الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / تعدد الكيانات وحركية الإبداع

تعدد الكيانات وحركية الإبداع

“يومياً” الإنسان والتطور

9-12-2007

العدد: 100

تعدد الكيانات وحركية الإبداع

مقدمة:

يبدو أن موضوع تعدد الكيانات (الذوات) سوف يجد فرصة فى هذه اليومية ليأخذ حقه من الحوار والجدل والقبول والرفض، أكثر مما حدث حين تناولتهُ كتابةً فى مواقع أخرى سابقة، فمنذ كتبت فيه المقال التنظيرى الأول الذى أشير إليه كلما عرجنا إلى هذا الموضوع “الوحدة والتعدد فى الكيان البشرىأكتوبر 1981 فى الإنسان والتطور، ثم كتبت حوالى أربعة عشرة مقالة فى تلك الصحيفة اليومية الخفية التى استضافتنى تسعة أشهر لم يصلنى خلالها تعقيب واحد يسمح لى بمعرفة ما وصل للناس مما أكتب، أو يتيح لى فرصة أن أناقشه أو يعّدلنى، أو يطورنى، منذ ذلك الحين، وانا أمارس مهنتى، وربما حياتى من هذا المنطلق، منطلق هذه الفكرة (دون أن أدرى فى كثير من الأحيان) إلى أن جاءت هذه الفرصة لإعادة فتح الملف هكذا من خلال هذه اليومية، وإذا بالنقاش يدور أكثر جدية، وربما أبعد أثرا.

 لعل أهم ما دعانى إلى فتح الملف على مصراعيه هو محاورتى مع كل من د. أسامة عرفة، ورامى عادل يوم الجمعة الماضى، بالإضافة إلى ما وصلنى من د. محمد يحيى الرخاوى من مقال نشر فى باب “المحررون الزوار” باسم “الوحدة والتعدد فى التركيب البشرى .. كيف؟ إلى أين؟”، ثم فوجئت هذا الصباح بوصول تعليق آخر عن نفس الموضوع بشكل يسمح باستمرار الحوار، بل توجيهه.

لكن يبدو أن المسألة تجاوزت أن يحتويها حوار يوم الجمعة، فهى تلحُّ فى مواجهة أشمل بمسئولية أعمق، ولغة أقدر.

فتصورت أن تحديث هذه السلسلة من المقالات التى ظهرت يوما فى تلك الصحيفة اليومية الخفية، يمكن أن يكون أرضية مناسبة لحوار مسئول ممتد.

فنبدأ اليوم بعلاقة هذه التعددية بالإبداع

الحركة هى الحل

وصل بنا الأمر، حتى ونحن نبحث عن تعريف للفطرة، أن اعتبرنا أنها “الحركة الطبيعية إلى ما هى إليه”، وليست كيانا فجاًّ، أو قيمة أولية، وبذلك يستحيل أن نترادف الفطرة مع البدائية، ثم تكرر هذا التوجه للتأكيد على الحركة والجدل والتوجه والدال قبل المدلول، كل ذلك فى مقابل التنبيه إلى الحذر، من التوقف عند التشريح والتوصيف والمحتوى، وتوفيق الأوضاع، أو دوامية الصراع.

السبيل الأمثل لحل إشكال مواجهتنا بهذا التهديد المسمى “التعدد” (تهديد بما هو “حقيقة”!!) هو تبنى فكرة الحركة فى مواجهة الحركة، ولأنى جاهل فعلاً بما يسمى الطبيعة الحديثة والرياضية الحديثة، وعلم نفس اللغة، وعلم الشواش وعلم التركيبية والعلم المعرفى، فإننى أطمع من خلال جهلى هذا أن يكون فى عطاء هذه العلوم مجتمعة ما يمكننا من أن نستوعب معنى “حركية” فى مواجهة “حركية”، بما فى ذلك حركية الراصد والمرصود.

أعتقد أن ما هدانى (برغم جهلى السالف الذكر، وبسببه)، إلى اليقين الذى أعيشه حاليا وأحاول توصيله إلى الناس، حول مسألة تعدد الكيانات داخلنا هو حركية وعيِى فى مقابل حركية وعى مرضاى أثناء العلاج الجمعى خاصة.

من هنا نبدأ

التعدد هو حركة كيانات أكثر منه كيانات فى حركة!! ياه !! لم أقصد، ولكننى سوف أترك هذا التعبير كما خرج منى هكذا للنقاش، مادام ثم نقاش،

 من هنا يأتى مدخلنا إلى “حركية الإبداع” ليس بصفته موهبة نادرة، أو عبقرية متميزة أو ناتج فذ، بل بصفته أرقى أنواع التشكيل المتجدد لمستويات متعددة من الوعى بما تحتويه ويحتويها من كيانات مرنة تسمح بهذا التشكيل فى ناتج أصيل جديد، إن هذا المدخل هو الذى يمكن أن يهدينا إلى الاحاطة بالمعنى الحركى للتعدد من حيث المبدأ.

المبدع

المبدع المتميز المنتج – كما نعرفه عادة – يمارس عملية الإبداع بإرادة مشتمِلة، يعى بعضها فى ظاهر شعوره بدرجة ما، لكن أغلبها (أغلب إرادة الإبداع) يأتى من عُمْقٍ شامل حركىّ عنيد مثابر جاهز متحفز قادر.

 عملية الإبداع هذه لا تحدث فى وعى بديل يتناوب مع الوعى السائد،  كما هو الحال فى عملية الحلم، ولا هى (عملية الإبداع) تحدث فى حالة وعى الصحو العادى الذى نمارس به حياتنا الروتينية طول الوقت،

 لكنها تحدث فى حالة خاصة من الوعى تسمى أحيانا “الوعى الفائق”، وأنا أفضل أن أسميها “الوعى المشتمِل“، هذا الوعى الفائق/المشتمل هو حالة تحتوى أكثر من مستوى من مستويات الوعى “معا“،

فهى جماع وعْى الصحو ووعى الحلم،   

 وهى أيضا جماع وعى النصف الطاغى من المخ والنصف المتنحى،

 وكذلك هى جماع وعى مستويات الدماغ القديمة والحديثة،

 يحدث كل ذلك نتيجة لقدرة المبدع أن يعيش حركية المعلومات، ليخلق منها سيمفونية الإبداع،

 يفعل المبدع ذلك وهو فى حالة من الإفاقة تسمح له بإمكانية التشكيل الهادف الذى يحرك بدوره ويضيف.

 حكاية أنا واحد ولا كتير اتسعت منا – بوجه حق – حتى قبلنا احتمال كيف يمكن أن نكون كيانات بلا حصر، لا لنتشتت فنَجن، ولكن لنكون من المرونة والحركية بحيث نحترم تركيبنا من المعلومات الحية القادرة على دفعنا على مسار النمو والإبداع باستمرار، بتشكيلاتها فى كيانات متكاملة متحركة داخلنا، وليست مجرد ذكريات تسُتعاد، أو أبجدية تُستعمل.

 هذا الكثير الذى نشير دائما إلى كيفية حركيته على مسرح الأحلام، هو هو الذى يتحرك فى حقل الإبداع فى وعى مختلف شديد اليقظة، بالغ الطزاجة، نشط الحركية، قادر على التشكيل لإخراج  الجديد/المفاجأة/الدهشة/الجمال.

نوعان من المعلومات، وماهية الإبداع

المعلومة نوعان، تلك التى ألفنا الحديث عنها ونحن نتكلم عن عصر المعلومات، ونحن نحفظ المحفوظات، ونحن نسمّع جدول الضرب. هذه المعلومات لها وظيفتها باعتبارها أبجدية مستقلة نافعة، تستعمل من الظاهر إلا قليلا، هى تقع فى منطقة الرموز والتجريد أساسا، وهى تسمى أحيانا ذكريات، وأحيانا كلاما، وأحيانا (خطأ غالبا) “لغة”، وهى ليست مستقلة تماما عن كياننا الحيوى، لكنها تعتبر بمثابة حروف هجاء، أو أدوات صنعة التواصل والتفاهم أكثر منها كيانات حيوية نشطة بما هى.

النوع الآخر من المعلومات هو المنغرس أو الملتحم بيولوجيا بكياننا الحيوى، بدءاًً بالدماغ، شاملا الجسد كله، وليس فقط المخزون فى مخزن الذاكرة، تلك هى المعلومة “الوحدة البيولوجية/المعنى”، التى تدخل إلينا باعتبارها “كيانا متكاملا من نبض، ووجدان، وحفز، ونشاط،

 يتوقف شكل الإبداع وناتجه على أبجديته (المعلومة الأولى) وحركيته (المعلومة الثانية) معا.

الإبداع ليس قاصرا على نوع بذاته، أو شكل بذاته، وإنما هو يشمل أية إعادة تشكيل تأتى بجديد، وهو يصنَّف بحسب غلبة أبجديته.

– فإذا كانت أبجدية المبدع معادلات رياضية، وعلوم طبيعية، أخرج لنا نظرية فى الطبيعة أو الرياضة.

– وإن كانت أبجديته هى المساحة، واللون، والحجم، أخرج لنا نحتا جميلا جيدا، أو لوحة غير مسبوقة من تأليف غير مألوف.

وإن كانت أبجديته هى الناس والأحداث والتاريخ والواقع بكل تصنيفاته، فإنه ينسج لنا من كل هذا حركة أحداث أخرى، بعلاقات أخرى، فى زمن آخر، فهو الروائى المبدع،

 وإن كانت أبجديته هى ألفاظ لغتنا العادية، لكنها تتآلف بشكل آخر، فى مساحات صور أخرى، مع تشكيل نغم آخر، فهو الشعر، وهكذا.

 كل هذ يقع تحت ما يسمى “إعادة تنظيم”، أو إعادة تشكيل، تماما مثل العملية التى تجرى فى الحلم (من حيث المبدأ)

 الكيانات التى ننتحدث عنها فى مسألة التعدد هى أقرب إلى النوع الثانى من المعلومات، وإن كانت العلاقة بين النوعين ضرورية وقائمة طول الوقت، قلت هى أقرب إلى النوع الثانى وأضيف: لكن يستحيل عليها أن تستبعد استعمال النوع الأول من المعلومات.

فى العلاج الجمعى تعلمت أنه – من خلال السيكودراما أو الألعاب مثلا –  يمكن أن نقلب المعلومة الرمز المفهومة إلى المعلومة الكيان الحيوى بدرجة أو بأخرى.

مع بعض الدفاعات (الميكانزمات) وخاصة العقلنة Intellectualization يمكن أن يحدث العكس، أى أن تختزل المعلومة الكيان إلى المعلومة الرمز، فتُفرع من نبضها كيانا، لتستعمل من الظاهر أبجدية.

الإبداع يلزمه نوعىْ المعلومات معا على مستوين متداخلين:

 ليكون للإبداع ناتج يصل إلى الآخرين، فإنه يلزم أن تمر عملية الإبداع بطورين أساسيين: من حركية المعلومة (الكيان الحى) الأول إلى تشكيل الناتج فى الشكل الذى تسمح به أبجديته (المعلومة الرمز المفهوم).

من شهادات المبدعين

فى إجابات عدد ليس قليلا من المبدعين عن حركية إبداعهم ‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏تجاربهم‏ ،يمكن أن نرصد هذين المستويين، كيف تتم عملية الإبداع بالانتقال من مستوى المعلومات الحية (الكيانات التى هى نحن “كتير“) إلى مستوى التعبير والتشكيل المتاح بالأدوات المتاحة:

 ‏إدوار‏ ‏الخراط: مجلة ‏فصول‏- ‏المجلد‏ ‏الثانى- ‏العدد‏ ‏الرابع‏ ‏ص‏: 265 سنة 1982)

‏”… ‏بداءة‏، ‏تتخلق‏ ‏القصة‏ ‏عندى – ‏على ‏الأغلب‏، ‏أو‏ ‏على ‏الأرجح‏ – ‏من‏ ‏صورة‏، ‏صورة‏ ‏تتشكل‏ ‏فى ‏الوقت‏ ‏نفسه‏ ‏بأصوات‏، ‏بكلمات(……)، ‏فهى ‏أساسا‏ ‏صورة‏ ‏تتخذ‏ ‏لنفسها‏ ‏على ‏الفور‏ ‏جسدا‏ ‏من‏ ‏اللغة‏. ‏وأظن‏ ‏أن‏ ‏لى ‏لغتى، ‏فهى ‏تتخلق‏ ‏بالكلمة‏ ‏أو‏ ‏بنسق‏ ‏من‏ ‏الكلمات‏، ‏بجرسها‏ ‏وإيقاعها‏ ‏وكثافتها‏…، ‏وهى ‏فى ‏الآن‏ ‏نفسه‏ ‏تأتى ‏حسية‏ ‏ومدركة‏، ‏أى ‏أنها‏ ‏تأتى ‏حسية‏ ‏ومتجسدة‏، ‏ولها‏ ‏طعمها‏ ‏ورائحتها‏ ‏وملمسها‏، ‏ومرتبة‏ ‏شديدة‏ ‏الحضور‏ ‏البصرى ‏أساسا‏”.

القراءة

نلاحظ  ‏تركيز‏ ‏الكاتب‏ ‏على ‏المثير‏ ‏بوصفه‏ “‏صورة‏”، تتشكل بأصوات (مثل الهلوسة) ، ثم إن الصورة تتخذ لنفسها جسدا من اللغة، ثم انظر النقلة التى أشرنا إليها فى موضوع الأحلام، والتى تؤكد ما ذهبنا إليه من تصنيف المعلومات فى قوله : “‏تتخذ‏ ‏الصورة‏ ‏لنفسها‏ ‏جسدا‏ ‏من‏ ‏اللغة“‏. ‏ثم لاحظ كيف أن  ‏هذا‏ ‏الجسد‏ ‏اللغوى ‏له‏ ‏جرْس‏ ‏وإيقاع‏ ‏وكثافة‏، ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏له‏ ‏مضمون‏ ‏ودلالة‏. وأخيرا التأكيد على أنها حسية، ومرتبة شديدة الحضور البصرى أساسا.

هل هناك دليل أوضح من هذا يشير إلى أن المعلومات الأساسية فى الإبداع هى “كيانات” حية، وليست مجرد رمز أو تجريد؟ وأن هذه الكيانات هى “الكثير” بداخلنا جميعا؟

‏نجيب‏ ‏محفوظ‏: مجلة ‏فصول- ‏المجلد‏ ‏الثانى – ‏العدد‏ ‏الرابع ‏ ‏ص‏: 303 سنة 1982)

… ‏تدب‏ ‏حركة‏ ‏من‏ ‏نوع‏ “‏ما‏” (‏التنصيص‏ ‏من‏ ‏عندى‏) ‏فينشط‏ ‏الكاتب‏ ‏لتوصيلها‏ ‏إلى ‏القارىء‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏تتجسد‏ ‏له‏ ‏فى ‏شكل‏ ‏معين‏، ‏ما‏ ‏هذه‏ ‏الحركة‏‏؟‏ ‏قد‏ ‏تكون‏ “‏أى ‏شيء‏”، ‏أو‏ “‏لا‏ ‏شيء‏ “‏بالذات‏… “. ‏

القراءة

نلاحظ‏ ‏هنا‏ ‏تعبيرات‏ “‏تدب‏ ‏حركة‏” “‏ما‏”، ‏فلم‏ ‏يستطع‏ ‏محفوظ‏ ‏أن‏ ‏يلتقط‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏الذى ‏يدب‏ (‏ينشط‏) ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏من‏ ‏نوع‏ “‏ما‏ “، ‏فهو‏ ‏ليس‏ ‏مجهولا‏ ‏كل‏ ‏الجهل‏، ‏كما‏ ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏محددا‏ ‏بعد‏. ‏ثم‏ ‏نلاحظ‏ ‏هنا‏ ‏تحديد‏ ‏استجابة‏ ‏الكاتب‏ ‏بأن‏ ‏ثمَّ‏ ‏توصيلا‏ ‏يـُلح‏ ‏للإنجاز‏، ‏وأن‏ ‏ثم‏ “‏آخرا‏” ‏يتوجه‏ ‏إليه‏ ‏التنشيط‏.

ثم‏ ‏يعود‏ ‏محفوظ‏ ‏ليجهّـل‏ ‏طبيعة‏ ‏هذه‏ ‏الحركة‏ ‏فى ‏أنها‏ “‏أى ‏شيء‏” ‏أو‏” ‏لا‏ ‏شيء‏ ‏بالذات‏” ‏على ‏نحو‏ ‏يتحقق‏ ‏معه‏ ‏التأكيد على البدء بحركية حيوية كما ذكرنا، وهو ما ‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏الخطوات‏ ‏الأولى ‏للإبداع‏ ‏(والحلم) تتميز‏ ‏بحركيتها‏ ‏وتوجهها‏ ‏أكثر‏ ‏مما‏ ‏تتميز‏ ‏بمضمونها‏ ‏أو‏ ‏هدفها‏ (‏المحدد).‏

الحركة البدء هنا ليست ترميزا لموجود، ولكنها تحريك لكيان وكيانات كثيرة، هى نحنالكثير“، فى جدل مستمر.

‏‏يوسف‏ ‏إدريس: مجلة ‏فصول‏- ‏المجلد‏ ‏الثانى- ‏العدد‏ ‏الرابع‏ ‏ص‏: 305 سنة 1982)

“.. ‏الإبداع‏ ‏عندى ‏أشبه‏ ‏مايكون‏ ‏بخلق‏ ‏الكون‏..، ‏سديم‏ ‏من‏ ‏الإحساس‏ ‏يتكون‏ ‏داخلى، ‏ثم‏ ‏تبدأ‏ ‏حركة‏ ‏هائلة‏ ‏الضخامة‏، ‏بطيئة‏ ‏الوقع‏. ‏وتتخلق‏ ‏الأفكار‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الحركة‏ ‏السديمية‏ ‏للأحداث‏ ‏والشخصيات‏.. ‏وبتوقف‏ ‏الحركة‏ ‏تكون‏ ‏القصة‏ ‏قد‏ ‏تخلقت‏ ‏فيما‏ ‏أسميه‏ ‏القصة‏ -‏الكون‏ – ‏الحياة‏ ‏التى ‏هى ‏أعلى ‏مراحل‏ ‏السديم‏”.‏

القراءة:

نلاحظ‏ ‏هنا‏ ‏تعبير‏”‏السديم‏” ‏الذى له معنيان ‏الأول “‏السديم‏: ‏الضباب‏ ‏الرقيق‏”، ‏والثانى‏: “‏السديم‏: ‏مجموعة‏ ‏نجوم‏ ‏تظهر‏ ‏بعيدة‏، ‏تظهر‏ ‏كأنها‏ ‏سحابة‏ ‏رقيقة‏”، ‏وكلاهما‏ ‏يفيد ما أريد مما يناسب المقام هنا، والمعنيان متداخلان.

‏ثم‏ ‏نلاحظ‏ ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏السديم‏ عند إدريس ‏ليس‏ ‏مثولا‏ ‏ثابتا‏، ‏بل‏ ‏هو‏ ‏حركة‏ ‏أساسا‏ (‏الحركة‏ ‏السديمية‏)، ‏ومع‏ ‏أنه‏ ‏ألحق‏ ‏بها‏ “‏للأحداث‏ ‏والأشخاص‏”، ‏إلا‏ ‏أنها‏ ‏فى ‏مرحلتها‏ ‏السديمية‏ ‏تلك‏ ‏ليست‏ ‏أحداثا‏ ‏بذاتها‏ ‏أو‏ ‏أشخاصا‏ ‏متميزين‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏هى ‏تنبيء‏، ‏وتجزم‏ ‏فى ‏الوقت‏ ‏نفسه‏، ‏بأحداث‏ ‏وأشخاص‏ “‏ما‏”.‏

‏‏ثم‏ ‏إن‏ ‏الأفكار‏ ‏تتولد‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الحركة‏، ‏وكأن‏ ‏الأفكار‏ ‏هنا‏ ‏هى ‏التى ‏تنشيء‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏الضباب‏ ‏الرقيق‏ (‏أو‏ ‏تكثفه‏ ‏إلى‏) ‏ما‏ هو،  ‏فهى ‏ليست‏ ‏ترجمة‏ ‏الإحساس‏ ‏إلى ‏مفاهيم‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏هى ‏تخليق‏ ‏لمفاهيم‏ ‏قادرة‏ ‏على ‏استيعاب‏ ‏حركة‏ ‏السديم‏ ‏المنبعثة‏.‏

ومن ثَمَّ فإن الكيانات بداخلنا ليست موجودات ساكنة، ولكنها كيانات تتخلق، وهى ليست قاصرة على ما شاع عنها، وإنما هى مشتملة لكل معلومة حية بما هى، وبما يخرج منها مع غيرها فى تشكيلات بلا حصر، وحركية لا تتوقف إلأ لتنشط.

‏ ‏أبو‏ ‏المعاطى ‏أبو‏ ‏النجا‏: مجلة ‏فصول‏- ‏المجلد‏ ‏الثانى – ‏العدد‏ ‏الرابع‏ ‏ص‏: 261 سنة 1982)

‏ “.. ‏فأكتب‏ ‏القصة‏ ‏لأعبر‏ ‏عن‏ ‏شىء‏، ‏أو‏ ‏لأمسك‏ ‏بشيء‏ ‏يتململ‏ ‏فى ‏داخلى، ‏ويعجزنى ‏أن‏ ‏أتعرف‏ ‏عليه‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏أضعه‏ ‏فى ‏شراك‏ ‏الصيغة‏ ‏القصصية‏ ‏الملائمة‏، ‏لأجسد‏ ‏شيئا‏ ‏هلاميا‏، ‏يفتقر‏ ‏إلى ‏التجسيد‏، ‏ليكتسب‏ ‏معنى “.‏

القراءة

نلاحظ‏ ‏هنا‏ ‏أيضا‏ ‏معنى ‏التنشيط‏ ‏الداخلى ‏الذى ‏أشرنا‏ ‏إليه‏، ‏وذلك‏ ‏فى ‏قول‏ ‏أبو النجا‏: “‏يتململ‏ ‏فى ‏داخلى “.. إن‏ ‏هذا‏ ‏الذى ‏يتململ‏ ‏هو‏ ‏بعيد‏ ‏عن‏ ‏التعرف‏ ‏عليه‏ ‏فى ‏ذاته‏ ‏بما‏ ‏هو، كما هو‏، ‏إذ‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏تصوغه‏ ‏إبداعية‏ ‏الكاتب‏ ‏فى ‏تخليق‏ ‏مكتمل‏. لاحظ قوله: ‏أضعه‏ ‏فى ‏شراك‏ ‏الصيغة‏ ‏القصصية‏. ‏ثم إن الكاتب قد وصف هذا‏ ‏المستوى ‏المعرفى ‏الأول‏ ‏بـ‏ ” ‏الشىء”‏، ‏وفى ‏الوقت‏ ‏نفسه‏ ‏بالهلامية‏، ‏وأنه‏ ‏لم‏ ‏يكتسب‏ ‏معناه‏ ‏بعد‏، ‏ثم‏ ‏إنه‏ ‏لايكتسب‏ ‏معناه‏ ‏إلا‏ ‏بعملية‏ “‏الوضع‏ (وتضع كل ذات حمل حملها) “‏فى ‏شراك‏ ‏المستوى ‏المحتوِى ‏إياه‏، ‏المتجادل‏ ‏معه‏.

‏ أليست كل هذه كيانات حية؟ اليس هذا هو الكثير الذى نحن مصنوعون منه لنصير؟

ننتقل  إلى الشعراء

‏‏نزار‏ ‏قبانى ( ‏قصتى ‏مع‏ ‏الشعر‏-‏ بيروت‏ 1974 ‏ص‏186-187)

‏”‏تأتينى ‏القصيدة‏ – ‏أول‏ ‏ماتأتى‏- ‏بشكل‏ ‏جمل‏ ‏غير‏ ‏مكتملة‏، ‏وغير‏ ‏مفسرة‏، ‏تضرب‏ ‏كالبرق‏ ‏وتختفى ‏كالبرق‏. ‏لا‏ ‏أحاول‏ ‏الإمساك‏ ‏بالبرق‏، ‏بل‏ ‏أتركه‏ ‏يذهب‏، ‏مكتفيا‏ ‏بالإضاءة‏ ‏الأولى ‏التى ‏يحدثها‏… ‏أرجع‏ ‏للظلام‏ ‏وأنتظر‏ ‏التماع‏ ‏البرق‏ ‏من‏ ‏جديد‏، ‏ومِـن‏ ‏تجمع‏ ‏البروق‏ ‏وتلاحقها‏، ‏تحدث‏ ‏الإنارة‏ ‏النفسية‏ ‏الشاملة‏… ‏وفى هذه‏ ‏المرحلة‏ ‏فقط‏ ‏أستطيع‏ ‏أن‏ ‏أتدخل‏ ‏إراديا‏ ‏فى ‏مراقبة‏ ‏القصيدة‏ ‏ورؤيتها‏ ‏بعقلى ‏وبصيرتى‏”. ‏

القراءة

نلاحظ‏ ‏هنا‏ ‏التقاط‏ ‏التنشيط‏ ‏المبدئى ‏فى ‏وحدة‏ ‏زمنية‏ ‏شديدة‏ ‏القصر ‏برغم حكيها ‏بمقياس‏ ‏الزمن‏ ‏العادى (‏بعكس‏ حدس ‏يوسف‏ ‏إدريس الذى التقط  برْق اللحظة‏، ‏وهذا‏ ‏ما يفسر كيف أن بعض‏ ‏قصص‏ ‏يوسف‏ ‏إدريس‏ ‏هى ‏شعر‏ ‏أخطر‏ ‏من‏ ‏قصائد‏ ‏نزار). ‏عبر‏ ‏نزار‏ ‏عن‏ ‏اللحظة‏ ‏نفسها‏ ‏بعد‏ ‏انقضائها‏، ‏وبمقياس‏ ‏عادى ‏تـتـبـعى (‏بعد‏ ‏انقضائها‏ ‏وليس‏ ‏من‏ ‏داخلها‏). ‏وهذا‏ ‏الموقف‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏رجح‏ ‏لنا‏ ‏أن‏ ‏نزارا‏ ‏وهو‏ ‏يسير‏ ‏فى ‏ضوء‏ ‏تجمع‏ ‏خطف‏ ‏البرق ‏(‏من‏ ‏تجمع‏ ‏البروق‏ ‏وتلاحقها‏) ‏يسيرفى “‏إنارة‏ ‏نفسية‏” ‏أكثر منه  “‏يخوض‏ ‏نارا‏ ‏ضبابية‏”.

2 – ‏أدونيس: (‏زمن‏ ‏الشعر‏- ‏دار‏ ‏العودة‏ 1972، ‏ص‏ 235).

‏ “…‏إنها‏ (‏القصيدة‏)، ‏عالم‏ ‏ذو‏ ‏أبعاد‏، ‏عالم‏ ‏متموج‏ ‏متداخل‏ ‏كثيف‏ ‏بشفافية‏، ‏عميق‏ ‏بتلألؤ‏،… ‏تقودك‏ ‏فى ‏سديم‏ ‏من‏ ‏المشاعر‏ ‏والأحاسيس‏، ‏سديم‏ ‏يستقل‏ ‏بنظامه‏ ‏الخاص‏، ‏تغمرك‏، ‏وحين‏ ‏تهم‏ ‏أن‏ ‏تحضنها‏ ‏تفلت‏ ‏من‏ ‏بين‏ ‏ذراعيك‏ ‏كالموج‏”‏

‏ ‏القراءة

هذا‏ ‏مثال‏ آخر‏ ‏لمستوى ‏مختلف من الشعر‏‏، ‏ ‏نلاحظ‏ ‏فيه‏ ‏أن‏ ‏الشاعر‏ ‏يظل‏ ‏محتفظا‏ ‏بنبض‏ ‏المستوى ‏الأول‏ ‏نفسه‏، ‏حتى ‏تظهر‏ ‏ملامحه‏ ‏فى ‏القصيدة‏ ‏نفسها‏ ‏بعد‏ ‏اكتمالها‏، ‏وذلك‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏مظاهر‏ ‏التكثيف‏ ‏والشفافية‏ ‏وتعدد‏ ‏الأبعاد‏ ‏فى ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏توجه‏ “‏معا‏”. ‏ثم‏ ‏إنه‏ ‏يستعمل‏ ‏كلمة‏ “‏السديم‏” ‏نفسها‏ (‏مثل‏ ‏إدريس‏)، ‏ولكنه‏ ‏يستعملها‏ ‏لوصف‏ ‏القصيدة‏ ‏ذاتها‏ ‏وليس‏ ‏لتفسير‏ ‏الحركة‏ ‏المخلِّـقة‏ ‏لها.‏

وبعد

نرجع إلى بداية هذا الفرض التوضيحى الذى ينبه إلى علاقة فكرة التعدد بالحركة، وليس بمجرد تعداد الكثيرين بداخلنا. إن صحة هذا الفرض إنما تدعمها حركية عملية الإبداع كما بَيَّنَا.

الذى يترتب على ذلك هو التراجع عن المبالغة فى التأكيد على التعدد بمعنى العدد، أو حصر هذا التعدد فى وحدات بذاتها لها حدودها المتميزة المنفصلة، نتراجع عن هذا التناول السكونى المختزل، ليتسع وعينا إلىقبول فكرة الكثرة بما يسمح بتجسيد وحداتها بعمليات مختلفة لأهداف متنوعة.

ففى الإبداع كما ظهر من مقتطفات شهادات المبدعين، ومن قراءتنا لها تتجسد الوحدات معا فى حركية جدلية ليعاد التشكيل.

وفى الدراما (النفسية) فى العلاج الجمعى مثلا تتعين الوحدات حسب الدور الذى تلعبه أثناء تفاعل ما، كما يجرى أحيانا تعيين Concretization الأفكار فى كيانات يمكن أن تتجسد وتمثل

 (فبدلا من الحديث عن الحرية – مثلا – يجسد الكيان الحر ليلعب دوره، مقابل كيان خائف من الحرية) (وهكذا).

الخلاصة

– إن قبول فكرة التعدد يشمل السماح بحركية إعادة التشكيل (الإبداع).

– إن تجسيد حركية التعدد فى كيانات لحظية هو مفيد لتعميق التعامل مع كيانات قابلة وقادرة ألا تكون كيانات مستقلة نافرة أو غاطسة.

– إن التوقف عند “لفظنة” فكرة التعدد، يقلبها لعبة كلامية معقلنة مفهومية مُفْرغة.

– إن إلغاء فكرة التعدد خوفا من الاستسهال، والتسطيح والتسيب مهما بدا توقّْيا لكل ذلك هو مخاطرة على حساب الحقيقة والمعرفة الأصعب.

– إن البحث عن لغة ومنهج أكثر قدرة على استيعاب مفهوم التعدد هو جار وواعد غالبا من خلال الانجازات الأحدث لكل من اللغة والمنهج.

– إن حركية الإبداع هى شديدة الارتباط بحركية التعدد تفكيكا وجدلا وتشكيلا وتوجها.

– إن الربط بين حركية الإبداع، والجدل مع حركية الوعى الكونى، وطبيعة السعى المتواصل بينهما قد يكون مدخلا إلى الاستفادة من خبرات إبداع الوعى الذاتى فى رحاب الوعى الكونى (التصوف: إبداعاً) كدحا إلى وجه الحق سبحانه بغير نهاية.

– إن إنكار حركية التعدد قهراً وكبتاً مطلقا يمكن أن يترتب عليه توقف النمو (اللا إبداع) كما يتجلى فى بعض أنواع اضطراب الشخصية.

– إن الإفراط فى السماح بطلاقة التعدد دون إعادة تشكيل، أو تمحور ضام، يسمح للتعدد أن يفكك “الواحدية” بتفعيل متناثر، وهو ما يظهر عادة فى صورة ما يسمى الفصام.

خاتمة

إن معايشة فكرة التعدد مع مرضى متوسطى التعليم وأمّيين من مختلف الأعمار والطبقات الاجتماعية يتم بسلاسة وواقعية فى العلاج الجمعى (مثلا) دون أية حاجة إلى كل ما سبق من تنظير!!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *