“يوميا” الإنسان والتطور
10-12-2007
العدد: 101
الطفل والتعدد والنمو والإبداع
مقدمة
يبدو (مرة أخرى) أنه لا مفر من استمرار فتح ملف “تعدد الذوات” فى التركيب البشرى، والذى اسميناه بالعامية المصرية، “أنا واحد ولاّ كتير” فثبت أنه اسم أبلغ دلالة، ذلك أننى بعد كل يومية فى هذا الموضوع أُلاحَقُ (أو أتصور أننى أُلاحَقُ) بتساؤلات أو اعتراضات أو حماس وتصفيق، أشعر من خلالها جميعا أننا بعيدون عن الإلمام بأبعاد القضية كما عاينتها وأريد توصيلها بشكل أو بآخر.
حين عرجت أمس إلى علاقة الإبداع بفكرة التعدد، أو بدقة أكثر، بحقيقة حركية التعدد، كنت آمل أن أنجح فى التأكيد على ما هو حركية فى هذه القضية، بديلا عن التوقف للتوصيف الساكن لذوات متعددة، مهما أوضحنا آليات وإعراب العلاقات بينها.
فإذا حاولنا مراجعة اختبار هذا الفرض كما تم فى برنامج “سر اللعبة” & مع أسوياء متطوعين، لوجدنا أن النجاح الذى تحقق نسبيا فى إثبات الفرض تمّ من خلال أن اللعب نجح فى تحريك الوعى نحو احتمالات ممكنة، دون فرض وجهة نظر بذاتها.
الذى زاد الأمور اهتزازا أو خطرا، لم يأت من ناحية المتحفظين والمترددين فى قبول الفكرة، بل من حماس الموافقين المختزِلين لها. من أهم أشكال الاختزال كان الاقتصار على استعمال بعض لغة نظرية التحليل التفاعلاتىTransactional Analysis، أقول “بعض” هذه اللغة وليس كلها، الثالوث الذى يستعمل عادة هو ثالوث حالات “الطفل“، “اليافع“، “الوالد“. نادرا ما قابلت من يعطى مستوى التحليل الفوقى أو البعدىMeta-analysis، أهمية كافية، وكذلك لا أحد يستعمل مفهوما أدق وربما أهم هو مفهوم “وحدات الآنا” أو “وحدات الذات”Ego Units.
التحليل البعدى يتكلم عن أن كلا من هذه الذوات الثلاث الأشهر هى فى ذاتها تحتوى طفلا ويافعاً ووالدا.
أما “وحدات الذات” فهى تعنى عددا بلا حصر من وحدات “فكر-وجدانية-سلوكية” معا، يعلوا بعضها بعضاَ، أو يتلو بعضها بعضاً.
ما أسهل أن نتكلم عن الطفل بداخلنا. أو أن فلانا مهما بلغ سنه أو شاعت عبقريته يتصرف بطفولة جميلة وطازجة، فيبدو طفلا كبيراً، المسألة ليست بهذه البساطة، كما أن هذه البساطة لا تخدم الفكرة (أو الحقيقة) بما تستحق.
البداية:
لعل البداية من حركية الإبداع قد وضعتنا أمام ما ينبغى تناوله بمزيد من التوضيح تدريجيا، وهو أن نواصل تقديم ما يدعم الفكرة (أو الحقيقة) من خلال تطبيقاتها وتجلياتها عند الأسوياء قبل المرض، أكثر من التنظير والمناقشات فإذا كنا قد بدأنا بالمتطوعين فى برنامج “سر اللعبة”، ثم عرجنا إلى شهادات المبدعين، فنحن اليوم نحاول أن نتبين مزيدا من معالم الأطروحة من خلال النظر فى الطفولة على مسار النضج.
مسار النمو وتشكيلات التعدد والواحدية:
- يولد الطفل وهو يحمل كل تاريخ التعدد الذى يمثل تشكيلات كل الأحياء التى كانها وتطور من خلالها، حتى أفرزته (بإذن الله).
- منذ هذا البدء يتناغم إيقاعه الحيوى الفطرى مع الإيقاع الحيوى الكونى لمُنطلق “الانفصال للأتصال”، ذلك لأن ولادته بشرا تعنى استعداده لأن يكون له وعى ذاتى: انفصالا مؤلما عن الوعى الكونى، فى طريقه إلى اكتساب وعيه الخاص دون خلعٍ مُبَاعد، بقدر ما هى تعلن بداية مسيرة طويلة واعدة.
- تتلاحق وتتابع بعد ذلك نبضات الإيقاع الحيوى للنمو والتناسق فيعيد الكائن البشرى تاريخه النابض، فى مراحل متعاقبة:
نعرف ويمكن أن ترصد بعضها،
ونستنتج بعضها.
ونتخيل بعضها
ونجهل أغلبها.
- وفى كل مرحلة، قصُرَتْ حتى الثوانى، أو طالت حتى السنوات يكون الإنسان الفرد واحدا ظاهرا فى لحظة بذاتها.
- وفى نفس الوقت هو يحتوى حركية التعدد (أو هو يحتوى التعدد حركية) نابضا من خلال دورات الإيقاع الحيوى.
- ومع كل نبضة نمو -التى قد تمتد سنين عددا خاصة فى أزمة المراهقة ومنتصف العمر- يعاد تشكيل التركيب البشرى بحيث تصبح العلاقة بين الكيانات ليست مجرد ترجيح كيان مناسب واحد ظاهر فاعل للموقف الآنى، وإنما عملية تخليق واحدية ضامة طول الوقت من خلال الإيقاع الحيوى المستمر (بطوْرَيه: الإستيعاب والبسط).
- تتخلق هذه الواحدية الضامة من جدل مستمر، فى تطور مستمر، يشمل أكثر فأكثر ما نجح أن ينضم إليها فيتمثلها لتظل نامية متوجهة إلى غايتها.
- لا تتحقق هذه الواحدية كاملة أبدا طالما ظل الإنسان هذا هو الكائن الذى نعرفه بشرا.
- وبالتالى يظل الإيقاع الحيوى نابضا على المستويات التى نعرفها والمستويات التى لا نعرفها، ويظل النمو مضطردا حسب الفرص المتاحة.
- توازيًا مع هذه المسيرة، يظل الإيقاع الحيوى الكونى متسقا متناغما –بدرجات مختلفة -بشكل أو بآخر مع الإيقاع الحيوى الذاتى (ربما مرورا بدورات نمو المجتمعات والحضارات).
- كلما تقدمنا فى مسيرة النمو تزايد احتمال تخليق الواحدية الضامّة التى تتناغم مع الإيقاع الكونىأكثر فأكثر باضطراد.
- فى أزمة الموت، يعود التناغم بين الوعى الذاتى والوعى الكونى متسقا بقدر نجاح نمو هذه الواحدية النابضة فى تناسق مع إيقاعية الكون توجها إلى وجه الحق تعالى.
حدس من الإبداع للطفل يدعم فرض التعدد.
تناولت قبلا رأيا أن الباحث هو أداة البحث وحقله فى دراسة الطفولة (والجنون) ، كذلك فإننى أرى أن المبدع (وهو باحث فائق إن صدق إبداعه) هو أيضا أداة إبداعه وهو يتحسس طريقة إلى عالم الأطفال، أو وهو يوجه خطابه للأطفال، أو وهو ينقد نصًّا عن الأطفال.
مقتطف دال، ومقتطف
سوف أحاول الآن عرض بعض ما يدعم فرض التعدد هنا من اقتطافات محدودة قمت بها ناقدا فى هذا المجال:
(1) من نقد نيتوتشكا نزفانوف: ديستويفسكى
ذكرت فى هذا العمل كيف تعلمت سيكولوجية الطفولة، وسيكولوجية النضج من ديستويفسكى أكثر مما تعلمته من كتب علم النفس والتربية، وسوف أقتصر على بضعة إشارات لأدوار تجلت فى الطفلة نيتوتشكا، هذه الأدوار هى ما قد نشير إليها أحيانا باعتبارها كيانات
منذ البداية بدت نيتوتشكا أمّا لأبيها كالتالى:
نيتوتشكا: ”حتى لأستطيع أن أقول أن هذه العاطفة تشتمل على شئ مما تشعر به الأم نحو إبنها من حب وقلق” (ص66)
وهى ذات نفسها تعلن غرابة الأمر (لنتعلم! وياليتنا نفعل) وهى تكمل:
”إن لم يكن مضحكا أن توصف عاطفة طفل بمثل هذا” (ص66)
يبدو أن الذى يحدد “مَنْ الوالد” و” مَنْ الطفل” ليس هو السن أو القُبل العُلوية أو مَنْ يجلس على ركبتىْ من، وإنما اتجاه الاعتمادية ونوع وعى كل طرف بالآخر:
فالأب هنا بدا هو الأضعف، إذن: فهو أولى بالطفولة!.
”كان يتراءى لى أن أبى حقيق بالرثاء، معذب، مضطهد” (ص66)
ثم بالتالى:
”وأن من الظلم ألا أحبه حبا قويا” (ص66)
”ومع أنى كنت طفلة، استطعت أن أنفذ إلى أعماقه” (ص102)
”لا شك أنه هو الطفل لا أنا، ما دام يحدثنى بهذه اللهجة عن أعدائه” (ص102)
وقد ظلت أمومتها لأبيها تلاحقها حتى فى أقسى لحظة فى حياتها حين تركها فى الشارع غدرا بعد وفاة والدتها، فبدلا من أن تثور عليه وترفضه أو على الأقل تعامله تَرْكَاَ بَتْركِ، ظلت تجرى وراءه لا لتحتمى به.. ولكن لترعاه:
”أخذت أعدو وراءه عدوا سريعا وقد تملكنى خوف مجنون.. ووجدت قبعته فى الطريق، لقد سقطت عن رأسه وهو يعدو فحملت القبعة وتابعت عدوى.. كنت أشفق على أبى، كان صدرى يختنق إذ أتذكر أنه بلا معطف، وبلا قبعة، بعيدا عني”
ثم تتجلى لنا نيتوتشكا فى تشكيلات وكيانات عدة أطفال بالتبادل غالبا، فثمة: الطفلة الدمية، الطفلة الطفلة، والطفلة الأخت، والطفلة الأم.
قد يقال إنها أوجه مختلفة لسلوكيات متنوعة (ومتناقضة) حسب المواقف المختلفة، لكن النقد ناقش ذلك وما وراءه من كيانات دون أن ينفيه.
ويمكن الرجوع إلى كل ذلك فى النقد الأصلى ، وفيه امتداد إلى مثل ذلك فى “قصة البطل الصغير” لديستويفسكى أيضا.
هانز كريستيان أندرسون
فإذا انتقلنا من ديستوفسكى إلى هانز كريستيان أندرسون، لراعتنا ثلاثة أمور
الأول: كيف عرف هذا المبدع الشاعر الجميل ذلك التركيب المتعدد النامى للأطفال إلا بأنه استطاع أن يحرك أطفاله بداخله
الثانى:كيف استطاع من خلال ذلك وغيره أن يخاطب الأطفال (بما فى ذلك الأطفال داخلنا)
الثالث: كيف بحدسه الشعرى والإبداعى رصد مسيرة النمو هكذا من خلال هذا التعدد.
قصة الظل (1)
سوف أثبت القصة كلها حتى استغل سماح المساحة (ما دمنا فى الموقع الرحب)،
ولأننى أشك أن اختزالها أو تلخيصهما يمكن أن يقوم بتشويهها،
كما أنى استبعد أن يكون القارئ (الزائر) قد قرأها، أو إذا كان قد قرأها أنه مازال يتذكرها.
القصة: (الظل)
(ص 75) (2) فى البلاد الحارة، حيث الشمس حارقة يصطبغ الناس بلون بنىٍّ تماما، وفى البلدان الأشد حرارة يحترقون حد السواد، ولكن هذا ولحسن الحظ كان يحدث فقط فى البلاد الحارة. طالبُ علم قد جاء البلاد الباردةِ واعتقدَ أن بإمكانهِ تدبر أمرَ ذلك، كما فى بلده. لكنه سرعان ما أقلع عن الفكرة، فهو وكل الناس العاقلين كان عليهم البقاء داخل بيوتهم.
مصاريع الشبابيك والأبواب مغلقة طوال اليوم، يبدو وكأن البيوت بمن فيها نيام، أو كأن لا أحد فيها. الأزقة الضيقة بين البيوت العالية، حيث يسكن، كانت هى الأخرى قد بُنيت أيضا بحيث تظلُ أشعة الشمس من الصباح إلى المساء هناك. لم يكن الأمر يطاق بالفعل! (ص 76) “طالب العلم” القادم من البلاد البادرة كان رجلا شابا، رجلا ذكيا، شعر بأنه قد جلس فى فرن ساخن. لقد تمكن الحر منه، هَزُلَ تماما، حتى ظله انكمش، صار أصغر بكثير مما كان عليه فى بلده، فالشمس قد أخذت منه مأخذا، لم يكونا، هو وظله، يعيشان إلا بعد مغيب الشمس عند المساء.
كان مثيرا للدهشة رؤيةُ الظل حال دخول الضوء إلى الصالة، وهو يتمدد عاليا على طول الجدار، بل وحتى السقف. لقد استطال كثيرا. كان عليه أن يتمطى ليستردَّ قواه. خرج طالب العلم إلى الشرفة ليتمدد هناك.
مع ظهور النجمة تلو الأخرى فى ذلك الجو الصافى اللطيف يشعرُ وكأنه يعود إلى الحياة مرة ثانية.
أطل الناس من كل الشرفات فى الشارع، ففى البلاد الحارة هناك لكل شباك شرفة، لأن المرءَ يحتاج إلى نسمة هواء، رغم أن المرء اعتاد أن يكون بلون بنى!
دبّت الحياة فى كل مكان فنزل الإسكافيون، الخياطون وكل الناس إلى الشارع. ووُضعتْ الطاولات والكراسى، وأوقدت الشموع، أجل، أكثر من ألف شمعة أُوقِدت. وهناك واحدٌ يحكى وآخرٌ يغنى، والناس تتمشى، العربات تروح وتجئ، والحمير تحمل أجراسا تصدر أصواتا “دنك دنك دنك”، وهناك جثمان يدفن ترافقه التواشيح، والأولاد يقذقون الحجر بنقافاتهم، وأجراس الكنائس تُدَقُ. أجل، كانت هناك حياة نشيطة فى الشارع.
ما عدا ذلك البيت المقابل، حيث يسكن طالب العلم الغريب، كان هناك هدوءُ مطبق. ومع ذلك فهناك يعيش أحدٌ ما، ففى الشرفة زهور انتعشت بحرارة الشمس، فهى لم تكن كذلك لو لم يتمْ سقيُها، إذ لابد من أحدٍ ما يسقيها، لابد من وجود أناس هناك. فُتِحَ باب الشرفة أخيرا فى وقت متقدم من ذاك المساء، وكان الداخل مظلما، على الأقل فى الغرفة الأمامية. ومن العمق ينبعثُ صوت موسيقى. (ص 77) دُهِشَ الرجل طالب العلم الغريب فذلك لم يكن له مثيلٌ، ولكن ذلك يمكنُ أن يكون مجرد خيالٍ لأنه وَجَدَ كلَّ شئ استثنائيا فى تلك البلاد الحارة، لو لم تكن هناك شمسٌ.
المؤجر قال بأنه لم يعرف من استأجر البيتَ المقابل، لم ير المرء أناسا، وأما ما يخص الموسيقى يعتقدُ هو بأنها مملة بشكل فظيع” وكأن أحدا ما قد جلس وتمرن على معزوفة لم يتمكن الخروج منها، دائما ذات المعزوفة، “سأخرج منها حتما!”، ولكنه لن يخرج منها، مهما طال عزفه”.
ذات ليلة صحا الغريب، إذ كان نائما وباب الشرفة مفتوح، ارتفعت الستارة أمامه بفعل الريح، واعتقد هو بأن لمعانا عجيبا جاء من شرفة الجار المقابل، كلُ الزهور التمعت كالشعلات بأجمل الألوان وفى وسط الزهور وقفت عذراء رشيقة مليحة، وكأنها هى أيضا أضاءت. غشى الضوء عينيه، ففتحهما على وسعهما، وبقفزة واحدة كان على الأرض. وبحذر خرج من خلف الستارة، ولكن العذراء كانت بحالة جيدة كما هى دوما. كان الباب مواربا، ومن العمق تتردد الموسيقى، عذبة وجميلة. وكان يمكن للمرء أن يسرح حينها كليا فى أفكار حلوة. كان الأمر فى الواقع كمشهد سحرى، من يسكن هناك ؟ وأين هو المدخل الحقيقى؟ كل الطابق الأرضى كان مقسماً إلى دكاكين متلاصقة، فلا يمكن للناس على أية حال دوما المرور من خلالها.
ذات مساء جلس الغريب فى الشرفة، كان الشمع من خلفه داخل الصالة موقدا، ولهذا كان من الطبيعى أن يكون ظلهُ على جدار جاره المقابل، نعم، استقر هناك بين الزهور تماما فى الشرفة، وعندما يتحرك الغريب، يتحرك الظل أيضا، وهذا هو الطبيعى.
“أظن بأن ظلى هو الوحيد الحى هناك”! قال الرجل طالب العلم “انظر، كم هو لطيف وهو يجلس وسط الزهور، الباب موارَبٌ، والآن على الظل أن يكون حاذقا ويمشى إلى الداخل، ينظر لما حوله ثم يأتى (ص 78) ويحدثنى عما رآه، نعم، عليك أن تقوم بعمل مفيد “قال مازحا” ادخل هناك، ماذا! هل ستذهب؟” ومن ثم أحنى رأسه إلى الظل، فأحنى الظل رأسه موافقا. “أجل، إذاً إذهبْ، ولكن لا تغبْ طويلا!”
نهض الغريب من مكانه فنهض ظله فى شرفة الجار المقابل أيضا، واستدار الغريب فاستدار الظل أيضا، أجل، لو انتبه أحد بشكل جيد لكان بإمكانه أن يرى بوضوح، أن الظل قد دخل من خلال باب الشرفة الموارب عند الجار المقابل، فى اللحظة التى دخل فيها الغريب صالته وترك الستارة الطويلة تنسدل خلفه.
فى اليوم التالى ذهب الرجل طالب العلم ليشرب القهوة ويقرأ بعض الصحف. “ولكن ما هذا!” قال عندما خرج تحت أشعة الشمس، “أين ظلى! إذاً لقد راح البارحة فعلا ولم يعدْ ثانية، إن هذا لأمر مؤسف!
أزعجه ذلك كثيراً، ليس لأن الظل اختفى، ولكن لأنه علم بأن هناك قصة ثانية لرجل بلا ظل، يعرفها الناس جميعا فى البلاد الباردة، والآن لو جاء طالب العلم نفسه وحكى قصته، سيقول الناس بأن هذه ليست قصته، وهو لم يكن بحاجة لذلك، لهذا لم يشأ إطلاقا التحدث عن ذلك، وهذا كان تفكيرا معقولا.
عند المساء خرج إلى الشرفة مرة أخرى، وضع الشمعة تماما خلفه، لأنه عرف بأن الظل يريد سيده غطاء له دوما، ولكنه لم يستطع غوايته كى يظهر. جعل من نفسه صغيرا، كبيرا، ومع هذا لم يكن هناك ظل، لم يكن هناك أحد! تنحنح، إحم! ولكن بلا جدوى.
كان الأمر محزنا، ولكن فى البلاد الحارة والتى ينمو بها كل شئ بسرعة فائقة، لاحظ ويا لسروره الكبير وبعد مرور ثمانية أيام بأن ظلا جديدا قد نما له، برز من قدميه عندما خرج إلى أشعة الشمس. لابد إن الجذر كان باقيا فى مكانه. بعد ثلاثة أسابيع صار لديه ظل لا بأس به. وعندما قفل راجعا إلى البلدان الشمالية، نما أثناء الرحلة أكثر وأكثر، حتى إنه أصبح أخيراً طويلا وكبيرا جدا حيث إن نصفه يكون كافيا، (ص79) ولما وصل طالب العلم إلى بلده ألف كتبا حول ما هو حقيقى فى العالم، وحول ما هو خير، وحول ما هو جميل. ومرت الأيام، والسنوات، سنوات عديدة.
وذات مساء وعندما كان جالسا فى صالته، نقر على الباب نقر خفيف.
“ادخل! قال طالب العلم، فلم يدخل أحد، قام وفتح الباب، فرأى انسانا نحيفا للغاية أمامه، اعتراه إثر ذلك شعور غريب بالمناسبة كان هذا الإنسان حسن الثياب، ومظهره يدل على أنه ذو حسب ونسب.
“من الذى تشرفنى مخاطبته ؟” قال طالب العلم.
“نعم، هذا ما فكرت به!” قال الرجل الأنيق” حضرتك لم تتعرف على! لقد صار لى جسم، لدى الآن وفر من اللحم والثياب. حضرتك لم تفكر أبدا بالتأكيد فى يوم ما بأن ترانى بهذا الجاه. ألم تتعرف حضرتك على ظلك القديم؟ نعم، بالتأكيد لم تعتقد حضرتك بأنى سأعود ثانية. معى سارت الأمور بشكل جيد للغاية منذ آخر مرة كنت فيها عندك. لقد صرت صاحب ثروة ونفوذ! لو كنت عبدا فبإمكانى شراء حريتى!” خرخشتْ المسكوكات الثمينة التى كانت معلقة بالساعة عندما أمسك بيده السلسة الذهبية السميكة التى حملها حول رقبته، ياللروعة فالأصابع كلها تلمع بالخواتم الماسية! وكلها أصلية.
“هل أنا فى وعيى! “تساءل الرجل طالب العلم، ” ما كل هذا!”
“معك حق، ليس الأمر عاديا، قال الظل، ولكنك أيضا لست من العامة، وأنا تعرف تماما حضرتك، مشيت منذ نعومة أظفارى على خطاك. حالما تأكدت بأنى قادر لأن أتدبر شأنى وحدى شققت طريقى الخاص بنفسى، أنا الآن فى عز تألقى ولمعانى، لكن داهمنى نوع من الحنين لرؤية حضرتك، قبل أن تموت حضرتك، أنت تعرف بأن حضرتك ستموت ! أنا أود لو أرى مجددا تلك البلدان، لأن المرء يحن بالتأكيد دوما إلى أرض أجداده! وعلمت بأن حضرتك قد حصلت على ظل (ص 80) جديد من جديد، أمدين أنا لحضرتك أو له بشئ لأدفعه؟ حضرتك تأمر.”
“أحقا هو أنت!” قال طالب العلم، “إن هذا لأمر غريب جدا! لم أعتقد يوما بأن ظلا قديما لإنسان ما يمكن أن يعود بهيئة إنسان!”
“قل لى، كم على أن أدفع! قال الظل، “فأنا لا أحب أن تكون على ديون من أى نوع!”
“كيف لك أن تقول هذا! “قال طالب العلم. “ما علاقة هذا بالديون! لتتحرر كأى شخص آخر! يسعدنى جدا أن يوافيك الحظ! إجلس أيها الصديق القديم، حدثنى ولو قليلا، كيف حدث ذلك، وما الذى رأيته عند الجار المقابل هناك فى البلاد الحارة!”
“نعم، سوف أخبر حضرتك، “قال الظل وجلس، “ولكن على حضرتك أن تعدنى، بألا تخبر احدا هنا فى المدينة، وحيثما تلقانى، بأننى كنت ظل حضرتك! ففى نيتى أن أخطب فتاة، لأن بمقدورى الآن إعالة أكثر من عائلة!
“إطمئن تماما!: قال طالب العلم، “لن أخبر أحدا عن حقيقة من تكون! هاك يدى، أعدك والرجل كلمة!”
“الكلمة ظل!“
قال الظل، ولم يمكنه قولها بغير هذا الشكل.
وغريب كم بدا ذلك الظل إنسانا، بلباسه الأسود، والذى كان من أرقى الثياب، والجزمة اللامعة، والقبعة التى يمكن أن تطبق فلا يظهر منها غير أعلاها وصيوانها، عدا عن الذى عرفناه من قبل من مسكوكات، وسلسلة العنق الذهبية وخواتم الألماس. أجل، الظل كان أنيقا بشكل غير عادى، وهذا كان بالضبط ما جعله يبدو وبالفعل إنسانا.
“والأن دعنى أخبرك!” قال الظل، وخبط بالجزمة اللماعة الأرض بكل ما أوتى من قوة على ذراع الظل الجديد لطالب العلم، والذى استقر ككلب البودل عند قدميه، وكان هذا إما لحماسته، أو لأنه أراد من الظل الجديد أن يواصل الإصغاء. وبقى الظل المستلقى ساكنا هادئا (ص 81) حريصا على الإنصات. هو بالتأكيد يود معرفة كيف يمكن للمرء أن يتحرر هكذا ويرتقى ليصير سيد نفسه.
“هل عرفت حضرتك من الذى كان ساكنا فى البيت المقابل؟” سأل الظل”. كان أجمل الكل، كانت روح الشعر! كنت هناك لثلاثة أسابيع، كان مفعولها كما لو كان المرء قد عاش لثلاثة آلاف سنة وقرأ كل ما نظم وكتب من شعر، ولأنى أنا الذى أقول، فهو صحيح، لقد رأيت كل شئ وأعلم كل شئ!”
“روح الشعر!” صاح الرجل طالب العلم!” نعم، نعم، إنها متصومعة دوما فى المدن الكبرى! روح الشعر! أجل، لقد رأيتها مرة خطفا، ولكن النعاس لحظتها قد أطبق على عينى! كانت تقف فى الشرفة، أشرقت كما يشرق الشفق الشمالى! إحك، إحك! كنت فى الشرفة، دخلت عبر الباب، ثم..!” سأل طالب العلم.
“ثم صرت فى الممر الموزع!” قال الظل. “حضرتك كنت دائما تجلس وترنو إلى الممر. لم يكن هناك ضوء نهائيا، فهناك ما يشبه الشفق، ولكن الأبواب كانت جميعا مفتوحة الواحد على الآخر على طول الصالات والقاعات، وهناك أضئ المكان، لو كنت دخلت حيث العذراء لكنت قد مت، لكنى كنت متأنيا، أخذت بعض الوقت للتفكير، هذا عين الصواب!”
“وما رأيت بعدها؟” سأل الرجل طالب العلم.
“رأيت كل شئ، ولسوف أحكى لحضرتك، ولكن، ليس اعتزازا بنفسى، ولكن، ككائن حر وبهذه القابليات التى لدى، إضافة إلى وضعى الجيد وأحوالى الحسنة، أتمنى من حضرتك لو تخاطبنى بشكل رسمى!”
“المعذرة!” قال طالب العلم، “إنها عادة قديمة متأصلة! حضرتك على حق تماما! ولسوف أتذكر ذلك، ولكن الآن ستخبرنى حضرتك عن كل شئ رآه حضرتك!”
“كل شئ” قال الظل، “لاننى رأيت كل شئ، وأعلم كل شئ!” (ص 82) “كيف بدت الصالات فى عمق البيت؟ “سأل طالب العلم.
“هل كان مثل دخول فى غابة نضرة أو كدخول إلى كنيسة مقدسة؟ وهل كانت الصالات كبيرة مفتوحة وكأنها السماء المرصعة بالنجوم عندما يقف المرء على الجبال العالية؟”
“كل شئ كان هناك” “قال الظل. “حقيقة لم أدخل تماما إلى الداخل، بقيت فى الغرفة الأمامية عند الشفق، ولكنى كنت واقفا بمكان مناسب، رأيت كل شئ، وأعلم كل شئ!، لقد كنت مع حاشية روح الشعر فى الممر الموزع”.
ولكن ما الذى رأه حضرتك؟ هل مر بالقاعات الكبيرة كل آلهة العصر القديم؟ هل حارب هناك الأبطال القدماء؟ هل لعب الأطفال الجميلون وحكوا عن أحلامهم؟”
“أقول لحضرتك، كنت هناك، هل بإمكانك أن تدرك، رأيت كل ما يمكن أن يرى! لو جئت حضرتك هناك، لما صرت إنسانا، ولكننى صرت” وعرفت طبيعتى أيضا، وما خلقت عليه، علاقتى العائلية بروح الشعر. أجل، عندما كنت مع حضرتك فى ذلك الزمن لم أفكر بذلك. ولكن بشروق الشمس، بغيابها، كما تعرف حضرتك، صرت كبيرا بشكل غريب على ضوء القمر كنت أوشك تقريبا أن أصير أوضح من حضرتك. لم أفهم وقتها طبيعتى، أدركت ذلك فى الممر الموزع! صرت إنسانا! خرجت راشداً، كنت حضرتك حينها قد تركت البلاد الحارة، خجلت من نفسى، كإنسان، بأن أخرج بالطريقة التى خرجت بها. احتجت إلى جزمة، لباس، إلى كل تلك الهيئة الإنسانية، التى تجعل إنساناً ما مُعَرّفا. انطلقت، أجل، أقولها لحضرتك وحدك، ولن تذكر حضرتك هذا فى كتاب، تسللت داخل تنورة الخبازة، اختفيت تحتها. لا تعلم تلك المرأة بما خفى تحت تورتها، لم أخرج إلا عند حلول المساء، تنقلت من مكان لآخر تحت ضوء القمر فى الشارع. أطلت قامتى على طول الجدار، ذلك يدغدغ الظهر بشكل لذيذ! ركضت إلى الأعلى، وركضت إلى الأسفل، نظرت عبر أعلى النوافذ، إلى الداخل (ص 83) فى القاعة وعلى السقف، نظرت فى أمكنة لا يمكن لأحد أن يصلها، ورأيت ما لا يمكن لأحد أن يرى. وما لا يجب لأحد أن يرى! إنه عالم وضيع! لم أشأ أن أكون إنسانا، لو لم يكن هذا الأمر ذا اعتبار ومقرر من الجميع! رأيت كل ما لا يخطر على بال بين النساء، عند الرجال، عند أولياء الأمور، والأطفال الذين لا يضاهيهم أحد. “علمت” قال الظل، “ما لا يجب لإنسان أن يعلم، ولكنه يتحرق لمعرفته، كمصاب الجار، لو كتبت جريدة، للاقت رواجا! ولكنى كنت أكتب للشخص المعنى تحديدا، فيحل رعب فى كل المدن التى أحل بها. صاروا يخافون منى كثيرا! ولهذا أحبونى كثيرا! البروفيسورية جعلوا منى بروفيسوراً، الخياطون أعطونى لباسا جديدا، لهذا أنا مجهز بكل شئ، والذى يسك النقود سك لى نقوداً، والنساء قلن لى بأننى جميل جدا! وهكذا صرت الرجل الذى أنا عليه اليوم! والآن أودعك، هاك بطاقتى، أسكن فى جهة الشمس، وعلى الدوام فى البيت فى الجو الممطر! وخرج الظل.
“عجيب غريب!” قال طالب العلم.
مرت السنون والأيام، وجاء الظل مرة أخرى وسأل، “كيف تسير الأمور؟”
“أوه” قال الرجل طالب العلم، “أكتب عن الحقيقة والخير والجمال، ولكن لا أحد يعجبه سماع شئ من هذا القبيل، أنا بالفعل يائس، لأن ذلك يغمنى.
“لكن أنا لاّ! “قال الظل” أنا اصير أسمن، وهذا ما يجب على المرء أن يحرص على أن يكونه! نعم، حضرتك لا تفهم حقيقة هذا العالم، ستمرض حضرتك من جراء ذلك، وعلى حضرتك أن تسافر! سأقوم برحلة فى الصيف، هل ترافقنى حضرتك؟ أتمنى أن يكون لدى رفيق سفر! هل ترغب حضرتك بالسفر معى، كظل؟ إنها لمتعة كبيرة أن تكون حضرتك معى، أنا أتكفل مصاريف الرحلة!”
“إن هذا لكثير!” قال طالب العلم.(ص 84) “ذلك يعتمد على رؤية المرء للأمر! “قال الظل”، ستجنى الكثير من السفر! إن قبلت أن تكون ظلى، ستحصل على كل شئ مجانا فى الرحلة!”.
هذا جنون! “قال الرجل طالب العلم.
“هكذا هو العالم اليوم! “قال الظل”، وهكذا سيبقى وراح الظل.
لم يكن الرجل طالب العلم على ما يرام. الحزن والعذاب طارداه، وما قاله عن الحقيقة والخير والجمال، كان بالنسبة للغالبية كإهداء وردة لبقرة! وأصبح أخيرا مريضا بالفعل.
“تبدو حضرتك بالفعل كظل” قال الناس لطالب العلم فاقشعر بدنه للقول، لأنه كان يفكر بذلك.
“يجب على حضرتك أن تقصد حماما صحيا!” قال الظل، الذى جاء لزيارته، “لا حل غير ذلك! سآخذ حضرتك معى من أجل معرفتنا القديمة، أنا أدفع تكاليف الرحلة، أما حضرتك فعليك الكتابة وشئ من قبيل الترفيه عنى فى الطريق! لأنى أود الذهاب إلى حمام صحى، لحيتى لا تنمو كما يجب، إنه مرض، واللحية لابد منها! كن حضرتك عاقلا واقبل العرض، سنسافر كأصدقاء!”.
وسافرا معا، الظل كان هو السيد، والسيد كان الظل. انطلقا سوية، ركبا العربة ومشيا معا، جنبا إلى جنب، أمام وخلف، حسب موقع الشمس. الظل حرص على الجلوس دائما بمكن السيد، أما طالب العلم فلم يفكر هكذا بالأمر، كان ذا قلب طيب، ورقيقا ولطيفاً جدا، وذات يوم قال للظل: “بما أننا أصبحنا رفيقى سفر، كما نحن الآن، ونحن أيضا قد نشأنا منذ الطفولة معا، ألا نشرب نخب رفع الكلفة بيننا، إنه أمر أكثر ألفة!”
فرد الظل الذى كان هو السيد الآن “سمعت حضرتك، فاسمعنى الآن، قولك مباشر وصريح وبنية حسنة، وأود أنا أن أكون حسن النية وصريحا أيضا. حضرتك كطالب علم، تعرف بالتأكيد كم هى غريبة.(ص85) طبيعة الإنسان. بعض الناس لا تتحمل أن تمس الورق الأسمر، تتأذى من جراء ذلك، آخرون تقشعر أبدانهم لمجرد سماعهم أزة مسمار على زجاج نافذة، ينتابنى شعور كهذا لمجرد أن أسمعك تنادينى بـ أنت أشعر وكأننى قد سحقت على الأرض تماما كما فى خدمتى الأولى عند حضرتك. كما ترى حضرتك إنه شعور، وليس تعاليا. لا أستطيع أن أسمح لحضرتك أن تقول لى : أنت، هكذا، ولكنى أود مناداتك بـ أنت بدل لحضرتك، وبهذا نكون قد رفعنا نصف الكلفة “.
وبدأ الظل بمخاطبة سيده السابق مباشرة.
إن هذا لجنون ولا شك،” فكر طالب العلم”، أن أناديه بحضرتك وهو ينادينى بإسمى!” وهو لايملك إلا أن يتحمل هذا الأمر.
وجاء المصح كان فيه الكثير من الغرباء ومن بينهم إبنة ملك جميلة، كانت تشكو من علة وهى أنها نافذة البصيرة، وهذا ما كان يثير القلق.
انتبهت ابنة الملك لهذا الذى دخل فى الحال، كان شخصا يختلف تماما عن الباقين، قيل انه جاء ليجعل لحيته تنمو، ولكنى أرى أن السبب الحقيقى أنه بلا ظل.
تملكها الفضول، وراحت تتحدث بالحال مع السيد الغريب أثناء تمشيهما. كإبنة ملك لم يكن الأمر يحتاج للكثير من المقدمات، قالت “مرضكم هو أن حضرتك لا تستيطع أن ترمى ظلا” لابد وإن جلالتكم بتحسن! قال الظل، “أعلم بأن مرض حضرتك هو نفاذ البصيرة، ولكنه صار أخف وطأة، لقد شفيت حضرتك، فلدى الآن ظل غير اعتيادى! ألا ترين حضرتك ذلك الشخص الذى يسير دوما معى! فأناس آخرون لديهم ظل اعتيادى، ولكننى لا أحب ما هو اعتيادى. الناس فى الغالب تلبس خدمها أفضل لباس، أنا هذبت ظلى وجعلت منه إنسانا! أجل، وكما ترين حضرتك، فقد منحته ظلا أيضا.
ذلك مكلف جدا، ولكنى أحب أن أملك ما هو متميز !
ماذا ؟ فكرت الأميرة، هل شفيت فعلا!، هذا الحمام هو الأول (ص86) من نوعه فى فعاليته! يا للماء فى وقتنا هذا من قوى عجيبة. ولكنى لن أسافر، لأن الأمر أصبح الأن مسليا، يعجبنى هذا الغريب بالفعل. علَّ لحيته لا تنمو، كى لا يسافر!”
فى المساء رقصتْ الأميرة والظل فى قاعة الرقص الكبيرة. كانت خفيفة، ولكنه كان أخف. لم تر راقصا مثله قط. أخبرته من أى بلد جاءت، وقد عرف البلد، حيث كان هناك، ولكنها فى ذلك الوقت لم تكن فى القصر، نظر عبر النوافذ العليا والسفلى، رأى كل شئ، ولذا فقد تمكن من إجابة إبنة الملك ملمحا لها بعض التلميحات مما جعلها تتعجب. لعله أكثر الرجال حكمة فى العالم كله! أكنَّتْ تقديرا لمعرفته، وعندما رقصا معا مرة ثانية وقعت فى حبه، وقد شعر الظل بذلك، لأنها كانت قادرة على سبر غوره. ومن ثم رقصا مرة أخرى، وكانت على وشك أن تقولها، ولكنها كانت متعقلة. فكرت ببلدها والمملكة والناس الذين ستحكمهم. “هو رجل حكيم!” قالت لنفسها، “هذا جيد!” وهو راقص جيد، هذا أيضا جيد، ولكن يا ترى هل لديه إلمام عميق بمختلف العلوم والمعارف، هل له ذات الأهمية، يجب أن يتم اختباره”. وهكذا بدأت قليلا قليلا بسؤاله عن أصعب الأشياء، حتى التى لاتعرف لها جوابا. تغيرت معالم وجه الظل.
“لايمكن لحضرتك أن تجيب!” قالت ابنة الملك؟
“إنه سؤال يوجه للمبتدئين، “قال الظل،” حتى ظلى هناك عند الباب يمكنه الإجابة عليه!”
ظل حضرتك؟ قالت إبنة الملك، “إنه أمر شديد الغرابة”.
“نعم، لا أقول بالتأكيد إنه يعرف!” قال الظل، “ولكنى اعتقد ذلك، لقد تبعنى لسنين عديدة وأطاعنى، أعتقد ذلك! ولكن لتسمح لى جلالتكم، أن ألفت انتباهكم إلى إنه مزهو جدا بسبب النظر إليه كإنسان، فيجب أولا أن يكون بمزاج حسن لكى يجيب جيدا على السؤال، ومن ثم عليك معاملته كإنسان بالضبط”.
“هذا ما أحبه!” قالت إبنه الملك.(ص 87) وتوجهت حيث طالب العلم عند الباب، تحدثت معه حول الشمس والقمر، وحول الناس، خارجهم وداخلهم، فأجابها بذكاء ودقة.
“أى رجل عساه أن يكون، هذا الذى لديه ظل حكيم بهذه الدرجة!” فكرت الأميرة، “سيكون هذا بركة لناسى والمملكة إن اخترته زوجا لى: سأفعلها!”
واتفقت إبنة الملك والظل، فى الحال على ذلك، ولكن لا أحد يجب أن يعلم عن ذلك قبل أن تعود إلى مملكتها.
“لا أحد، ولا حتى ظلى!” قال الظل، وكان له قصد فى ذلك!
وجاءا بعد ذلك إلى البلد الذى تحكم فيه إبنة الملك.
“إسمع يا صديقى العزيز!” قال الظل لطالب العلم، “الآن صرت أكثر الناس سعادة وسلطة، الآن أود أيضا أن أفعل شيئا خاصا لك! ستسكن عندى دوما فى القصر، تركب معى فى عربتى الملكية، وتحصل على مئة ألف درهم سنويا: ولكن عليك أن تسمح للناس بمختلف طبقاتهم بأن يخاطبوك كظل: عليك ألا تخبر أحدا بأنك كنت فى يوم ما انسانا، مرة فى السنة عندما أظهر نفسى لتحية الناس فى الشرفة تحت أشعة الشمس، عليك أن تمكث عند قدمى كما يجب على الظل أن يفعل! أخبرك بأنى سأتزوج إبنة الملك، وسيقام حفل الزفاف هذا المساء.”
“لا، إن هذا لقمة الجنون!” قال طالب العلم”. لا أقبل هذا، لن أفعل ذلك! أن تخدع البلد بأكمله وإبنة الملك! سأقول كل شئ! بأنى انسان، وبأنك الظل، وأنت مجرد ثياب!”
“لن يصدق احد هذا!” قال الظل، “تعقل وإلا ناديت عليك الحرس!”
“سأذهب بالحال إلى ابنة الملك!” قال طالب العلم. “سأذهب قبلك!” قال الظل، “سيقبض عليك”. وهذا ما حصل، لأن الحرس أطاعوه، لأنهم يعرفون بأن هذا ما تريده إبنة الملك.
“أنت ترتعد!” قالت إبنة الملك عندما دخل عليها الظل،” هل(ص 88) حدث شئ ما؟ لا يجب أن تمرض هذا المساء، فلدينا حفل زفاف.”
“شهدت أفظع ما يمكن لإمرئ أن يشهد!” قال الظل، “تصورى، إن دماغ ظلى المسكين لا يستطيع أن يحتمل كثيرا! تصورى، ظلى صار مجنونا، يعتقد بأنه إنسان، وأنا تصورى أنت، أنا ظله!”
“هذا أمر مريع!” قالت الأميرة، “حبسته بالتأكيد؟”
“أجل! لا أعتقد أبدا بأنه سيشفى.”
“مسكين هذا الظل!” قالت الأميرة، “إنه تعيس جدا، من الأفضل تحريره من الحياة المتبقية له، وفى الحقيقة عندما أفكر فى ذلك، أجد من الضرورى التخلص منه سرا!”
“ذلك صعب جدا!” قال الظل، “لأنه كان خادما مخلصا!” ومن ثم أطلق ما يشبه حسرة.
“حضرتك نبيل!” قالت إبنة الملك.
فى المساء كانت المدينة مضاءة بأكملها، والمدافع تطلق: بم! والجنود يقدمون عرضا ببنادقهم. كان حفل زفاف حقيقيا! ظهر الظل وابنة الملك فى الشرفة ليحييهما الناس ويهتفوا لهما ابتهاجا بالمناسبة، هوراه!
ولم يسمع طالب العلم شيئا من كل هذا، لأنهم كانوا قد تخلصوا منه
كتبت فى عام 1847
القراءة:
وودت لو أننى لا أكتب أى تعليق، وأترك للقارئ أن يتعرف بنفسه على الكيانات التى تجلت فى القصيدة القصة، وهى تجرى كلها تقريبا فى ساحة النفس، حالة كونها تنمو، وأن يلاحظ تبادل الأدوار، ورحلات الذهاب والعودة، والساحة الداخلية، ومحاولات التوفيق وأخيرا اختفاء طالب العلم لحساب “القادم”
قد أرجع لكل ذلك تفصيلاً لكننى أكتفى الآن هنا بإثبات ما سبقتُ إلى الاشارة إليه.
……….
……….
نلاحظ حيوية الحوار، ثم تجسد الظل إنسانا وبالعكس،
ثم الاختفاء والظهور،
ثم غلبة الظل متكاملا كأنه الأصل.
قصة الظل هذه عمَّقت التقابل بين “روح الشعر” (كيانا حقيقيا) وبين “طالب العلم” المعلوماتى الظاهر الوصّى،
لم يخطئ أندرسن فيتمادى فى الاستقطاب بين الظل الذى استوعب روح الشعر، وبين طالب العلم، ليفضّل أحدهما على الآخر فى مناظرة مسطحة، وإنما مضى ليجعل رحلة “الظل” رحلة معرفية إبداعية شديدة العمق دون إلزام بتنافس سطحى مع “طالب العلم”.
إن رحلة “الظل” إلى “روح الشعر” لم تكن حكرا على “الظل”، فهذا الأخير يخاطب صاحبه “طالب العلم” بعد أن التقاه لقاء الند للند فيشرح له كيف أن فرصة لقاء “روح الشعر” مفتوحة لمن يريد، على شرط أن يتقدم إليها لا أن يجلس فى الشرفة ينتظرها،
يقول “الظل” “لطالب العلم: “…. حضرتك كنت دائما تجلس وترنو إلى الممر، لم يكن هناك (عند الجار الغامض) ضوء نهائيا، فهناك ما يشبه الشفق، وكل الأبواب كانت جميعا مفتوحة على الآخر على طول الصالات والقاعات..”.
خيل إلى أن اختفاء طالب العلم فى النهاية لم يكن لحساب الظل المتِأنسن، وإنما لحساب روح الشعر
وصلنى أيضا أن أندرسن قدم فرصة الإبداع تكاملا باعتبارها فرصة لكل الناس دون استثناء. هى ليست حكرا على صفوة موهوبة إذن،
يدور الحوار بين طالب العلم وظله بعد عودته من رحلته المعرفية الواعدة بتخليق ذاته (ذواته معا) وقد تجسد إنسانا، يدور الحوار بمنتهى الاحترام التلقائي، ثم بناء على إصرار “الظل” على أن يخاطبه “طالب العلم” بـ “حضرتك…” حتى لو لم يفعل نفس الشئ بالمقابل. الاستقطاب المباعْدِ بين المتحاورين لم يكن مطروحا، فالظل لم يكن هو “حالة الذات الطفلية الحرة المنطلقة” (حسب نظرية التحليل التفاعلاتي) مع أنه كان يمثل الحرية والبحث عن المعرفة الأخرى، كان نحيفا لكنه يافع تماما، وقوى، وواثق من نفسه، ومطالب بحقوقه برغم شكواه من أن “لحيتى لا تنمو كما يجب” إشارة إلى أن النضج لم يتم.
الاحترام هنا ليس التبجيل التقليدى بقدر ماهو الاعتراف المتبادل
بحدس إبداعى فائق يدرك أندرسن، فيبيّن كيف أن التكامل بين الذوات إنما يتم بالتصالح والمواكبة، لا بالتبادل المستقطب، ولا بالتسوية المائعة، حتى قال طالب العلم للظل ذات يوم وهو يرافقه بناء على اتفاق طيب“..بما أننا أصبحنا رفيقَىْ سفر كما نحن الآن، ونحن أيضا قد نشأنا منذ الطفولة معا، ألا نشرب نخب رفع الكلفة بيننا، إنه أمر أكثر ألفة”.
فى نفس الوقت يعلن حدس أندرسون كيف استطاعت الأميرة أن تنتبه إلى أن “الظل” حين جاء إلى المصح لم يحضر “حتى..يجعل لحيته تنمو، ولكنى أرى السبب الحقيقى أنه بلا ظل“، (بلا هوية إلا بمن يكملها) فنتذكر كانديرا فى “الكائن الذى لا تحتمل خفته” وبدرجة أقل نتذكر فتحى غانم فى “الرجل الذى فقد ظله”.
أنظر أيضا ما ورد على لسان “الظل” فى عبارة عابرة وهو يحاور صاحبه “طالب العلم”، فيكشف عن دور الإيقاع الحيوى اليوماوى Circadian جنبا إلى جنب مع “الأزمة المفترقية” Cross-Roads crisis:(3)]يقول لصاحبه بعد عودته “… أقول لحضرتك، كنت هناك، هل بإمكنك أن تدرك ما يمكن أن يُرى؟…عرفت طبيعتى أيضا وما خلقت عليه، علاقتى العائلية بروح الشعر، أجل، عندما كنت مع حضرتك فى ذلك الزمن لم أفكر بذلك، ولكن بشروق الشمس، بغيابها، كما تعرف حضرتك، صرت كبيرا بشكل غريب، على ضوء القمر كنت أوشك تقريبا أن أكون أوضح من حضرتك، لم افهم وقتها طبيعتي ـ أدركت ذلك فى الممر الموزع، صرت إنسانا، خرجت راشدا”.
الراشد، المتكامل الذى قال إريك بيرن أنه غاية النمو توليفا بين الذوات الأساسية الثلاثة لم يتضح أبداً حتى باعتراف صاحب النظرية نفسها إريك بيرن، أندرسون هنا يشير إليه بسلاسة دون أن يختزله.
نعقّب نحن أن المفروض أن هذا الراشد المتكامل يظل مشروعا ناميا فعلا لا يتكامل أبدا كما ذكرنا فى المقدمة.
وبعد
أمامنا سبيلان للتعليق على مثل هذا الإبداع الكاشف:
نحن إما أن نتكلم عن خيال المؤلف وحدسه وشاعريته التى سمحت له بهذا التوليف الكاشف المضئ وكأن المسألة خيال وإبداع منسوج.
وإما أن نستلهم من هذا العطاء أن داخل هذا المبدع من الكيانات المرنة القادرة على التحّرك فى الزمان نكوصا إبداعيا أو فى المكان جدلا آنيا، وإلى الوعد توجها نمائيا، وأن هذا هو الذى أتاح أن يصل عمق فكرة النمو قبل أن تُنَظَّر علما بقرن أو اثنين.
الساحة –فى القصة-كلها هى فى الداخل حين يتجلى تركيب النفس البشرية، وحركيتها، ونبض كياناتها فى عملية التكامل المتصاعدة أبدا.
الخلاصة :
إذا كنا قد تحركنا نحو قبول فكرة (حقيقة) التعدد من خلال حركيتها، وليس رصدها أو صفها، وكنا قد فعلنا ذلك ونحن نرصد حركية الإبداع عامة، ثم حركية مسار النضج الممتدة (من خلال عينة للإبداع عند الطفل) فإنه بقى أن نربط مفهوم التعدد بفاعلية ممارسته –وليس بضرورة الوعى به – بشكل براجماتى فى العلاج أو النمو أو الابداع بمختلف تجلياته بما فى ذلك حركية الإيمان.
[1] – هذا الجزء مقتطف من مقال نقدى أطول للكاتب ظهر فى وجهات نظر، باسم أطفالنا بين روح الشعر ونظم الحكمة، مارس 2005
[2] – هانز كريستيان اندرسون، جريدة القاهرة “الجزء الثانى”، دار المدى، 2005
[3] – دراسة فى علم السيكوباثولوجى، دار عطوة، 1979