الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الفرحة الاستباقية، والفرحة الزائطة بالتهانى

الفرحة الاستباقية، والفرحة الزائطة بالتهانى

نشرة “الإنسان والتطور”

الاربعاء: 11-6-2014

السنة السابعة

العدد: 2476  

الفرحة الاستباقية، والفرحة الزائطة بالتهانى

لماذا فرحت المصريات هكذا بهذه الاحتفالية الانتخابية فى هذا التوقيت المختلف عن ما اعتدنا؟  أنا لا أتكلم عن فرحة الانتصار أو التهنئة، وإنما أنا أشير إلى الفرحة التلقائية التى وصلتنا من أصل الحياة : المرأة المصرية، هكذا فى هذا التوقيت بالذات؟ صحيح أن الرجال قد عبّروا عن فرحتهم أيضا، خاصة كبار السن والأطفال من عامة المصريين، ولكن جاء التعبير عنها  بدرجة أقل تجسيدا وبهجة وانطلاقا حرا بلغة الجسد (يسمونه رقصا) الأمر الذى وصلني من المصريات بتلقائية وحب وصلاة وحمد: رحت أتأمل هذه السيدة الكريمة المنقبة وهى ترقص أمام لجنةٍ ما من لجان الانتخابات، طبعا لم أر وجهها، ولا سمحتُ لنفسى أن أتخيلها، لكن ما وصلنى من طيبتها وانسيابها وتناغمها أنها  “مصر” تتماوج يمينا ويسارا، ميلا واعتدالا، فى رقة كأنها تناجى الكون وتحمد ربنا داخل خيمتها،  تعبر عن تلك الهارمونية الصاعدة بين الإنسان والطبيعة إلى وجه الحق تعالى؟

لم تكن النتائج قد أعلنت، ولا كان التصويت انتهى، بل فى بعض اللجان لم يكن قد بدأ بعد، إذن هى فرحة استباقية، ليست بفوز هذا المرشح الفاضل العاقل الواحد منا، أو ذاك المرشح الشجاع الوطنى المنتمى الكريم، لكنها فرحة بعودة الحياة إلى الأحق بالحياة.

أتمنى أن يقوم أحد شباب الباحثين بدراسة ما يقابل هذه الفرحة عند سائر الشعوب، شكلا وتوقيتا، فيكتشف ماذا بداخل المصريين مما لا يموت أبدا، وأنه كلما ظن أحدهم أنها نهاية مصر والمصريين، إذا بها البداية.   السؤال اللحوح الذى ظل شباب الإعلاميين يطرحه علينا طوال الثلاث سنوات الماضية “ماذا حدث للمصريين؟” “ماذا حدث للمصريين”؟  أجابت عليه هذه الفرحة الاستباقية، بكل تحدٍّ, اعتدنا أن نرى فرحة أخرى بها كل البهجة والنصر بعد الفوز لا قبله ، بدءا من كرة القدم وحتى انتخابات النوادى، مرورا بانتخابات المجالس الشعبية، والمواقع الرئاسية، نحتفى بمن فاز، ونواسى من خانه  الحظ (ما دمنا  بشرا متحضرين مؤمنين)، لكن أن تسبق الفرحة هكذا النتيجة بهذا الصورة فهذا جديد جميل يحتاج إلى التأمل والفحص، وهو لا يخرج إلا من شعب يعرف الحياة أكثر مما يعرف الأشخاص، ويؤمن بالله ولا يستسلم للأوصياء على وحيه سبحانه، ويكشف المحتكرين لرحمته، والمشوِّهين رسالاته.

كان الجفاف قد أحاط بكل شىء، وتكسرت أعواد الرجال من اليأس والخوف معا، حتى تصور الوعى الشعبى العام أن الحياة تتسحب منا باضطراد، وأن منابعها  على وشك أن تجف تماما  إن لم تكن قد جفت فعلا، ظهرت الشقوق فى أغلب جدران البناء الشامخ، حتى تصور الطغاة فى الخارج، والخونة فى الداخل، أن البناء لم يبق له إلا أن ينهار على من تبقى من سكانه، خدعتهم انتصارات زائفة حسبوا أنها باقية، كما فزِعنا نحن بدورنا من  تمادى  الجفاف وتساقط أوراق الأمل، بل وبعض ثمار الزمن ، لكن الله سبحانه أرحم بمن عرفوه حق قدره، فأنزل على ناس مصر الطيبين ما أحيا فيهم  تاريخهم، وعلاقتهم الراسخة به سبحانه وتعالى، فتذكروا أنهم ما زالوا أحياء، يعيشون فوق هذه الأرض الطيبة، أرض الله فى هذه اللحظة، فانطلقت هذه الفرحة علامة بعث فريد،

ذات مرة، منذ عشرات السنين حضرتنى مثل هذه الصورة  شعرا بعد أن كدت، ومعى ناسى، نختفى فى جوف أرض خراب ، ولم أعد أحتمل حينذاك، حتى كشفنى شعرى وأنا أكتفى من هذه الحياة بهذا القدر حين  قلت:  ……. وتسَّربتْ‏ ‏خطواتنا‏ ‏بين‏ ‏الشقوقِ‏ ‏الجائعةْ‏ !!!، ‏ياربنا‏ ‏ياقَـدرَى،‏   ‏جفـَّـتْ‏ ‏مَـنَـابـِعى ،‏ خُـذْنى ‏كَـفَـى ،‏ خُـذْنى ‏كـفـى”

لكن الشعر تمادى إلى طبقة أعمق وأقدر تقول إنه إذا جفت منابعى، فإن رحمته لا تجف، وفضله لا يغيض، فانطلق منى الشعر يرفض هذ التسليم ، وهو نفس الشعور الذى  وصلنى من نساء مصر الآن: بفرحتهم الاستباقية هذه.

فأضاء‏ ‏وعيى ‏بالمـُـنـى،‏  ‏تمتد‏ ‏بعد‏ ‏المنتهى

 يــا‏ ‏فرحتى:  ‏هذا : ‏ ‏أنــا‏.‏

هى ‏فرحة‏ ‏الطير‏ ‏الذى ‏تطايرت‏ ‏خميلـَتـُهْ، ‏

ثم‏ ‏الْـتَـقَـى ‏بأمّه‏ ‏، حَـمَـلـَتْـهُ‏ ‏تحت‏ ‏جِـناحِـهَـا، ‏وأوْدعْـته‏ ‏فى الَـفـنَـنْ،‏

هى ‏فَـرْحة‏ ‏السـَّمَـك‏ ‏الذى ‏رجع‏ ‏المياه،‏

من‏ ‏بعد‏ ‏ما‏ ‏ذاق‏ ‏الجفاف‏ ‏الموتَ‏ ‏فى ‏قـر‏ ‏الرمال‏ ‏الساخنهْ‏.‏

…..

ورضعتُ‏ ‏من‏ ‏مجرى ‏عيون‏ ‏لا‏ ‏تغيض‏:

 ورأيتُـهُ‏ ‏يسرى ‏بأوراقِ‏ ‏الشجرْ،‏،

وشربتُـهُ‏ ‏قطراً‏ ‏بهيجـًا‏ ‏فى ‏النَّـدَى.‏

وطعِمتُـهُ‏ ‏شهدا‏ ‏رحيقا‏ ‏فى ‏الثمرْ،‏

وسمعتـُه‏ ‏فى ‏صمـت‏ ‏طائرٍ‏ ‏شـَدَا،‏

صاحبتُـه‏ ‏صمتاً‏ ‏رصيناً‏ ‏فى ‏الحجرْ

وبعد

هذه الفرحة بالحياة، لا توصف بأكثر مما هى، وجوه بناتى وأخواتى وأمهاتى، بل وأجسادهن المعبِّرةالطيبة المنطلقة،  كانت أبلغ من أى وصف، الفرحة الحقيقية لا توصف، هذه فرحة ليس  لها علاقة بالنصر الوقتى أو الهزيمة ، ولا بالمكسب والخسارة، ولا بالنجاح والرسوب، ولا بشخص بذاته، لقد نهانا ربنا أن نفرح “بما أتانا”، لكنه أبلغنا أن هذا ليس نهيا مطلقا عن الفرح، بل إنه لا يحب إلا الفرحان فرحة أخرى مثل التى وصلتنى الأن، يقول مولانا النفرى فى “موقف التيه”،  أنه قال له ” “وافرح فإنى لا أحب إلا الفرحان”، هذا الفرحان الذى يحبه الله يفرح بالحياة، يفرح بأنه إذا أحيا نفسا واحدة فقد أحيا الناس جميعا، يفرح بحب الله له ، هذه الفرحة عصية على الوصف فى ذاتها،

……

 ‏ليست‏ ‏فرحة، ‏

بل‏ ‏شىء‏ ‏آخر‏ ‏لا‏ ‏يوصف، ‏

إحساس ‏مثل‏ ‏البسمة، ‏

أو‏ ‏مثل‏ ‏النسمة‏ ‏فى ‏يوم‏ٍ ‏قائظْ، ‏

أو‏ ‏مثل‏ ‏الموج‏ ‏الهادئ ‏حين‏ ‏يداعبً‏ ‏سمكهْ،‏

أو‏ ‏مثل‏ ‏سحابة‏ ‏صيف‏ ‏تلثم‏ ‏برَدَ‏ ‏القمة، ‏

أو‏ ‏مثل‏ ‏سوائل‏ ‏بطن‏ ‏الأم:‏ ‏تحتضن‏ ‏جنينا‏ ‏لم‏ ‏يتشكل‏ ‏

…….

شئ ‏يتكور‏ ‏فى ‏جوفى ‏لا‏ ‏فى ‏عقلى ‏أو‏ ‏فى ‏قلبى،  ‏

وكأن‏ ‏الحبل‏ ‏السرى ‏يعود‏ ‏يوصلنى ‏لحقيقة‏ ‏ذاتى .. ‏

هو‏ ‏نبض‏ ‏الكون‏ ،وسر الحق، ونور العدل ‏

وبعد (مرة أخرى)

فبما أن الله أعطانا من جديد هذه الفرصة ، فكل ما أرجوه هو أن نحمده عليها، ونحن  نعيد التعرف على وعى شعبنا الأعمق الذى أحسن الاختيار، ولم ينس فضل من لم يوفق فى حمل كل هذه المسئولية،

أما الفائز، فدعونا نفرح به، ونفرح له بشكل آخر تماما، وهو أن نعاونه فى حمل الأمانة، دقيقة بدقيقة، ومشاركة بعمل، وصبرا بثقة بالآتى، وإصرارا على قبول التحدى,ورفض التبعية التى أعتبرها شركٌ ليس بالضرورة أخفى من دبيب النملة

“لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *