نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 27-7-2014
السنة السابعة
العدد: 2522
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية
الفصل الخامس: ملف الوجدان واضطرابات العواطف (7)
مقدمة عن:
الوجدان والوعى والتطور (1)
من أطيب وأقوى ما يصلنى هذه الأيام وأنا أطلع على الأحدث فالأحدث أنه أصبح من المألوف أن يعلن العلماء الذين يستحقون هذا اللقب، جهلهم وحيرتهم ومراجعاتهم لما سبق مما يسمى علما أيضا، وكان علما فعلا، وما زال علما ما دام قابلا للمناقشة والتعديل، أقول: علماء بالمعنى الحقيقى للعلم، يعلنون بكل بساطة وشجاعة أن الأمور تزداد تعقيدا وغموضا فى مواجهة هذه الظاهرة الأساسية فى حياة البشر، بل وفى الحياة عموما، ظاهرة الانفعال (1)، ولقد وصلت الشجاعة بأحد الثقات الذين تناولوا هذا الإشكال، وهو يعلن مدى غموض مصطلح “الانفعال” أن صرح بقوله: “..إن عدم الاتفاق على ثبات مضمون واستعمالات هذا المصطلح “الانفعال” الذى هو غامض بطبيعته، أن علم النفس سيكون أفضل إذا لم يتعرض له أصلا!! أو بنص ألفاظه بلغته Psychology will be better off withoutit !!
الجميع يعرفون أن هذه النشرة وتلك المجلة (“الإنسان والتطور” أيضا) وهذا الموقع إنما تصدر من جمعية الطب النفسى التطورى، وقد أشهرت سنة 1979 ( حتى قبل الجمعية المصرية للطب النفسى) وما زال عدد المنتمين إليها لا يزيد عن اصابع اليدين والقدمين، ومن ثم فلا غرابة أن نلتقط كل فكر تطورى ليدعم الأساس النظرى لهذا التوجه، ومن بين ذلك هذا الكتاب الذى سوف نستعير منه عددا من تعريفات الانفعال مسلسلا تسلسلا تاريخيا منذ سنة 1887 وحتى 1980 (تاريخ نشر الكتاب)، بعنوان: “الانفعال: وُلاَف نفسى- بيولوجى” EMOTIONS: A psycho-evolutionary synthesis ولعل مجرد قراءة الاسم يظهر إلى أى مدى ينتمى فكر هذه الجمعية إلى هذا الكتاب وتوجهه، وقد أورد المؤلف أكثر من عشرين تعريفا للانفعال بتسلسل تاريخى منذ سنة 1884، وقبل أن نعيد رصّ التعريفات وإعادة النظر فيها، وفى نقدنا السابق لها، نقتطف جملة واحدة من الاستهلال الذى صدر به المؤلف Blutchick R بقول فيها: “…إن أفضل تناول لما هو انفعال هو أن نتناوله من منظور تطورى” ولقد كان لاسم الكتاب أثرا فى نفسى حين جمع النفسى والبيولوجى فى لفظ واحد واستعمل لفظ الولاف أساسا لأطروحته!!
من هنا نبدأ: من التطور ومستويات الوعى (التى تناولها دانيال دينيت باعتبارها :أنواع العقول Kinds of Minds)، (2) ذلك أنه قد وصلنى من دينيت أنه لا يقصد لا العقول minds كما نعرفها ونتكلم عنها، ولا الوعى consciousnessكما نختزله ونتصوره، وإنما يقصد برامج حياتية بقائية متراكبة متصاعدة هيراركيا من أول الفيروس حتى الإنسان العاقل Homosapiens، أقول من هنا نبدأ، وأنا أعنى أن البداية من هذه البرامج هى المدخل الأكثر وعَداً بتناول ماهيته وتطور الانفعال، من حيث أنه ليس إلا تجليات برامج بقائية تكونت عبر تاريخ الحياة، ثم لحقها الوعى بها بمعنى الدراية، ثم بعد ذلك تسميتها ما أمكن ذلك ، هذا ما وصلنى من كل من تناول الانفعال من منظور تطورى نفسى ولافى (كما الإشارة فى عنوان الكتاب السالف الذكر)
أقول مرة ثالثة: “من هنا نبدأ”، من التطور النفس البيولوجى:
الافتراضات الأساسية، والأبجدية الخاصة
فيما يلى سوف أقدم الافتراضات الأساسية التى أعتقد أنها تمهيد لطرح فروضى الخاصة بماهية الوجدان، بعد أن اصبح أكثر جاهزية للطرح والتطوير عن ما كان عليه فى نشره الأول سنة 1980 (علما بأن مسودته كانت سنة 1974) ، كما سوف أشير على قدرالإمكان إلى بعض أبجديتى الخاصة القابلة للتغيير مع تنامى الطرح والمناقشة:
أولا: الإنسان، وهو يقف على قمة الهرم الحيوى بفضل الله (3)، اكتسب وظيفة تبدو خاصة به دون مَنْ قبله من أحياء، وهى الوعى الظاهر فى الدرايةawareness والكلام speech أى الوعى بالوعى وإعلانه.
ثانيا: البرامج المتصاعدة الترتيب والتركيب تتكون عبر تاريخ التطور نتيجة لتكرار آليات الحفاظ على الحياة للفرد والنوع بشكل مضطرد، وهى التشكيلات النيورونية والحيوية داخل وخارج الخلايا وليس فقط فى خلايا المخ ومشتبكاته.
ثالثا: هذه البرامج الشديدة التعقيد البالغة الدقة، لا تنشط كلها فى اتجاه واحد، لكن محصلتها – لمن تبقى من أحياء – هى إيجابية، بدليل بقاء هذا النوع دون ذاك.
رابعا: أغلب هذه البرامج لا تسمى “عواطف” أو “انفعال”، وطبعا: ولا “وجدان”، ولم تظهر أية حاجة، ولا قدرة، لأغلب الأحياء – قبل الإنسان – لكى تسميها أصلا.
خامسا: يظهر نشاط هذه البرامج بالنسبة لما (ومَنْ) دون الإنسان (وأيضا بالنسبة للإنسان) فى شكل التعبير عن آثارها وتنشيطها وحضورها، ولكن فى حدود ما نعرف،ليست فى الدراية الواعية بها awareness Conscious أو التصريح بها، اللهم إلا فى مرحلة الإنسان، وذلك بأقرب ما استطاعت السلوكيات أن تسمح بها وخاصة سلوكيات التواصل باللغة وأبجدياتها.
سادسا: تصبح دراسة (أو النظر فى) الانفعال (أو العواطف) عند الحيوان خطوة مبدئية للتعرف على العواطف عند الإنسان، وربما هذا هو ما جذب انتباه تشارلز دارون إلى هذه المنطقة بعد اعلانه فروضه عن أصل الأنواع المباشرة (أنظر بعد).
سابعا: يصبح الوعى بتنشيط هذا البرنامج أو ذاك، فى هذا الموقف أو ذاك، نتيجة للاستثارة بمواقف معينة، يصبح هو ما يسمى باسم هذه العاطفة أو تلك (إن لزمت التسمية)
ثامنا: إن هذه البرامج متداخلة، ومتكاملة، وأحيانا متصادمة ومتصارعة، وهى متعددة من ابسط الاستجابة الانعكاسية، إلى أعقد التناقض الوجدانى عند الإنساان خاصة
تاسعا: إن هذه البرامج ليست منفصلة عن سائر البرامج البقائية، الدفاعية، والحيوية، والمعرفية، والجنسية، والتكاثرية، والعدوانية والإيقاعية التناغمية (الإيمانية)
عاشرا: إنه لا يوجد برنامج “حسن” وآخر “سيىء”، طالما هو قد تكرر وتأصل عبر التاريخ حتى ترسّخ واستقر وتنشّط كلما لزم الأمر حفاظا على التكيف والتلاؤم والتكافل، وغالبا ساهم فى الحفاظ على البقاء والاستمرار (بدليل بقاء نوع من الانواع)، وبالتالى لا توجد عاطفة (4) سلبية وأخرى إيجابية، فكلها برامج توصف حسب توظيفها فى وقت معين وظرف معين لغرض معين
وبعد
سنة 1859 ظهركتاب تشارلز دارون “أصل الأنواع” ، The Origin of Species وفى سنة 1872 ظهر له كتاب “التعبير عن الانفعال عند الإنسان والحيوان” The Expression of Emotions in Man and Animals فنلاحظ من عنوان الكتاب الأخير أنه كان يتكلم عن “التعبير” لا أكثر ولا اقل، وفعلا تناول هذا البعد بإتقان ودقة ، وذلك من خلال ما جمع من ملاحظاته الخاصة، ومن وصف الحراس والمستكشفين والرعاة فى حدائق الحيوان والمبشرين، للإشارات والأوضاع وتعبير الوجه لما تيسر من حيوانات (أنظر الشكل “1” : قط فى مواجهة كلب مهاجم، وقد وقف شعره كله وانحنى ظهره حتى ليكبر حجمه).
وامتدت ملاحظات داروين إلى الخيل، والخنازير، وبقر الوحش، وأكلِى النمل، والفئران والبوم!! وقد سجل كشكشة ريش الطيور حين تهاجَم بمن يهدد عشها، وكذلك رصد ملاحظات عن البجع والبوم والديوك وغيرها، ولا أعرف كيف تسنى له ذلك بكل هذه الدقة، وقد ذهب إلى أن أغلب هذه التعبيرات عن الانفعال هى موروثة عبر تاريخ التطور، وقد دعم ذلك بأربع حجج وجيهة هى:
1) أنه فى كثير من الأحيان يكون التعبير عن انفعال معين متشابه عند كثير من الأحياء الدنيا – الحيوانات البدائية-.
2) إن كثيرا من انفعالات الأطفال تظهر كاملة الوضوح والدلالة كما هى عند الكبار دون أن يكون قد مر وقت كاف لتعلمها
3) إن بعض التعبيرات الانفعالية تبدو متماثلة عند الأطفال الذين ولدوا فاقدى البصر مقارنة بتلك التى يبديها الأطفال المبصرون
4) إن كثيرا من التعبيرات الانفعالية تتشابه عند مختلف الأنواع ومختلف جماعات البشر.
وفى نفس الوقت أقر داروين ولاحظ أنه بالرغم من الأصل الموروث للانفعالات (البرامج) من حيث المبدأ، إلا أن كثيرا منها أيضا يُكتسب بالتعلم: مثل انحناء الرأس عند الموافقة، وشبك اليدين للتوقير، والتقبيل عند إظهار الود لكنه اعتبر ذلك كله نادرا وربما يكون مرتبطا بنوع بذاته دون سائر الأنواع،
وأخيرا فإنه أقر أن بعض مثل هذه الانفعالات التلقائية يمكن كفـُّها.
بدون تعليق
أكتفى اليوم بعرض هذه الصور المقارنة
لنكمل غدا
[1] – أستسمح القارئ أن أستعمل لفظ الانفعال فى هذه المرحلة برغم تحفظى عليه وتفضيلى لقظ الوجدان، لكن كل المراجع التى سوف أناقشها تستعمل لفظ Emotion وهو الأقرب إلى لفظ الانفعال بالعربية كما ذكرت سالفا، وإن كان استعمالهم لهذا اللفظ بالإنجليزية مازل قاصراعن شمول ما يشمله لفظ الوجدان كما ذكرنا، كما سنعود إليه لاحقا
[2] – دانييل دينيت: 1996 “أنواع العقول، نحو محاولة فهم الوعى”
Daniel C. Dennet 1996 “Kinds of Minds Towards Understanding of Consciousness”
الكتاب المترجم صادر عن “المكتبة الأكاديمية” القاهرة 2003
– (نشرة 25-12-2007 ” أنواع العقول وتعدد مستويات الوعى .. الطريق إلى فهم الوعى)
[3] – كلما ذكرت صفة التطور انبرى من لا يعرف إلا ما يعرفه من مصادر متلبسة متصورا أن أى حديث عن التطور هو ضد الدين وضد خلق الإنسان كما تصور من ظاهر نصوص توقف عند ألفاظها، فى حين أننى لم تصلنى أية فكرة عن التطور أو من التطور إلىّ وأيقنت أن هذه العملية يستحيل أن تتم أو تستمر إلا بفضل الله سبحانه وقدراته وقوانينه لتعمير الأرض وإحياء الأحياء، هدى الله الجميع وأنار بصيرتهم وهم يتذكرون كيف يسبح له ما فى السموات والأرض.
[4] – أكرر أننى أستعمل لفظ العاطفى أحيان، والانفعال أحيانا أخرى فى هذه المرحلة حسب ما يرد لى، ويكون اقرب إلى السياق، ويبدو أننى سوف انتى إلى أن احتفظ بالستعمل كل هذه الألفاظ فى مراحل مختلفة من تطور الانفعال ولننتظر حتى نرى: