نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 13-5-2018
السنة الحادية عشرة
العدد: 3907
رواية “الواقعة”
ثلاثية المشى على الصراط “الجزء الثانى من:
الفصل الأول بعنوان (فى البدء كان الكلمة)
نشرنا الجزء الأول من هذا الفصل أمس، واليوم ننشر الجزء الثانى، وننصح بقراءة – نشرة أمس أولا – وغدًا نكمل الجزء الثالث والأخير
للأسف: عندى أمل – أيضا – أن يتعلم الأطباء والمعالجون من هذه المحاولة:
من هو المريض النفسى، وليس فقط ماذا هو المرض؟
****
الجزء الثانى:
……………………
انتبهت على صوت المرأة ذات الشعر المعقوص والبشرة بلا ألوان:
- الإيصال باسم من؟
من؟ باسمى طبعا، كان ينبغى أن أستعد أثناء تحرك الطابور حتى لا تحدث المفاجأة، صحت فى تعجب
- باسمى طبعا
ارتفع حاجباها باشمئزاز ضَجِر
- ليس هذا مجال العبث يا أستاذ، إلزم حدودك أو أفسح الطريق لمن بعدك.
أخذت أحاول أن أنطق باسمى حتى ينتهى هذا الموقف ولكن كل شيء كان قد انتهى فعلا، كنت عائدا لتوى من التحدّى الذى فرضه علىّ جارى دون استئذان، نظرت إليها فى احتجاج وكأنى أرد على جارى ”غريب”: هل أنت أيتها الجثة الهامدة، هل أنت أيضا؟ تسأليننى عن اسمى وكأنك تشكين فى وجودى، أليست الأوراق أمامك؟
- أستاذ…، الناس وراءها مصالح
اكتشفت أنى لم أقدم لها الأوراق، ولكنها تسألنى عن هويتى، تشك فىّ، طال صمتى وكدت أعجز حتى عن الحركة.
- أرجوك يا سيد ماذا تنتظر؟
مرة ثانية تسمع صوتها أذنى، لكزنى الواقف ورائى متعجلا، انتقل بصرى بينه وبينها، عيناه تتهمانى أيضا، أحسست بالعرق ينساب على وجهى. أكاد أبصر حبات العرق على جبهتى، كل حبة مثل حرف من حروف الهجاء، أحاول أن أجمع الحروف لأكوّن اسمى بجهد بالغ، أكاد أنجح ، ولكنى لا أتذكر على وجه التحديد لماذا جئت إلى هذا المكان، وقبل حدوث مالا يحمد عقباه، تركت الصف فى صمت ووليت هاربا،
ماذا جرى؟
خرجت إلى الشارع، رأسى خال تماما، أخذت أنظر إلى المارة وكأنى أراهم لأول مرة، هؤلاء الناس: أين كانوا قبل اليوم؟ من أين جاءوا؟ أشكالهم تبعث على التساؤل، لكل منهم عينان اثنتان، لماذا لا يستعمل أى منهم ولو عينا واحدة؟ إذا لرأوا بعضهم البعض غالبا مثلما يرى غريب قدح القهوة، الآن، أكاد أتعرف عليه، أكاد أفهمه، وعم محفوظ أيضا، أصبح فجأة مفهوما لدىّ، لعلى ولجت باب المجهول بلا استئذان، ماذا حدث؟ من أين تأتى تلك الرؤية الجديدة؟ رجعت أنظر إلى وجوه الناس رغم أنى لا أكاد أعرف أيا منهم إلا أنى أعرفهم واحدا واحدا، أصبح لكل منهم لون حقيقى يختلف عن لون الآخر، تذكرت المرأة المعقوصة الشعر بلا لون، لو رجعت لها الآن لعرفت أن لون بشرتها مثلا هو 5734 / 9 أو أى رقم آخر، لكنه رقم محدد، لكل إنسان لون خاص به يمكن أن يوضع فى فاتورة البشر، هناك درجات من اللون الأسمر ومن كل لون، خضرة الشجر ليست كخضرة الحشيش ليست كخضرة أرقام سيارات الدبلوماسيين، هذا شيء رائع: أن يكون لكل شيء لون، ولكن أين اختفت الألوان قبل ذلك؟ أين كنت أنا طوال هذه السنين؟ أحس برغبة هائلة فى الجرى إلى المنزل حتى أسأل الأستاذ غريب عن حقيقة ما هو فيه، وهل هناك شبه بين ما حدث لى وبين موقفه الغامض؟.
ولكن ماذا حدث لى؟ رأسى الذى كان متصلبا فارغا بدأ يمتليء بكل ثروة الحياة، جمادها وأحيائها، الوحوش وطيور الزينة فيها جنبا إلى جنب، أكاد أطير إلى هناك، ولكنى هنا بينهم لابد أن أتعرف عليهم أولا.
تقدمت إلى أحدهم لأسأله نفس السؤال الذى سألتنيه تلك المرأة، من أنت؟ أنت تعيش باسم من؟ الاسم يا سيد”؟ الإيصال باسم من؟ قلت فى نفسى إذا تعرف هو على نفسه فلابد أننى أستطيع التعرف على نفسى، كيف؟ لست أدرى. ولكنى أستطيع تأكيد هذه المعادلة السهلة دون حاجة إلى برهان: لو أن واحدا فى هذه اللحظة عرف من هو، فلسوف أعرف أنا – أيضا – من أنا،
تقدمت إليه، ربت على كتفه فى رقة، فالتفت إلى فى هدوء، قلت فورا:
- كم الساعة من فضلك؟
- آسف ليست معى ساعة
- شكرا
الحمد لله، انتهى الموقف بسلام، حصلت على الإجابة بطريقة أسهل، ليس ضروريا أن يحمل أحدهم ساعة ما دام الآخرون يحملون ساعات، ولكن هل الذى يحمل ساعة يعرف “من هو”؟ لابد من تكملة البحث، تقدمت إلى آخر بعد أن تأكدت من وجود الساعة فى معصمه، احتك كتفى بكتفه، نظر إلى نظرة بين التساؤل والاحتجاج، نظرت إليه نظرة اعتذار، ومضيت مرتاحا وكأنى حصلت على الجواب.
حتى الذين يحملون ساعات، لا يعرفون من هم!!.
ربما كان سر الوجود، حتى تسير هذه الجموع بهذه الصورة بالغة النظام بالغة التعقيد والاضطراب – ألا يعرف أحد “من هو؟”، إذ ماذا يكون الحال لو حاول كل منا أن يعرف من هو؟ سوف تتوقف الحركة مثلما توقف عقلى أمام تلك المرأة منذ قليل، لا، ..ليس ضروريا أن يعرف أحد شيئا، ولابد أن هذه المرأة لم تقصد شيئا جادا، سوف أرجع لها بأوراقى لأثبت لها أن سؤالها هو الجواب ذاته، سوف أجيب عليها مثلما فعلت قبل ذلك آلاف المرات، وبمجرد أن أجيب سوف، يسقط السؤال.
ما هذه الدوامة التى تدور فى ذهنى؟ إن ما يزعجنى أنها بالنسبة لى بالغة البساطة والوضوح، .. ومع ذلك! لقد اهتديت أخيرا إلى الحل: “الناس يجيبون على أسئلة بعضهم البعض حتى يثبت أن هذه الأسئلة ليس لها إجابة، ذلك أنهم لو حاولوا أن يجيبوا على الأسئلة المطروحة فى كل لحظة بجدية حقيقية لاختل توازن الكون، أو توقفت العجلة مثلما حدث هذا الصباح، أو قد يعم الشذوذ مثلما يعيش الأستاذ غريب، أو ربما جاعوا مثلما أخاف على عائلة عم محفوظ السباك.
يبدو أن ما أصابنى اليوم سوف يهدينى إلى فكرة جديدة أحل بها مشكلة الوجود،
”لابد من الإجابة “فورا” على كل سؤال، حتى لا نضطر إلى البحث فعلا عن إجابة له”!
ما أسهل هذا الكلام رغم أنى لا أجرؤ أن أقوله لأحد خشية أن يتوقف نهائيا عن الأسئلة والأجوبة فيموت، أو يبعث من جديد، يا حلاوة أصبحت فيلسوفا بقدرة قادر، وسر موظفة الشباك!
ما هذا الكلام الفارغ؟
…………………
الجزء الثالث والأخير من نفس الفصل: غدًا
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “الواقعة” ثلاثية المشى على الصراط: الجزء الأول. الطبعة الثانية 2008 (الطبعة الأولى 1977) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم.