نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 12-5-2018
السنة الحادية عشرة
العدد: 3906.
استهلال:
نشرنا الأسبوع الماضى (على مدى ثلاث أيام) مقتطف بعنوان: الفصل الثالث (يمامتان) من روايتى الأولى “الواقعة” لعله يبين كيف توصلتُ إلى بعض فروضى من خلال أكثر من أداة وتشكيل، ومن ذلك “الإبداع الروائى”.
وحين اضطررت للضغط على من يعملون معى تحت زعم إجراء بحث: عن طبيعة ومدى المشاركة، وأبعاد الكسل أو التكاسل، وعلاقة ذلك بالفعل اليومى والمسئولية العلاجية، وبرغم ألمى وخجلى من استعمال هذا الأسلوب كما بينت فى بريد الجمعة السابق، إذا بما حصلت عليه من استجابات برغم الضغط، يوضح لى ملامح بعض ما كنت أتصور، مثلا:
أولاً: مدى علاقة هذا العمل الروائى بخبرة ما يسمى المرض النفسى، على لسان حال المريض.
ثانياً: مدى فائدة تقمص المريض وتصوير حركية المرض من وجهه نظره وما يمكن أن يثيره ذلك فى المتلقى (الطبيب/المعالج) من حركية النقد، ومن ثم يبين أكثر فأكثر بعض ملامح مصطلح “نقد النص البشرى”، كمرادف للعلاج الأعمق.
ثالثاً: احتمال الربط بين مصادر الفروض ومعلومات الخبرة فيما يطور التطور والإبداع من خلال التطبيق لمن يتصدى لممارسة هذا الفن العلاجى بكل أبعاده الطبية والإبداعية.
وبعد
من خلال هذه التجربة، وبما أننى أعيد مراجعة هذه الرواية التى صدرت منذ نصف قرن إعدادا لإصدارها فى طبعة ورقية قريبا، خطر لى أن أواصل نشر فصولها، بنفس أسلوب تجربة الأسبوع الماضى للأسباب السالفة الذكر!!
ونبدأ اليوم بالفصل الأول مقسما على ثلاث أيام بنفس النظام السابق فى الأسبوع الماضى.
(ثلاثية المشى على الصراط “الجزء الأول”)
رواية “الواقعة” (1)
هذا هو الفصل الأول: “فى البدء كان الكلمة” ننشره على ثلاثة أيام: الجزء الأول اليوم، الجزء الثانى باكر ويليه الجزء الثالث والأخير بعد باكر، وطبعا أى جزء لا يقرأ منفصلا.
الفصل الأول: “فى البدء كان الكلمة”
الجزء الأول: (الثانى: غدًا، والثالث: بعد غد)
****
-1-
– الاسم يا سيد؟ !
قالتها تلك المرأة القابعة وراء الشباك للواقف فى أول الصف، شىء عادى تماما، إذ لابد أن لكل واحد منا اسم، ولابد أنْ نـُسْأل عنه إذا كان غيرنا لا يعرفه، ولكن فى ذلك اليوم لاحت علامات الساعة من خلال هذه الكلمة العابرة “الاسم يا سيد”.
الصف الطويل ينتظر، الموظفة المتلكة وراء النافذة تراجع الأوراق وتحدث جارتها بين الحين والحين، وكأنهما يتناقشان فى شيء ذى بال، شعرها معقوص للخلف ووجهها خال من أى تعبير خاص، مليء بحبوب متناثرة، لا هى حب الشباب ولا هى “نمش” الشيخوخة، ليس لبشرتها لون، وإن كان الناس قد اعتادوا أن يقولوا عن مثيلاتها “سمراء”،لكنها فى هذه اللحظة كانت بلا لون، أو قل كانت بلون الأرض قبل بدء الخليقة، أو لون الموت، إن كان للموت لون، ولكن لا يمكن أن أنفى أنه كان لها لون فى يوم من الأيام.
طال الانتظار، الصف يتحرك ببطء شديد، قوة تجذبنى إلى الخلف حتى حسبت أن الواقف ورائى يشدنى من قفاى، تلفت حولى فإذا بينى وبينه حاجز طبيعى متكور دفع بنصف جذعه للوراء، شئ يطمئن، قفاى ليس فى متناول يده، رجعت أنظر إلى المرأة معقوصة الشعر، خيل إلى أنها تدبر مكيدة يفنى بها العالم حتى تتخلص من عملها هذا، طردت هذه الأفكار التى كانت تراودنى بين الحين والحين، وكنت اعتبرها من قبيل الفكاهة، ولكنها بدت اليوم وكأنها عين الجد، الوقت يمر ببطء، بالأمس كان عندى ذلك السباك الطيب، كان هادئا وديعا مستغرقا فى عمله وهو يصلح الصنبور، عمل تافه ولكنه كان يؤديه بعناية وإتقان وكأنه يصلح أحوال الكون، وجهه رائق يشع نورا لا تعرف طبيعته أو مصدره، يخرج بعد الإصلاح وكأنه يتسحب خوفا من أن يضبطه أحد فيرغمه على أخذ حق الإصلاح، لحقت به عند الباب فى آخر لحظة ومددت يدى بما قسم، نظر إلى الأرض قائلا:
- لزومه إيه يابيه؟
- حقك ياعم محفوظ
- الحق عند الله
أغاظنى هذا الرجل غير المحتاج إلى شيء، ستة أولاد، الأسعار نار والعمل بسيط والأجر زهيد، ثم ينسحب خجلا من المطالبة بأجره، شئ يغيظ بحق، من أين له بكل هذه السكينة والرضا؟ من أين له بثمن الخبز إذا هو لم يتقاض منى ومن أمثالى أجره؟ هذا شئ سخيف لا أفهمه،
صور الأمس تواصل ملاحقتى: يحضر جارنا الأستاذ غريب بعد خروج عم محفوظ السباك مباشرة، إنسانٌٌ يعيش فى عالم سحرى هو الآخر، يبدو عليه الاهتمام المستمر بشيء ذى بال، أحيانا استطيع أن أفهم اهتمامه بحرب فيتنام ومجاعة بنجلادش، وأحيانا لا أدرى ماذا يفعل بهذا الاهتمام، أعتبره من هواة النكد، لا يكاد يعرف كم قرشا يقبض آخر الشهر، نظراته جادة وذكية وحزينة فى نفس الوقت، أحس فيها بإشفاق شديد خال من الاحتقار فى معظم الأحيان،
أحيانا، أبادله نظرة عدم مبالاة تحمينى من اختراق عينيه، هذا الإنسان الذاهل يحاول أن يستدرجنى إلى شيء لا أعرفه، شيء لست فى حاجة إليه، لا، ..لن يحدث “ذلك” مهما (“ذلك” الذى لا أعرفه لكن يبدو أنه سر الوجود)، ومع كل هذا حاولت أن أتلطف معه أمس، بلا مناسبة – بعد انتهاء المكالمة الهاتفية، دعوته برغبة حائرة،
- إجلس يا أستاذ “غريب”.. تفضل، استرح.
- أخشى أن أضيع وقتك،
ماذا فى رأس ذلك المتوحش؟ فيم أضيع وقتى إن لم يكن فى الجلوس معه ومع أمثاله، لا ليس مع أمثاله، مع أمثالى أنا، قلت:
- بالعكس، كيف حالك؟
نظر إلى نظرة ما، هذه نظرة لا أقبلها، لن أسكت على هذا الوغد، إن كان يحتقرنى إلى هذا الحد فلابد أن أبدو فى غاية السعادة، هو الذى يحتاجنى. عندى تليفون وليس عنده حتى جرس للباب، لم يهتم أن يصلحه منذ فسد، إنه يحضر عندى لتلقى المكالمات فى منزلى علما بأنى لست مضطرا لاستقباله، أنا “أنجح” منه و”أسعد”.
قطع على أفكارى:
- الإنسان مقهور أكثر من طاقته،
يا نهار أسود، أساله عن حاله فيقول إن الإنسان مقهور، ما أغبانى إذ أفتح الحديث مع مثل هذا المتوحش الأبله، إما أنه لايفهم معنى الكلام أو أنه يستهين بى وبترحيبى وبحديثى من حيث المبدأ، ومع ذلك سوف أريه:
- عندنا قهوة بيتى، وهى من مزايا الزواج، تشربها على الريحة أم مضبوطة،
سوف أعدد له كل المزايا التى أتمتع بها زيادة عنه قبل أن يخرج،
- شكرا، أفضل الانصراف،
قالها وهم بالاتجاه إلى الباب، فزاد إصرارى على الحديث معه وكأنى على وشك الانتصار،
- لايمكن، ما رأيتك من زمان،
أطرق إلى الأرض وكأنه يفكر فى حل مشكلة الحدود الصينية السوفيتية،
- هل حقا تريد رؤيتى؟
ترددت فى الإجابة لأنى لا أريد رؤيته إذا كان ذلك ممكنا، ولكن طالما هو كائن حى له جسم يتحرك فى الشقة المقابلة فلابد من رؤيته حسب القوانين الطبيعية لبقاء المادة، أنا لا أطيق وجوده أصلا، ينبغى أن يباد هذا الصنف من البشر من على ظهر الأرض، أولئك الناس الذين لا ينظرون إلى وجهك، تحس بنظراتهم تثقب أحشاءك مباشرة، ليسوا منا، يتصورون أنهم هم الذين يعيشون وغيرهم فى عداد الأموات، يتلطفون معنا ليستعملونا “كأشياء” ليس إلا، ثم هم لا يتركونا فى حالنا، سوف أحطم هذا المتوحش.
- طبعا، الناس لبعضهم
هيه! أفحمته حتى يعرف أنى أعرف انتهازيته، وأجامله بمحض اختيارى، وكفى تظاهرا بالزهد تبريرا للعجز، قال على غير توقع:
- وكيف حالك أنت؟
حالى؟ أنا أسأله لأنه مسكين وغامض ووحيد، أما حالى أنا فهو ظاهر للعيان، من الذكاء أن أرد عليه فورا “الحمد لله” حتى لا يظن بى الظنون، فى نظراته صدق غريب حنون وكأنه يسألنى عن حالى فعلا- تعودت أن أسمع هذا السؤال للمجاملة وقطع الوقت، أما أن يكون سؤالا ذا معنى وراءه اهتمام جاد فهذا مالا يمكن السكوت عليه، ماله هو ومال حالى؟ هل يريد أن يتأكد أنى ميت؟ وهو الذى لا يعرف للحياة طعما، هو لم يغير سترته منذ ست سنوات بالتمام، ماله حالى؟ أليس عنده نظر؟ ألم ير قماش “الأنتريه” الجديد؟ ماذا يريد على وجه التحديد؟
طال سكوتى أكثر مما ينبغى، لابد أن أرد عليه بشجاعة حقيقية، لابد أن أقول له إن تليفونى ليس تحت أمره بعد الآن، لابد أن يعرف حدوده، وأن حالى هو هذا المنزل السعيد وهذا التليفون وهذا” الأنتريه”، أما غير ذلك فهو خارج عن اختصاصه، لابد أن يلزم حدوده وإذا كان يريد أن يتلقى المكالمات عندى فليعرف أن هذا وحده نتيجة أن حالى عال العال، حالى مثل حاله على أقل الفروض، سأقولها له وما يكون يكون، لابد أن يشعر بفشله حتى يكف عن اقتحام الناس، هاك ردى بكل جسارة:
- الحمد لله
لم يرد هذا المتوحش، ظل ناظرا إلى الأرض فى تفكير عميق، ليس فى الدنيا ما يحتاج لكل هذا التفكير، كل شيء عنده مختلف، هل يشك فى إجابتى؟ لا يصدق أن حالى على ما يرام، لماذا لا يعلن ما بنفسه حتى أرد عليه؟ جبان، سوف أحتفظ برأيى فيه حتى أستدرجه، لماذا يحتفظ لنفسه بحق الحكم على الناس؟ إنه هو الذى لا يعرف شيئا إلا من خلال كتبه، سخيف تافه يعيش على الهامش، مغرور يتصور أنه يستطيع أن يعدل الكون، عاجز غبى، لن يدخل بيتى بعد اليوم – يرتشف القهوة فى شماتة وكأنه وحده الذى يعرف طعمها – يدير الفنجان ببطء ويتأمله كأنه لم ير مثله من قبل، جار سمج، لعن الله اليوم الذى جعله جاراً لى – ينظر إلى ثانية - وكأنه لا يصدق شيئا لا يعرفه، ماله بى؟
قام فى هدوء ومد يده مصافحا – يبستم، أكاد أبصق فى وجهه، أكشر عن أسنانى أرد له ابتسامته الحانية فى غضب، لست فى حاجة إلى شفقته المهينة، قال قبل أن يغادر الشقة:
- شكرا
- تحت أمرك
****
الجزء الثانى غدًا
(والجزء الثالث والأخير بعد غد)
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “الواقعة” ثلاثية المشى على الصراط: الجزء الأول. الطبعة الثانية 2008 (الطبعة الأولى 1977) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم.