل منطقى يقظ جاهز لا يخلو من بصيرة نظرية، كل ذلك‏ حتى لا يخاطر صاحبه فى المشاركة سواء فى الوعى البينشخصى، أم الوعى الجماعى فى حركية النمو معا إليه، وهى التى تكاد تشترط موضوعية التواصل ونبضه البقائى الأصيل.

فى بداية الفصام الحاد يتجسد هذا الرعب أحيانا فى أعراض غامرة من الفزع والهلع، وتكون استجابة المريض رهيبة فى مواجهة أى مؤثر يصله من خارجه، فيبدو المريض وكأنه يتلقى المؤثرات الحسية لأول مرة، لا ليتعرف عليها ويستوعبها مثل الطفل حديث الولادة، وإنما ليخاف منها وينسحب بعيدا عنها إلى ركنه (الرحم/ القبر)، أو ليختبئ تحت غطاء لا مبالاته.

 فى ‏العلاج‏ ‏النفسى ‏المكثف‏ ‏لحالات‏ ‏الفصام‏ ‏نحتال لكى نخترق‏ ‏ستائر‏ ‏هذا‏ ‏الجدار الواقى من الحياة ومن العلاقة بالآخر، وهو الذى يتضخم ليحمى المريض من كل هذا الرعب، وكثيرا أثناء محاولة الاقتراب غير المحسوب جيداً‏ ‏نفاجأ‏ ‏بتفجير قدر‏ ‏هائل‏ ‏من المقاومة ومزيد من الإنكار فالبلادة، فإذا تواصلت المحاولة، بكسر حاجز اللامبالاة هذا بالرغم من هذا الصد من الخارج، قد نواجه بشكل مفاجئ بتفجير درجة غامرة من الهلع المريع، والتوجس المتلفت، وقد يعقب ذلك مباشرة هياج مفاجئ حتى التحطيم، وهذه هى حركة الذراع الأخرى لإلغاء “الآخر” الذى يمثل كل هذا الخطر بمجرد وجوده أو اقترابه، الجمود والهجوم هنا هما وجهان لعملة واحدة،

هكذا يمكن الانتباه إلى كيف أنه علينا أن نتأنى طويلا قبل أن نحكم على مريض أنه “متبلد الشعور”، أو أنه لم يتغير، أو أنه يرفض التغيير لأنه لا يتفاعل، ذلك لأنه من حيث المبدأ، علينا أن نقر أن “الشعور لا يتبلد، والعواطف لا تنعدم”، وإنما هى تختبئ حماية وانسحابا، وأيضا دفاعا ضد تغيير مجهول غير مأمون العواقب.

هذا الفرض جدير بأن يجعل الطبيب يتعامل مع المريض محترِما حتى تبلده، لأنه عليه أن يحسب ما يكمن وراء هذا التبلد الظاهر من عواطف ووجدانات زاخرة بكل الصدق والألم، والرعب، وهى التى تظل موجودة نابضة فى الداخل برغم كمونها، حتى لو لم يصلنا منها إلا ذبذبة بعيدة بعيدة تحت غطاء من اللامبالاة والتبلد، ومن واقع الخبرة، فإن الذبذات الكامنة، إنما تنبض فى رحاب الوعى الجماعى المتشكل وهى تتكاثف وتتجادل وقد لا تظهر نتيجة ذلك إلا بعد شهور وأحيانا سنوات.

فى بؤرة هذه العواطف الهاربة يكمن الخوف، وبالذات الخوف من الحركة، الخوف من اليقظة، الخوف من البعث، الخوف من احتمال العودة إلى الحياة المليئة بالآخرين “الخطرين”!!

‏إذا‏ ‏ما تبنى‏ ‏الطبيب‏ ‏النفسى هذا الفرض، ‏أواستوعب هذه الاحتمالات، فإنه يصبح قادرا.

1- أن يحترم‏ ‏اللامبالاة‏، ابتداءً وحتى يمكنه أن يحترم ‏ما يسمى بالموت‏ ‏النفسى، ‏فلا يتعامل مع هذا أو ذاك باعتبار أن أيا منهما هو مجرد عرض مرضىّ، أو مظهر سلبى لغياب المشاعر، وإنما هو مجرد ممارسة الحق فى انسحابها.

2- أن يبذل جهدا آخر من نوع آخر، للنظر فيما وراء هذا الجدار الواقى للمريض ضد التواصل الخطر الذى يحتد أكثر فى حالات المرض.

3- أن يتأنى فى محاولة اختراق هذا الجدار إلا بعد أن يلتف حوله لعله يوصل للمريض أية درجة من الأمان، بما يشمل احترام حقه فى ذلك، قبل محاولة اقتحامه.

4- ألا يُحبط إن هو فشل فى كل ذلك، باعتبار أن المريض إنما يستعمل حقه فى استعمال ما تيسر من دفاعات، بما فى ذلك اللامبالاة حتى الموت “النفسى”.

5- أن يعد نفسه للجولة القادمة.

6- وهكذا…….!

 العلاج الجمعى هو أقدر على اختراق صعوبات التواصل هذه أكثر من العلاج المقتصر على الطبيب والمريض فقط، (العلاج الفردى)، ذلك لأنه من المفروض أنه حين يكون الاقتراب متعددا، والائتناس واردا من أكثر من مصدر (آخر)، وتكون اختبارات نتائج الاقتراب ممكنة ومعلنة وآنيّة بقدرٍ ما، تكون الثقة متاحة، والمخاوف أقل. لكن المريض (أغلب المرضى)، أو داخله على الأقل، تزداد مخاوفه كلما ازدادت مصادر واحتمالات تكوين العلاقة، هذا الداخل يتعامل هنا فى المتن مع محاولات التقارب فى العلاج الجمعى بسخرية لاذعة، وهو يعلن أشكالا من المقاومة والشكوك بشكل آخر، من نوع آخر، مثل أن يصف لسان حاله محاولات الاقتراب والحوار بأنها أشبه باللعب لتزجية الوقت أو تبادل الخداع، فهى أعجز من أن تقدم عرضا كافيا يسمح بأية درجة من الأمان.

من أكثر ما يقع فيه المعالج النفسى الجمعى (المبتدئ عادة) هو أن يلجأ إلى استسهال استعمال تلك الألفاظ الشائعة، برغم بريق مضمونها، مثل “الإحساس” أو “الحب” أو “التعاطف”، فى أحيان كثيرة قد يصيح مثل هذا المعالج فى مريض ما: “يا أخى ما تحس بزمايلك” مثلا، أو قد يتبادل أفراد المجموعة كلمات “مثل ” أنا احبك اكثر”، أو “أنا شاعر بيك جدا”، وكلام من هذا. كل ذلك مقبول لأنه من حيث المبدأ لاتوجد ألفاظ أخرى لتبادل المشاعر، لكن المأمول أن يكون وراء كل هذه الألفاظ ما يجعلها قادرة على تسهيل فعل التواصل، أو الحفز للسير على أرض الواقع، وإلا فالمسألة تصبح – كما عبّر عنها لسان حال المريض أشبه بتزجية الوقت (1)

أيضا تذكرنا هذه الفقرة كيف أن العلاج النفسى ليس مرادفا لما هو: “علاج بالكلام”،

إذن ماذا؟

بالرغم من كل ذلك، وبالرغم من يقظة داخل مثل هذا المريض، فإنه قد لا يمانع – ساخرا- من المشاركة، بل إنه قد يشارك متحمسا سواء للكلام، أو للانضمام لمجموعة تعانى مثله، لكنه يكثف رؤيته الساخرة من البداية حتى تـُفتِرُ كل حماس، وتُجْهِض كل احتمال لأى تواصل، فهو يعلن – مقاوِمًا – بذلك أنها مشاركة مستحيلة حيث أنه غير حاضر فيها أصلا. برغم ما يبُذل من جهد من معظم الأطراف، لكن – من وجهة نظره- يظْل كل واحد فى خندقه بعيدين عن بعضهم البعض (2).

ننبه هنا إلى أنه بالرغم من كون العلاج الجمعى يعطى فرصا أكبر لتنمية التواصل بين عدد أكبر من البشر، إلا أن المسألة لا تحقق أهدافها بمجرد النقلة من علاقة ثنائية، إلى علاقة متعددة – أفراد المجموعة بما فى ذلك المعالجون – لأنه أحيانا ما تكون كثرة العدد بمثابة فرصة للهرب فى محيط مائع غير محدد، ضد قواعد ممارسات العلاج الجمعى التى تؤكد على قاعدة: “أنا ó أنت”، بقدر ما تؤكد على “هنا و الآن”  (3)

وهكذا يتكشف كيف أن ما يحول دون أية حركة نمو من خلال تواصل البشر مع بعضهم البعض هو هذا القرار المسبق بالانسحاب السلبى المشروط والعودة لنفس الموقع الذى بدأ منه لا أكثر، وكلما كان هذا القرار عميقا وراسخا، فإن المريض (أو الشخص) يسمح لنفسه بأى اقتراب أو تفاعل شكلى، لأنه مطمئن إلى الفشل المريح فى النهاية، برغم طاعته لتعلميات العلاج، والتزامه بقواعده.

 كثيرا ما يفعل المريض ذلك كنوع من إرضاء المعالج لا أكثر، إما اعترافا بجميل ما، وإما رشوة لضمان استمرار المسافة كما هى، وإما للفـل من حماس التدخل للتغيير،

وبرغم‏ ‏الرفض العميق لأى احتمال تواصل، علاجى حقيقى، فإن ‏العلاج‏ قد يستمر لمدة التعاقد (سنة عادة أو أكثر)، وقد ينخدع الطبيب ‏بذلك‏ ‏وخاصة‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏متحمسا‏ ‏مثاليا‏ ‏آمِلا‏، ‏وكأن‏ ‏المريض‏ ‏بإرضائه ‏ ‏ظاهريا‏، ‏يعفى ‏نفسه‏ ‏من‏ ‏مخاطر‏ ‏التغيير، ‏

وأخيرا فإنى أعتقد ان كثيرا‏ ‏من‏ ‏الأطباء‏ ‏والمعالجين يحتاجون إلى الإنصات إلى داخل مرضاهم بشكل واع، دون اتهام أو تسرع، حتى لا تخدعهم حيل الطاعة، والامتثال، أو حتى اختفاء الأعراض

ملحق النشرة:

صَعُبَ علىّ أن أنهى نشرة اليوم، التى هى مكملة لنشرة أمس، وقد أزيح المتن إلى الهامش وكأن إبنى قد قطع إلى أجزائه فصار أشلاء متناثرة، فقررت جمعه كما جمعت إيزيس أجزاء أوزوريس.

‏(1)‏

الركن‏ ‏بتاعِى ‏مـتـحـضّـر‏،‏

حارْجَـعْـلُهْ‏ ‏واسيبكمْ‏،‏

ساعْتِن‏ْْ ‏احسّ‏ ‏بْـكُمْ‏.‏

حافضلْ‏ ‏كِــدَهُـهْ

طالع‏ْْ ‏

نازلْ‏،‏

‏ ‏زىْ ‏اليـُويـُو‏، ‏

‏ ‏كِــدَهُـه‏ْْ.‏

‏(2)‏

أصل‏ ‏انا‏ ‏خايفْ‏.‏

أنا‏ ‏خايف‏ ‏موتْ‏، ‏أنا‏ ‏ميّـتْ‏ ‏خايف‏.‏

‏ ‏لكن‏ ‏قولّى: ‏

هو‏ ‏الميت‏ ‏بيخاف‏‏؟

‏ ‏طبعا‏ ‏بيخاف‏، ‏

بيخاف‏ ‏يصحى‏. ‏

‏(3)‏

ياللاّبـْـنـا‏ ‏نلعب‏ ‏يا‏ ‏جماعة‏ ‏لعبة‏ “‏هيلا‏ ‏هُـبُ‏”.‏

نقعد‏ ‏مع‏ ‏بعض‏.‏

قال‏ ‏إيه‏، ‏ونحسّ‏،‏

وكلام‏ ‏للصبح‏،‏

ونقول‏ ‏بنحب‏.‏

فيها‏ ‏لاخْـِفيها‏، ‏أنا‏ ‏فين‏ ‏بيها‏، ‏

ما‏ هى ‏مش‏ ‏موجودة‏ ‏من‏ ‏أصلـُه‏.‏

قدِّم‏ ‏رجلِ‏ ‏تْـغـُـوص‏ ‏التانية‏،‏

دانا‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏زاد‏ ‏النـــــاس‏، ‏

باغطسْ‏ ‏وِبْدونْ‏ ‏إحساسْ‏.‏

‏(4)‏

ومادام‏ ‏الركن‏ ‏متحضر‏ ‏هنا‏ ‏تحت‏ ‏الأرض‏: ‏

راح‏ ‏انط‏ ‏لفوقْ‏، ‏

وأعدّى ‏الطوقْ‏،‏

وارْضِى ‏القرداتِى‏.‏

يِسْتَرْزَقْ‏.

****

(هل يا ترى سوف أكرر مثل هذا الملحق

 كلما لزم الأمر؟!

 لا أعرف).

[1] –  ياللاّبـْـنـا‏ ‏نلعب‏ ‏يا‏ ‏جماعة‏ ‏لعبة‏ “‏هيلا‏ ‏هُـبُ‏”.‏

نقعد‏ ‏مع‏ ‏بعض‏.‏

قال‏ ‏إيه‏، “‏ونحسّ‏”

وكلام‏ ‏للصبح‏،‏

ونقول‏ ‏”بنحب”‏.

 ورد فى حالة أخرى كيف كان اعتراض المريض  – بداخله- على الطبيب الذى يطلب منه أن “يحس” بالنار من تحته، وأن يقتدى به إذْ هو يحس بآلامه، وقد أسماها المتن سخرية “بحلاوة ريحتك”، الفقرة هنا تتعلق بمثل ذلك.

ولا‏ ‏ييجى ‏واحد‏ ‏منهم‏ ‏بيه‏ْْ،‏

يسأل‏ ‏بالعلم‏ ‏المتمكِّن‏: ‏بـِتْـحِـس‏ ‏بإيه‏”‏؟

‏ ‏ويقلّـــب‏ ‏سيخى، ‏

ويقول‏ْْ ‏لِى ‏”حِــسْ‏”:

 ‏بالنار‏ ‏من‏ ‏تحتكْ‏.‏

‏ ‏كما‏ ‏إنى ‏باحِـسْ:

 ‏بحلاوة‏ ‏ريحتـكْ‏.‏

 

[2] – قدِّم‏ ‏رجلِ‏ ‏تْـغـُـوص‏ ‏التانية‏،‏

[3] – “دانا كل ما زاد الناس،

باغطس وبدون إحساس”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *