الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الفصل الخامس: ملف الوجدان واضطرابات العواطف (5) الباحث والمواجدة والنكوص الإبداعى (1) : بين المواجدة والنكوص الإبداعى

الفصل الخامس: ملف الوجدان واضطرابات العواطف (5) الباحث والمواجدة والنكوص الإبداعى (1) : بين المواجدة والنكوص الإبداعى

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 20-7-2014

السنة السابعة

العدد:  2515

 

الأساس فى الطب النفسى

الافتراضات الأساسية

الفصل الخامس:    

ملف الوجدان واضطرابات العواطف (5)

الباحث والمواجدة والنكوص الإبداعى (1)

بين المواجدة والنكوص الإبداعى إلا أننى حين واجهت صعوبة تقييم الوجدان فى حدود ما قدمنا من صعوبة الاتفاق على مسمى بذاته، وصعوبة الترجمة، وصعوبة تطابق اللفظ مع الخبرة، وجدت أن صفات الباحث التى وردت فى هذه المداخلة الباكرة هى الأقرب إلى ما يمكن أن يعيننا أكثر فأكثر فى توصيف الوجدان، فضلا عن تنمية قدرات الباحثين الإكلينكيين عامة، فقمت بتحديث المداخلة حتى تكون أكثر عمومية وفائدة، على حساب بعض التفاصيل عن نمو الطفل وعواطفه إذ لا تقع فى بؤرة ما نتناول حاليا.‏">(1)

(فى مجال دراسة الجنون والوجدان)

إذا‏ ‏كانت‏ ‏الكلمة‏ ‏أمانة‏ – ‏وهى ‏لا شك‏ ‏كذلك‏  – ‏فكلمة‏ ‏العالم‏ ‏هى ‏أخطر‏ ‏الكلمات‏ ‏جميعا‏، ‏وأثقلها‏ ‏مسئولية‏ ‏وأبعدها‏ ‏أثرا‏، ‏وإذا‏ ‏كانت‏ ‏هذه‏ ‏المسئولية‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تخف‏ ‏نسبيا‏ ‏فى ‏مجالات‏ ‏العلم‏ ‏التى ‏تحكمها‏ ‏الأدوات‏ ‏المضبوطة‏ ‏والمقاييس‏ ‏المقننة‏، ‏فإنها‏ ‏ليست‏ ‏كذلك‏ ‏تماما‏ ‏فى ‏العلوم‏ ‏الإنسانية‏ ‏التى ‏يحكمها‏- ‏أو‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يحكمها‏ ‏فى ‏المقام‏ ‏الأول‏ – ‏موقف‏ ‏العالم‏ ‏ذاته‏ ‏ودرجة‏ ‏نضجه‏، ‏ومدى ‏وعيه‏، ‏وعمق‏ ‏بصيرته‏، ‏ومدى  ‏كفاءته‏  ‏شخصيا‏  ‏كأداة‏  ‏موضوعية‏  ‏أساسية‏  ‏فى  ‏انتقائه‏  ‏و‏ ‏ملاحظته‏ ‏واستنتاجاته‏ ‏وتفسيراته‏ ‏وتنظيره‏  ‏معا‏.‏

ويزداد‏ ‏يوما‏ ‏بعد‏ ‏يوم‏، ‏مع‏ ‏زيادة‏ ‏أمانة‏ ‏العلماء‏ ‏وصدق‏ ‏مراجعتهم‏ ‏لنتائجهم‏ (‏الفاشلة‏ ‏خاصة‏) ‏وتتبع‏ ‏تعميماتهم‏، ‏يزداد‏ ‏اليقين‏ ‏بأن‏ ‏الموضوعية‏ ‏فى ‏شكلها‏ ‏المثالى ‏المطلق‏ ‏كانت‏ ‏حلما‏ ‏لم‏ ‏يتحقق‏ ‏أبدا‏، ‏ولعل‏ ‏الفضل‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الاعتراف‏ ‏الأمين‏ ‏لايرجع‏ ‏فى ‏المقام‏ ‏الأول‏ (‏ربـما‏ ‏للأسف‏) ‏لعلماء‏ ‏العلوم‏ ‏الإنسانية‏ ‏كما‏ ‏كان‏ ‏منتظرا‏، ‏بل‏ ‏لعلماء‏ ‏الفيزياء‏ ‏مثل‏ ‏بلانك‏ ‏وبوهر‏ (‏كما‏ ‏يقول‏ ‏فان‏ ‏كام‏ – 1958)، ‏ربما‏ ‏بفضل‏ ‏نمو‏ ‏مفاهيم‏ ‏الفيزياء‏ ‏الكمية‏ ‏الحديثة‏، ‏على ‏أن‏ ‏فريقا‏ ‏من‏ ‏علماء‏ ‏الإنسانيات‏ ‏ظلوا‏ – ‏رغم‏ ‏خوف‏ ‏زملائهم‏ ‏واختبائهم‏ ‏فى ‏الجزيئات‏ ‏والمنهجية‏ – ‏متمسكين‏ ‏بأولوية‏ ‏الإنسان‏ ‏كأداة‏ ‏أساسية‏ ‏وجوهرية‏ ‏فى ‏البحث‏ ‏العلمى ‏فى ‏مجالهم‏، ‏ذلك‏ ‏الفريق‏ ‏الذى ‏نجده‏ ‏يندرج‏ ‏الآن‏ ‏تحت‏ ‏ما يعرف‏ ‏بالباحثين‏ ‏الفينومنولوجيين‏ (‏حيث‏ ‏دراسة‏ ‏الخبرة‏ ‏الأولية‏ ‏سابقة‏ ‏وأساسية‏ ‏بشمولها‏ ‏ابتداء‏)، ‏وأحيانا‏ ‏يندرج‏ ‏تحت‏ ‏النزعة‏ ‏الجديدة‏ ‏المسماة‏ ‏بالنزعة‏ ‏الوجودية‏ ‏فى ‏العلوم‏ ‏النفسية‏، ‏وهى ‏شديدة‏ ‏الاقتراب‏ ‏من‏ ‏النزعة‏ ‏الفينومنولوجية‏ ‏إن‏ ‏لم‏ ‏تحتوى‏ ‏إحداهما‏ ‏الأخرى، ‏على ‏أن‏ ‏هذين‏ ‏الاتجاهين‏ ‏ليسا‏ ‏جديدين‏ ‏إذ‏ ‏لم‏ ‏يخرجا‏ ‏عن‏ ‏إعادة‏ ‏تركيز‏ ‏النظر‏ ‏على ‏أبعاد‏ ‏مختلفة‏ ‏لأقدم‏ ‏وأعمق‏ ‏وسيلة‏ ‏للمعرفة‏ ‏والقياس فى مجالنا هذا‏ ‏وهى ‏الوسيلة‏ ‏الإكلينيكية‏، ‏وبالرغم‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏تعبير‏ ‘‏الوسيلة‏ ‏الإكلينيكية‏’ ‏يبدو‏ ‏تعبيرا‏ ‏خاصا‏ ‏بشكل‏ ‏ما‏، ‏حيث‏ ‏نشأ‏ ‏فى ‏مجال ‏ ‏الممارسة‏ ‏الطبية‏ ‏عامة‏ ‏بما‏ ‏ذلك‏ ‏الممارسة‏ ‏الطبنفسية‏، ‏إلا‏ ‏أنى ‏فى ‏هذا‏ ‏البحث‏ ‏سأحاول‏ ‏أن‏ ‏أقدم‏ ‏الجانب‏ ‏المشترك‏ ‏الذى ‏يمكن‏ ‏تعميمه‏ ‏فى ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الممارسة‏ ‏بمواصفات‏ ‏خاصة‏ ‏متاحة‏ ‏لصنف‏ ‏خاص‏ ‏من‏ ‏الباحثين‏ ‏ممن‏ ‏يجد‏ ‏فى ‏نفسه‏ ‏الكفاءة‏ ‏والشجاعة‏ ‏لأن‏ ‏تقترب‏ ‏ذاته‏ -‏كأداة‏- ‏من‏ ‏الموضوعية‏ ‏بدرجة‏ ‏تسمح‏ ‏له‏ ‏بنوع‏ ‏خاص‏ ‏من‏ ‏الملاحظة‏ ‏والتنظير‏ ‏فى ‏بعض‏ ‏المجالات‏ ‏التى ‏لاتستغنى ‏عن‏ ‏ذاته‏، ‏وأخص‏ ‏بالذكر‏ ‏مجالين‏ ‏محددين‏ ‏هما‏ ‏مجالى ‏دراسة‏ ‏الجنون‏ ‏والطفولة‏.‏

وقبل‏ ‏أن‏ ‏أدخل‏ ‏فى ‏تفاصيل‏ ‏هذه‏ ‏الحاجة‏ ‏إلى ‏صقل‏ ‏الباحث‏ ‏وإتاحة‏ ‏الفرصة‏ ‏الحقيقية‏ ‏لنموه‏ ‏لابد‏ ‏من‏ ‏توضيح‏ ‏ضرورة‏ ‏هذه‏ ‏الوقفة‏ ‏الجادة‏ ‏فى ‏طريق‏ ‏الشائع‏ ‏عن‏ ‏ماهية‏ ‏العلم‏ ‏عامة‏، ‏والعلوم‏ ‏الإنسانية‏ ‏خاصة‏، ‏فقد‏ ‏أصبحت‏ ‏الإنسانية‏ ‏مهددة‏ ‏بانحرافات‏ ‏عقول‏ ‏بنيها‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏تهديدها‏ ‏من‏ ‏أعداء‏ ‏خارج‏ ‏الإنسان‏ ‏ذاته‏، ‏وقد‏ ‏أصبح‏ ‏البشر‏ ‏فى ‏خطر‏ ‏نتيجة‏ ‏فرط‏ ‏استعمال‏ ‏وسائل‏ ‏العلم‏ ‏والتكنولوجيا‏ ‏بقدر‏ ‏أكبر‏ ‏من‏ ‏القدرة‏ ‏على ‏استيعابها‏،.. ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏الخطر‏ ‏الناتج‏ ‏عن‏ ‏انحرافات‏ ‏مزاج‏ ‏الطبيعة‏.‏

ذلك‏ ‏أنه‏ ‏لما‏ ‏حل‏ ‏العلماء‏ ‏محل‏ ‏المفكرين‏، ‏وحلت‏ ‏المنهجية‏ ‏محل‏ ‏الحدس‏ ‏الميتافيزيقى، ‏وحلت‏ ‏قوانين‏ ‏حسابات‏ ‏الاحتمالات‏ ‏محل‏ ‏قانون‏ ‏التطور‏ ‏الطبيعي‏.. ‏أوقع‏ ‏الإنسان‏ ‏نفسه‏ ‏فى ‏مأزق‏ ‏تضاعفت‏ ‏فيه‏  ‏المسئولية‏ ‏إزاء‏ ‏أى ‏فعل‏ ‏أو‏ ‏تخطيط‏ ‏أو‏ ‏معلومة‏ ‏تصدر‏ ‏عن‏ ‏العقل‏ ‏البشرى، ‏وخاصة‏ ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بالمستقبل‏، ‏وفى ‏مجالنا‏ ‏هذا‏ ‏نشعر‏ ‏أنه‏ ‏لايوجد‏ ‏أهم‏ ‏ولا‏ ‏أخطر‏ ‏من‏ ‏دراسة‏ ‏الإنسان‏: ‏تربية‏ ‏وعلاجا‏ ، ‏مما‏ ‏يجعلها‏‏ ‏تلزم‏ ‏بضرورة‏  ‏أن‏ ‏تؤخذ‏ ‏باهتمام‏ ‏مضاعف‏; … ‏ليس‏ ‏للمهتمين‏ ‏بعلوم‏ ‏النفس‏ ‏فحسب‏ ‏بل‏ ‏من‏ ‏جانب‏ ‏كل‏ ‏مهتم‏ ‏بمسيرة‏ ‏الحضارة‏ ‏ومستقبل‏ ‏الإنسان‏.‏

ودراسة‏ ‏نمو الطفل وماهية وطبيعة المرض النفسى وخاصة الجنون، ثم طبيعة الوجدان وتصنيف العواطف، هى من أهم المجالات التى يمثل الباحث فيها أداة البحث وحقله بصفة شخصية/ موضوعية فى آن.

وسوف‏ ‏أختار‏ ‏للمناقشة‏ ‏كمثال‏ ‏يوضح‏ ‏ماذهبت‏ ‏إليه‏ ‏من‏ ‏مراجعة‏ ‏نظريات‏ ‏النمو‏ ‏مجال‏ ‏نظريات‏ ‏علم‏ ‏السيكوباثولوجى ‏فأقول‏:‏  ‏إن‏ ‏أغلب‏ ‏نظريات‏ ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏المرضى (‏السيكوباثولوجيا‏) ‏مؤسسة‏ ‏على ‏تصورات‏ ‏أساسية‏ ‏تتعلق‏ ‏مباشرة‏ ‏بمراحل‏ ‏نمو‏ ‏الطفل من ناحية، فى مقابل مراحل النكوص المرضى فى أزمة المرض والجنون، ومن هنا تأتى الصعوبات البالغة الحدة.

وقد‏ ‏بدأت‏ ‏هذه‏ ‏المراجعة‏ ‏أثناء‏ ‏قيامى ‏بتدريس‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏منهجى ‏علم‏ ‏نفس‏ ‏النمو‏، ‏وعلم‏ ‏السيكوباثولوجيا‏ ‏لطلبة‏ ‏الدراسات‏ ‏العليا‏ ‏فى ‏كلية‏ ‏الطب‏، ‏حين‏ ‏واجهنى ‏الطلبة‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏تركيب‏ ‏دراستهم‏ ‏العيانية‏ ‏التشريحية‏ ‏أساسا‏، ‏واجهونى ‏بسؤال‏ ‏حاد‏ ‏ومباشر‏ ‏عن‏ ‏مصدر‏ ‏هذه‏ ‏التصورات‏ ‏التى ‏عليهم‏ ‏أن‏ ‏يحفظوها‏ ‏فيما‏ ‏يسمى ‏بمدارس‏ ‏السيكوباثولوجى، ‏وخاصة‏ ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بما‏ ‏يلقى ‏إليهم‏ ‏فيما‏ ‏يشبه‏ ‏اليقين‏ ‏عن‏ ‏انفعالات‏ ‏الرضيع‏ ‏الأولى ‏وعلاقته‏ ‏بجسده‏ ‏أو‏ ‏بأمه‏، ‏أو‏ ‏بوظائف‏ ‏إخراجه‏ ‏فى ‏أيام‏ ‏نموه‏ ‏الأولى،  ‏وبعد‏ ‏استعراض‏ ‏الوسائل المختلفة من ملاحظة واستبطان وقياس وتتبع …. لم تقنعنا الإجابات المتاحة لدرجة ‏ ‏تسمح‏ ‏بدراسة‏ ‏هذه‏ ‏المعلومات‏ ‏بطريقة‏ ‏مطمئنة‏ ‏وأمينة‏ ‏حيث‏ ‏كانت‏ ‏تتحدث‏ ‏مثلا‏ ‏عن‏ ‏لغة‏ ‏الرضيع‏ ‏العاطفية‏ ‏فى ‏تسلسل‏ ‏وتناسق‏ ‏يكاد‏ ‏يصل‏ ‏إلى ‏تصورات‏ ‏محددة‏ ‏يوما‏ ‏بيوم‏ دون معرفة جذور مصادرها، وقد أتيحت لى فى نفس الوقت فرصة المشاركة والإشراف على بحث عن دور الممرضة فى تقييم سلوك الأطفال فى السنوات الأولى (الثلاث سنوات الأولى)  واتبعنا منهجا للملاحظة شديد التقنين، وخرجنا بنتائج زادت قلقى وحيرتى، ‏وعدت‏ ‏أتساءل‏ ‏عن‏ ‏أمانة‏ ‏الكلمة‏ ‏والمعلومة‏ ‏ومسئوليتنا‏ ‏إزاء‏ ‏نشرها‏ ‏وعرضها‏ ‏على ‏الآخرين‏، ‏لا من‏ ‏حيث‏ ‏دقة‏ ‏المنهج‏ ‏أو‏ ‏حسن‏ ‏التسجيل فحسب، ‏ ‏فقد‏ ‏راعينا‏ ‏ذلك‏ ‏تماما‏، ‏ولكن‏ ‏فى ‏قدرتها‏ ‏على ‏وصف‏ ‏حقيقة‏ ‏ما‏ ‏لاحظنا، ‏وفى ‏غمرة‏ ‏هذه‏ ‏الممارسة‏ ‏المتزايدة‏ الصعوبة والأهمية ‏أتيحت‏ ‏لى ‏فرصة‏ ‏معاشرة‏ ‏طفلين‏ ‏حديثى ‏الولادة‏ ‏يعيشان‏ ‏فى ‏بيئة‏ ‏واحدة‏ ‏رغم‏ ‏اختلاف‏ ‏أسرتيهما‏، ‏وقمت‏ ‏بتسجيل‏ ‏هاديء‏ ‏لخطوات‏ ‏نموهما‏ ‏منذ‏ ‏البداية‏، ‏وخرجت‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏أشد‏ ‏حيرة‏ ‏إزاء‏ ‏طبيعة‏  ‏النظريات‏ ‏النموية‏ ‏والسيكوباثولوجية‏ ‏المتاحة‏.‏

وكان‏ ‏لزاما‏ ‏على ‏أن‏ ‏أراجع‏ ‏الأسانيد‏ ‏التى ‏بنى ‏عليها‏ ‏أصحاب‏ ‏هذه‏ ‏النظريات‏ ‏المطروحة‏ نظرياتهم ‏حتى ‏أجرؤ‏ ‏أن‏ ‏أواصل‏ ‏تدريسها‏ ‏فى ‏العام‏ ‏التالى، ‏فضلا‏ ‏عن‏ ‏الاستفادة‏ ‏من‏ ‏تطبيقها‏ ‏فى ‏الممارسة‏ ‏اليومية‏، ‏ولم‏ ‏تقنعنى ‏الأسانيد‏ ‏المتاحة‏ ‏إلا‏ ‏أنى ‏ظللت‏ ‏مقتنعا‏ ‏بأن‏ ‏هذه‏ ‏النظريات‏- ‏بدرجات‏ ‏متفاوتة‏-‏تحمل‏ ‏لنا‏ ‏جزءا‏ ‏هاما‏ ‏لاغنى ‏عنه‏ ‏من‏ ‏الحقيقة‏ ‏الموضوعية‏ (‏بالمعنى ‏الأعمق‏ ‏للكلمة‏)، ‏ويقفز‏ ‏سؤال‏ ‏منطقى ‏من‏ ‏واقع‏ ‏هذا‏ ‏التسلسل‏ ‏يقول‏:‏ ‘‏هل‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏النظرية‏ ‏الخاصة‏ ‏بنمو‏ ‏الطفل‏ ‏صادقة‏ ‏ومتماسكة‏ ‏ومفيدة‏ ‏وتطبيقية‏… ‏رغم‏ ‏ضعف‏ ‏الأسانيد‏ ‏التى ‏بنيت‏ ‏عليها؟؟ ثم‏ ‏سؤال‏ ‏تال‏:‏ وهل‏ ‏يصح‏ ‏القول‏ ‏التصالحى ‏بأن‏ ‘‏الحقيقة‏ ‏العلمية‏ ‏موضوعية‏ ‏فى ‏حين‏ ‏أن‏ ‏النظرية‏ ‏ذاتية؟؟‏ ‘ ‏‏وكأن‏ ‏الحقيقة‏ ‏العلمية‏ ‏ليست‏ ‏جزءا‏ ‏لايتجزأ‏ ‏من‏ ‏النظرية؟‏ ‏وكأن‏ ‏الفصل‏ ‏التتبعى ‏بينهما‏ ‏هو‏ ‏فصل‏ ‏منهجى ليس إلا، أما فى واقع الممارسة فالتداخل عميق وكامل ومن البداية للنهاية بحيث يستحيل أن نهرب من المواجهة الحتمية لإعادة النظر فى التداخل بين الذاتية والموضوعية فى كل خطوات البحث من أول الانتقاء حتى التنظير مارين بكل خطوات الملاحظة المضبوطة.

ووسط‏ ‏هذا‏ ‏الموقف‏ ‏المتصاعد‏ ‏العنف‏ ‏يبدو‏ ‏لزاما‏ ‏لتحمل‏ ‏التناقض‏ ‏الظاهرى ‏سعيا‏ ‏للحقيقة‏ ‏ألا‏ ‏نستسهل‏ ‏رفض‏ ‏هذه‏ ‏النظريات مع‏ ‏رفض‏ ‏عابدى ‏أصنام‏ ‏الأرقام‏ ‏والمنهجية‏، ‏وألا‏ ‏نستسهل‏- ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏-‏الإيمان‏ ‏بها‏ ‏إيمان‏ ‏الخائف‏ ‏من‏ ‏إعادة‏ ‏النظر‏ ‏فيها‏ ‏وفى ‏نفسه‏. ‏لذلك ‏فإنه‏ ‏يبدو‏ لزاما ‏على ‏العالم‏‏ – ‏إذا‏ ‏ماصدق‏ ‏فى ‏المراجعة ‏أن‏ ‏يستمر‏ ‏زمنا‏ ‏مطروحا‏ ‏بين‏ ‏نظرية‏ ‏متماسكة‏ ‏بلاسند‏ ‏مقنع‏، ‏وبين‏ ‏ملاحظات‏ ‏ثابتة‏ ‏لارابط‏ ‏محورى ‏بينها‏، ‏فإذا‏ ‏التقط‏ ‏أنفاسه‏ ‏قليلا‏ ‏وسمح‏ ‏لنفسه‏ ‏أن‏ ‏ينظر‏ ‏فى ‏التاريخ‏ ‏فسيجد‏ ‏أن‏ ‏اختبار‏ ‏الزمن‏ ‏قد‏ ‏حافظ‏ ‏على ‏النظريات‏ ‏المتكاملة‏ (‏النابعة‏ ‏من‏ ‏التحليل‏ ‏النفسى ‏مثلا‏ ‏من‏ ‏أول‏ ‏فرويد‏ ‏حتى ‏إريك‏ ‏بيرن‏، ‏مارين‏ ‏بميلانى ‏كلاين‏  ‏وإريك‏ ‏إريكسون‏) ‏فى ‏حين‏ ‏نحّى ‏جانبا‏، ‏بدرجة‏ ‏ما‏، ‏الملاحظات‏ ‏العلمية‏ (‏هكذا‏ ‏تسمي‏) ‏الجزئية‏ ‏والطرفية‏ ‏والكمية‏ ‏والعيانية‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏تجمعت‏ ‏تعسفيا‏ ‏فى ‏نظرية‏ ‏ما‏  فهل‏ ‏معنى ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏ماهو‏ ‏ذاتى (‏حسب‏ ‏التعريف‏ ‏الشائع‏) ‏أبقى ‏وأكثر‏ ‏نفعاً وتماسكاً؟؟  وأن ما هو موضوعى (بالقياس الشائع أيضا) أضعف وأكثر تنافرا فيما بين اجزائه؟؟، ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏الإجابة‏ ‏بالنفى، ‏ولابد‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏النفى ‏سيجعلنا‏ ‏نعيد‏ ‏النظر‏ ‏فى ‏تسمية‏ ‏ماهو‏ ‏ذاتى ‏على ‏أنه‏ ‏ذاتى، ‏وماهو‏ ‏موضوعى ‏على ‏أنه‏ ‏موضوعي‏. ‏والذى ‏أطرحه‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏المبحث‏ ‏هو‏ ‏سلسلة‏ ‏من‏ ‏الافتراضات‏ ‏والتفسيرات‏ ‏تقول‏:‏

‏1-‏إن‏ ‏مصدر‏ ‏هذه‏ ‏النظريات‏ ‏المتماسكة‏ ‏هو‏ ‏ذات‏ ‏الباحث‏، ‏سواء‏ ‏اعترف‏ ‏الباحث‏ ‏بذلك‏ ‏أم‏ ‏أنكره‏، ‏سواء‏ ‏أقدم‏ ‏عليه‏ ‏بإرادته‏ ‏الواعية‏ ‏أم‏ ‏كان‏ ‏نتاجا‏ ‏طبيعيا‏ ‏لنوع‏ ‏خاص‏ ‏من‏ ‏الممارسة‏ ‏البحثية‏.‏

‏2-‏ إن‏ ‏درجة‏ ‏صدق‏ ‏أية ‏نظرية‏ ‏هذا‏ ‏مصدرها‏ ‏تتناسب‏ ‏تناسبا‏ ‏طرديا‏ ‏مع‏ ‏درجة‏ ‏نضج‏ ‏الباحث‏ ‏ذاته‏ ‏التى ‏تتناسب‏ ‏بدورها‏ ‏مع‏ ‏درجة‏ ‏وجوده‏ ‏الموضوعى (‏وليس‏ ‏مجرد‏ ‏موضوعية‏ ‏حكمه‏ ‏ومنهجه‏)، ‏وهذا‏ ‏الوجود‏ ‏الموضوعى ‏مرتبط‏ ‏مباشرة‏ ‏بمدى ‏وعيه‏ ‏وقدرة‏ ‏ترابط فكره و‏مخه وكل مستويات وعيه.

‏3- ‏إن‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏الباحث‏، ‏إذْ‏ ‏هو‏ ‏أداة‏ ‏البحث‏ ‏الموضوعية‏ ‏ذاتها‏،‏لا يقوم‏ ‏ببحثه‏ ‏من‏ ‏داخل‏ ‏ذاته‏، ‏وإنما‏ ‏يستعمل‏ ‏ذاتـه‏ ‏كحقل‏ ‏لاستيعاب‏ ‏الملاحظات‏ ‏وزرعها‏ ‏ونموها‏ ‏وإثمارها‏،  ‏فلابد‏ ‏له‏ ‏من‏ ‏مصدر‏ ‏ثرى ‏حافل‏ ‏بالملاحظات‏ ‏الضرورية‏، ‏ولابد‏ ‏لوجوده‏ ‏من‏ ‏تنمية‏ ‏تسمح‏ ‏بتدريب‏ ‏قدرته‏ ‏على ‏التقاط‏ ‏هذه‏ ‏الملاحظات‏ ‏وإعادة‏ ‏إفرازها‏ ‏فى ‏نظرية‏ ‏تبلغ‏ ‏صحتها‏ ‏مابلغته‏ ‏قدرته‏ ‏على ‏استيعاب‏ ‏هاتين‏ ‏الخطوتين‏ ‏المتداخلتين‏، ‏وهذا‏ ‏الاستيعاب‏ ‏وإعادة‏ ‏الافراز‏ ‏ليسا‏ ‏مرادفين‏ ‏للمعنى ‏الضيق‏ ‏للملاحظة‏ ‏أو‏ ‏الاستبطان‏، ‏لأن‏ ‏الباحث‏ ‏يستعمل‏ ‏ذاته‏ ‏بكلـيتها‏، ‏وليس‏ ‏بجوانبها‏ ‏الظاهرة‏ ‏وفكرها‏ ‏التأملى ‏المنشق‏ ‏فحسب‏.‏

وبإعادة‏ ‏النظر‏ ‏فى ‏أغلب‏ ‏نظريات‏ ‏السيكوباثولوجى ‏فإننا‏ ‏سنكتشف‏ ‏أن‏ ‏الخبرة‏ ‘‏الذاتية‏-‏الموضوعية‏’ ‏معا ‏ ‏بما‏ ‏تشمل‏ ‏جزئيا‏ ‏من‏ ‏تقمص‏ ‏إسقاطى ‏تلعب‏ ‏دورا‏ ‏هاما‏ ‏وأساسيا‏ ‏فى ‏التنظير‏ ‏وترتيب‏ ‏المعلومات‏ ‏وتقسيم‏ ‏مراحل‏ ‏النمو‏، ‏فمن‏ ‏يراجع‏ ‏نظرية‏ ‏فرويد‏ ‏وما حوت‏ ‏من‏ ‏تفاصيل‏ ‏عن‏ ‏السنوات‏ ‏الأولى ‏من‏ ‏العمر‏، ‏أو‏ ‏من‏ ‏يراجع‏ ‏مادة‏ ‏ميلانى ‏كلاين‏ ‏عن‏ ‏العلاقة‏ ‏بالموضوع‏، ‏أو‏ ‏كتابات‏ ‏إريك‏ ‏إريكسون‏ ‏عن‏ ‏الطفل‏ ‏والمجتمع‏ ‏وعصور‏ ‏الإنسان‏ ‏الثمانية‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يثار‏ ‏ليعترف‏ ‏فى ‏شجاعة‏ ‏بهذا‏ ‏الاحتمال‏ ‏الأرجح‏ ‏القائل‏ ‘‏إن‏ ‏الاستنتاجات‏ ‏التصنيفية‏ ‏المحددة‏ ‏التى ‏صيغت‏ ‏فى ‏نظريات‏ ‏واضحة‏ ‏مسلسلة‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏مجرد‏ ‏تجميع‏ ‏ملاحظات‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏هى ‏خبرة‏ ‏ذاتية‏ ‏تقترب‏ ‏أو‏ ‏تبتعد‏ .. ‏عن‏ ‏الحقيقة‏ ‏الموضوعية‏ ‏بقدر‏ ‏موقف‏ ‘‏وجود‏’ ‏صاحبها‏ ‏ذات‏ ‏نفسه‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الحقيقة‏’، ‏على ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏القول‏ ‏لايعنى، ‏بداهة‏، ‏طرح‏ ‏الملاحظات‏ ‏جانبا‏ ‏وإنما‏ ‏يعنى ‏دراسة‏ ‏دورها‏ ‏الحقيقى ‏فى ‏إثارة‏ ‏هذا‏ ‏الموقف‏ ‘‏الذاتي‏-‏الموضوعي‏’ ‏معا‏، ‏فلابد‏ ‏من‏ ‏فرض‏ ‏أن‏ ‏ملاحظة‏ ‏الطفل‏ ‏إنما‏ ‏تثير‏ ‏فى ‏المقام‏ ‏الأول‏ ‏عند‏ ‏الباحث‏ ‏الموضوعى ‏نكوصا‏ ‏ذاتيا‏ ‏يكتمل‏ ‏بالتقمص‏ ‏الإسقاطى‏، ‏أى‏ ‏إن‏ ‏ما‏ ‏بالخارج‏ ‏يثير‏ ما ‏بالداخل‏ ‏ليسقط‏ ‏ثانية‏ ‏إلى ‏الخارج‏ ‏ثم‏ ‏ينظِّم‏ ‏المنظِّر‏ ‏هذا‏ ‏وذاك‏ ‏فيما‏ ‏يسجله‏ ‏فى‏ ‏شكل‏ ‏نظرية‏ ‏متماسكة‏ ‏للنمو‏ ‏أو‏ ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بعلم‏ ‏السيكوباثولوجي…الخ‏.‏

وقد‏ ‏أوضحت‏ ‏بعض‏ ‏الدراسات‏ ‏اللاحقة‏ ما يوجد ‏من‏ ‏علاقة‏ ‏بين‏ ‏المنظرين‏ ‏ونظرياتهم‏ ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بظروف‏ ‏نشأتهم‏ ‏ومراحل‏ ‏تطورهم‏ ‏الذاتية‏ (‏راجع‏ ‏على ‏سبيل‏ ‏المثال‏ ‏دراسة‏ ‏إريك‏ ‏فروم‏ ‏لفرويد‏، وليس بالضرورة رأى ويلهلم رايخ) ‏ومثل‏ ‏هذه‏ ‏العلاقة‏ ‏كانت‏ ‏تفسر‏ ‏بعض‏ ‏الفلسفات‏ ‏ومدى ‏تأثر‏ ‏أصحابها‏ ‏أثناء‏ ‏تنظيرهم‏ ‏لها‏ ‏بنشأتهم‏ ‏وتطورهم‏ ‏”الروحى” (‏حسب‏ ‏التعبير‏ ‏الشائع‏ ‏عند‏ ‏مؤرخى‏ ‏الفلاسفة‏).‏

الوسائل‏ ‏المتاحة‏ ‏لتنمية‏ ‏هذه‏ ‏القدرة‏ ‏الموضوعية‏ ‏الخاصة‏

نظرا لأهمية هذه الطريقة المكملة (وليست بالضرورة البديلة أو المستبعِدة) لغيرها، فلا بد من وجود وسيلة لإعاطاء فرص أرحب وأكثر انضباطا للمتدربين فى مجال الممارسة الإكلينيكية (والبحث العلمى الإكلينيكى والإمراضى: السيكوباثولوجى) لتنمية قدراتها ليقتربوا أكثر وأكثر، وباستمرار من الموضوعية القادرة على تنميتهم كأداء بحث هم أنفسهم، وسوف أقصر حديثى تقريبا على ما يخص الممارسة الإكلينيكية باعتبارها محور هذه الممارسة:

أولا: الممارسة‏ ‏الإكلينيكية‏:‏

أعنى‏ ‏بالممارسة‏ ‏الإكلينيكية‏ ‏العمل‏ ‏التشخيصى‏ ‏والعلاجى‏ ‏والتتبعى‏ ‏فى‏ ‏مواجهة‏ ‏مسئولة‏، ‏ولا أعنى‏ ‏بها‏ ‏مجرد‏ ‏الفحص‏ ‏وتجميع‏ ‏المعلومات‏ ‏وتصنيفها، لوضع تشخيص يتبع دليلا بذاته، ‏وتشمل‏ ‏هذه‏ ‏الممارسة‏ ‏التعرض‏ ‏الذاتى‏ ‏والمواجهة‏ ‏والمعايشة‏ ‏عبر‏ ‏كل‏ ‏وسائل‏ ‏التوصيل‏ ‏بين‏ ‏الممارس‏ ‏والممارس‏ ‏معه‏ ‏وبالعكس‏ (‏ولا أقول‏ ‏الفاحص‏ ‏والمفحوص‏)، ‏ولاتقتصر‏ ‏وسائل‏ ‏التوصيل‏ فى‏ ‏هذه‏ ‏الخبرة‏ ‏الطويلة‏ ‏على‏ ‏البعد‏ ‏اللفظى‏ ‏الشائع‏ ( رغم أنه أرقى ما وصل إليه الإنسان تطوريا قبل أن يتشوه باللفظنة  (verbalism‏ ‏، ‏ولكنه‏ ‏يتعداه‏ ‏إلى‏ ‏التواصل‏ ‏بلا‏ ‏ألفاظ‏ ‏وعبر‏ ‏الألفاظ‏ ‏كذلك‏، ‏وهذه‏ ‏الإضافة‏ ‏ضرورية‏ ‏فى‏ ‏مجال‏ ‏بحوث‏ ‏الأطفال‏ والوجدان ‏والجنون‏ ‏أيضا‏، ‏حيث‏ ‏تفشل‏ ‏الألفاظ‏ ‏فى‏ ‏تحقيق‏ ‏الدرجة‏ ‏الكافية‏ ‏من‏ ‏التواصل‏، ‏كما‏ ‏تفشل‏ ‏أحيانا‏ ‏فى‏ ‏صياغة‏ ‏الملاحظات‏ ‏فى‏ ‏ألفاظ‏ ‏قادرة‏ ‏على‏ ‏الوفاء‏ ‏بالإلمام‏ ‏بأبعاد‏ ‏الظاهرة‏ ‏قيد‏ ‏البحث‏، ‏وتشمل‏ ‏الوسيلة‏ ‏غير‏ ‏اللفظية‏ ‏فى ‏الممارسة‏ ‏الإكلينيكية‏ ‏التعبيرات‏ ‏الحركية‏ ‏ولغة‏ ‏الجسم‏ ‏كما‏ ‏تشمل‏ ‏الحدس‏ ‏الإكلينيكى ‏المباشر‏ الذى هو شديد الارتباط بالإدراك الشامل الحسى وعبر الحواس ‏فى‏ ‏نفس‏ ‏الوقت‏. ‏وهذه‏ ‏الممارسة‏ ‏الإكلينيكية‏ ‏إنما‏ ‏تتم‏ ‏وتنموا‏ ‏بقدر‏ ‏المواجهة‏ ‏مع‏ ‏المرض‏، ‏ولكن‏ ‏درجات‏ ‏الوعى‏ ‏بها‏ ‏وبطبيعة‏ ‏أبعادها‏ ‏تختلف‏ ‏من‏ ‏ممارس‏ ‏إلى ‏آخر‏، ‏كما‏ ‏أن‏ ‏نتاجها‏ ‏يختلف‏ ‏كذلك‏ ‏من‏ ‏النقيض‏ ‏إلى‏ ‏النقيض‏ ‏كما‏ ‏سيرد‏ ‏حالا‏.‏

وأحب‏ ‏أن‏ ‏أشير‏ ‏إلى ‏أن‏  ‏عمق‏ ‏هذه‏ ‏المواجهة‏ ‏تكون‏ ‏مع‏ ‏الذهانيين‏ (‏واسمحو‏ ‏إلى ‏أن‏  ‏استعمل‏  ‏ ‏مرادفا‏ ‏آخر‏ ‏هو‏ ‘‏المجانين‏’ ‏لأن‏ ‏لفظ‏ ‏المجنون‏ ‏رغم‏ ‏سمعته‏ ‏وقسوته‏ ‏مازال‏ ‏أكثر‏ ‏تحديدا‏ ‏من‏ ‏كلمة‏ ‏الذهانى ‏التى ‏لم‏ ‏يُتفق‏ ‏على ‏حدودها‏ ‏بطريقة‏ ‏حاسمة‏ ‏حتى ‏الآن‏)، ‏وقد‏ ‏سمح‏ ‏التقدم‏ ‏الهائل‏ ‏فى ‏استعمال‏ ‏العقاقير‏ ‏المضادة‏ ‏للذهان‏ ‏أن‏ ‏يتجرأ‏ ‏الممارس‏ ‏ويجلس‏ ‏مددا‏ ‏أطول‏ ‏مع‏ ‏المجنون‏، ‏وكذلك‏ ‏أن‏ ‏يتجرأ‏ ‏فيتعمق‏ ‏معه‏ ‏فى ‏معنى ‏جنونه‏ ‏ولايكتفى ‏بتسجيل‏ ‏ظاهر‏ ‏أعراضه‏، ‏وفى ‏مرحلة‏ ‏أخرى‏ ‏وتحت‏ ‏مظلة‏ ‏العقاقير‏ ‏أيضا‏-‏وبقدر‏ ‏ماوهب‏ ‏الممارس‏ ‏من‏ ‏شجاعة‏ ‏ذاتية‏ ‏وموضوعية‏ ‏بحثية‏ ‏يخطو‏ ‏خطوة‏ ‏أعمق‏ ‏فى ‏محاولة‏ ‏تقمص‏ ‏الذهانى ‏بما‏ ‏يشمل‏ ‏خبرة‏ ‏النكوص‏ ‏البحثى ‏والمعالجى ‏معا‏ (‏كما‏ ‏سيرد‏ ‏ذكره‏)، ‏ويتم‏ ‏ذلك‏ ‏كله‏ ‏فى ‏كل‏ ‏من‏ ‏المقابلة‏ ‏الفردية‏ ‏وأثناء‏ ‏التتبع‏، ‏كما‏ ‏يكون‏ ‏أشمل‏ ‏وأطول‏ ‏فى ‏الوسط‏ ‏العلاجى، ‏ويكون‏ ‏أعمق‏ ‏وأكثر‏ ‏تركيزا‏ ‏وتحديدا‏ ‏فى ‏موقف‏ ‏العلاج‏ ‏النفسى ‏الجمعى ‏المكثف‏ ‏المهاجم‏ ‏للدفاعات‏ ‏والهادف‏ ‏إلى ‏إعادة‏ ‏التوافق‏ ‏و”إحياء‏ ‏ديالكتيك‏ ‏النموى(‏‏مقدمة‏ ‏فى ‏العلاج‏ ‏الجمعى).‏

ومادمنا‏ ‏قد‏ ‏توصلنا‏ ‏إلى ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏التواصل‏ ‏بلا‏ ‏ألفاظ‏، ‏وعبر‏ ‏الألفاظ‏. ‏ومادمنا‏ ‏قد‏ ‏استعملنا‏ ‏تعبير‏ ‏النكوص‏ ‏البحثى ‏فى ‏هذه‏ ‏المرحلة‏ ‏من‏ ‏النقاش‏، ‏فلابد‏ ‏من‏ ‏الربط‏ ‏بين‏ ‏هذه‏ ‏الوسيلة‏ ‏فى ‏دراسة‏ ‏الجنون‏ ‏خاصة‏ ‏وبين‏ ‏دراسة‏ ‏الطفل‏ ‏التى ‏تتطلب‏ ‏القدرة‏ ‏على ‏النكوص‏ ‏أيضا‏، ‏بل‏ ‏لعل‏ ‏هذه‏ ‏القدرة‏ ‏ذاتها‏ ‏هى ‏التى ‏سمحت‏ ‏لبعض‏ ‏الفنومنولوجيون‏ ‏بالاستفادة‏ ‏منها‏ ‏فى ‏دراسة‏ ‏علم‏ ‏نفس‏ ‏الحيوان، ثم يمتد القياس إلى الحديث عن رصد الوجدان، ولعل هذه الطريقة هى التى تمكن الفاحص/الباحث من تقييم التوصيف على مستوى الأبعاد الإكلينيكية Dimensions وخاصة البعد الوجدانى، فى مقابل البعد اللاوجدانى الذى قدمناه فى النشرة السابقة. (نشرة الأحد 13-7-2014 “عن الوجدان”).  ‏

هذه‏ ‏الخبرات‏ ‏جميعا‏ ‏تعتمد‏ ‏عل‏ ‏إثارة‏ ‏النشاطات الكامنة،طفلية، ونكوصية، وتطورية،  ‏داخل‏ ‏الممارس‏ ‏أو‏ ‏الباحث‏، ويتم هذا من خلال ما يكاد يضمر من قدراتنا الإدراكية، وبالذات “المواجدة” Empathy  ، ‏ويستتبع‏ ‏ذلك‏ ‏العودة‏ ‏إلى ‏المستوى ‏الأساسى ‏للوعى ‏بعد‏ ‏استيعاب‏ ‏هذه‏ ‏الخطوة النكوصية الإبداعية إن صح التعبير..

النكوص فى خدمة الذات وظيفة عادية من وظائف الأنا الناضج المتكامل، وهى تستعمل فى مجالات التكيف الأنضج، ولكنها تستعمل بشكل نوعى فى مجالات خاصة فى الإبداع الفنى والعلمى حيث تعنى قدرة الفنان والعالم الفنان (المبدع) على النكوص إلى مرحلة سابقة من تطوره، أو زيارة منطقة كامنة من وجوده،  بحيث يمارس معايشة (وليس تذكّر) خبرات قديمة وكامنة بطريق مباشر فى شكل إعادة وليس استعادة،  أو غير مباشر، فى شكل تقمص إسقاطى على شخوص وأحداث حقيقية على مستوى أعمق، إن هذا النكوص الإبداعى يخدم هدفين لازمين لعملية الإبداع : الأول هو بعث الطاقة الكامنة فى جزء مغمور من الذات، والثانى هو تهيئة فرصة أوسع لتجميعات وارتباطات جديدة من مخزون المادة المطبوعة فى المخ أساسا.

هنا تجدر الإشارة إلى خبرة النكوص العلاجية التى يسمح فيها للمريض أن يعود أدراجه إلى مرحلة طفلية سابقة، نتيجة لتناقص ميكانزمات دفاعه، وهى قد تحدث بدرجات مختلفة فى الممارسة الجادة فى العلاج  النفسى المكثف  إذا لم يتشوه بالعقلنة ومجرد طرح الذكريات وتفسيرها، كما تحدث بشكل أكثر مباشرة وتكثيفا فى بعض أنواع العلاج الجمعى المكثف والممتد أحيانا فى ماراثون مهاجِم لكل الدفاعات مرة واحدة، وعلى قدر استيعاب هذا النكوص المقصود فى التأهيل والتعامل مع الواقع فيما بعد يكون نتاجه إيجابيا أو سلبيا.

وأخيرا فإن خبرة النكوص المعالِجة والفاحِصة هى التى هدفت إلى إيضاحها منذ البداية، وهذه الخبرة هى التى تسمح للمارس أن يحصل على معلوماته فى الفحص وعلى نتائجه فى العلاج بقدر قدرته على خوض هذه الخبرة هو ذاته فى ظروف مضبوطة ومسئولة، تثيرها المادة البدائية المعروضة ( فى حالة الفصام خاصة)، أو المستعيدة لنشاطها قصدا ( فى حالة العلاج المكثف للعصاب)، وحتى أزيد الأمر وضوحا أورد أشير إلى خبرة مواجهة الفصامى من خلال هذا الأسلوب حيث تبلغ مسئولية النكوص وعبء المواجهة أعمق أعماقها، وتحمل أكبر مسئولياتها، وتمر بأبلغ مخاطرها حين يقوم التقمص النكوصى من جانب الممارس بلمِّ أبعاد التناثر المطروح فى الصورة الإكلينيكية بأبعادها المتتالية غورا فى العمق، وإذ هو فى هذا المستوى الشجاع من التراجع المسئول يكون فى كامل وعيه شاحذا قدرته الترابطية النشطة التى يمكن من خلالها :

(أ‌)   أن يحول دون أى نكوص عشوائى ذاتى يهدد تماسكه نفسه.

(ب‌) أن يتحمل أعباء نكوصه ونكوص المريض فى آن واحد.

(ت‌)  أن يستطيع العودة إلى تنظيمه الأعلى حاملا معه بعضا مما وعاه فى رحلته هذه التى زار فيها المريض فى بيته البدائى مستعملا هو ذاته أقدم ألواح وجوده.

وفى خبرة المعالج تزيد خطوات هذه العملية خطوة تجميعية مباشرة لا تقتصر على احتفاظ الفاحص المعالج بمستواه المتماسك طول الوقت وزيادة ثرائه من خلال هذه الرحلة الواعية، بل إنها تتعدى ذلك إلى محاولة أن يصحب فى عودته بعض الاجزاء الناكصة للمريض ذاته على قدر ما تحتمل قدرة المريض على الاستيعاب فى مرحلة علاجية بذاتها، وهذه الخبرة الفاحصة والمعالجة فيها من البحث والخلْق ما يدرجها بشكل ما تحت النشاط الفنى فى نفس الوقت، الأمر الذى يقترب من الدعوة إلى “…………. أننا بحاجة إلى نمط جديد من البحث يختلف بطرق كثيرة عن البحث العلمى التقليدى، لغته أقرب إلى لغة الشاعر …. لأن الباحث ينزع إلى أن يصبح أداة البحث” (كما يقول هارمان 1962).

وهذه‏ ‏الممارسة‏ ‏الإكلينيكية‏ ‏تتم‏ ‏فى ‏كل‏ ‏مقابلة‏ ‏إكلينيكية‏ ‏جادة‏ ‏ومسئولة‏، ‏ولكن‏ ‏الاختلاف‏ ‏بين‏ ‏الفاحصين‏ ‏يكون‏ ‏فى ‏درجة‏ ‏الشجاعة‏ ‏فى ‏رؤيتها‏، ‏وأخيرا‏ ‏فى ‏مدى ‏قدرة المعالج ‏على ‏صياغتها‏ ‏فى ‏ألفاظ‏، ‏فقد‏ ‏تتم‏ ‏هذه‏ ‏المواجهة‏ ‏مرات كثيرة‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏تظهر‏ ‏حقيقة‏ ‏الجانب‏ ‏النكوصى ‏فيها‏ ‏أو‏ ‏الجانب‏ ‏البنائى ‏بعد‏ ‏النكوصى، ‏أو‏ ‏الجانب‏ ‏الإسقاطى ‏التقمصى،  ‏ولكن‏ ‏بتكرار‏ ‏هذه‏ ‏المواجهة‏-‏ حتى ‏فى ‏درجة‏ ‏متوسطة‏ ‏من‏ ‏الوعى ‏بها‏- ‏ينمو‏ ‏الحدس‏ ‏الإكلينيكى ‏رويدا‏ ‏رويدا‏ ‏حتى ‏يصبح‏ ‏هو‏ ‏رأس‏ ‏مال‏ ‏الممارس‏ ‏للتشخيص‏ ‏والتصنيف‏، ‏والممارس‏ ‏للعلاج‏ ‏معا‏، ‏إذن‏ ‏فالحدس‏ ‏الإكلنييكى ‏ليس‏ ‏ضربا‏ ‏أعشى ‏يعتمد‏ ‏على ‏الفطنة‏ ‏والألمعية‏ ‏الشخصية‏، ‏ولكنه‏ ‏نتاج‏ ‏طبيعى ‏للممارسة‏ ‏الإكلينيكية‏ ‏السليمة‏ ‏الطويلة‏ ‏والمسئولة‏، ‏وهنا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نقرأ‏ ‏أن‏ ‏هناك‏ ‏ممارسة‏ ‏إكلينيكية‏ ‏روتينية‏ ‏ونافعة‏ ‏ولكنها‏ ‏لاتنطبق‏ ‏عليها‏ ‏هذه المواصفات‏ ‏مهما‏ ‏طالت‏، ‏إذ‏ ‏لاينبغى ‏أن‏ ‏نتصور‏ ‏أن‏ ‏مجرد‏ ‏مرور‏ ‏السنين‏ ‏مع‏ ‏المرضى ‏الذهانيين‏ ‏خاصة‏ ‏قد‏ ‏يكسب‏ ‏الفاحص‏ ‏هذه‏ ‏القدرة‏، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏العكس‏ ‏تماما‏ ‏كثيرا‏ ‏مايحدث‏، ‏ومن‏ ‏خبرتى ‏الشخصية‏ ‏وخبرة‏ ‏إشرافى ‏على ‏من‏ ‏هم‏ ‏أصغر‏ ‏منى ‏طوال‏ هذه العقود ونحن‏ ‏نتعرض‏ ‏فيها‏ ‏فى ‏اليوم‏ ‏الواحد‏ ‏لعشرات‏ ‏المرضي‏..‏وجدت‏ ‏أن‏ ‏الممارس‏ ‏يمر‏ ‏بأطوار‏ ‏مختلفة‏، ‏وقد‏ ‏ينتمى‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏إلى أحد ‏فريقين‏، ‏فريق‏ ‏يحمى ‏نفسه‏ ‏أكثر‏ ‏وأكثر‏ ‏بمرور‏ ‏الزمن‏ ‏من‏ ‏رؤية‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏التنافر‏ ‏والتناثر‏-‏فى ‏نفسه‏ ‏وخارجها‏ ‏يوميا‏ ‏باستعمال‏ ‏مزيد‏ ‏من‏ ‏الدفاعات‏ (‏الميكانزمات‏)، ‏ومزيد‏ ‏من‏ ‏الاتجاه‏ ‏إلى ‏التنظير‏ ‏والتفسير‏ ‏العضوى ‏الآلى ‏الميكانيكى ‏الجزئى ‏البحت‏، ‏وفريق‏ ‏يغامر‏ ‏تدريجيا‏ ‏باستيعاب‏ ‏مايرى ‏بما‏ ‏يتضمن‏ ‏ذلك من آلام ومخاطر، ولست أفضل أحد الفريقين على الآخر فهما يكملان بعضهما البعض، وإنما قدمت هذا‏ ‏الاستدراك‏ ‏خوفا‏ ‏من‏ ‏التعميم‏ ‏السطحى، ‏إذ‏ ‏أنه‏ ‏من‏ ‏الطبيعى ‏أن‏ ‏يستعمل‏ ‏أى ‏فاحص‏ ‏أو‏ ‏معالج‏ ‏ماشاء‏ ‏من‏ ‏ميكانزمات‏ ‏ليستطيع‏ ‏أن‏ ‏يواصل‏ ‏عمله‏ ‏بكفاءة‏ ‏معقولة‏، ‏ولكنى ‏أؤكد‏ ‏أن‏ ‏الفريق‏ ‏الأول‏ (‏المدافع‏ ‏ميكانيكى ‏التفكير‏)، ‏قد‏ ‏يصلح‏ ‏معالجا مسكنا‏ ‏ممتازا‏،  ‏ولكنه‏ ‏لايصلح‏ ‏باحثا‏ ‏منظرا‏ ‏بالمعنى ‏الذى ‏أقدمه‏، ‏وهنا‏ ‏أقول‏ ‏إن‏ ‏الممارسة‏ ‏الإكلينيكية‏ ‏المعدة‏ ‏لهذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الباحثين‏ ‏المنظرين‏ ‏المعالجين‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏لها‏ ‏شروطها‏ ‏الخاصة‏ ‏وإشرافها‏ ‏الخاص‏ ‏وتبعاتها‏ ‏الخاصة‏ ‏وقياساتها‏ ‏المميزة‏ ‏مما‏ ‏سأرجع‏ ‏إلى ‏بعضه‏ ‏بعد‏ ‏قليل‏. ‏كما‏ ‏ينبغى ‏أيضا‏ ‏أن‏ ‏أقول‏ ‏أن‏ ‏ممارسة‏ ‏التحليل‏ ‏النفسى ‏التقليدى ‏مع‏ ‏العصابين‏ ‏خاصة‏، ‏ودون‏ ‏مواجهة‏ ‏مباشرة‏ ‏وجها‏ ‏لوجه‏، ‏لاتحقق‏ ‏بالضرورة‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏النمو‏ ‏الإكلينيكى ‏الذى ‏يهيئ‏ ‏لإعداد‏ ‏الباحث‏ ‏الذى ‏أعنيه‏، ‏لأن‏ ‏التواصل‏ ‏الذى ‏أقصده‏ ‏هو‏ ‏تواصل‏ ‏المواجهة‏ ‏الكلية‏ ‏اللفظية‏ ‏وغير‏ ‏اللفظية‏ ‏معا، والخروج من كل ذلك بالمشاركة فى تشكيل جديد لكل من المريض والطبيب (الباحث المعالج) على حد سواء، وهذا ما أسميته “نقد النص البشرى”، وهو حديث الغد إن شاء الله.

[1] – أصل هذه المداخلة نشرت فى مجلة “الإنسان والتطور” عدد أكتوبر 1980 بعنوان  الباحث: ‏ ‏أداة‏ ‏البحث،‏ ‏وحقله… فى دراسة الطفولة، والجنون، وقد نوقش فيها ‏ ‏دور‏ ‏الباحث‏ ‏بصفته‏ ‏أداة‏ ‏البحث‏ ‏التى ‏تستوعب‏ ‏الملاحظات‏ ‏وتعيد‏ ‏إفرازها‏ ‏فى ‏مجالى ‏دراسة‏ ‏نمو‏ ‏الطفل‏ ‏ونظريات‏ ‏السيكوباثولوجيا‏، ‏واقتصرت‏ ‏المناقشة‏ ‏على ‏هذين‏ ‏المجالين‏ ‏باعتبارهما‏ ‏يتفقان‏ ‏فى ‏ضعف‏ ‏وخداع‏ ‏المادة‏ ‏اللفظية‏ ‏المتاحة‏ ‏للملاحظة‏، ‏ويتطلبان‏ ‏نوعا‏ ‏من‏ ‏النكوص‏ ‏الإبداعى، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏التقمص‏ ‏الواعى ‏والإسقاط‏ ‏ثم‏ ‏التنظير‏، ‏وقد‏ ‏طرحت‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏ذلك‏ ‏قضية‏ ‏الذاتية‏ ‏والموضوعية‏، ‏وكيف‏ ‏أن‏ ‏الذات‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تصبح‏ ‏موضوعية‏ ‏الوجود‏ ‏بقدر‏ ‏درجة‏ ‏نموها‏ ‏واتساع‏ ‏وعيها اللازمين‏ ‏فى ‏البحث‏ ‏العلمى ‏من‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏، ‏واقترح‏ ‏البحث‏ ‏لتنمية‏ ‏هذين‏ ‏البعدين‏ ‏أن‏ ‏تتاح‏ ‏الفرصة‏ ‏لمن‏ ‏يتصدى ‏لهذا‏ ‏المجال‏ ‏من‏ ‏البحث‏ ‏أن‏ ‏يمر‏ ‏بخبرة‏ ‏الممارسة‏ ‏الاكلينيكية‏ ‏تحت‏ ‏إشراف ‏ ‏خاصة‏ ‏ولمدة‏ ‏طويلة‏

إلا أننى حين واجهت صعوبة تقييم الوجدان فى حدود ما قدمنا من صعوبة الاتفاق على مسمى بذاته، وصعوبة الترجمة، وصعوبة تطابق اللفظ مع الخبرة، وجدت أن صفات الباحث التى وردت فى هذه المداخلة الباكرة هى الأقرب إلى ما يمكن أن يعيننا أكثر فأكثر فى توصيف الوجدان، فضلا عن تنمية قدرات الباحثين الإكلينكيين عامة، فقمت بتحديث المداخلة حتى تكون أكثر عمومية وفائدة، على حساب بعض التفاصيل عن نمو الطفل وعواطفه إذ لا تقع فى بؤرة ما نتناول حاليا.

2 تعليقان

  1. صباح الخير يا مولانا:
    المقتطف : ….النكوص الإبداعى يخدم هدفين لازمين لعملية الإبداع : الأول هو بعث الطاقة الكامنة فى جزء مغمور من الذات، والثانى هو تهيئة فرصة أوسع لتجميعات وارتباطات جديدة من مخزون المادة المطبوعة فى المخ أساسا.
    التعليق : توقفت طويلا أمام هذا المقتطف،وما يليه أيضا ،أظن أن ماورد فيه لم يرد فيما قرأته من قبل من نظرية الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى ،ولافيما عرضته حتى الآن عن فن المقابلة الإكلينيكية،وأتساءل الآن ،أين ومتى وكيف ستتناول هذا الكنز البحثى الذى تورده هنا فى عبارات مقتضبه شديدة الكثافة والعمق والغموض ،على الباحث المبتدىء ،إسمح لى يا مولانا واغفر لى : أنت تظلم نفسك وقارؤك ،حين تلقى أمامه هكذا ، بعلم عن النكوص والإبداع وكيفية حضورهما بين المعالج ومن يعالجه ،دون أن تترك له الفرصة ليهضم ويتمثل هذه الوجبة شديدة الدسامة ،أوليس ضبط الجرعة مطلوبا فى التعليم والتدريب كما هو فى العلاج ؟! مرة أخرى إغفر لى تطاولى ،ان كنت قد جاوزت حدودى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *