نشرة الإنسان والتطور
نشرة الأثنين: 10-4-2017
السنة العاشرة
العدد: 3509
الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (183)
الفصام: مغارة الضياع ووعود الإبداع
مسيرة الفصام :
النفسمراضية (السيكوباثولوجية) (8)
مقدمة:
الفرق بين التعرف على ما هو “الفصام” بوضع تعريف له، ومحكات تحدد معالمه وعلامات تجليات أعراضه، وبين عَرْضِهِ كمسيرة تتحرك يمكن أن تتوقف، بل ويمكن أن تتراجع، هو الفرق بين موقف التداوى للتخلص من الأعراض الظاهرة والتسكين، وبين العلاج المواجهة المواكبة
المسئولية للمشاركة احترما للغة المرض والمريض: أملا فى تحويل مساره فى أى مرحلة من مراحل تطوره إلى سبيل آخر أكثر إيجابية: بالحيلولة دون التوجه إلى المآل السلبى المهدد، إن هذا الموقف الأخير يحمل جرعة من التفاؤل بقدر ما يُحمِّلنا أعباء أضخم من المسئولية، وليس أمامنا خيار إلا التحيز لمسيرة الحياة، مهما انحرفت مؤقتا، وجنبا إلى جنب مع الاسهام فى تعمير الأرض بالتعرف على ما خـُلقنا به، ثم ما تورطنا فيه، ثم ما انحرف بنا المسار إليه، لعلنا نلحق أنفسنا ومرضانا قبل فوات الآوان ، لنواصل السعى إلى ما خُلقنا له، بما خلقنا به قبل أن يتشوه (ربى كما خلقتنى).
مازلنا نتدرج مع مسيرة الفصام إلى ما هو أسوأ، لعلنا نلحق بها فى أى مرحلة، ونعرف الطريق إلى التراجع عن الضياع فى هوته، وإمكانية التحول إلى وعوده!
كنا قد وصلنا إلى مرحلة التباعد المتمادى بين الكيانات:
والآن نواصل (1):
(4): مرحلة تآكل الحدود بين المنظومات (منظومات الوعى: الذوات: الأمخاخ!) إلى الدرجة المسماة “فقد أبعاد الذات”:
يطلق مصطلح فقد حدود الذات Loss of Ego Boundaries ليجمع تحته بعض الأعراض، وهو مصطلح أوْلى أن يندرج ضمن أبجدية النفسمراضية التركيبية أكثر منه وصفا لأعراض كلينيكية، و”حدود الذات” تعبير رمزى من ناحية ووظيفى من ناحية أخرى، إلا أننا لكى ندرك طبيعته وحقيقته يستحسن أن نترجمه إلى لغة نيوروبيولوجية كما تطور بنا الحال، ذلك أن الذات (أى ذات من ذواتنا) تكون محدودة بمدى فاعلية الفصل بين منظومة ترابطاتها النيوربيولوجية المميزة: ومجموعة ترابطات منظومة أخرى، وهكذا يصبح معنى الفقد هو عدم القدرة على ”الإبعاد المنظم” (2)
هذا الوصف النفسمراضى إنما يفسر مجموعة أخرى من أعراض الصف الأول لشنايدرSchneider’s First Rank Symptoms” وهى المجموعة التى تشمل انسحاب الأفكار Thought withdrawal وإقحام الأفكار Thought insertion وإذاعة الأفكار Thought broadcasting وكلها تعنى أن آخراً (الكيان الآخر) أصبح يستطيع الدخول والخروج إلى المحتوى الخاص (للكيان الأول) دون استئذان.
ومع توالى احتمالات الإسقاط: تبدو هذه الأعراض أكثر فأكثر كأنها تأثيرات وحقائق آتية من الخارج، حتى تنقلب العلاقة بين منظومات الدّاخل إلى ما يمثِّلها فى الخارج، وهكذا تمتزج الخبرة المعيشة بدرجات متفاوته من تشكيلات الخيال التى تشترك فى حبكها آليات المخ المفاهيمى الأحدث.
(5): مرحلة تكوين ضلالات وهلاوس أكثر تماسكا نسبياً:
يتطور الأمر بعد ذلك إلى تخليق منظومات ضلالية وهلوسية، أو ما يكافئها، لعلها تحول دون الإسراع بالتفسخ والتناثر، وإن كانت فى ذاتها غير متماسكة فى منظومة مرضية ضلالية مستقلة فى ذاتها، لأنها لو نجحت تماما فإن المسيرة تؤدى إلى ما هو “حالة بارانويا” وتتوقف عن التمادى إلى الفصام، الأمر الجدير بأن يبطىء من سرعة التمادى فى التباعد، وهكذا قد يبتعد مآل التفسخ قليلا أو كثيرا ، أما إذا كان النجاح جزئيا، فإن التخلخل يطرأ على هذه المنظومات المرضية (الضلالات أو الهلاوس أو كليهما) فتصبح مفككة نسبيا فقط، وفى نفس الوقت تتواصل عملية التباعد وفقد الحدود بين الذوات بنسب متفاوته، ويتوقف نوع الفصام على توقيت رصده فى أى مرحلة من هذه المراحل، أى على مدى تماسك ما تكوّن من ضلالات: مقابل مدى ما تمادى من تواصل التباعد إلى التفسخ (انظر بعد: أنواع الفصام).
(6): استمرار المسيرة وتزايد اللاهارمونى إلى الإشلال المتبادل:
ثم تتواصل المسيرة وتبدأ الأمور فى ما يشبه الاستقرار على مستوى متوسط يكاد يسمح لكل كيان بمزيد من التباعد عن الكيان الآخر، وبالتالى بمزيد من الاستقلال المرضى (الناشز بالنسبة للمجموع)، وبالتالى تظهر أعراض التفكك المتباعد أكثر وأكثر، وأيضا يبدأ ظهور ملامح متزايدة لما يسمى الأعراض السلبية، ومن أمثلة ذلك:
أ- درجة من الاستقرار وهمود التقابل:
بدلا من أن يتقابل الكيانان (أو أكثر) ويستقبل أحدهما الآخر أو يقتسمان وظيفة ما..، مما يميز المرحلة السابقة، وهكذا تبدأ الأمور فى الاستقرار النسبى على مستوى أدنى: فيحل العجز الإرادى الاستسلامى محل الربكة، ويحل اليقين الضلالى الرائق (البصيرة الذهانية عند أريتى) محل الضلالات الساخنة الجاهزة للتفعيل، ويحل الوظوبStereotype الحركى (تكرار الحركة بلا غاية) محل نوبات الهياج النزوى المحتمل.
ب- اختفاء الهارمونى وضعف القوة الضامة الداخلية:
باستقلال كل كيان عن الآخر، وتجنب حتى التقابل، يصبح التوازن النفسى غير منسق بأى صورة، وتنطلق مسيرة التفسخ إلى المزيد فالمزيد، ومع زيادة التفسخ لايوجد جذب تناسقى بين أى تركيب وأى تركيب (كيان وكيان), حيث لم يعد يوجد كيان واحدىّ توليفى، كما تخفت قوة الضم الداخلى حتى تكاد تنعدم، وقد يلجأ المريض فى هذه المرحلة إلى النكوص الاعتمادى المتزايد على قوة من الخارج تعوضه عن هذا العجز الداخلى، أو الانعزال داخل الجدران، وكأنه يحتمى بها تحميه من الخارج بعد أن افتقد الجامع المحورى الداخلى.
(7): خلل وتباعد الوظائف النفسية وتفككها الداخلى:
ومع تضارب وتعدد الكيانات العاملة معا فى نفس الوقت، غير المدرك لأحدها الآخر، تضطرب الوظائف النفسية الواحدة تلو الأخرى، ويصعب التعرف على أى قائد لمسيرة المستويات المتعددة الأمخاخ، ذلك أنه مع مزيد من تطور المرض واستتبابه تقوم مستويات الوعى (الأمخاخ) بالعمل منفصلة عن بعضها البعض، مما يترتب عليه اختلاط وظائف كل منها، وتعارضها، وتداخلها وتصادمها.. (وإلى درجة أقل: صراعها), ذلك لأن ما يظهر على السطح بالنسبة لوظيفة من الوظائف مثل “التفكير” هو عينات متفرقة متصادمة من فكر أكثر من شخص داخلى (كيان/مخ) فى نفس الوقت، بما ينتج عن ذلك من تجزىء وتداخل يبدو فى الظاهر على أنه “لاترابط” مثلا، فى حين أنه فى الواقع هو النتاج الظاهرى لأكثر من فكرة صادرة من أكثر من مصدر ثم متداخلة فى بعضها فى نفس الوقت، ويتكرر هذا التفسير لنتاج الوظيفة المتعددة فهى تصدر من عدة كيانات على أنها وظيفة واحدة، ويأتى التشوش فى وصف أعراض الفصامى بكل من تعدد مصادرها من وتفكك وحداتها.
[1]- Systematized Exclusion
[2] – بدءًا من هنا سوف يختلف التحديث اختلافا جذريا عن ما جاء بالمتن تبعا لما وصلنى من خبرات عملية، ومن قراءاتى المتلاحقة فى الأحدث وخاصة ما هو تطورى، ونيوروبيولوجى.