نشرت فى الوفد
18-5-2011
الدين لله والوطن لله والجميع لله
يكاد لا يوجد شعار أكثر شيوعا حتى التقديس، خصوصا هذه الأيام، من شعار “الدين لله، والوطن للجميع”، اللهم إلا شعار “الإسلام هو الحل” وكلاهما يحتاج إلى مراجعة ومراجعات
ظل هذا الشعار غالبا منذ ثورة 1919 حتى أول أمس فى لقاء اللواء أركان حرب اسماعيل، واللواء أركان حرب محمود حجازى رئيس هيئة التنظيم والإدارة وفداً من رجال الدين المسيحي وأقباط المهجرـ وخرج الجميع سعداء وهم يرمغون هذا الشعار وخلاص!. كم اختلفت مع شيخى نجيب محفوظ حول تقديس هذا الشعار، ولم أكن أعرف ارتباطه بثورة 1919، لكننى كنت أعرف ارتباط شيخى بسعد زغلول، فالنحاس، وكما فشل شيخى فى إقناعى بالديمقراطية إلا باعتبارها – مرحليا- أحسن الأسوأ، فشلت بدورى فى إقناعه بأن حياتنا ليست “تورتة” نقسمها بيننا وبين الله (سبحانه) فنحتفظ بالوطن، ونتقدم إليه بـ..، أو نقدم له: الدين!!
المصيبة أن هذا الشعار الذى نشأ مصريا، وربما وفديا، وتحديدا فى مواجهة مستعمر أراد أن يلعب لعبة “قرّق تسد” أصبح هو الشعار المفضل عند كل من يتصور “أنه الحل”، كلما وقعت مصيبة سوداء تكاد تصل إلى حد الكارثة، التقى الكبار وأحيانا الصغار، مسئولين رسميين، وقادة أديان طيبون، وهات يا أحضان، وهات ياقبلات، وهات يا “الدين لله والوطن للجميع” وينفض السامر راضين أو مهللين أو مخدرين، ولا يفيقون إلا والمصيبة التالية تعلن نفسها بنفس التحدى وأكثر، ثم إنه تم مؤخرا تدعيم هذا الشعار بتسبيحات مساعدة مثل “الديمقراطية هى الحل”، و”إنجيل حقوق الإنسان (المكتوبة والمطبقة انتقائيا) هو الحل، لتصبح هذه المقاييس الجديدة بمثابة “الحلال والحرام”، حسب “فقه دين العولمة الجديد” مع اختلاف أنبيائه من بوش إلى أوباما إلى بيرلسكونى إلى ساركوزى مع إخفاء شياطين الشركات العابرة، والقوى المالية الغادرة، وأخيرا تسبيحات جديدة تختم بها صلوات أى اجتماع عصرى، مثل أن تردد كلمة “المواطنة” تسع وتسعين مرة أو تسبح باسم “الدولة المدنية” ثلاث وثلاثين مرة، بخاصة صلوات صندوق القهر الدولى
أين يقع هذا الشعار من وظيفة الدين الحقيقية وكدح الإبداع إيمانا نحو وجه الله.
الفكرة الأساسية:
تختلف الحياة اختلافا نوعيا إذا ما كان الله سبحانه هو محور الوجود البشرى بالداخل والخارج، بكل التفاصيل، بمعنى التوحيد الذى جاء فى الإسلام، وربما بمعنى التناول فى المسيحية، كتبت فى ذلك فى مقال قديم (الاهرام: 14 مايو 1999) أوضح معنى “وجود الله فى الوعى البشرى” ولم أحاول أن استهدى بنصوص دينيا خشية الحرج، فاستلهمت بعض الإبداع، أحد أهم تجليات الإيمان، قلت:
…. تناول ديستويفسكى حضور الله سبحانه فى وعى الإخوه كارامازوف واحداً واحداً ليعلن بطريق مباشر أو غير مباشر أن هذا المتغير حضور الله فى الوعى هو أساسى فى بناء الشخصية، ومن ثم فى تحديد نوعية الحياة، بحضورها الآنى فى الفعل اليومى، يستوى فى ذلك تسليم إيفان الملحد بأنه.. “إذا فقدت الإنسانيه هذا الإعتقاد بالخلود فسرعان ما ستغيض جميع ينابيع الحب..(و) أكثر من ذلك أنه لن يبقى شئ، يعد منافياً للأخلاق، وسيكون كل شئ مباحاً، او رأى ديمترى أنه: أنك إذا أنكرت الله تنتهى إلى زياده سعر اللحم”.. الخ.
كذلك ظل نجيب محفوظ يلح حول هذه القضية بكل إصرار ومثابرة من أول زعبلاوى حتى الحرافيش إلى أصداء السيرة، مارين بـ..”الطريق” دون إستبعاد أولاد حارتنا، وصريحا فى صرخة عمر الحمزاوى فى نهاية الشحاذ، وقد خلصت من نقدى له فى معظم ذلك بأن وصلتنى رسالته وهو يقول: إن وجود الله هو ضرورة حيويه ليكون البشر بشراً، وأن هذه القضيه يستحيل أن تكون مجرد مسألة منطقية شبه عقلية، أو حتى أن تختزل إلى استسلام دينى غيبى.
ولن استطرد بعد ذلك فى شرح هذه المسالة حتى لا أخرج عن هدف المقال الاصلى الذى يقول:
إننى أزعم أن هذه المسألة: “وجود الله سبحانه كمتغير فاعل طول الوقت” هى الجوهر الذى ينبغى أن نعتنى باستعمال الأدوات الأحدث لبرمجته بطريقه تميزنا نحن، وفى نفس الوقت قد تضيف إلى إحتياجاتهم ما يمكن أن ينقذهم من أوهامهم حول الإكتفاء بالحرص على الرفاهية والتنافس الكمى المتنامى، والاستغناء عن الله بآثاره الفنية فى إبداعهم؟ إن الحياة البشرية تختلف نوعياً إذا كان الله موجوداً فيها طول الوقت عنها إذا ما أنكرناه أو أبعدناه أو حددنا أوقات لقائه أثناء العبادات او ايام الأحاد أو الجمع! ولعل هذا، فى رأيى، هو الفرق بين الإسلام الموقف الوجودى، وبين الإسلام المغترب، او المختزل، او الإسلام المستعمل من الظاهر لتولى سلطه، أو لممارسة الوصايه على سلوك وإبداع البشر.
أننى أتصور أن المسألة كالآتى:
هناك نوعان أساسيان من الوجود البشرى يمكن أن نتحقق بأيهما عند المتدين (أو من يدعى ذلك)، وأيضا عند غير المتدين (أو الذى يتصور ذلك):
النوع الأول هو النوع الذى يقف شامخاً فخوراً حتى الغرور، لينتهى عند أعلى نقطة فوق هامة الإنسان وقد زانه عقله ولمّعته أدواته(وهو ما يمثله اغلب ما يسمى الحضارة الغربية الشمالية التكنولوجية، الخ).
والنوع الثانى هو الذى تمثله الحضارات الايمانية التوحيدية التواصلية النابضة الممتدة إلى ما لا يحد من وجودها عقل ظاهر، أو وصاية آلة محدودة، أو قهر سلطة.
وأتصور أن وجودنا الممتد “نحن المصريين” من ألاف السنين مشدوداً بالخلود دائراً حول التوحيد، مازال يمثل أو يمكن أن يمثل النوع الأول، كذلك أتصور أن كل المؤمنين من كل الأديان، ذلك الإيمان الفطرى الأولى الذى يتجلى فى ممارسات دينية مختلفة، متضفرة، وضامة فى أن، ينتمون أيضاً إلى هذا النوع الأول من الوجود، أما النوع الثاني: فهو ذلك النوع الذى تمثله الحضاره الشماليه الغربيه قبل إفاقتها مؤخراً وهو نوع لامع البريق وافر الرفاهيه كثير المواثيق المكتوبة رائع الإنجاز رضى بواقعية آنيه أعفته من الإفراج عن وعيه الأعمق الممتد عبر البشر وعبر الأكوان.
فهل يمكن أن يظل الإنسان إنسانا إذا هو تمادى فى صياغة حياته المعاصرة بمزيد من التقنيات والإمكانات الجديدة، وفى نفس الوقت راح يُهَمّش هذه الحقيقه، “أن الله موجود”، تهميشاً يهدد بفقد التوازن فالإنقراض، أم أنه قد آن الأوان لإفاقة شاملة فى الوقت المناسب لكى نعد برمجياتنا ونحن نضع هذا المتغير الرائع (أن الله موجود) فى الحساب؟
أتوقف هنا مضطرا لأتساءل:
هل يخطر على بال الذين يتلمظون لتولى السلطة فى هذه المرحلة كيف يمكنهم أن يحققوا لنا نوعا من الحياة تليق بما هو التوحيد الحقيقى، والامتداد من حبل الوريد نحو كرسيه تعالى الذى وسع السماوات والأرض؟ فإن لم يكن هذا الأمر هو ما يهمهم فى المقام الأول، فلماذا يحرصون كل هذا الحرص على تولى السلطة وكيف يكون الإسلام هو الحل؟
الإنسان المعاصر أحوج ما يكون إلى استعادة التوحيد الحقيقى والامتداد الحقيقى والإيمان الحقيقى الذى هو جوهر الإسلام الحقيقى؟
صحيح أنه لم يعد هناك مجال لهبوط الوحى على نبى جديد على الرغم من ظهور ديانات شاذه ومريبة كل يوم فى كل مكان يسمح بذلك، لكن الأصح أننا إستبعدنا فاعلية الأديان القائمة بالجمود أو بالإنكار فلم تعد تصلح – بصورتها المختزلة والمشوهة– أن تصبح فعلاً يومياً نحدد به ما حاولت بيانه فى هذا المقال من إختلاف نوعية الحياة إذا إنتهت عنده هامة الإنسان الفرد أو الإنسان النوع، عنها إذا إمتدت بلا حدود عبر الأكوان سعياً إلى وجه الله طول الوقت.
أن إستبعاد حضور الله سبحانه فى وعى البشر طول الوقت ليس فقط خطيئة وخسارة من انكروه تعالى، أو من همشوه، بل أن هذا الإستبعاد ساهمت فيه بعض الممارسات الدينية السطحية، خاصة المركزة على امتلاك مقاليد السلطة دون استعادة التوحيد، وقهر الشرك بكل تجلياته، وإطلاق كدح الإبداع فى العقل البشرى من الفعل اليومى العادى حتى تجليات الإبداع.