الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / “الشوفان” المتبادل فى العلاج النفسى (المفروض: بيجماليون 2 من 2)

“الشوفان” المتبادل فى العلاج النفسى (المفروض: بيجماليون 2 من 2)

نشرة “الإنسان والتطور”

14-4-2010

السنة الثالثة

العدد: 957


الحلقة (61)

تطبيقات:

 “الشوفان” المتبادل فى العلاج النفسى

(المفروض: بيجماليون  2 من 2)

هذه الحالات ليست حالات إكلينيكية واقعية، ولا حتى مـُتخيلة بشكل روائى شعرى مطلق، ولا هى تصف أشخاصا بالذات، إنها من وحى الفروض العلمية العملية التى استلهمناها من مزيج من الحالات المرضية، والأصدقاء المشاركين، وتراكم الخبرة، وإلهامات الأسطورة الذاتية للمؤلف.

أما قبل:

هذه هى آخر لوحة تشكيلية مستلهمة منهم (معظم التالى هى لوحات ذاتية)، وهى نشرة تقع فى موقع متوسط  بين ما أشرتُ إليه مما نبهت أنه أقرب إلى السيرة الذاتية، وبين ما استلهمته من أقرب من سمحوا لى بالاقتراب، وهى كما ننوه دائما مع كل لوحة، لا تصف شخصا بذاته إلخ…

تقديم

 لابد أن أعتذر لاختيار عنوان “بيجماليون” للحلقة السابقة، وقد سمحت لنفسى أن أغير العنوان لما يلى: من ناحية أنا اقتبست من موسوعة ويكيبديا موجز مسرحية بيجماليون، وليس أسطورة بيجماليون، ومن ناحية أخرى فهذه اللوحة التى نشرح متنها لا تشترك مع المسرحية أو الأسطورة إلا فى الإشارة إلى أهمية  التفرقة بين الرؤية الموضوعية (الموضوع الحقيقى) والرؤية الذاتية (الموضوع الذاتى: نرى الآخر ونستعمله، من صنعنا نحن، وليس “كما هو”)، وهذا أمر سبق أن ناقشناه ونحن نقرأ أكثر من لوحة فى هذا العمل.

 لكل هذا فضلت أن أكمل الشرح تحت اسم آخر، خاصة وأننى سوف أركز على التطبيقات فى العلاج النفسى، بعد أن شملت الحلقة الأولى من شرح هذه اللوحة جرعة شخصية مفرطة.

 وسوف نرجع الآن إلى منهج قراءة المتن فقرة فقرة، مع تعديل طفيف لما تم فيه من تحديث، تركيزا على ما يتعلق بالعلاج النفسى أساسا.

(1)

العين دى‏ ‏عيونها‏ ‏صعب،

كوتشينة وبختك : يا السَّبعة الكومى، يا البنت القلب‏.‏

ساعه‏ ‏تعرف‏ ‏سر‏ ‏الدنيا‏ ‏فْ‏ ‏كنكة‏ ‏قهوه‏.‏

وساعات اظبطها بتكشف سرّى، على سهوهْ

والعدسة‏ ‏بتاعتى ‏اللى ‏بتكبر‏،‏

تيجى ‏لحدِّيها‏ وتدغوش، وتصغّـر‏،‏

إضافة إلى ما ذكرنا فى الحلقة السابقة بالنسبة لهذه الفقرة، نؤكد أن رؤية الطبيب (المعالج) النفسى  تكون أقل موضوعية إذا ما استعمل نفس العينين اللتين يمارس  بهما مهنته، ثم نضيف أن المعالج هو إنسان عادى يحتاج أيضا أن يُرى “كله”، بمعنى أنه لا يكفى أن تُرى كفاءته، أو مهارته، أو نتائج عمله، بل إنه – مثل أى واحد – فى حاجة إلى أن يُرى إنسانا ضعيفا عاديا محتاجا هو أيضا أن يكشف نفسه وداخله لآخر، ولعل هذا ما كان يقوم به التحليل النفسى التدريبى فى المدرسة الفرويدية الكلاسية، حين يشترط على المحلل أن يقبل أن يحلله محلل أكبر حتى يُسمح له بممارسة التحليل النفسى، لكن ذلك كان شرطا معجزا غالبا، وأيضا  إجراءً مصنوعا، المفروض أن نجد سبيلا يحقق هذا الهدف من الفرص المتاحة من“الممارسة تحت أشراف” مباشر أو غير مباشر عبر كل مستويات الاشراف التى سبق ذكرها (نشرة مستويات الإشراف) بما فى ذلك أقرب الأقربين إليه.

فى هذا التشكيل نلحظ كيف أن صاحبة هذه العيون الصعبة المخترقة ذات الحدس الجيد، قد تبين من المتن أنها قد تكتشف داخل صاحبنا (أنا) مصادفة، رغما عنه، أو رغما عنها “وساعات أظبطها بتكشف سرّى على سهوة”،  وهنا لا يوجد ما يوحى أن صاحب الشأن يرفض ذلك على طول الخط، لكنه سرعان ما يرفض أن يستسلم له أيضا على طول الخط، فيسارع بالتقليل من شأن قدرتها ، فتصغر فى عيونه “والعدسة بتاعتى اللى بتكبر، تيجى لحديها ….. وتصغر”!!

فى العلاج النفسى “يرى” المريض معالجه كما “يرى” المعالج مريضه، وأحيانا قد تصدق رؤية المريض أكثر (أنظر مرة أخرى نشرة مستويات الإشراف) فإذا استبعد المعالج هذا الاحتمال (أن يراه المريض مثلما يرى هو المريض) فإنه يفقد الكثير من فرص نموه الشخصى، وفرص التعلم من المريض، بل وفرص الاستفادة من إشرافه. مثل هذا المعالج إنما يأخذ موقفا”حُكميا” متعاليا / يدعمه بتأويلاته المستمدة عادة من تنظيره أو أيديولوجيته، ومن ثم تقل فرص العلاج الأعمق، وأيضا فرص الإشراف الذاتى العملى الإيجابى المستمر من واقع الممارسة.

‏‏(2)‏

وفْ لحظة صدق أظبٌطْنى

فيه حاجة خطيرة تلخبطَنى:

دانا كل ما اقرب حبّه كمان

ألاقيها بتبقى كما الشَّـوَفانْ

فى ثقافتنا بوجه خاص سرعان ما يتنازل المريض عن رؤيته لمعالجه، بكل من ميكانزم “التقديس” و“الإنكار” معا، وكأن رؤية المعالج وتفسيراته هى الأصل، وهى المرجع، وبالتالى ينقلب المريض (يتشكل) ليكون أقرب إلى ما يراه المعالج، بما فى ذلك الصورة التى رآه عليها (راجع بيجماليون الحلقة السابقة) “ألاقيها بتبقى كما الشَّوَفانْ”، أى أن المريض يشترك فى هذا التزييف للإدراك ، فيختفى كيانه “كآخر”، وتتراجع فرص الحوار الموضوعى والاستفادة المتبادلة

‏(3)‏

لو‏ ‏شايف خوفها‏ ‏:‏ ‏أتلخبط‏،

وساعات أنكره يعنى استعبط!‏

مش يمكن  ‏نفسى ‏أخاف‏ ‏على ‏حسّ‏ ‏أمانها‏.‏

قومْ دغرى‏ ‏تخبّـى ‏خــوفانها‏،‏

وتخاف‏ ‏مالــخوف‏. ‏

هذه الفقرة لا تصلح بشكل مبشار أن يقاس عليها فى العلاج النفسى، ذلك لأن خوف المريض النفسى هو متعدد التجليات والأنواع، ونادرا ما يعتمد المعالج على ما يبدو على المريض من الطمأنينة ولو كانت طمأنينة ظاهرة، لأنها تكون أقرب إلى الإنكار واللامبالاة، فلا يصلح قياس المتن هنا على ممارسة العلاج النفسى “إكمنى نفسى أخاف على حس أمانها”، فالطبيب لا يستمد طمأنيته أبدا من أمان المريض، هذا من حيث المبدأ، لكن علينا ألا ننسى ما يتعرض له الطبيب النفسى من تقليب يجعل رؤيته أقرب إلى الكشف الذى يمر به المريض الذهانى خاصة، وفى هذه الحالة قد يشارك مريضه بعض أفكاره مع اختلاف مآلها، وحمل مسئوليتها، فإذا ما تمادى خوف المريض حتى من رؤيته الكاشفة هذه، فقد يتراجع الطبيب عن مشاركته، فينطبق عليه نسبيا، ولو بدرجة قليلة جدا ما جاء فى هذه الفقرة.

 ثم إن الذى يشجع الطبيب أن يتعلم من مريضه فيغامر برؤية ما يتجاوز المسموح به: هو مشاركة المريض له هذا الخوف من كشف المخبوء، والذى عادة ما يتمادى عند المريض سلبيا، فى حين أن الطبيب – إذا سمح لنفسه – قد يستوعبه إيجابيا إلى إبداع ونمو محتملين.

المريض الذى يخفى خوفه، لأنه لم يجد من يشاركه، أو لأن معالجه، – كما المحيطين به – خاف منه، قد يفعل ذلك نتيجة خوفهم من خوفه ومن ثم خوفه من خوفه هو: “قوم دغرى تخبى خوفها، وتخاف مالخوف”، وهذا ليس هو العلاج النمائى الذى يسعى إلى استيعاب الخوف واحتوائه، لا إنكاره على طول الخط.

‏(4)‏

واذا‏ ‏شفت‏ ‏عيونها‏ ‏عدّت خط الصــدّ،‏

تبدأ حسابات الجمْع، الطرْح، الضرب، الشكّ، الرفْض، الـعـَدّ:  

ودى مين؟ حاتشوفنى بإيه ؟!!

دا انا متمنظر، دانا بيه !!

دى عنيها أنا اللى عاملها

دى قصيدة انا اللى قايلها ‏

على ‏طول‏ ‏أرفض‏ ‏شوفانها‏.

(ماهو لازم مـنْ عَـوَزَانِها)‏‏

نفس الفكرة: حين تتجاوز رؤية المريض ما يسمح به الطبيب (أو ما يقدر أن يسمح به حفاظا على تماسكه هو)، وهذا ما يعنيه المتن بـ “حاجز الصد”، حين تتجاوز رؤية المريض هذا الحاجز المصنوع من المنطق، والفوقية، والحسابات التأويلية، والأيديولوجيات الجاهزة، وتعاليم السطلة الدينية (لا حركية الإيمان)، أقول حين تتجاوز رؤية المريض هذا الحاجز، يبادر الطبيب – عادة – بالتأويل، ولصق لا فتات الأعراض والتشخيص، يلحق هذا وذاك بمذكرة “حيثيات الحكم” حسب النظرية التى ينتمى إليها الطبيب، وهنا تكمن خطورة المسارعة بالتصنيف والتوصيف ظاهرا، وبالتأويل والتفسير على مستوى أعمق. الدفاع الذى يلجأ إليه الطبيب فى هذه الحال عادة يكون بأن يصعد فوق مستوى المريض (المستوى الذى يفترضه) درجتين أعلى منه، “دانا متمنظر دانا بيه”،  ثم يصدر أحكاما أكثر حبكة من بينها: أن المريض مريض، وأن ما وصل إليه من رؤية لا يمكن إلا أن تكون صدى لرؤية طبيبه اقتناعا برأيه، “دى عنيها أنا اللى عاملها، دى قصيدة انا اللى قايلها”، وهو عادة ما يفسر رؤية المريض بأن كُلَّ ما خالف رؤيته هو ليس إلا نتيجة لاحتياج المريض لا أكثر “ما هو لازم من عوزانها”.

 (5) ‏

أنا‏ ‏قلت‏ ‏أشوفها‏ ‏ف‏ ‏عين‏ ‏الناس‏.‏

وأتارى ‏الناس‏ ‏بتشوفها‏ ‏بعيونى، ‏

ما هو أصل الناس دول يعنى: من صنعى شوية

ما هى خيبة قوية !!

ثَمَّ نوع من المصداقية يسمى “المصداقية بالاتفاق”Consensual Validity  نعتمد عليها كثيرا بحق، وأحيانا بغير وجه حق، وهى أن تتفق مجموعة من المشاهدين على رؤية (أو رأى) بذاتها، وبالتالى تصبح هذه الرؤية صادقة، اعتمادا على هذا النوع من المصداقية، وهو منهج له عيوبه وضعفه، لكنه من أهم أنواع مناهج المصداقية العملية التى حافظت على مسيرة التطور.

 فالأنواع تتفق، دون رموز أو حسابات، على ما يصلح لبقائها، وتتعاون فى تطبيقه، وتتكافل مع بعضها البعض من خلال ذلك أيضا، فتبقى،

 وكذلك هذه المصداقية هى أقرب إلى بعض أشكال الديمقراطية التى تزعم أن اتفاق الأغلبية على رأى (أو على شخص) هو دليل على أنه الأقرب للصحة أو الأقدر على القيام بالمهمة،

 إلا أن ذلك ليس صحيحا على طول الخط، فالانواع التى انقرضت اتفقت على أسلوب فى الحياة أهلكها، والديمقراطيات الزائفة، والمزيفة، تتفق على شخص قد يكون هو الأكثر خبثا، وليس الأقدر فعلا.

فى العلاج الجمعى، نستعمل “المصداقية بالاتفاق” دون تسليم، ولكن كمشروع (فرض) قابل للاختبار، وكلما كان المعالج من النوع المقتحم القادر المؤثر، أصبحت المصداقية بالاتفاق أقل موضوعية، فقد يميل أغلب أفراد المجموعة، أو كلهم، إلى مشاركته الرأى، أو ترديد إحساسات أقرب إلى إحساسه، وهذا أمر لا يمكن تجنبه إلى بمواصلة اختباره بأكثر من اقتراب واكثر من طريقة،

 المتن هنا ينبهنا إلى احتمال اختبار هذه الرؤية من خلال الاستعانة برأى المجموع “أنا‏ ‏قلت‏ ‏أشوفها‏ ‏ف‏ْ ‏عين‏ ‏الناس” لكنه فى نفس الوقت يحذرنا من احتمال الخداع للأسباب السالفة الذكر.‏وأتارى ‏الناس‏ ‏بتشوفها‏ ‏بعيونى، ‏، ما هو أصل الناس دول يعنى: من صنعى شويّة، ما هى خيبة قويّة!!”.

 (6)

وابص كويس فى عـْـنيها

ألاقينى فيها !!

يا ترى  دى مرايتى،

ولاّ أْزازْها..؟

يا ترى عايزانى؟ 

ولاّ انا بس اللى  عايزها ,!!

‏وهكذا تتواصل المراجعة والنقد دون تسليم تلقائى حتى لإجماع الرؤية.

 هذا المقطع يعيدنا ثانية إلى التنبيه إلى الفرق بين “الرؤية الذاتية” و “الرؤية الموضوعية”، وضرورة التساؤل عن ما إذا كانت الصورة التى تصلنا من رؤية الناس لنا (بما فى ذلك رؤية المريض للمعالج) هى صورة منعكسة من رؤية المعالج (مرايتى) أم صورة واصلة من خلال شفافية رؤية الآخر (ولا إزازها).

وأيضا قد يتصور لنا (بما فى ذلك المعالج أحيانا) أن الآخر هو الأكثر احتياجا لنا، فى حين أن الحقيقة قد تكون العكس “يا ترى عايزانى؟ ولاّ أنا بس اللى عايزها”.

 (7)

يا‏ ‏ترى ‏دا‏ ‏الخير‏ ‏اللى ‏يطمّـن؟

يا‏ ‏ترى ‏دا الخوف‏ ‏اللى ‏يجنن؟

يا‏ ‏ترى ‏ده‏ ‏الحب‏ ‏اللى ‏يونْـوِن؟‏

وهكذا يظل الباب مفتوحا للنقد،

 ونقد النقد،

 ويصبح التساؤل الممتد هو صمام الأمن ضد التسليم الساكن سواء فى العلاج النفسى أو فى حركية النمو

(8)

أنا نفسى أشوفها انها هيّا

يبقى الشوفان ليها وليّا

 نختم هذه القراءة من جديد بالتذكرة بأن العلاج عموما، والعلاج النفسى خاصة، إنما يؤتى ثماره للمريض شفاءً، وللطبيب (المعالج) نماءً وخبرة، كلما زادت جرعة النقد الذاتى، وكلما رأينا “الأمور كما هى”، وبالتالى نرى الأخر على مسافة موضوعية: لا هو مرآة نرى فيها أنفسنا كما نحب أن نراها، ولا هو صدى لما يدور داخلنا مهما كانت صحته،

 هنا تصبح الرؤية الموضوعية هى السبيل إلى أن تحقق العلاقة الإنسانية وظيفتها: أن نكون بشرا معا،

وهذا هو غاية العلاج فى نهاية النهاية!.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *