نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 5-3-2016
السنة التاسعة
العدد: 3109
الطبنفسى الإيقاعحيوى (14)
Biorhythmic Psychiatry
النظرية التطورية الإيقاعية (9)
الطبنفسى الإيقاعحيوى: خلاصة وتخطيط عام آمِل
مقدمة:
وقفة كالعادة، واعتذار لا فائدة منه
يذكر من يتابعنا – وهم ندرة والحمد لله كان الله فى عونهم – أننى بدأت مايسمى “الأساس فى الطب النفسى” بناء عن طلب من تلاميذى وأبنائى وبناتى المتدربين: أن أسجل خبرتى تفصيلا من واقع ثقافتنا، مع استعداداهم للمتابعة، والمراجعة، والنقد، وحتى الترجمة، وقد كررت مرارا اعترافى بقصورى وأننى السبب فى كل ما أشكو منه، ولا لوم عليهم أنهم لم يوفوا بما وعدوا لأن طريقتى فى الكتابة، وفرط الاستطراد،.ولغتى الخاصة، وما أسميته ذات مرة “طيران الكتب” قياسا على عَرَض “طيران الأفكار” ، كل ذلك يحول دون أن يقوم أى منهم بما وعد، ورضيتُ ، فلم يكن لى خيار، وتصورت أن من يهمه الأمر قد ينتظر إلى أن يصدر العمل مكتملا فى صورته الورقية، فتتاح الفرصة لفحصه ذهابا وجيئة، ومن ثم إمكان التعقيب الأشمل والنقد البناء، إلا أننى غالبا لن أكون هناك لأقوم بالرد والشكر والتعقيب.
ثم تطور الأمر مؤخرا إلى إلحاح من زملاء آخرين أن أسجل “النظرية التطورية الإيقاعية” ولو كما ظهرت منذ أكثر من حوالى ثلث قرن (1983)، فعرجت إليها من تاريخ نشرة 9-2-2016 حتى نشرة 1-3-2016 الأسبوع الماضى (ثلاثة عشر نشرة فى 82 صفحة A4)، حتى انتهيت فى نشرة الثلاثاء الماضى إلا نقدها والرد على النقد كما أثبته قديما، ولم أضف إليه إلا أقل القليل، وحمدت الله على الانتهاء من هذه المرحلة الكثيفة، إلا أنى وجدت عندى ملحقا موجزا يبدو أنى كتبته بعد ذلك بسنوات تكملة أو تجميعا لما سبق، ووجدته أكثر إيجاز ويبدو أكثر وضوحا، ففضلت أن أختم به هذه الخطوط العامة لعل فى الإعادة إفادة، ثم إنى آمل بذلك بعد ذلك أن نبدأ فى عرض تطبيقات عملية قد تسمح باختبار النظرية من آخرين وهى تقدم الأمراض واحدا بعد الآخر من منظور الإيقاعحيوى أساسا، ارتباطا بالتطور فى حدود ما اخترته من المراحل كما جاءت فى مدرسة العلاقة بالموضوع، وما قمت به من مقابلة معها ومع مراحل محددة من أطوار التطور، ثم أننى أرجو بعد ذلك أن أنتقل إلى عرض الأمراض الأساسية واحدا فواحدا من منظور الطبنفسى الإيقاعحيوى، الذى اكتشفت أنه كان حاضرا طول الوقت لكن دون ذكره بالاسم، فى كتابى المرجع الأساسى “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” 1979 (1)وفرحتُ أنه سوف يكون مرجعنا الأساسى بعد أن تعاد صياغة ما يلزمه من تطبيقات لهذه النظرية فى كل مرض، وكل آلية علاج ما أمكن ذلك.
بما يستتبع ذلك من احتمال تطوير التقسيم بشكل جذرى، أيضا ما يتخلق من خلال ذلك من فهم وتطوير لفنون العلاج عمليا.
ولكن دعونى أنتهز هذه الفرصة لأذكّر من ألح علىّ مؤخرا لكتابة النظرية أن كثيرا من أهم معالمها قد جاء فى نشرات الإنسان والتطور طوال هذه السنوات التى كدنا نختمها تسع سنوات جاء بعضها بإشارة صريحة للإيقاع الحيوى، (مثلا: نشرة 19-10-2010، ونشرة 2-11-2010، ونشرة 10-11-2010، ونشرة 1-12-2010) والأخرى مع تناول غيرمباشر لتطور الإدراك والوجدان (الغرائز /الفطرة) (مثلا: نشرة 26-11-2007) و(نشرة 6-11-2007) و(4-11-2007) ، وكثير منها جاء فى سياق عرض حالة (حالات وأحوال: نشرات فصامى يعلمنا الفصام (نشرة 21-4-2009) و(نشرة 22-4-2009) و(نشرة 29-4-2009) و(نشرة 28-4-200) (الإكتئاب الحيوى النشط: حزن أم تفجر وعى؟ “مفترق الطرق”)(2) (بين المطرقة والسندان) (3)، وحتى ما وجدته الآن بالنسبة لتقسيمات مختلفة ليس بالضرورة فى الأسماء الشائعة ، وإنما من خلال وضع أبعاد Dimensions إيقاعحيوية وهى غير المحاور التقليدية axes فى دلائل التقسيمات المتاحة كنت قد أثبته فى كتيب بعنوان “التقسيم Nosology”، كما صدر فى افتتاحيتين بالمجلة العربية للطب النفسى (4)ثم خذ عندك ما جاء بوجه خاص فى سياق ما هو صحة نفسية فى كتاب الأساس فى الطب النفسى بالموقع (من نشرة 5-10-2010 إلى نشرة 4-1-2012) وخاصة ما أثبته عن التطور الأخير لفكرى من منطلق الإيقاعحيوى بالنسبة لمستويات الصحة (وهو ما طرأ على الفرض القديم الذى وضعته سنة 1969 ونشرته سنة 1972 فى كتاب حيرة طبيب نفسى) ، بعد وضوح دور الإيقاعحيوى فى إبداع الصحة وفهم الوعى ومستويات التناغم الخلاق، كل ذلك هو من صلب هذه النظرية وكيف تطورت بالنسبة لكل موضوع، وكيف تداخلت مع كل اقتراب جديد بعد إضافة بُعد الإيقاعحيوى ، وبعض الأبعاد التطورية.
لا أميل إلى أن أعيد أى من ذلك وقد بلغ مئات الصفحات مع أن إعادة بعضه لاح لى ضروريا، وفى نفس الوقت ليس مناسبا أن أطلب ممن طلب منى كتابة النظرية أن يرجع بنفسه إلى كل تلك النشرات أو إلى الموقع ليتابع علامات وتأثير النظرية فى كل أفكارى وتنظيرى وعرض خبرتى بلا استثناء
سوف أكتفى اليوم بهذه الإشارة لأكملها غدًا، أما اليوم فسوف أطرح بعض ما جاء بالمحلق الذى عثرت عليه متأخرا وهو يتعلق بأسباب المرض النفسى من وجهة نظر هذه النظرية.
علاقة المنظور الإيقاعحيوى بأسباب المرض النفسى
كما اعتدنا، نبدأ فننبه إلى استبعاد المرض النفسى العضوى (التشريحى) العشوائى المترتب بشكل مباشر (يكاد يكون خطيا) على سبب عضوى بذاته، اللهم إلا إذا لحق ذلك ما يجعل هذاالتنظير التطورى والغائى صالح لفهمه أعمق (5) ومع ذلك يظل التطبيق الإيقاعحيوى فى الأمراض العقلية العضوية التشريحية محدود جدا.
عن الأسباب من منظور تطور إيقاعحيوى:
كما ذكرنا أن المرض النفسى من المنظور التطورى الإيقاعحيوى لا يحتاج إلى البحث عن أسباب محددة له، وإنما يحتاج إلى البحث عن سبب ظهوره على هذه الصورة المرضية دون صور أخرى كان يمكن أن يظهر بها (بما فى ذلك ظهوره الإيجابى المحتمل) وهذا المفهوم هو ضد المفهوم الميكانيكى الذى راج أخيرا عن أن المرض النفسى الحاد هو مثل التهاب اللوزتين يحتاج إلى مسكنات ومعرقات ومضادات لتسكين أو إخفاء الأعراض، وأن المرض النفسى المزمن مثل مرض البول السكرى يحتاج إلى تعويض من الخار ج عن نقص كيميائى فى الداخل طول الوقت!
المفهوم البديل الذى يطرحه هذا الطبنفسى الإيقاعحيوى هو أن المرض النفسى ليس إلاظاهرة طبيعية، ليس فقط من حيث أنها كامنة فى كل إنسان بدرجات مختلفة، وإنما أيضا من حيث أنها تمثل نسبة تكاد تكون حتمية لمسار حياة وحركية لازمين لاستمرار حياة الإنسان الفرد، وحياة الإنسان كنوع، لكن إذا كان كل إنسان يحمل المرض مثل الآخر، فمن ذا من كل هؤلاء الذى يُعلن المرض عنده بصورته المشوهة والمعوقة، ولماذا هذا التشخيص دون غيره؟ ولماذا هذا المرض دون سواه؟
فيما يلى بعض الإجابات التى أثبتها قديما – فى ذلك الملحق السالف ذكره فى المقدمة – مع تحوير بسيط:
1- تورث الأمراض النفسية مع الحياة ذاتها، إذن كل إنسان معرض لها بما هو حى، ولكن كل إنسان يختلف عن الآخر فيما ورث فيولوجينيا (قوة أحد مستويات المخ عن الآخر أو عن الباقى ربما نتيجة لتاريخ الاستمرار فئته النوعية فى بيئة احتاجت فاعلية هذا المستوى عن غيره زمنا أطول: ملايين السنين)، ثم هو يختلف فيما تدعمَّ به أنتوجينيا (التاريخ الأسرى المباشر والعلاقة بالأم/الموضوع) بتدعيم مستوى عن الآخر، وأخيرا هو يولد بنسب متفاوته فى زخم حركية ما تراكم فيه من معلومات لأجسام غريبة، تحتاج إلى اجترار وبسط مناوب لإمكان تمثلها لتتناغم من جديد، وأخيرا وليس آخرا فإن الاختلاف يمتد إلى كيفية إطلاق كل ذلك، ونوعية بسطه، وتوقيت تفعيله.
2- إذن فإنه عند بعض العائلات تورث طاقة حركية أشد من عائلات أخرى، وهذه الحركية تتمثل فى زخم طاقة عنيف، يؤدى إلي جاهزية نبض “حيوى جسيم” يحتاج إذا ما نشط وانطلق إلى استيعاب نمائى إبداعى خاص بتهيئة ظروف تتيح ذلك.
3- كذلك توجد درجات مختلفة من قوة نشاط مستويات وعى (أمخاخ/منظومات) خاصة فى الدماغ عن أخرى، وهذه المستويات ذات النشاط المتميز على هذا المستوى أو ذاك، لها دور أساسى فى تحديد نوع المرض من حيث غلبة المستوى الذى يمكن أن يُطلق مستقلا أثناء تفعيل أو إجهاض نوبة النبض الحيوى الجسيم، ثم كيفية احتوائها وبدائل مساراتها، ففى حالة وراثة الاكتئاب الحيوى الجسيم مثلا: يكون الموروث هو أولاً: الاستعداد لإطلاق كم من الطاقة أكبر مما يحث فى أسرة أخرى، وفى نفس الوقت. ثانياً: يكون الاستعداد للتوقف عند محظة السلوك الاكتئابى (الموروث أساسا، وهو ما يقابل الموقع الاكتئابى حسب “كلاين”) هو الحل المرضى الذى يعلن العجز عن استيعاب هذه النبضة الجسيمة، فى جدل علاقاتى إبداعى خلاق، ومقابله المرضى هو الاكتئاب.
أما إذا كانت النبضة جسيمة، وكان المورث معها هو تضخم نشاط الموقف الانسحابى (الشيزيدى فيلوجينيا ثم انتوجينيا) فإن تفعيل ثم إجهاض النبضة يكون بتنشيط السلوك الانسحابى بما يترتب عليه من سحب الطاقة الحيوية إليه بديلا عن الاضطراد فى الإبداعية والعلاقاتية لتخدم شحن جذب الانسحاب والتراجع (6)بما ينتج عن هذا السحب من تفكك فتفسخ فتنندُّب scarring.
4 – تتدعم نشاط المستويات الموروثة بحسب نوع التربية التى تسمح لهذا النوع أو ذاك من الحياة (نوع التعامل مع الذات ومع الآخر ومع الواقع ومع الإبداع ومع الإيمان) والعامل المشترك فى كل هذا هو زخم الطاقة المفرط، وجسامة النبضة الدورية، وإمكانيات استيعابها إيجابيا أو العجز عن ذلك فالنتاج السلبى نتيجة للتراجع عن مواصلة الجدل والإبداع لتخليق الذات والنوع.
5- من أهم ما يدعم المآل المرضى السلبى هو فشل النبضات الفسيولوجية النفسية فى استيعاب أطوار نبضات الإيقاعحيوى اليومية أولا بأولا من خلال:
(ا) كفاءة الأحلام كصمام أمن وتأمين نظام
(2) كفاءة النوم كطور نبض مكمل للحركية الحلمية النشطة
(3) كفاءة التخزين السليم المرن للمعلومات فى أطوار الملء ككيانات بيولوجية منسقة وليست “أجزاء غريبة” تلح للاجترار والإبداع، والجدل الحيوى والإيمان.
وهكذا تظهر احتمالات مآل هذه النوبة سلبيا نتيجة تفعيل النوبة الجسيمة مع العجز عن استيعابها، فإما أن تتوقف النبضة عن البسط النموى السليم (أى تجهض فتسكن عند المستوى الجاهز والمدعم طول الوقت ومن ثم تظهر أشكال مختلفة من الاضطراب النمطى للشخصية أو العصاب خاصة) وإما أن تتجاوز الحدود تفعيلا للمستوى الجاهز للتجاوز والاختراق والتنشيط المرضى على حساب النمو ومسيرة السواء، ومن ثم تحدث أنواع مختلفة من الذهان (الدورى ثم غير ذلك)، بما فى ذلك من احتمالات المآلات السلبية ضد الحياة، ويتوقف نوع المرض فى كل نوبة على رصده فى أى مرحلة من هذه المراحل، ثم على محصلة ما يحدث فى كل حالة حسب اختلاف كل هذه الظروف فى كل مرحلة.
ونكمل غدًا احتمالات مواجهة هذه المسيرة إبداعا وتربويا وثقافيا حتى لا تصبح النظرية حتما بيولوجيا قدريا.
[1] – يحيى الرخاوى: “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” 1979 – القاهرة
[2] – حالات وأحوال: (الإكتئاب الحيوى النشط: حزن أم تفجر وعى؟) عدد إبريل – سبتمبر 1988 مجلة الإنسان والتطور
[3] – حالات وأحوال: (بين المطرقة والسندان؟) عدد إبريل 1987 مجلة الإنسان والتطور
[4] – The hypothesis: Breakthrough the Current Psychiatric Nosology
Part I: Prospects and Illusions. – Arab Journal of Psychiatry (1990) Vol. 1 No. 2 81-92
– Part II: Multiaxial vis-a-vis Multidimensional Approach to Psychiatric Nosology.
Arab Journal of Psychiatry (1991) Vol. 2 No1. Page 1-13
[5] – مع ذكر فضل “هوجلج جاكسون” علينا جميعا وعلى “هنرى إى” خاصة فهو الذى فتح لنا باب النظر إلى التنظيمات الهيراركية للمخ والجهاز العصبى عامة فى الأمراض العصبية أساساً.
[6] – سوف نعود إلى كل ذلك تفصيلا حين عرض الأمراض واحد واحدا.